في ضوء تطورات الأحداث السياسية والتغيرات الإقليمية والدولية التي شهدتها المنطقة العربية، سعت الصين الى تحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط في ظل اشتعال المنطقة بالأزمات والاضطرابات وفشل السياسة الأميركية في حلها .
وفي الوقت نفسه تقوم استراتيجية الصين في منطقة الشرق الأوسط على التأكيد علي التنمية كحل لمشكلات المنطقة والتركيز علي الشراكة مع مختلف الدول، كما أن التغير الهائل الذى أحدثه الحرب الروسية الأوكرانية في موازين القوى الدولية، بالتزامن مع تواجد اقتصادي صيني متزايد أدى إلى انخراطها على نطاق أوسع مع دول المنطقة بطرق قد تؤثر بشكل كبير على المصالح الأوروبية والأمريكية، وهو ما ينبئ بتغييرات كبيرة في التنافس الدولي والإقليمي على المنطقة خاصة مع تراجع الهيمنة الأمريكية في المنطقة .
لذلك دأب المسؤولون الأميركيون، على الترويج لما أطلقوا عليه تسمية “التحول الاستراتيجي” بعيداً عن الشرق الأوسط، من أجل مواجهة تهديد الصين، التي بدأ نجمها يصعد في الآفاق يوماً تلو آخر، خاصة مع الإعلان عن نجاح بكين في التوسط لرأب صدع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران، ولأجل ذلك بدأت الصين رحلتها نحو لعب دور دبلوماسي وأمني أكثر أهمية في المنطقة، ومن هنا قامت بتفعيل وساطتها الأخيرة لكسب ثقة السعودية وإيران معاً.
ووسط الانتصارات الاقتصادية والدبلوماسية الصينية في الشرق الأوسط، جاء استئناف العلاقات القنصلية بين السعودية وسورية بوساطة روسية، وبذلك ترك التقارب السعودي السوري الولايات المتحدة على الهامش أثناء فترة من التحولات في الشرق الأوسط، بمعنى تهميش الدور الأمريكي في قضايا المنطقة.
ويمكن تتبع مسار التدخلات السياسية والأمنية للصين في المنطقة، حيث شهد العقدان الماضيان تنامي دور الصين في قضايا الشرق الأوسط. ولقد كان هذا البلد من أشد المعارضين للحرب الأميركية على العراق عام 2003، كما عارضت الإفراط في استخدام الأدوات العسكرية بـ ”أفغانستان وليبيا” عام 2011، وكذلك عارضت التدخل العسكري في الشؤون الداخلية السورية عام 2012 في سياق “الربيع العربي”، وتؤيد الصين بقوة جهود الفلسطينيين في الحصول على حقوقهم الوطنية، لدرجة أن المبعوث الصيني يزور المنطقة بشكل متكرر للوساطة بين فلسطين و الكيان الإسرائيلي.
كما انخرطت الصين بشكل فعال طوال العامين الماضيين، في قضايا أمنية بالشرق الأوسط، وتكررت زيارات “وانغ يي” عضو مجلس الدولة ووزير الخارجية السابق، منذ العام 2021، إلى الدول الكبرى في المنطقة مثل: “السعودية وإيران”، واستقبل في العام 2022 وزراء خارجية الدول الكبرى بالشرق الأوسط.
وأوضح موقف بلاده تجاه قضايا الأمن الإقليمي وفق المفاهيم الأمنية الجديدة، والجسر الناجح الذي أنشأته الصين بين “إيران” و”السعودية”، وأدى إلى استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ليس فقط إنجازاً لمفاوضات بكين التي استمرت خمسة أيام، بل هو أيضاً نتيجة الدبلوماسية الصينية في المنطقة في العامين الماضيين لتعّزيز مفاهيم أمنية جديدة.
بناءً على ذلك فإن الدور الصيني سوف يزداد مستقبلًا في تسّهيل السلام والاستقرار بالمنطقة، حيث تعتبر أن الشرق الأوسط مرتبط بقوة بأمنها الاقتصادي والقومي، وهي تتعامل كذلك مع مسألة نزع الخلافات في المنطقة، كوسيلة لإثبات شعورها بالمسؤولية كلاعب دولي رئيس، وفي تقديري سيظل دور الصين بالمنطقة هو تسّهيل تهدئة التوترات الإقليمية، وستواصل إقناع الأطراف والضغط عليها لتضييق خلافاتها.
وأخيراً: إن المستقبل يوحي بتغيرات كبيرة وواسعة في سياسات الصين تجاه المنطقة، ويأتي ذلك مع تزايد الفراغ الامني الذي قد يخلفه الانسحاب الامريكي النسبي من المنطقة، وهذه السياسات تتمثل في زيادة تركيز الصين على مصالحها الحيوية، وهو ما يعني أن الصين ستكون بحاجة الى تأمين استثماراتها في الشرق الاوسط بنفسها، وهذا يجعلها من أن تزيد من مشاركتها الأمنية والدبلوماسية والأمنية في تعقيدات المنطقة وصراعاتها، بالتوازي مع سعيها للحفاظ على سلامة مصالحها الحيوية، لذلك من المؤكد أن الولايات المتحدة ستجد نفسها مضطرة إلى إعادة تقييم علاقاتها في المنطقة والتفكير، في المقام الأول، في الأسباب التي تدفع بشركائها إلى الانعطاف نحو الصين.