23 ديسمبر، 2024 1:37 ص

حركة التصحيح والتجديد والابتكار في الأدب العربي

حركة التصحيح والتجديد والابتكار في الأدب العربي

دراسة نقدية لقصيدة علقم للشاعر العراقي : عبد الرزاق عودة الغالبي
المقدمة
يكاد يجمع الدارسون على أن ثورة الشعر العربي الحديث على المقاييس
الموروثة التي أصبحت تحول دون تطور الشعر و تمكينه من مواكبة متطلبات
الحياة الجديدة هي نتيجة ما عرفته فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية من حركات تحررية في الوطن العربي. وترتبط الثورة الشعرية في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات بحدث النكبة الذي فسح المجال للشاعر العربي لكي يمارس حريته كاملة بعدما انهار التيار المحافظ. كما ترتبط هذه الثورة بطموحات الشعوب العربية من اجل التحرر و الديمقراطية والعدالة ولهذا لم تكن القصيدة الجديدة تسعى للتمرد لذاته، لكنها كانت تعكس حلما جماعيا مسكونا بهاجس التغيير
و طموحا إبداعيا يتوق إلى الخروج من التقاليد التي تعيق التطور و التجديد فعملت على تكسير وهدم الجاهز ليشمل مختلف المستويات الدلالية التركيبية والإيقاعية.
دلاليا: سعت القصيدة الحداثية إلى تشكيل مواقف وموضوعات ورؤى جديدة تعكس من جهة ثقافة الشاعر المتنوعة ومن جهة ثانية الأفكار والتصورات
والصراعات التي يعج بها محيطه .
تركيبيا: ارتكزت القصيدة الحداثية على مبدأ الانزياح بمفهومه الواسع والشامل حيث انزاحت عن اللغة السائدة بخلق لغة مبتكرة في تركيبها ورمزيتها.
إيقاعيا: اعتمدت القصيدة الحداثية نظام الأسطر الشعرية التي تختلف فيما بينها وتوزيع التفعيلة توزيعا مختلفا.
واستمر الشعر العربي الحديث يستجيب لمتطلبات وحاجيات الشاعر العربي في التعبير عن قضاياه وهمومه إلى زمننا المعاصر مع شعراء من مختلف أقطار العالم العربي من بينهم الشاعر العراقي عبد الرزاق عودة الغالبي الذي سجل قصائد عربية معاصرة أغنى بها الساحة الشعرية العراقية والعربية صاحب ديوان ترانيم سومرية الذي جاء في وقت متأخر كما أشار إلى ذلك محققه رزاق مطشر الخفاجي في مقدمة الديوان لظروف سياسية مرت بها العراق والتي كممت الأفواه الوطنية لثلاثة عقود ونصف بداية مع أزمته مع إيران سنة 1980 مرورا إلى أزمته مع الخليج سنة1991 إلى التغلغل الأمريكي داخل العراق في ابريل سنة 2003 واعتقال صدام الحسين في دجنبر من نفس السنة وإعدامه سنة 2006 وظهور عمليات إرهابية من طرف المسلحين المتطرفين سنة 2007 وانسحاب معظم القوات الأمريكية 2009 و تنظيم الدولة الإسلامية في نفس السنة ومازال العراق يواجه تبعات أزماته إلى يومنا هذا.
كل هذه الأزمات والمصاعب سببت المعاناة للإنسان العراقي خاصة الشعراء الذين أطلقوا العنان لكلماتهم في قصائدهم وأبدعوا في تصويرها.
ويشرفني أن أتناول إحدى قصائد الديوان بالنقد والتحليل تتمثل في قصيدة علقم باعتماد نظرية نقدية عربية بحتة وهي النظرية التحليلية الذرائعية لمنظرها عبد الرزاق الغالبي صاحب القصيدة والذي يعود له الفضل في ان يمنح للنقد هويته العربية منافسا بذلك النظريات الغربية البنيوية والشكلية والتفكيكية والسيميائية.
أتاحت الذرائعية للناقد عملية السبر إلى أغوار النص الرصين واستجلاء منه ما يحمله من خلفيات أخلاقية وتأويلات ثابتة ومتحركة والتفاعل معه جماليا وعقلانيا بمداخل محددة وواضحة دون الوقوع في الإنشائية.
