لجنة الذرائعية للنشر
النص والترجمة
إشكالية ما زالت تبحث عن حل
تُقسَم عربةُ الأدب إلى نوعَين:
1- الأدب التقريري Non fiction : وهو الأدب الحقيقي الذي يُبنى عليه الأدب المنزاح نحو الخيال والرمز والكذب والتذريع, وهذا ليس فيه شكل أدبي, وإنّما هو مضمونٌ خالصٌ, وقد شارك الأدب بعلاقة تبادلية, أن كان الأدبُ كلغة وسيطًا لهذا النوع, وهو الذي تُكتب فيه كلّ العلوم.
2- الأدب Fiction : وهو النوع الذي يخرج عن المضمون باتجاه الشكل, ونعني بالشكل المدخولات الموسيقية والخيالية والرموز والعناصر الأدبية الأخرى التي تصنّفها المدارس الأدبية, وهذا النوع يُقسم إلى قسمين: النص الشعري, والنص السردي. ويتميّز هذا النوع (الأدب) عن نوع الأول ( الأدب التقريري) بأنّه صناعة جماليّة فنيّة, وتأخذه النظرية الشكلانية الروسية, التي تحبّذ الشكل عن المضمون بسبب التناص intertextuality الذي يعتبر المضمون متناصًّا مسبقًا, أي مكتوبًا مسبقًا, كما جاء في مصطلح النص الغائب والنص الماثل لمحمد عزّام, والذي يعتبر كلّ نصٍّ مكتوبًا ( بمضمونه) مسبقًا, وأنه يؤثّر ويتأثّر, بينما ترى الذرائعية أن النص ( بمضمونه) يكون ثلاثيَّ التفاعل والتكوين, يتفاعل مع أحداث الحياة, ومع مكنونات المؤلف الداخلية, وتجارب الآخرين.
وجاءت الترجمة لتكون ناقلًا بين النوعَين, فنجحت في الأول, وفشلت في الثاني, وسنرى هذا التناقض الإجرائي فيما يلي:
إنّ الترجمة هي علم وفن.
علمٌ: من حيث أنّها علم من علوم الأدب تختصّ بنقل الحقائق لغويًّا من لغة إلى الأخرى, وهي كعلم تعتمد على مبدأ علمي ترجمي, هو البحث عن المكافئات الترجمية المتوازية تمامًا بين اللغتين, فأي حقيقة في لغة لا تعني أنها حقيقة في لغة أخرى, وأي خطأ في أي مكافئ ترجمي هو خيانة ترجمية قد ينتج عنها كوارث, والترجمة نوع من الأدب المتقصّي الذي يتقصّى الحقائق زمكانيًّا واجتماعيّا, فما هو غير مقبول في المجتمع المترجم إليه , قد يكون مقبولًا في مجتمع الأديب المترجم عنه, والعكس صحيح.
الترجمة من حيث أنّها فن: فهي فنُّ تواصل معرفي مع إبداع الآخرين في فنون الشعر والسرد, وهي كتابة أدبية ساندة, لكنها ذات قواعد مختلفة إجرائيًّا, فهي نقل للمعارف بين أمّتَين ( لغتَين).
هل الترجمة مجرفة تجريد لشكل النص الأدبي؟
يقول /منير بعلبكي/ وهو شيخ المترجمين العرب, وواضع معجم المورد :
رأس الحكمة في النجاح في الترجمة هو الأمانة.
وبناء عليه فإنّ ترجمة النص وإضافة الشكل له هو خيانة ترجمية, فلو أضفنا للنص (المضمون) شكلًا لأصبح النًّصّ المترجم مكوّنًا غير شرعي ! لأنّ الشكل من اللغة المترجَم إليها, والمضمون من اللغة المترجَم منها, بمعنى أن النص الأدبي لو دخل كما هو ( مضمون وشكل) في الترجمة, سيخرج من الجهة الأخرى مضمونًا فقط, وهذا معناه أن الترجمة تجرّف النص الأدبي من الشكل.
وهنا ندخل في إشكالية كبيرة, فالشعر العربي الذي يتفوّق فيه الشكل على المضمون في روائعه سيخرج من ماكينة الترجمة مضمونًا فقط! وقد يكون مضمونًا ضحلًا, كما لو تُرجمتْ معلّقة امرؤ القيس ( قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل), أو حتى غير مقبول إنسانيًّا, كما لو تُرجمت قصيدة المتنبي في هجاء كافور الأخشيدي( لا تشتري العبد إلّا والعصا معه…) فلا يخرج معها الخليل من الجهة الثانية للترجمة, وهذا يعني أن القصيدة قد خلعت شكلها الموسيقي في مجرفة الترجمة.
