هناك دائما حروبا فكرية تدور في كل عصر ابطالها مفكرين او علماء او سياسيين في المجتمع تبدأ غالباً براي او جهة نظر لتشتعل بعدها السجالات وتتطور الى نظريات فيصبح النقد رؤيا جديدة ويكّون المتحاوران ثنائيات فكرية لكل منهما انصاره وخصومه ولا تنتهي هذه الحرب الا بموت احد الطرفين او صمته او باستسلامه فكرياً ، وقد تؤلف كتباً في الرد والدفاع عن سيرة كاتب او فنه أو اراءه الفكرية .
بعض هذه الحروب كانت مكلفة لاصحابها كما حصل مثلا للمفكر نصر حامد ابو زيد الذي اتهمه القضاء بالارتداد عن الاسلام ووصل الامر الى ان قضت محكمة النقض المصرية بالتفريق بينه وبين زوجته على اثر آراءه وأفكاره الجريئة التي انتقدها البعض وعبر عنها في كتبه الشهيرة التي لايزال بعضها يعاد طبعها حتى بعد رحيله .
اما ادورد سعيد فقد تعرض لحملة كبيرة من قبل الصحف الامريكية والبريطانية من قبل محام يهودي امريكي يدعى فاينر يقيم في القدس ويعمل في معهد مجهول حيث شكك في السيرة الذاتية لسعيد وتاريخه وحول حقيقة كونه من المهاجرين الفلسطينيين وحياته الشخصية في مدينة القدس قبل حرب 1948 وهي حملة تبنتها صحيفة الديلي تلغراف حتى انها نشرت قبل مقالة فاينر تغطية استعراضية لنتائج البحث الذي قام به فاينر على مدى ثلاث سنوات حول املاك عائلة ادورد سعيد في القدس ومصر ليرد عليه فخري صالح في كتابه (دفاعاً عن ادورد سعيد) معتبرا الانتقاد جزءاً من الصراع العربي الاسرائيلي ورؤية الغرب القاصرة للعالم الاسلامي .
يقول محمود درويش في حواره مع الجندي الاسرائيلي (الى قاتل: لو تاملت وجه الضحية وفكرت كنت تذكرت امك في غرفة الغاز كنت تحررت من حكمة البندقية وغيرت رايك ، ما هكذا تستعاد الهوية)
ولكن ما الذي يجعل كتب الصراعات الفكرية هي الاوسع انتشارا والاكثر جاذبية وسحرا واستقطاباً لشريحة واسعة ومختلفة من المجتمع مثل كتب علي الوردي وكتابه الشهير اسطورة الادب الرفيع الذي كان طرحا جديدا لم يالفه المجتمع العراقي ونظرة جديدة للغة العربية والادب العربي عموما فعلى الرغم من مضي فترة طويلة على اصداره الا انه لا يزال يتمتع بشعبية وقراءة واسعة لدى العامة ، اما محمد حسنين هيكل فقد خصص جزءاً كبيرا من كتبه في الرد على منتقدي جمال عبد الناصر اشهرها كتبه (لمصر لا لعبد الناصر) و(خريف الغضب) في اواخر السبعينيات من القرن الماضي خلال فترة الانفتاح الاقتصادي التي عاشتها مصر بعد فترة الحروب الطويلة وكان الكتاب رد اعتبار لفكره ومبادئه وحتى سمعته المالية .
الامثلة كثيرة لرموز فكرية احدثت تغييراً في مجتمعها وخصصت قلمها لانقاذ ما يمكن انقاذه والتمسك بالفكرة والرأي والعقيدة فاين هي حروبنا الفكرية اليوم اين هي اراءنا وجرئتنا النقدية ام انها اقتصرت على تبادل الشتائم في مواقع التواصل الاجتماعي والتشهير او تصفية الحسابات الشخصية او التقليل من شان الآخرين ومن قيمتهم الانسانية عندما لايعجبنا رايهم ، احدى الصديقات تحدثت عن استاذتها الجامعية التي تعرضت الى انتقاد حاد في احد المواقع الالكترونية الشهيرة فكان ردها قاسيا اذ ان احداً لم ينجح في مادتها حيث اجبروا جميعا بدون استثناء على خوض الامتحانات في الدور الثاني صديقة اخرى كانت بارعة في كتابة الشعر ولانها امراة كان الاتهام دائما ان احداً اخر يكتب لها وانها تستغل اموراً اخرى لتحقيق ذلك ، بعض نقاشاتنا تحولت الى صراخ وتشابك بالايدي والى تخوين او تكفير احياناً كما يحصل في بعض البرامج الحوارية او حتى في حياتنا اليومية ، بينما العديد من الدول جعلت الحوار سلوك ووسلة للوصول الى غاية سواء في المناظرات الرئاسية او في حوار الحضارات لان المجتمعات ذات مفهوم الحقيقة الواحدة تعاني من الموروث البدائي فتفتقد ادوات متنوعة تساعدها في تبني سلوكيات وتفكير متنوع كما تقول الكاتبة السورية رندا قسيس .
ومهماً كان الاساس الذي تقوم عليه السجالات الفكرية سواء كانت ايدولوجية او سياسية او اجتماعية فانها تمثل انعكاسا لما يدور في المجتمع وحاجة ملحة للخروج من القوقعة والجمود الفكري العربي خاصة واننا نعيش في عالم متغير وغير منطقي احياناً يستوجب وجود الراي والراي الاخر .