ومكنت هذه النظرية الناقد من استحضار الخلفية الأخلاقية والإيديولوجية للأديب والتفاعل مع النص جماليا وعقلانيا بمداخل محددة واضحة.
ونفتخر بتبني الذرائعية التي تشكل نهضة في النقد العربي انتشرت في ربوع العالم العربي من خلال انطلاقها من بلاد الرافدين علي يد منظرها الأول الدكتور عبد الرزاق الغالبي وصولا إلى بلدنا المغرب عن طريق جسر متين المتمثل في شخص الناقد المغربي الأستاذ عبد الرحمن الصوفي الذي امن بالنظرية واعتز بخصوصيتها العربية وشق طريقه للتعريف بها وتلقينها للمتدربين في المدرسة الذرائعية.
نبذة عن حياة الشاعر:
هو عبد الرزاق عوده الغالبي التربوي والمنظر والأديب والمترجم والناقد ولد بالعراق في مدينة الناصرية خريج كلية الآداب جامعة البصرة سنة 1972 قسم اللغات الأوروبية انجليزي ألماني صاحب النظرية الذرائعية للنقد الأدبي الحديث.
عمل مدرسا ومشرفا اختصاصيا لمدة أربعين سنة.
اشترك في الدورات التطويرية في علم أصول التدريس وعلم التعليم: الميثولوجي والبيداغوجي داخل قطر وخارجه حتى بلغ عدد الدورات التي شارك فيها 36 دورة تطويرية.
ساهم كثيرا في التطوير وكتب عشرات البحوث والمقالات عن تطوير مدارس اللغة الانجليزية في العراق.
كتب الشعر والقصة القصيرة والمقال الأدبي مند طفولته .تجاوزت كتاباته الأدبية المنشورة في الصحف والمجلات الورقية والإلكترونية أكثر من 400 مادة أدبية.
كتب العديد من النقود وحسب نظريات ما بعد الحداثة لنصوص أدباء عراقيين وعرب وبلغ عددها أكثر من عشرين نقدا.
عضو اتحاد كتاب الانترنيت واتحاد الأدباء الدولي واتحاد النقاد العربي واتحاد النقاد العراقي ورئيس لجنة النقد في اتحاد الروائيين العراقيين في البيت الثقافي العربي في الهند.
وضع النظرية الذرائعية وقد ضمنها في كتابه الموسوم بالذرائعية في التطبيق.
علقم

اخبرني دمي أخيراً
اني منكم
فخٓجلتُ كثيراً
وتوارتْ لغتي حياءً
أٓنينطقٓها من خان
صار السيفُ
وبيت الشعر
وأمجاد الصحراء
سيل دخانْ
ماذا سنقول لعنترة
حينٓ يسألُنا يوماً….؟
أنقول…..
اسداً دُفن جًبناً
بجلدِ حملٍ
وشماغ اخرقْ
تطرزه ُالأوثانْ…؟
جعلوه كرةً
يتقاذفها قاص ودانْ
لا يفعل شيئاً
غيرَ الأكل والشرب
وأشياء اخرى يحسنها
افضل منه الحيوانْ
يبتاع نتاجات الغربِ
ويكٌفر اهل العلمِ
ويذبحهم بما اخترعوه
بإسم الله
وفتاوى الضربانْ
جمد التفكير لديه
وصار اداة
تحركها الادرانْ
يستورد حتى الماء
والبصل وقشور الدنيا
ويصدر لهم الكذب
والقتل والموت
وقبيح الفعل بالأطنان
آآآه….
يا مجد الضادِ
قد دفنوك بسابع ارضٍ
وما بقي منكَ
تمزق وتخدر
وهام وتهجر
ومن تمسك بالارض
دفنوه بباطنها
ولاكته الديدان
تناسيت التاريخ
والأجداد والأصل
والدين والأهل
وبسطت يدك ذلاً
لمن خانوكَ ونهبوكَ
وباعوكَ ببخس الاثمانْ…
أيحق الآن لدمي
أن يسخر مني
يعفر وجهي
ويمسي ماءً
فيهجرني ويرحل عني
لأرضٍ لا يسكنها انسانْ…؟

المدخل البصري:
العنوان: تحمل القصيدة عنوان علقم
و هو مستفز للقارئ يوحي بالألم والمعاناة يتشكل من كلمة واحدة.
