23 ديسمبر، 2024 5:57 ص

حرب اليمن ومحاولة فرض الإرادات

حرب اليمن ومحاولة فرض الإرادات

أن ما حدث ويحدث في اليمن اليوم من تعرض دولة ذات سيادة وعضو في الجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي والأمم المتحدة من اعتداء لتحالف عشري عربي إسلامي بمباركة ودعم لوجستي واستخباري أمريكي وبريطاني وصمت مطبق من هيئة الأمم المتحدة ما هو إلا مؤشر على بداية حقبة جديدة من بناء العلاقات بين الدول المتجاورة وبصورة أدق العلاقات بين الدول الفقيرة والضعيفة من جانب وبين الدول المدعومة عالمياً بالسلاح والإعلام مقابل البترول والمال النفطي الخليجي ليس أدل عليه من مظهر إبراز العضلات وتسيّد منطق القوة العسكرية لحل الأزمات الداخلية والخلافات بين الدول.

أن التحالف العشري الذي أنشأته وتقوده المملكة العربية السعودية ضد الالجمهورية اليمنية يحاول أن يفرض واقعاً جديداً في منطقة الخليج والشرق الأوسط مفاده أن بالإمكان العودة للبحث عن شرطي جديد لا لمنطقة الخليج لوحدها فحسب بل لكل منطقة الشرق الأوسط دون أن تتحمل القوى الكبرى عناء التدخل وإهدار الميزانيات والأرواح البشرية، وهو دور تناوب عليه في عصر الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بقيادة امريكا والشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي سابقاً روسيا حالياً الكثير من الدول حيث كانت “إيران الشاه” محمد رضا بهلوي (1919 -1980 ) في ستينيات القرن الماضي أول من لعب هذا الدور خدمةً للمصالح الأمريكية والغربية والإسرائيلية وحتى سقوطه في العام 1979 لينتقل الدور إلى “عراق صدام” الذي حاول في بادية الثمانينيات وفي قمة صعوده لفت انتباه دول الخليج وأمريكا إلى أنه يمكن لهم الاستفادة من خدماته في صياغة دور ما له لحماية أمن الخليج والولايات المتحدة الأمريكية وأوربا الغربية مقابل دعمه بالسلاح والمال لينتهي هذا الدور مع النمو الهائل لقدرات إيران التسليحية وقيامها بتطوير برنامجها النووي ولتدخل ساحة الصراع في منطقة الشرق الاوسط كقوة كبرى يعمل لها ألف حساب، في مقابل حالة من الضعف والتناحر الذي أصاب البلاد العربية سواء في الخليج أو باقي الدول بعد العام 2010 بداية ما يسمى “بالربيع العربي” الذي حوّل البلاد العربية إلى مستنقع من الصراع الدموي والإثني بين مكوناته القومية والدينية وهي حروب وثورات تحولت من رغبة في استبدال أنظمة توليتارية مستبدة بانظمة ليبرالية ديمقراطية تتفهم الحاجات الاساسية للمواطن العربي التي تنحصر في القضاء على الفقر والجهل والبطالة والدكتاتورية وتوفير مستوى لائق من العدالة الاجتماعية والحريات الشخصية،

ان حرب اليمن وما يقوم به التحالف العشري من عمليات قصف متواصل بالطائرات والصواريخ واستخدام آخر ماتوصلت إليه تقنية صناعة الاسلحة ووسائل القتل العشوائي والجماعي لن يكون إلا بداية سيئة لفرض واقع جديد في المنطقة العربية سوف لن يزيد هذا الواقع الا بؤسا وفقرا وتقسيما وتناحراً بين مكوناته والدفع في العلاقات “العربية- العربية” إلى طرق مسدودة لن تستطيع لا الأمم المتحدة ولا أمريكا من إعادة اللحمة فيما بينها فهو صراع يتجه بطريقة مقصودة ومبيتة ليكون صراع أثني بين طوائف تعودت على التعايش السلمي قبل أن يكون بين دول متحاربة وإلا أين المقارنة بين دولة ضعيفة وفاشلة مثل اليمن ينخر جسدها الفقر والتناحر القبلي وبين قوة عسكرية لعشر دول البعض منها يقف في مصاف الدول الاغنى في العالم مدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا؟