بينما نجد أن الأمر ( الترجمة) يتمّ بغير إشكال أو تغيّر مع النوع الأول( الأدب التقريري), الذي يحوي الحقائق العلمية- فهو خالٍ من الشكل- إذ يمكن ترجمته بتصرّف مع المحافظة على الحقائق في مضمونه.
فما هي الحلول إذًا ؟
بين الخيانة الترجمية وبين التجريف, هل نقبل بأن تكون ترجمة النص الأدبي ترجمة أدبية أم تقريرية؟
طبعًا تكون الترجمة تقريرية, ولكن ليس ترجمة حرفية, والتي تعني ترجمة جملة إلى جملة, والتي يحوي نتاجها ركاكة غير مقبولة أحيانًا, لاختلاف المنطق البياني والنظم النحوي بين اللغتين, وإنّما يجب إخضاع النص الأدبي إلى عملية إعادة صياغة paraphrasing, بتحويل النص من نص أدبي مبعثر المعاني طبقًا للشكل الموسيقي والمعاني المنزاحة, بجمع الشتات ونزع الموسيقى, وإخراجه من الشعرية ليصبح سردًا ذا حبكة متلاحقة ومضبوط العناصر, محافظًا على الشاعرية.
يقول منير البعلبكي ردّا على سؤال : كيف تصف طريقتك في الترجمة؟
“ثمّة طرائق شتّى في الترجمة : الترجمة بتصرّف, بأمانة, الترجمة الحرفية[1].
– الترجمة بتصرّف لا أوافق عليها وقد ولّى زمانها, ربما كان لها مبرّرات في وقت من الأوقات: كان المنفلوطي مثلًا لا يعرف الفرنسية, فكان هناك من يلخّص له القصة ويصوغها هو بالعربية, يتصرّف كما يشاء.
– والترجمة الحرفية كذلك أنا لست من الداعين إليها لأنّ لكلّ لغة منطقها البياني.
– كانت طريقتي في الترجمة هي أن أقرأ العمل في أول الأمر كاملًا, و أحاول أن أستشفّ روحه وأتشبّع من روحه حتى إذا انتهيت من هذه المرحلة بدأت بالعمل, أقرأ الفقرة وليس الجملة. أقرأ الفقرة, أحيط بمعناها كاملًا ثم أبدأ بالترجمة التي تؤدي المعنى كاملًا دون التقيّد بالحرفية التي يتقيّد بها بعضهم عند الترجمة, لأن البيان العربي مختلف تمام الاختلاف عن البيان الفرنسي أو البيان الإنجليزي”.
كلام الأستاذ منير البعلبكي هذا ينقلنا إلى موضوع ترجمة الأساليب, فطالما أن المترجم ينقل روح النص, فهو أيضًا ينقل روح الأثر, يقول في ذات المقال:
قصة مدينتين لتشارلز ديكنز, أنا ترجمت هذه القصة, ترجمتها بلغة تتلاءم مع لغة تشارلز ديكنز, فكنت أتقصّد الجزالة في الترجمة. أما عندما كنت أترجم همنجواي فكنت أتقصّد البساطة, لأن همنجواي كاتب صحفي انقلب فيما بعد إلى كاتب روائي….معظم كلماته من الكلمات العامية ….
وعلى هذا الاعتبار ينبغي أن تنطلق الحلول من عدة مفاصل, تشكل بمجموعها منظومة ترجمية متكاملة, وأيّ خلل يصيب مفصلًا فيها ينعكس على إنتاجها الترجمي, أهم هذه المفاصل :
– المترجم: الذي يمتلك مقياس الجودة والإبداع, والذي يعرف قوانين ومبادئ الترجمة فيطبّقها دون أن يحيد عنها حتى لا يقع في الخطأ, وهناك شروط ينبغي أن تكون أساسًا ينطلق منه أيّ مترجم, وهي:
فهمه للغة الأجنية التي ينقل عنها, وتمكّنه من اللغة العربية, ومقدرته على النقل الزمكاني والاجتماعي عن الأديب الذي ينقل عنه, وقد وجدتُ ذلك جليّا عند المترجم والمنظر العراقي عبد الرزاق عودة الغالبي في كتابه ( العبور إلى الضفة الأخرى) التي ترجم فيها حوالي 35 قصيدة لشعراء وشاعرات من جنسيات مختلفة, ساق في بداية كلٍّ منها سيرة ذاتية تعريفية عن الشاعر, شاملة نشأته وبلده وظروف مجتمعه وأعماله الأدبية وأسلوبه واستراتيجيته وأيديولوجيته.