والقصيدة من شعر التفعيلة شعر حر موزون تتكون من ستة وخمسين سطرا شعريا يطول ويقصر حسب الدفقة الشعورية للشاعر تتخللها بعض علامات الترقيم كنقط التتابع وعلامة الاستفهام و التزمت بالوحدة العضوية وتحررت من وحدة الروي والقافية والوزن مأخوذة من ديوانه ترانيم سومرية تحقيق الأستاذ الرزاق مطشر الخفاجي والديوان بدوره يحمل عنوانا مشوقا يجمع تركيبيا بين صفة وموصوف ودلاليا تعني كلمة ترانيم تلك الأنشودة الصغيرة الخفيفة اللحن التي تتغنى بالكنائس المسيحية أثناء القداس و سومر اسم قوم سكنوا جنوب بلاد الرافدين وأسسوا حضارتهم بها.
ومن هنا نفترض أن الديوان سيتضمن قصائد تشبه ترانيم خفيفة الإيقاع تأخذ صفة الحضارة السومرية باعتبارها من أقدم الحضارات في العراق. والقصيدة إحدى هذه الترانيم و توجد في الصفحات 11/ 12/ 13/ 14 .
البؤرة الثابتة:
تتضمن القصيدة موضوع الألم وتحسر الشاعر على واقع أمته العربية التي افتقدت فيه مجدها وهيبتها وبطولاتها إذ لم يعد لأمة الضاد وجود، أمة كانت تفتخر بهويتها وتعتز بحضارتها وصارت كرة يتقاذفها القريب والبعيد تباع وتشترى بأبخس الأثمان امة دخلت في نفق الاستهلاك الماجن وانفعلت مع إنتاجات الغير دون وعي وتستورد القشور وتصدر طاقاتها البشرية وثرواتها الطبيعية دون التفكير في العواقب امة دفنت تاريخها وهمشت حضارتها متناسية لأصلها و لأجدادها ولدينها وقبلت المذلة والعار كعنوان لها مما جعل أبناءها يتنكرون لها ويخجلون من الانتماء إليها لما عاشوه في أوطانهم من نفاق وذل وزيف ومجون.
الاحتمالات المتحركة:
إن المبدع الأصيل لا يقدم أفكارا وإنما يقدم رؤيا ،هكذا كان هم الشاعر الغالبي هو البحث في محددات الذات وتدبر خصوصياتها المختلفة ومحاولته تأكيد هويتها الحضارية والإنسانية .
وكان التراث العربي والإسلامي مصدرا من مصادر الجمالية التعبيرية بحيث حرص الشاعر على أن يستوحي من دلالته وأبعاده ما يوافق متطلبات تجربته الإبداعية الخاصة ويناسب مقتضياته الفكرية والفنية.
ومن العوامل التي ساهمت في تشكيل رؤياه الظروف السياسية التي سادت في بلده العراق وما طرحته من مشكلات وقضايا اجتماعية المتمثلة في بعض الظواهر والاضطرابات المتعلقة بالتخلف والجهل والفقر والاختلالات بين بعض الفئات والتشكلات الاجتماعية .
والانفتاح على الفلسفات والنظريات والقيم الإنسانية والكونية ومحاورتها والتفاعل معها و خصوصا منها التي تتعلق بشؤون الهوية الحضارية والثقافية لأبناء الأقطار العربية في معترك الصراعات الإيديولوجية والفكرية والأدبية المختلفة ومن ثمة كان لزاما على الشاعر أن يعمل على تشكيل رؤياه الخاصة منبعها وعي نافذ و أفق رحب للنظر صوب الآتي والممكن أي الاستشراف للمستقبل وفق تصور مثالي ومنفتح على رؤى الغير ودورها إدغام ما هو ذاتي بما هو جماعي ووضعنا أمام المصير البشري الذي ينم عن القلق والكشف لنا على الانفعالات والمشاكل الجديدة والبحث عن أفق الإنسان العربي.
ولعل العنوان علقم يحيل على مجموعة من الدلالات العميقة فهو في مباشرته يعني نبات الحنظل وطعمه مر أمر من قشرة الليمون الحامض وفي عمقه يحيل على مرارة الواقع المتأزم للإنسان العربي عموما والعراقي على وجه الخصوص وما يزيد من مرارة الأمر هو خجله من دمه وخجل لغته منه.