التاريخ القريب والبعيد يذكرنا ماذا انتجت الحروب “العربية- العربية” منذ نهاية الحرب العالمية الأولى 1918 وما نتج عنها من خسارة الدولة العثمانية للحرب وتقسيم الإرث القومي للبلاد العربية بين المنتصرين والمستعمرين الجدد بريطانيا وفرنسا، وأقرب مثال على ذلك هو حروب اليمن منذ عهد الإمامة الزيدية المتوكلية حين كانت تحت حكم الإمام يحيى محمد حميد الدين ابن محمد (1869- 1948) مع الجارة المملكة العربية السعودية في عهد الملك عبدالعزيز ابن عبدالرحمن آل سعود(1876 -1953) في الأعوام 1924 و1934 والتي انتهت باتفاق الطائف في 20مايو1934 الذي قسم الحدود بين البلدين حسب إرادة الغالب السعودي حيث فقدت اليمن بموجب هذا الاتفاق بعض من اراضيها مثل نجران وجازان وعسير في الجنوب، ثم الحرب التي جرت في اعقاب ثورة 26سبتمبر 1962 التي قادها مجموعة من ضباط الموالين لجمهورية مصر بقيادة المشير عبدالله السلال ضد حكم الإمام محمد البدر حميد الدين والتي تحولت إلى حرب إقليمية بالوكالة بين مصر التي تبنت موقف الضباط الجمهوريين من جانب وبين السعودية وبريطانيا والأردن التي وقفت إلى جانب القوات الملكية اليمينة، لتستمر هذه الحرب 8 سنوات والتي كلفت الدول العربية المتحاربة الاف القتلى والجرحى والمفقودين بالاضافة إلى ماسببته من مشاكل اقتصادية وعسكرية لمصر كانت نكسة 5 حزيران 1967 أحد أسبابها الرئيسية والمباشرة، وكانت نهايتها بعد كل تلك السنوات من الحروب واستقلال الشطر الجنوبي لليمن عن بريطانيا في 30 نوفمبر/تشرين الثاني1967 تحت اسم اليمن الجنوبي ثم تحول إلى اليمن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في العام 1969 .

غير أن الظروف الجديدة التي رافقت انتهاء حرب اليمن واستقلال الشطر الجنوبي والتي كان من المفروض أن تساهم في زيادة التقارب بين الشطرين لليمن والعمل على اقامة دولة الوحدة عملت على تعقيد العلاقات بين الطرفين بسبب الاختلاف الايدلوجي بين الشطرين الشمالي والجنوبي وكذلك تنوع مصادر القرار بيد أكثر من جهة في الجانبين انتهى بمقتل ثلاثة رؤوساء يمنين في أقل من سنة بعد حادثة اغتيال المقدم إبراهيم الحمدي رئيس الجمهورية اليمنية (اليمن الشمالي)1977 ، وتلاه اغتيال الرئيس التالي المقدم أحمد حسين الغشمي 1978 والانقلاب على الرئيس سالم ربيع علي “سالمين” في نفس الشهر بتهمة قيامة بتدبير اغتيال الرئيس الغشمي والتي على اثرها قامت “حرب الجبهة” في اليمن الشمالي ضد الرئيس علي عبدالله صالح واستمرت 5سنوات قادتها فصائل يسارية اشتراكية في وسط اليمن للمطالبة بالاصلاحات والتغيير، قابلها في اليمن الجنوبي حرب أهلية بين الزعماء السياسين للقيادة اليمنية في 13 يناير/كانون الثاني 1986 انتهى بهروب الرئيس علي ناصر محمد لليمن الشمالي ومقتل القيادي عبدالفتاح اسماعيل ونزوح اكثر من 60 الف يمني جنوبي لليمن الشمالي وقيام قيادة جديدة لليمن الجنوبي برئاسة علي سالم البيض مهدت لقيام دولة الوحدة بين الشمال والجنوب في العام 1990 واعلان قيام جمهورية الوحدة والتي عرفت باسم الجمهورية اليمنية، والتي لم تستمر طويلاً بسبب قيام حرب الانفصال بين الجنوب والشمال في صيف 1994 والتي انتهت بعد شهور وتدخلات دولية بطرد قيادة اليمن الجنوب وفرض قرار الوحدة بالقوة تحت قيادة الرئيس علي عبدالله صالح والذي استمر بقيادة الجمهورية اليمنية حتى العام 2012 بعد عقد اتفاق تسوية رعته المملكة العربية السعودية

