لم تمضى الا بضعة اشهر على صعود هتلر وحزبه”حزب العمال الاشتراكى القومى الالمانى NSADP وسرعان ما اخذت تتصاعد العمليات البربرية ضد جميع القوى من المثقفين والمعارضين لنهج الاشتراكية القومية العنصرى بالمداهمة والاعتقال والتصفيات الجسدية لمئات الالاف من الشعب الالمانى.
وتصاعد منذ 10 ايار1933 حملات حرق الكتب التى تمت تحت شعار “لا للفكر اللاالمانى”. بدأت هذه الحملات بتدبير وتنظيم رابطة الطلبة القوميين الالمان, حيث كانت العملية الاولى فى ميدان الاوبرا فى برلين وشملت لاحقا 22 مدينة المانية. ان رابطة الطلاب القوميين الالمان لم تحضى باهتمام ورعاية واعتراف من قبل حكومة ما بعد الحرب العالمية الاولى والتى قد سميت بـ ” جمهورية فايمر” وذلك لتطرف اتجاهاتها القومية.ومع الوقت قد وجدت لها موطنا فى مختلف الاتجاهات القومية اليمنية والتى اخيرا اصبحت احد كيانات الحزب النازى, والتى وجدت لاحقا,” منطقيا” مجالات عملها فى صفوف الاجهزة الامنية التسلطية المرعبة فى صفوف الحزب النازى وحركة الاشتراكية القومية الالمانية “.
كانت بدايات نشاطات الطلبة القوميين بالتعرض الى اساتذة الجامعات وتانيبهم والاستخفاف بهم واتهامهم بالفساد ونشر الافكار الهدامة التى لاتنسجم مع التطلعات القومية, من هنا جاء الشعار “لا للفكر اللاالمانى” وكان ضحايا هذه العملية, خاصة الاساتذة اليهود وكذلك كل الكتاب والمثقفين الذين لم يستجيبوا للفكر القومى العنصرى, بالاضافة انهم قد نشطوا من خلال انجازاتهم الفكرية ضد الحركة النازية, فقد تعرض الكاتب والروائى( اريش ماريا ريماك) لروايتة ضد الحرب “لاجديد فى الغرب” الى المطاردة والاعتداءات, وكذلك الصحفى (كارل اوستفيسكى) الذى تعرض الى المحاكمة ورمى فى المعتقلات النازية ولقى حتفه هناك, وتسمى اليوم جامعة مدينة اولدنبورغ بأسمه.
ان حملات حرق الكتب كانت منظمة ومخطط لها مسبقا, فقد تكونت منذ عام 1929 (لجان قتالية) من الطلبة القوميين فى الجامعة تدعو لتنظيف المكتبات العامة والشعبية والخاصة من الكتب التى لا تحمل الفكر القومى, وتم ايضا من قبل المنظمات النازية مداهمة المكتبات وسرقة حوالى 70000 مجلدا, هذا بالاضافة الى الدعم والتعاون الذى قدمته مؤسسات اقتصاديات الكتاب,دور النشر, وقدمت صحيفة بورصة دور النشر قائمة بعناوين الكتب الممنوعة والتى يجب ان تمنع, هذا يعنى ان العملية لم تقتصر على الحكومة ومنظماتها الرسمية. لقد ساد بعد الحرب العالمية الاولى بين الشباب الالمانى الجامعى بشكل خاص الفكر الاحادى الذى ينطلق من” اما والا ” فقد انتشر مبدأ “الصديق- العدو” وشمل قطاعات مجتمعية واسعة واصبحت “اللاسامية” احد اهم ابعادة وتبلورة حالة فكرية وسلوكية عامة فى هذه المرحلة التاريخية.
كانت حملات حرق الكتب لها قواعد ومراسيم, ان الاسلوب الذى استخدم فى الحملة الاولى فى ميدان الاوبرا فى برلين العاصمة قد تم اتباعة فى الحملات اللاحقة فى المدن: يتم اختيار احد اهم الميادين فى المدينة ويعلن عن الحملة فى وسائل الاتصال,ودعوة الجمهور للمشاركة. تصل الشاحنات محملة بالكتب الممنوعة, توقد النار فى مساحة كبيرة من الميدان وتعزف الفرقة موسيقى شعبية واسعة الانتشار بالاضافة الى قطعات من الموسيقى العسكرية (موسيقى المارش) بضرباتها القوية المنظمة, وبذلك يتبلور جوا احتفاليا تسود فية المتعة والتفرج والنشوة بالانتصار, يصاحب رمى كل نوع من الكتب هتافات مضادة للكتاب والكاتب: كان الشعارات ضد الصراع الطبقى والمادية عند رمى كتب كارل ماركس فى النار, وكذلك شعارات التأكيد على الوحدة القومية والاسلوب الشعبى المثالى للوحدة الالمانية. كان عدد الحضور حوالى 70000 شخص وكان اساتذة الجامعة بالازياء التاريخية الخاصة بالجامعة, يحملون المداليات والاوسمة ويشاركون الحضور افراحهم وافكارهم ويباركون لهم مواقفهم, كما كان الكاتب الكبير “اريش كوستنر” حاضرا متنكرا كى لايتم التعرف عليه, ولكن احد الممثلات المسرحيات قد لمحته فما كان له الا الفرار سريعا, والا فان مصيره سيكون فى هذه اللحظة فى يد الغوغاء. يعبر اريش كستنر عن مشاعره بعد مشاهدة حرق كتبه ومؤلفاته: ” كانهم يحرقون ابنائى.” ان هذه الحملة الاجرامية بحق الثقافة الالمانية قد تكاملت مع المشاركة الرسمية الفاعلة لوزير الدعاية النازى الديماغوغى غوبلز, فقد عزز على نقاء الفكر القومى الالمانى وارجحيته فى التواصل والبناء القومى, واكد بشكل خاص على ان الشعب الالمانى ومؤسساته العلمية قد نظفت ذاتها داخليا وخارجا من براثن الافكار الاالمانية الهدامة.