البيئة الشعرية:
إن ولادة الغالبي ونشأته ببلاد الرافدين الحاضنة لأعرق وأشهر الحضارات الإنسانية في مقدمتها الحضارة السومرية واشتغاله بالمجال التربوي والتعليمي والأدبي والنقدي وانفتاحه على اللغة الانجليزية والألمانية جعل قريحته الأدبية والشعرية تجود ويؤلف ديونا شعريا وينظم قصيدة علقم التي تشهد على جرأته في تعرية الواقع العربي الذي عاش انكسارات وانتكاسات بسبب تهاونه وفسح المجال للهيمنة الاستعمارية التي استطاعت إن تسلب منه هويته وتجعله يعيش شتاتا سياسيا ودينيا واجتماعيا وفكريا بتسرب تيارات فكرية دخيلة أقعدته أرضا جامدا و مسلوب الإرادة .
التيمة:
تمكن الشاعر من خلال تصويره أن ينبهنا إلى إعوجاجاتنا ويحفزنا على الاعتراف بها كخطوة مهمة للتصحيح والتعديل في قالب شعري حداثي ينم عن قدرته ومهارته في استخدام تعابير قوية وصادمة من شانها إن توقظ الإنسان العربي من سباته العميق وغفوته .
إن صورة العربي في القصيدة لا تشرفه لغياب مقومات العروبة الحقيقية فيه من شرف وعز وكرامة.
ونقيس درجة الإبداع عند الشاعر من خلال نقد المعنى الذي يقوم على المقاييس التالية:
أ. مقياس الصحة والخطأ
النص غني بمعطيات حقيقية لها وجود فعلي على ارض الواقع في مقدمتها بيت الشعر باعتبار الشعر الفن الأساس في البيئة العربية منذ العصر الجاهلي ، وأمجاد الصحراء يعني أن أصلنا يتجذر من شبه الجزيرة العربية التي تشهد ساحاتها على العديد من الانتصارات والبطولات.
أما عنترة فهو الشاعر العربي الجاهلي من أصحاب المعلقات المتمرد على قبيلته التي تنكرت له لكونه ابن امة فنفي خارجها وعاش منعزلا عنها وعن محبوبته عبلى ابنة عمه فتغلب على الم الفراق بالإصرار والعزم على أن يعود إلى قبيلته فارسا مغوارا عندما سيدافع عن قبيلته التي تعرضت للهجوم من قبيلة أخرى وسيقضي عليها في معركته معها وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على تضامن العربي مع أخيه في الشدة لاغيا كل أشكال العداوة لاشتراكهما وحدة المصير.
وصار السيف تحيل العبارة على تفنن العرب قديما في صناعة السيف وصياغته وأشهر السيوف السيف اليماني.
وبالسيف أقام العرب مماليك ودولا وهدموا حضارات كبيرة وقربوه منهم واعتبروا في قوته للدفاع عن أنفسهم وعرضهم وقهر خصومهم فقاموا بتزيينه وزخرفته.
والسيف هنا لا يمرر رسالة العنف بل الفخر بالبطولات عند الاعتداء.
و شماغ هي عمامة حمراء تلبس على رؤوس الرجال في شبه الجزيرة العربية
ب .مقياس الجدة والابتكار:
تكمن الجدة في النص في قوة شاعريته رغم قلة الإنزياحات والرموز لان الشاعر بسط صوره وجعلها واضحة لا تكلف القارئ عناء حتى يفهمها سالكا بذلك مسلك السهل الممتنع رغم انتمائه للمدرسة الشعرية الحديثة الواقعية التي تقوم على شحن النص بإيحاءات رمزية لان الغالبي أراد من خلال تجربته ورؤيا أن يكشف حقيقة العرب في تقليدهم الأعمى للغرب فاستعمل لغة بسيطة درامية في متناول القارئ وهذا لا يعني أن النص قد خلا من التعابير المجازية فهي مستعملة في أكثر من مناسبة داخله أضفت جمالية عليه وحققت متعة للمتلقي.
نقد العاطفة:
لا يمكن تصور الشعر خاليا من العاطفة التي تكون المحفز الطبيعي للشاعر للتعبير عن ما يخالج أعماقه من مشاعر وأحاسيس ، ونقد العاطفة يقوم على
مقاييس.