في مكة تنازل الرئيس صالح بموجبه للحكم لنائب الرئيس عبد ربه منصور مقابل ضمانانات بعد التعرض له ولاسرته ولاتباعه من أي ملاحقة قانونية وقضائية.

وخلال حكم الرئيس علي عبالله صالح شهدت اليمن هيمنة واضحة لدكتاتورية الرئيس صالح وتعامله بطريقة قاسية مع مكونات الشعب اليمني من خلال اقصاء مكون على حساب مكون آخر حيث شهدت اليمن ستة حروب بين السلطة الحاكمة والحوثيين الذين كانوا يتمركزون في صعدة بين الأعوام (2004 -2010)، انتهت بتسوية سياسية ولم تنهي الوضع المتأزم بين الطرفين بل جعلته معلقاً خصوصاً مع وجود التأثير السعودي على القرار اليمني.

ومع تأزم الوضع السياسي الداخلي اليمني القبلي وغير المستقر كانت المملكة العربية السعودية على الدوام تراقب الوضع اليمني بحساسية مفرطة وكانت حرب 2009 مع الحوثيين في أحد أسبابها تنامي قوة الحوثيين في اليمن في مقابل تراجع القوى المدعومة سعودياً في اليمن، واليوم هاهي حرب أخرى تنشب من جديد لكنها هذه المرة ترتدي حلة جديدة مع تحالف دولي كبير من 10 دول تقوده المملكة العربية السعودية بقوة عسكرية ومالية وإعلامية هائلة مدعومة من الغرب ضد اليمن بكل مكوناته رغم محاولة قوى التحالف الايهام للاخرين بأنها حرب من أجل الشرعية وضد ميليشيات مسلحة لكنها لن تكون إلا حرب فرض الإرادات وتصفية الحسابات ومحاولة جر إيران وقوى أخرى إلى ساحة حرب طائفية ولو بطريقة غير مباشرة على وقع الاقتراب من توقيع الاتفاق النووي بين الدول الست وايران، ويبدو أن المملكة العربية السعودية التي لم تتوقع سيطرة الحوثيين على معظم اليمن قد تسرعت كثيراً في اتخاذ قرار الحرب وهذا ما نلمسه من خلال متابعة الصحافة العالمية لتطورات الاحداث على الساحة اليمنية ففي مقال نشرته صحيفة الاندبندت البريطانية لمراسلها الخاص لمنطقة الشرق الاوسط : ” أن السعودية قد “ألقت بنفسها في الهاوية”، وأن غاراتها الجوية على اليمن تشكل ضربة قاضية للمملكة وللشرق الأوسط على حد سواء” ويضيف متسائلاً ” من اتخذ قرار خوض هذه الحرب في أكثر الدول العربية فقرا؟ السعوديون، الذين يشتهر ملكهم في العالم العربي بأنه عاجز عن اتخاذ قرارات تتعلق بالدولة أم أمراء داخل الجيش السعودي قلقون من أن قوات الأمن قد لا تكون موالية للعائلة الحاكمة ؟”.وهذه التساؤلات تكفي لمعرفة عمق المشكلة التي وقعت فيها المملكة العربية السعودية وسببتها للاخرين ولنفسها.