بعد ان اغلق الستار عن قصة هروب حسين كامل المجيد عبر وسائل الاعلام والتي تمخض عنها الربح الكبير في المبيعات للصحف والمجلات التي اعتاشت على اخبار هذه القصة وثمة الكثير من تلك الصحف اصبحت لا تكتب حرفاً واحداً عن مسرحية قتلهِ في العراق بعد ان قام النظام بشراء تلك الصحف على الفور وكما هي عادته في محاولاته تلميع صورته اعلامياً خارج العراق . ايام قليلة وانجلت عاصفة حسين كامل من المشهد الاعلامي الاردني ، خاصة وان الادباء والكتاب العراقيين داخل العاصمة عمّان كانوا منشغلين بالحديث عن هذا الموضوع الذي اخذ الكثير من وقتهم . ثم يأتي يوما جديداً لنرى فيه خبراً مفاده أن حركة الوفاق الوطني العراقي بزعامة الدكتور اياد علاوي قد اتخذت من العاصمة الاردنية عمّان مقراً لها ، وكان المقر يقع ضمن بناية المخابرات الاردنية التي تقع في منطقة البيادر ، جاء اياد علاوي الى عمّان برفقة حاشية كبيرة عريضة اغلبهم من البعثيين الذين انشقوا عن حزب البعث ، حينها كنت ومعي الشاعر نصيف الناصري نحضر لمائدتنا اليومية في غرفة صغيرة كنا قد استأجرناها في منطقة ماركة الشمالية بالقرب من مكتبتي التي تفترش الرصيف المحاذي لمطعم يدعى ( التوتنجي ) والذي كنت اخبأ فيه كتبي التي ابيع منها كل يوم ، خاصة وان اغلب عمال ذلك المطعم من العراقيين الذين تربطني بهم صداقة طيبة ، كما وأن صاحب المطعم الفلسطيني الجنسية كان يودني كثيرا ويقدم لي الطعام مجاناً في اغلب الاحيان فضلا عن رصيف المطعم الذي اوزع كتبي عليه ، وكان نصيف الناصري يعمل بمحل لتصليح الماطورات عند شخص اردني يدعى ( ابو باسم ) وهذا الشخص كان صديقاً للبياتي وعن طريق هذه الصداقة فقد حصل نصيف الناصري على هذا العمل والذي لا يفهم فيه الناصري لكنه كان يقضي وقته مستمتعاً به ،. جائني الناصري ذاك المساء ولم يكن كعادته ، فقد بدا عليه الارتباك من كل شيء وملاح الخوف مرسومة على وجهه وكأنه عمل شيئاً ما مخالفاً للقانون الاردني ، هكذا احسست به ، ومن المعروف عن الشاعر نصيف الناصري انه لا يحفظ سراً ، وبعد ان هدأ قليلا وارتشف من الخمر القليل حتى سألته ما الامر ؟ قال ان صدام حسين سوف يسقط قريباً ! فقد جاءت المعارضة العراقية لتقيم في الاردن مدعومة من قبل الولايات المتحدة الامريكية ، قلت له وأي معارضة هذه ؟ قال : ان حركة الوفاق الوطني العراقي بزعامة الدكتور اياد علاوي قد حطت رحالها داخل العاصمة عمّان للتحضير لسقوط النظام . ضحكت بقوة معلقاً على كلام نصيف ، بأن الولايات المتحدة ومعها اكثر من احدى وثلاثين دولة لم تتمكن من اسقاطه عام 1991 بعد دخوله الكويت فكيف باياد علاوي ان يسقطه ، قال لي سترى قريباً .