أ. الصدق والكذب
بالرجوع إلى الظروف الذاتية والمؤثرات الاجتماعية والثقافية للشاعر نتأكد من صدق مشاعره تجاه بلده وأمته وهويته العربية كما أن لحمله للقيم الدينية والوطنية والقومية والأخلاقية دورا كبيرا في الكشف عن مخاوفه وقلقه والجمع بين همومه الذاتية والجماعية ورغبته الملحة في عودة الأوطان العربية إلى أمجادها وحضارتها والنهوض بشعوبها إلى الأمام ورفض ثقافة الاستهلاك والانخراط في الإنتاج والتفاعل لتحقيق نهضة فكرية وثقافية واقتصادية تحمل الهوية العربية والخصوصية المحلية.
ب.مقياس القوة والضعف
استطاع النص ان يشد انتباه القارئ لحمله مضامين جديدة وجريئة تحمل رؤيا شعرية تستجيب لمتطلبات الشاعر المعاصر الذي يسعى إلى الحرية في التعبير عن قضاياه السياسية والوطنية والاجتماعية وتشرك القارئ في فهم مقاصده وتفكيك معانيه والتفاعل معها.
فالغالبي استحضر بعض الخصائص الأنتروبولوجية للعرب أشعلت في روحنا لهيب النوستالجيا إلى البيئة العربية الصحراوية التي قرأنا عنها في الكتب وشاهدناها مجسدة في الأعمال التلفزية والسينمائية فعشنا في القصيدة أجواء عربية محضة إذ سرح بنا خيالنا إلى الساحة التي كان يبارز فيها عنترة وإلى الرجل العربي الشهم الذي يعتلي هامته عمامة حمراء يتنقل بشبه الجزيرة العربي مختالا فخورا وتجولنا في متحف مزود بأشهر السيوف العربية المزركشة بأرقى أنواع الزخارف لمختلف الحضارات
الموسيقى الشعرية:
يحدث الإيقاع بنوعيه جرسا موسيقيا وتجانسا صوتيا يجذب المتلقي ويجعله يتذوق فنية القصيدة فالقصيدة من شعر التفعيلة شعر حر موزون اعتمدت نظام السطر الشعري الذي يطول ويقصر حسب الدفقة الشعورية للشاعر تمردت على وحدة الروي والقافية مزجت بين البحور مع هيمنة تفعيلة الرجز

أخبرني دمي أخيرا
/0///0//0//0/0
مستعلن / متفعلن / مس
أني منكم
/0/0/0/0
تفعل / مستف…
هذا على مستوى الإيقاع الخارجي .أما على مستوى الإيقاع الداخلي نجده يرتكز على ظاهرة السجع بوجود انتهاء الفواصل بنفس الصوت من خان- الأوثان – ودان-الحيوان –الغربان-….
وكذا في ظاهرة التكرار والتي جاءت على مستويات :
على مستوى الحرف نجد حرف النون يحتل مكانة مرموقة داخل النص وخارجه إذ استهلت به سورة القلم في قوله تعالى: ((ن والقلم وما يسطرون)) وهوقسم بالعلم والتعليم والكتابة التي من شانها الرفعة والخروج إلى النور بعد معاناة الظلمات والتأخر .
وداخل القصيدة يدل على الظهور والبروز لكونه من الحروف المجهورة. كما نجد تكرار لبعض الحروف الأخرى كالخاء اخبرني خجلت خان دخان اخرق وحرف القاف ينطقها نقول قاص اخرق قشور القتل قبيح ….
أما على مستوى الكلمة نجد تكرار التطابق وهوتكرار كلمات تتفق في الشكل والمعنى مثل:الأرض، ماء، دمي، خانوا….
كما نجد ترديد صيغة أفعال وهو جمع قلة الذي رفع من إيقاعية القصيدة مثل أجداد، أثمان، أوثان، أدران، أطنان….
كما كان لوجود بعض المشتقات لبعض الكلمات اثر في أحداث تناغم صوتي مثل مجد-أمجاد/يهجرني –تهجر/….
هذا فضلا عن وجود بعض الجناسات: الأصل-الأهل….و الطباقات: قاص-دان/يصدر-يستورد…..وبعض الترادفات:يهجرني –يرحل عني/القتل-الموت…
وإذا انتقلنا إلى ظاهرة التوازي التي تساهم في التلوينات الإيقاعية نجدها تتخلل بعض الأسطر مثل: تمزق وتخدر/ وهام وتهجر….الأجداد والأصل/الدين والأهل..