ان الانظمة الشمولية بانواعها المختلفة, سواء ان اتخذت البعد القومى, او الدينى المقدس وحتى التى قامت على ما يسمى بالنظريات العلمية, قد كشفت عن حقيقتها من خلال ممارساتها اليومية القائمة على العنف والتسلط وابعاد الاخر, من انها انظمة طبقية وجماعات سياسية مغامرة تعمل على استمرار وحماية مصالحها وامتيازاتها, وكل ما تدعيه تمثل اكاذيب وخرافات وعمليات تجهيل منظمة ونشر الوعى المزيف القائم على الخرافات والاساطير والغيبيات.
ان نظام الاشتراكية القومية الذى قام علية الحزب العنصرى الالمانى يمثل بشكل صارخ كل هذه الانظمة الشمولية التى اقترفت على مدى حكمها وسيطرتها جرائم ابادة بشعة بحق شعوبها والعالم. هذا الحزب لم تعني له فى حقيقة الامر “اصالة الفكر الالمانى” وانسانيته بما جاء به كبار العلماء والفلاسفة والفنانين الالمان على طول السنين, ولم يكن “لا الفكراللاالمانى” سوى بدعة خبثة هدفها التسلط واحتكار تكوين الرأى العام بما يناسبهم وعملية اتهام مقصود لليهود الالمان وتمهيد للسياسية العنصرية وتصفية التهود. ان الكتب التى تم حرقها من قبل الطلبة القوميين لنخبة كبيرة من كبار الكتاب والشعراء والعلماء والفنانيين الناطقيين بالالمانية , على سبيل المثال :المفكر والكاتب فالتر بنجامين, الفليسوف ارنست بلوخ, برتولد برشت الشاعر والمسرحى,الكاتب ماكس برود, الرسام اوتو دكس, العالم الفيزياوى البرت اينشتاين, رائد الاشتراكية العلمية فريدريك انجلز, مؤسس التحليل النفسى سيغموند فرويد, الشاعر هاينريش هاينه, الكاتب فرانس كافكا, الكاتب اريش كستنر, كارل ماركسوكتابه الشهير “الراسمال”, جورج لوكاش, روزا لكسمبورغ, كارل ليبكنشت, هاينرش مان, كلاوس مان, انا سيغرز, كورت توخولسكى, ارنولد تسفايغ واريش تسفايغ….الخ.ان حملات الحرق والمنع لم تقتصر على الناطقيين بالالمانية وانما شملت كبار المفكرين والكتاب الفرنسيين: فيكتور هوغو, انديه جيد, رومان رولاند, وكذلك عد من الكتاب الامريكان: ارنست همنغواى,, جاك لندن جون دوس باسوس, وهلين كيللر. كذلك شمل كتاب ومؤلفين انجليز : جوزيف كونراد,ها.ده لورنس, واودوس هيكسلى, بالاضافة الى الايرلندى جيمس جويس. اما عن الكتاب الروس فقد شمل: فيدور ديستوفسكى, مكسيم غوركى, ايساك بابل, ليو تروتسكى, فالديمير بنوكوف وايليا ارينبرغ ولينين.
ان هؤلاء الكتاب والمفكرين من مختلف الجنسيات يقدمون ادبا وثقافا وجمالا واخلاقا انسانية معاصرة للانسانية بشكل عالم وهى بعيدة كل البعد عن التطرف والعنصرية والتسلط, ولكن هذه المبادى والافكار لاتنسجم مع نفسيات الغوغاء المثقلة بالعنف والجريمة, وهى جاهزه فى ارهاب المواطنيين وحتى تصفيتهم اذا “اقتضت الضرورات”, المجرم الكبير هتلر,عندما وصلت قوات الجيش السوفيتى مشارف العاصمة برلين, واصبحت نهايتة لا مفر منها, لم يقف لحظة واحدة وفكر بالكوارث التى حلت بالعالم وبالشعب الالمانى ايضا بسبب الحروب التى اشعلها والفكر العنصرى البغيض الذى اكد علية, لم ينظر الى امكانية ارتكابة خطا, وانما فسر هزيمته وفكره الاجرامى من ان الشعب الالمانى لم يرتقى بعد, ما زال غير مؤهل نحو قمم المجد !!, انها بلا ادنى شك تفاهة الاجرام والمجرمين(هانا ارندت -Hanna Arndt)
” اينما تحرق الكتب فسوف يحرق البشر لاحقا” الشاعر الالمانى هاينرش هاينه 1797- 1852