في اليوم الثاني ثمة اربعة يسيرون بقوة واندفاع وتبدو على وجوههم علامات الفرح حاملين حقائب جلدية وملابس جديدة فكانوا كفاح الحبيب وعلي عبد الامير ونصيف الناصري ومحمد تركي النصار ، لكنهم لم يدخلوا مقهى السنترال كعادتهم اليومية لا بل حاولوا الهروب من سنتر المدينة لاسباب كنت اجهلها ويجهلها سكان المقهى ، بينما كانوا يومياً هم من جلاس المقهى الذي احتضننا جميعا لسنوات مريرة وكانت بحق صعبة ومؤلمة . وقد تبين فيما بعد أن حركة الوفاق ارادت ان تفتح مكتباً اعلامياً لها مع اذاعة يصل بثها الى داخل العراق وفعلا هذا ما حدث خلال شهور قليلة ، لقد اصبحت جريدة بغداد التابعة لحركة الوفاق تباع في اكشاك العاصمة الاردنية عمّان بشكل علني شانها شأن الصحف الاخرى ، وانطلقت اذاعة الوفاق التي بدأت بهجوماتها بالضد من نظام البعث داخل العراق لكنها كانت تفتقر الى المهنية ولو بدرجة بسيطة ، وبما أن هذه الحركة جاءت لاسقاط النظام داخل العراق وانقاذ الشعب العراقي كما تدعي إلا انها مارست فعلها الدوني داخل العاصمة عمّان بالضد من جمهرة كبيرة عريضة من العراقيين الذين كانوا يقطنون تلك العاصمة ، وأول عمل مشين قامت به هذه الحركة هو التهديد بالتسفير الى العراق قسراً لكل من تسول له نفسه أن ينال من تلك الحركة وبخاصة الكتاب العراقيين الذين يتخذون من مقهى السنترال مقراً لهم كما وحاولت هذه الحركة شراء العديد من الكتاب والادباء الكبار امثال البياتي وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر والاخير قد جاء الاردن بعد عام واحد من فتح مكاتب الحركة إلا ان حركة علاوي حصلت على رشقات جارحة طويلة عريضة من قبل شعرائنا الكبار ، لكن بالمقابل كان اغلب الادباء والكتاب العراقيين من الشباب ورغم فقرهم ومحاربتهم من قبل تلك الحركة كانوا يفضحون بها باحاديثهم في كل يوم ، لقد ابتعدت هذه الحركة ومن يعمل بها عن العراقيين وهمومهم داخل الاردن وهي تعمل بحريتها المطلقة وبحماية المخابرات الاردنية وبوصايا امريكية صرفة ، لا بل عملت على محاربة اغلب العراقيين الذين يقيمون داخل الاردن وبخاصة الادباء والمثقفين والفنانين الذين لم ينتموا اليها ولم يطبلوا لها .
كانت الايام تمّر مسرعة والاحداث تتشابك داخل وخارج العراق الامر الذي اوهم تلك الحركة ومنتسبيها بانهم سيسقطون نظام صدام عبر جريدة بائسة اسمها ( بغداد ) واذاعة تافهة تدعى اذاعة المستقبل بينما حقيقة الامر أن هذه الحركة اعتاشت على ويلات العراقيين داخل الاردن وغير مبالية بما يحدث داخل العراق من قتل عبر الحصار الظالم الذي فرضته الولايات المتحدة الامريكية وذهب ضحيته اللآلاف من اطفال العراق ، كانت حركة علاوي او ما تسمى بالوفاق الوطني تغدق بالرواتب العالية على منتسبيها الذين غالبيتهم ممن كانوا بالامس القريب ينتمون لحزب البعث الصدامي داخل العراق او من الذي يعملون بمؤسساته وكان لهم الشأن الكبير ، لقد قامت حركة الوفاق في شهورها الاولى بتهديد العراقيين بالتسفير الى العراق حصراً وبخاصة المعارضين الحقيقيين الذين بدأوا يكتشفون الواحد تلو الاخر مدى تخلف هذه الحركة وانحيازها لحزب البعث وترحيبها المطلق بكل البعثيين القادمين الى الاردن في تلك الفترة .