عموما القصيدة تعرف ثراء إيقاعيا البسها رداء الجمال والرونق.
الانزياح نحو الرمز والخيال:
حاور الواقع خصوصيات العمل الفني للغالبي و مقوماته الجمالية والتعبيرية المختلفة.
وبادر الشاعرإلى تحطيم أبنية الزمان والمكان في قصيدته واعتمد السرد والتفاصيل ومال نوعا ما إلى الرموز والأقنعة والارتكاز على الخلفيات الإيديولوجية الوافدة أو المضمرة والمبطنة في تجربته الشعرية وغير ذلك من محددات رؤياه وخصائصها الفنية المتعددة .
ومعايشة القلق لنفسية الشاعر يعد حافزا على الخلق الفني لديه .
وكما اشرنا فالقصيدة قللت من استعمال الرموز فجاء استعمالها في بعض المناسبات منها عنترة رمز للعربي الشهم البطل ، السيف رمز الانتصار وأداة صون العرض والشرف، أسد رمز القوة والشجاعة ،الأوثان كناية عن الغرب، الغربان طيور الشؤم ، الحمل الوداعة والاستسلام شماغ رمز العروبة والشموخ.
كل هذه الرموز الموظفة قامت بدور تذكير المتلقي العربي بمجده الغابر.
الصورة الشعرية:
توسل الغالبي بالصورة الشعرية للتعبير عما تعجز عنه الأساليب اللغوية المباشرة فهو لم يوظفها للتدبيج والزخرف بل للتعبير عن تجربته ورؤياه الشعريتين.
وقامت الصورة في القصيدة على مكون الاستعارة: اخبرني دمي، تطرزه الأوثان توارت لغتي حياء….. لدمي يسخر مني….
أما على مستوى البنية التركيبية زاوج النص بين الجمل الخبرية والجمل الإنشائية مع هيمنة الأولى التي تريد إخبارنا بالواقع الذي آلت إليه امتنا العربية اخبرني دمي أخيرا أني منكم / صار السيف وبيت الشعر وأمجاد الصحراء سيل دخان…أما الإنشاىية فهي تكشف عن انفعالات الشاعر ومواقفه والمتمثلة في
أسلوب النداء يا مجد الضاد وفي الاستفهام ماذا سنقول لعنترة حين يسألنا يوما…؟
أما على مستوى الضمير فنجد استعمال الشاعر لضمائر مختلفة تنوعت بين ضمير المتكلم المفرد دمي أني خجلت…وضمير المتكلم للجماعة نقول يسألنا …وضمير المخاطب المفرد خانوك نهبوك منك….والضمائر الثلاثة تدل على ذات الشاعر وذات الأمة العربية علاوة على استعمال ضمير الغائب للجماعة يدل على الغرب جعلوه، لهم ، دفنوه….
المدخل الاستنباطي:
يمرر لنا الشاعر من خلال نصه توجيهات ورسائل قوية نجملها فيما يلي :
-الحفاظ على الهوية العربية
-عدم الانسياق الأعمى نحو الفكر الغربي
-استرجاع الحضارة العربية بالعمل لا بالقول.
-المشاركة في الحداثة العربية انطلاقا من طبيعتها الثقافية وخصوصيتها المحلية.
-رفض ثقافة الاستهلاك.
-الاهتمام بعلمائنا وطاقتنا البشرية بالتأهيل والتشجيع
-العودة إلى مرجعيتنا الدينية والتراثية
-رفض العار والذل واسترجاع النخوة العربية.
كما يبدو فرحلة الشاعر مع الألم الحضاري لم تأخذ منحى ذاتيا بل تجاوزته الى ما هو جماعي.
المدخل العقلي:
أن التزام الغالبي بتعاليم ديننا الحنيف و تشبته بعروبته ومرجعيته الإسلامية أكسبته حزما وقدرة على العمل بالتفاني من اجل إنقاده من الذل بالإرشاد والتوجيه إلى الوجهة الصحيحة علما ودينا وأخلاقا ووقوفه ضد كل من يشوش على الإنسان العربي ويضرب قيمه والمسار العلمي والتربوي للشاعر يتجه في هذا المنحى والقصيدة تعزز ذلك.
