لاشك أن الأحداث المروية في أي عمل أدبي شعرا كان أم نثرا أو فني مسرحا كان أم تلفزيونيا أم سينمائيا هي أحداث واقعة في زمن ماض لآنية الزمن السردي، فالراوي لا يبدأ بقص الحكاية إلا بعد أن يكون على علم بنهاية أحداثها، ولكن على الرغم من انقضاء زمن وقوعها، فإن الماضي يتحول حاضراً يتعايش معه المتلقي ما أن يشرع بعملية التلقي، ومفردة الحضور تعني الوجود الملموس والحي في نفس الوقت أي الحاضر الزمني أو ما هو كائن. وقد يكون ازدياد أهمية الحاضر مرده ان تكنيك السرد السينمائي قد اثر في باقي النص السردية حيث لا تعرف السينما إلا زمناً واحداً وهو الحاضر (1).
وبما أن زمن الحكاية ذو أبعاد متعددة، وزمن السرد ذو بعد واحد، بمعنى أنه مقيد بخطية الكتابة، لذا فمن غير المعقول أن يقص الراوي الأحداث جميعها ولا سيما المتزامنة منها من دون أن يلجأ إلى تقديم بعضها على الآخر، و من دون أن يختار من تلك الأحداث ما يراه منسجماً مع التكنيك الذي يبتغيه (2)، وأياً كانت الطريقة التي يستخدمها المبدع، فإنه إذا وجّه إليها كل تفكيره أدرك أنه سيواجه عند كل خطوة ضرورة اللجوء إلى نوع من الانتقالات السردية، التي تخلق معمارية متفردة لبنائه النصي.
ومن ناحية أخرى فإن بداية النص السردي لا تعني دائماً أنها بداية الحكاية، فغالباً ما يلجأ السارد إلى اختيار لحظة زمنية معينة ينطلق منها، ومن هذه اللحظة يتحدد حاضر القص الذي يعد المستوى الأصلي لها، غير أن زمن السرد قد يحيد عن هذا المستوى باتجاه الارتداد أو الاستباق، مما يؤدي إلى ظهور شكلين بارزين هما ، الاستباق والاسترجاع (3) ومنهما تتشكل انساقا سردية أخرى مثل الدائري والمتوازي والمتكرر وما إلى ذلك . فالزمن في الشكل الأول يتجه إلى الوراء، في حين يقفز الشكل الثاني إلى الأمام، وفي الحالتين كلتيهما نكون إزاء مفارقة زمنية توقف استرسال الحكي المتطور والمتناسل وتفسح المجال أمام نوع من الذهاب والإياب على نسقية سردية انطلاقاً من النقطة التي وصل إليها النص (4) فيبدأ الشاعر المسعودي في نصه أمره في الضوء بقوله :
سألني عن البداية
قلت لم أبدو
ورحت عنه بانتشاء كبير
للوهلة الأولى يلمح القارئ أننا أمام حوارية ما بين صاحب النص بوصفه هنا ساردا مشاركا بالأحداث ذو تبئير داخلي كما يوصفه جيرارد جينت وما بين شخص أخر يسرد عنه وهذا يتضح من خلال الفعل (سأل) والجواب بالفعل (قلت) وهنا تبين لنا هيكل الروي بأن هناك ساردا مشاركا بالأحداث هو الشاعر ولكن حينما نبحث عن حركة الزمن المتماهية مع بنية السرد في نص المسعودي نجد
نزلت من الحلم إليه
مزقت ثوب الظلام من بين يديه
وحين تصففت أمامه وتجمعت
كلمني عن الغياب حتى صار حضوري هباء لديه
ثم نكتشف في أماكن أخرى من النص بان الشخص الثاني هو الأب ، وكذلك نجد إن هنالك استرجاع أو بمسمى أخر ارتداد سردي وقد اشتغل الشاعر على نوع منه وهو الارتداد الخارجي ، وهو ما كانت فسحته الزمنية واقعة خارج نطاق زمن الحكي أو القص، أي بمعنى أنه لا يدخل ضمن حدود نقطة البداية التي ينطلق منها حاضر النص (5)، كما في قوله (نزلت من الحلم إليه مزقت ثوب الظلام من بين يديه)
ثم يحاول ان يجزئه أيضا إلى الارتداد الخارجي الجزئي والذي يكتفي السارد فيه بذكر جزء من ماضي الشخصية القصصية لأجل أن يتعرف القارئ على بعض خصائص تجاربها الحياتية كما نرى ذلك في مكان اخر من القصيدة حيث يقول
ملا قبة ثوبه ثمرا غابرا كان يمسح بكميه الواحدة منه
ويصيح على أمراء الفراغ من الفقراء
يمنحهم ثماره ورضاه
ولابد أن توحي الأشكال المتعددة للتقانات الزمنية في مبنى أي نص حكائي نثري أو شعري أو مرئي بأن ما يفعله السارد في الواقع هو سرد قصة مرتبة زمنياً، قصة يحاول المتلقي إعادة تركيبها وفق النظام الزماني الصحيح بعد أن قطع السرد تسلسلها الزمني باستحضار الماضي مرة والتطلع إلى المستقبل مرةةً أخرى، ومن هنا فإن غياب الترتيب الزمني من القصة المتخلية يكشف عن القيمة الكاملة لترتيب آخر هو الترتيب السردي، وهذا الترتيب الجديد هو ترتيب قائم على تداخل المستويات الزمنية من حيث الماضي والحاضر والمستقبل(6) حيث نرى الشاعر ينتقل من زمن الى اخر فيقول :
رميته بالخضرة وبماء الساقية الجاري كدمع
فراح بعطشه عني
لكنه يعود في مكان أخر إلى زمن جديد مغاير حينما يقول
قلت له أنا أيها الصاد حالم كبير ودائما احسبها لي الأشياء التي لا املك
فصد عني أكثر ورماني في جب حضرته العميق
يتضح من ذلك أن التلاعب بالأزمنة له تأثير كبير في جمالية العمل الفني، غير أن هذا لا يعني أبداً أنه تلاعب اعتباطي، إذ إن صاحب النص يعمد إليه لتبدو أحداث قصته أكثر حيوية وجودة في نظر المتلقي، وليحقق غايات فنية أخرى كالتشويق وكسر الرتابة والإدهاش الفني وهذا ما تلاعب به الشاعر بحرفة أكاديمية بانت بين طيات سروده.
وقد يتساءل بعض القراء ما النص الشعري والسردية واعتقد إن التنظيرات الحديثة لجيرار جنت و جوليا كريستيفا قد نسفت كل الآراء الكلاسيكية معلنة عن تداخل الأجناس الأدبية والفنية ، ناهيك عن طروحات الناقدة سوزان بيرنار من إن قصيدة النثر تمتلك بناء سردي واضح ، وهذا ما نجد جليا في نص عمار المسعودي (أمره في الضوء).
1- 6حركة الزمن في قصص انور عبد العزيز القصيرة ، هشام محمد عبد الله / نفلة حسن ، دراسات موصلية ، العدد23 ، 2011
القصيدة دراسة تطبيقية على ضوء البحث أعلاه