في تلك الاثناء كنت قد استلمت عبر صندوق البريد رسالة مع جريدة معارضة في طرد قادم من لندن وانا اقرأ بتلك الرسالة الموقعة من السياسي العراقي صلاح عمر العلي يدعوني بها لان اكون مراسلا لجريدته التي تصدر في لندن واسمها جريدة ( الوفاق ) تابعة لتجمع الوفاق الوطني الذي انشق من حركة اياد علاوي بعد تشكيلها في السعودية بداية التسعينات ، كانت رسالة انسانية اكثر من دعوة عمل لدى تلك الجريدة . وافقت على العمل بتلك الجريدة مع صاحبها الذي كان يحاول مساعدة اغلب العراقيين من الادباء والكتاب الذين كانوا يرزحون تحت طائلة العوز والفقر من خلال كتاباتهم في الشأن الثقافي والسياسي على حد سواء ، وأول الذين فاتحتهم للكتابة لتلك الجريدة كان الشاعر وسام هاشم الذي وافق شريطة ان يكتب بأسم مستعار خوفاً من بطش النظام الصدامي على عائلته داخل العاصمة بغداد ، خاصة وان وسام هاشم كان قد استقبل في تلك الايام زوجته التي ألتحقت به وكان عاطلاً عن العمل ، لكن سرعان من انفتحت امامه ابواب جريدة الاسواق الاردنية ليعمل فيها كمحرر في القسم الاقتصادي ، وفي كل اسبوع حين كنت ارسل طرداً بالمواد الثقافية والسياسية التي يكتبها بعض الكتاب كان الطرد لا يخلو من مقالة لحسن الشموس ، وهذا هو اسم وسام هاشم المستعار الذي اختاره ليكتب فيه ويرمي من خلاله بعض الرشقات النارية التي تنتقد المؤوسسة الثقافية والسياسية بطريقة ذكية الامر الذي جعل من صاحب الجريدة المعارضة الاستاذ صلاح عمر العلي أن يسألني : من يكون حسن الشموس ؟ حتى حين اجبته ضحك . وكان علي السوداني هو الاخر قد اختار اسماً مستعارا لتتسع مساحة قراء الجريدة اكثر من جريدة بغداد التابعة الى اياد علاوي على الرغم من الامكانيات البسيطة التي كان يقوم بها صلاح عمر العلي برئاسته لتحرير الجريدة ويساعده في القسم الثقافي الكاتب المقيم في لندن كريم عبد . كان وسام هاشم يطلق النار على حركة الوفاق من حين الى آخر بعد ان احس بخطرهم كما احسست انا وغيري ، ولهذا استطعت ان استكتب بعض الاسماء الاخرى مثل احمد حسين وفاضل جواد وجان دمو الذي كان بالكاد يكتب قصيدته الصغيرة المدججة بالصور الشعرية ليتسنى ليّ ارسالها للنشر من اجل الحصول على مبلغ بسيط يكفيه لبضعة قناني من العرق الاردني الغير مغشوش ! كانت مكافآت الجريدة لا تتعدى العشرين دولارا للمادة الواحدة باستثناء جان دمو وعن قصيدة مكونة من خمسة او ستة اسطر يدفع له صلاح عمر العلي خمسون دولاراً كتحية ولكبر سنه ووضعه المأساوي ، هكذا حدثني عبر الهاتف صلاح العلي الذي تذكر لقائه بجان دمو ايام السبعينات حين جاء جان الى بيروت ومن ثم امسكته الشرطة مخمورا لتعيده الى بغداد . توطئت العلاقة بشكل كبير وجيد خلال الشهور الاولى في عملي بتلك الجريدة كمراسل وقد نجحت بكتابة العديد من المقالات التي تحكي حال اغلب العراقيين الذين يقيمون داخل العاصمة الاردنية عمّان وعملت الكثير من التحقيات عنهم وعن ظروفهم الاستثنائية ، كما اجريت العديد من المقابلات للناجين من الموت من سجون واعدامات نظام البعث ! حينها كانت الاحداث السياسية داخل العراق تسيرمن سيء الى اسوأ الامر الذي ازداد فيه هجرة العراقيين بسبب قساوة الظروف الاقتصادية التي جعلت من العديد من العوائل العراقية ان تبيع اثاث بيتها ليتسنى لها الهجرة الى الاردن ومنها تبحث عن مكان آخر خاصة في دول اوروبا وامريكا وغيرها من دول اللجوء التي تجعل من الانسان ان يطمأن على حياة ابنائه في ظروف صعبة لا احد يعرف نهايتها داخل العراق .