المدخل السلوكي:
القصيدة في شموليتها تحمل وحدة شعورية وعضوية تستفز القارئ وتدفعه إلى البحث عن أجوبة شافية لتساؤلات تضمنتها بعض الأسطر أدخلته في حيرة وفضول أسئلة فيها نفس تحسر الشاعر كمثل قوله ماذا سنقول لعنترة…..؟أنقول أسدا…؟وكأنه يستشرف لمستقبل العرب بالرجوع إلى التراث والأصل…..والجميل في هذه الجمل الاستفهامية أنها تمكنت من تحقيق تفاعلنا معها من خلال طرحنا أسئلة بصيغة أخرى ماذا سنقول لأبنائنا حين يسألونا عن عروبتنا ؟ لم خان العربي وطنه؟ لم أصبح دمنا يتنكر لنا ويخجل منا؟لم هذا الخمول والانتكاسة؟
أسئلة كثيرة وأجوبتها شبه منعدمة دفنها التاريخ أو زيفها بحقائق مشوهة وإن طمس الحقائق لهو من طمس الهوية والخيانة أصبحت وسيلة للوصول إلى الغاية للحصول على سلطة أو نفوذ أو مال دون الخوف من سوأة العار التي يسجلها التاريخ ويعاب بها في كل الأزمنة.
المدخل الرقمي الساند:
يتضمن النص معجما غنيا توزع إلى حقول دلالية متنوعة وهي كالتالي:حقل​
دال على الإنسان: دمي 2 خجلت 1لغته 1 حياء 1ينطقها 1 وجهي 1
إنسان 1 يسكنها 1 يدك1 عنترة 1نقول 1 تطرزه1 منك 1 تمسك 1 أنقول 1 قاص 1 دان 1(18)
حقل دال على الموت: دفن1 يذبحهم 1 القتل 1الموت1 دفنوك1 الديدان1 يرحل يهجر1 (9)
حقل دال على الحيوان اسدا1حمل1 الحيوان 1 الغربان1 جلد 1الديدان 1 (6)
حقل دال على الوطن العربي لغتي1 أمجاد الصحراء1 مجد الضاد1 الاجداد1 الاصل1 الاهل1بيت الشعر1 شماغ1 الأرض 3 (11)
حقل دال على الدين: باسم الله 1 فتاوى 1 يكفر 1 الأوثان1 (4)
حقل دال على القوة: السيف 1 الأسد 1 عنترة 1 (3)
الحقل الدال على التجارة : يبتاع 1 نتاجات 1 يستورد 1 يصدر 1 الأطنان 1 الأثمان 1 باعوك 1 (7)
الحقل الدال على الانحلال الخلقي: خان 1 جبن 1 يكفر 1 قبيح الفعل 1 خانوك 1 نهبوك 1 الكذب 1 يسخر 1 تخدر 1 تناسيت 1 باعوك 1الذل (12)
الحقل الدال على العلم: أهل العلم 1 اخترعوه 1 التفكير 1 (3)
حقل دال على الاستهلاك: البصل 1 قشور 1 الماء 1 الأكل 1 و الشرب 1 (5)
(18+9+6+11+4+3+7+11+3+5=77)
المدخل الاخلاقي:
تعكس القصيدة التزام الشاعر بالقيم الدينية والقومية والأخلاقية دون دخوله في دائرة التعصب بل هو ينادي إلى الانفتاح المتوازن و المعقلن دون تهميش الهوية العربية وحضارتها لهذا نجده بشكل غير مباشر يوبخ أمته لان الخطأ فيها عند تفريطها في خصوصيتها وإنكارها لتاريخها ومجدها وفتحت الباب بمصراعيه لدخول العدو والطمع في ثرواتها.
خاتمة ا
يعد قراءتنا التحليلية للنص نستنتج تمثيل الشاعر لشعر التفعيلة مضمونا وشكلا وأن قصيدته نص شعري قومي بامتياز لإيمانه بأن العراق والأمة العربية شعب واحد يجمعهما وحدة الدين والهوية والثقافة ووحدة المصير هدفهما واحد هو السير نحو النمو والتطور والحماية من كل عوامل الجمود والتخلف .
وستبقى قصيدة علقم خالدة في التراث الشعري العراقي والعربي لأنها نموذج للقصيدة القومية بامتياز.