المترجم لا يحدّد التخصصّ الذي يترجمه, لأنه مهنيًّا هو مترجم, يخوض بكلّ الاختصاصات, بشرط أن يقرأ الموضوع الذي يريد ترجمته بتشبّع, محيطًا بظروفه العلمية أو الأدبية أو الاجتماعية أو الأخرى, اعتمادًا على المبدأ اللغوي: أن اللغة مجموعة من الأوضاع الاجتماعية أكثر مما هي مفردات وجمل وسياقات لغوية.
– المتلقي:
وبهذا يجب أن يكون المتلقي مستعدًا لتقبل المضمون الترجمي أكثر من الشكل, بعد القناعة أن الشكل قد جُرّف بمجرفة الترجمة, وما نقوله هنا ينطبق على الترجمة الأدبية والنصوص المقدسة, فهي تُترجم ليس حرفيًّا, وإنّما تفسيريًّا, وبدقة متناهية, بعد دراسة الظروف المحيطة بها, لأن تلك النصوص – وخصوصًا المقدسة- الصحيح ألّا تترجم إلى لغة أخرى, بل تُحفظ بلغتها الأصلية أفضل, كما يحدث مع الآيات القرآنية عند المسلمين الأجانب, فهم يقرؤون الآيات باللغة العربية, ويقرؤون التفسير المترجم بلغتهم الأصلية. أمّا بالنسبة للشعر, فهو يخضع لتلك الاستراتيجية, أو يترجم شطرًا لشطر وعجزًا لعجز بمضمون فقط, بعد طرد الكسور الموسيقية منه ليصبح قصيدة شعرية نثرية, وهذا الخطأ الذي وقع فيه شعراؤنا حول قصيدة النثر, فالكثير منهم يخلط بين القصيدة المترجمة وقصيدة النثر العربية, حيث اعتبروا الأخيرةَ شكلًا أجنبيًّا بعد أن ثبت الخلط بين النوعَين بسوء الفهم وغياب التفريق.
– الناشر ودور النشر:
هناك الكثير من دور النشر التي تنشر كلّ ما يَرِد إليها من مواد أدبية وعلمية مُعدّة للطبع, دون أن تطّلع على تلك المواد, فقط تنشر حتى دون أن تنظر بالتنسيقات البصرية أو اللغوية أو الإملائية, ومن الممكن فقط أن ترفع مسؤوليتها عن المحتوى العلمي بوضعه على ذمّة المؤلّف أو المترجم, فتصدر مئات أو آلاف النسخ المترجمة المطبوعة, المليئة بأخطاء مهولة على المستوى البصري والإملائي والنحوي, ما يجعل المتلقي يلقي بالنسخة مشمئزًّا, ويصيبه الملل من ركاكتها وغرابتها, لذا فإن على دور النشر والناشرين مسؤولية كبيرة في هذا المجال عليهم أن يعوها جيّدًا, لإن الخسارة بكلّ الأحوال ستطالهم ماديًّا ومعنويًّا, ولنا في (دار العلم للملايين) أكبر مثال إيجابيّ يمكن تمثّله كمرجعية ينبغي العودة إليها للإفادة منها.
اقتراحات:
مادام الأدب- بشكل عام- ساحة منفلتة لا مرجعية فيها, كالمرجعيات السابقة التي تصدّت لموجة الحداثة السلبية, والتي كانت ترتبط بالأسماء الكبرى لأدبائنا العرب, كأحمد شوقي وطه حسين ونجيب محفوظ إلخ, ولكون الترجمة جزءًا من الأدب والعلوم المحيطة به, فقد كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمرجعيات ترجمية كبرى, وأسماء تهزّ شبكة المعرفة كمنير بعلبكي وصفاء خلوصي وآخرين, وانفلت زمامها أيضًا في عصرنا هذا, فتاه الأدب والترجمة في متاهات الشخصنة والإسفاف, اقترح:
أن تعود المرجعيات من جديد لساحة الأدب والترجمة عبر تجمعات ومؤسسات ثقافية, علمًا أننا نملك نعمة التواصل بشكل واسع ومجاني, الأمر الذي يمكّننا من اختيار نسخ مترجمة تملك تقييمات حتى ولو من المتلقّين أنفسهم. وأن تعود كل مفاصل الترجمة إلى مرجعيّاتها لننعم بمنتوجها, لأننا بحاجة جدًّا إلى الترجمة, فهي البداية التي تقوم عليها كلّ نهضة.
[1] مقالات من مجلة العربي – منير بعلبكي وجهاد الفاضل – عدد أغسطس 1993