وبقية الامور تسير بشكل انسيابي ، وبعد ايام اصبح انقطاع اصدقائنا الذين يعملون ضمن حركة اياد علاوي طويلا عن المدينة وعن المقهى ويتحاشون رؤيتنا بمناسبة او بدون مناسبة ، وذات يوم ونحن نجلس في غرفتنا التي تطل على قلعة هرقل بعمّان الواقعة في جبل الحسين والتي كان يسكنها فاضل جواد وعبود الجابري ومن ثم وسام هاشم قبل ان تأتي عائلته وعائلة فاضل جواد وزواج عبود الجابري من سيدة اردنية بعد قصة حب جميلة بقيت الغرفة لنا وكم استضافت هذه الغرفة من شعراء وفنانيين عراقيين وكم احيينا فيها جلسات خمرية وشعرية حتى الصباح ولا يمكن للذاكرة ان تنسي تلك الايام . فجأة طرق الباب كانت الساعة تشير الى ما بعد منتصف الليل وما ان فتحنا الباب حتى دخل نصيف الناصري يحمل حقيبة جلدية مملوءة بالاوراق والكتب ومعه قنينة عرق ، قال لقد اشتقت لكم ولصعلكاتكم وجلساتكم ، وقد تحدث لنا الناصري عما يدور في اروقة حركة الوفاق وعن عمله وعمل بعض الاصدقاء وكيف جاءت لهم الاوامر بعدم لقاء العراقيين والابتعاد عنهم وعدم نزولهم الى وسط البلد بحجة تجنبهم عن المخاطر الامنية التي قد تصدر من قبل المخابرات العراقية التي تسيطر على الساحة الاردنية آنذاك حسب قول الناصري ، كان الشاعر حسن الصحن معنا في تلك الجلسة وظل يلح على نصيف لاستجوابه او استنطاقه لمعرفة المزيد من المعلومات عن هذه الحركة التي كانت تبث اذاعتها التي سميت باذاعة المستقبل من مكان مجهول لتوصل صوتها الى العاصمة بغداد ، وما ان بدأ بالشرب حتى قال لنا : ان هذا اليوم قامت حركة الوفاق بتوبيخي من قبل ناطقها الاعلامي الاستاذ هارون محمد الذي كان يعمل في السابق بوكالة الانباء العراقية وهارون من القوميين العرب وهو الذي قام باستدعاء بعض الاسماء لتعمل في حركة علاوي داخل الاردن وكانت تلك الاسماء في الغالب تتخذ خطاً يسارياً لكنها سرعان ما وافقت على العمل مع تلك الحركة والتي يعتبرها اغلب العراقيين بانها حركة للبعثيين المنشقين عن صدام حسين ، لقد استمر نصيف الناصري في حديثه عن الحركة كلما ازداد من شرب الخمر ثم قال : انه على حافة هاوية الطرد من تلك الحركة وفيما لو تم طرده فأين سيعمل ؟ بعد ساعات ظل يكرر حسن الصحن على نصيف الناصري كيف لاذاعة الوفاق ان تبث للعراق و
عبر ماذا ؟ حتى طفح كيل الناصري وحرك يده اليمنى بطريقة عجيبة ، كان صامتاً لكنه انفجر في لحظاته الاخير ليقول ان طائرة هلكوبتر امريكية او تشرف عليها القوات الامريكة تقوم بأرسالاتها للبث الاذاعي من الحدود الاردنية العراقية ! ضحكنا وبقوة على تصرفات حركة الوفاق التي لا تتحرك إلا من خلال المخابرات الامريكية التي توجهها كيفما تشاء وكأنها لعبة في يدها .