لقد أعتبر العرب القدامى النقد هو أخراج الجيد من الشعر عن رديئه ، و ألحو على أن للناقد سلطانا في الأبداع ، بل أنه الكائن العقلي الذي يعلم ببدائع الكلام و أسرار الفنون ،
كما و جزموا بأنه كالصائغ و كالصيرفي الذي يميز بين الزائف من القطع و غير الزائف : ونقرأ في كتاب ( الغربال)
لميخائيل نعيمة مثل هذا القول : ( أن مهنة الناقد الغربلة : وقصد المغربل من الغربلة ليس ألا فصل الحبوب الصالحة عن الطالحة و عما يرافقها من الأحساك و الأوساخ ، أما القصد من النقد الأدبي ، هو التمييز بين الصالح و الطالح و بين الجميل و القبيح بين الصحيح و الفاسد .. ص13ص 15)
تبعا لهذه المقدمة أذهب الى القول ، بأنني سوف أوضح للقارىء جازما بأن ما بات واضحا اليوم هو العكس تماما مما قاله قدامى العرب في النقد العربي ، بل أن موقف المنقود قد صار عبارة عن أحقاد و وشايا و نبرات خطابية تشي بنوع ما من العقائدية و الطائفية والعشائرية ، حيث لم يعد للناقد الأدبي اليوم ، أي سلطان أو سلطة لا على النص ولا على متلقيه في ميادين عمله ، في الواقع ما كنت لأهتم بتبيان هذه الحقيقة ، لو لا أن الكثيرين من الأدباء لا يزالون يعتقدون و يرون ، بأن النقد ما هو ألا ضربا من الحرب العاتية بين ( الناقد و المنقود) أن الناقد في نظر ميخائيل نعيمة ، يمتلك دائما كل
الحقيقة ، و في ضوئها يصنف و يقيم و يحكم ، في حين نجد أدباء اليوم ، ينظرون الى شخص و ثقافة الناقد ، على أنها شرا مستطيرا ، وحقدا مبيتا ، و هناك عند التدقيق نجد أمثلة ونماذج كثيرة ، حيث نلاحظ على سبيل المثال بأن هناك شعراء يسيؤن فهم ( نظرية القراءة النقدية ) وهذا الشيء يكمن بدوره في صعوبة الأنطلاق من فهم النص الشعري نفسه ، بل أننا نجد أحيانا ثمة أختلافية شديدة بين من يدعون صفة الناقد من الشعراء ، بيد أن المراجعة في أنتاج هذا الشاعر الناقد ، سوف يكشف عن تناقض واضح مابين رؤياه النقدية ، و بين أنتاجه الشعري الخاص ، و من هنا يصبح التعويل عملا مجانيا لدور تجربة هذا ( الناقد الشاعر ) ، لا سيما أذا تحولت هذه القراءات النقدية لهذا الشاعر فعلا مصاحبا لمعاينات الشاعر نفسه ، أو ربما تتحول هذه النظرات الذوقية لدى هذا الشاعر الناقد الى مجرد ممارسات فعل وثائق مصدرية و مرجعية ، كما لو أن هذا الناقد الشاعر ، بهذا العمل قد تحول الى مجرد ( كاتب عرائض ) : و أمام هذا نطرح السؤال القديم ؟ أين هي موجهات النقد الحقيقي ازاء أن يكون الناقد شاعرا و الشاعر ناقدا ؟ هل مايكتبه الناقد الشاعر فعلا هو من ضمن موجبات النقد ؟ أم أنها من جهة مجرد مهاترات رخيصة يحاول بها الناقد الشاعر كسب قاعدة شعبية لصوته وحضوره الأدبي ؟ أم أن النقد قد أضحى لبعض الأخرين الشعراء مجرد ( لعبة لغوية ) رفيعة الأفكار ورنانة الكلمات ؟ ازاء هذا ما ينبغي للناقد الحقيقي أن يفعل أمام تلك القراءات النقدية الزائفة ؟ صحيح أن النقد في بعض من ألأحيان قد لا يتعدى حدود ( المعيارية / التقويم / الذائقة / الثقافة / حسن التقدير ) ألا أن هذه الأدوات بحد ذاتها ، تتطلب من الناقد مهارة خاصة في أستخداماتها : وهذا الأعتراض منا
على ممارسة النقد كل من هب ودب ، وهو بمثابة الأعتراض على هوية الناقد الذي يمارس ممارسة كتابية أخرى خارج حدود النقد، ولربما الأشارة حول هذه الظاهرة ، تزداد شكوكا وتعقيدا ، لا سيما وتقادم موجة تلك التضاليل التي أصبحت بمثابة ، المخالب التي تدين و تنهش كل مهام و وظائف الناقد و النقد ، والأصعب من هذا هو أننا نجد اليوم ، الشاعر وهو يتحدث كناقد لا ينتج نقدا ، غير أنه يقيم الأفتتاحيات النقدية
و تلك الأحتفاليات المهرجانية المطعمة بروح الأخوانيات و المحسوبيات و المنسوبيات ، و التي هي أساسا من صميم واجب الناقد و ليس الشاعر ، وعند سماع تلك الأفتتاحيات
التي يديرها هذا ( الشاعر المهجن ؟) نجد بأنه لا يفقه شيئا
من مصطلح ونظرية النقد ، بل أنه يتحدث بلباقة البلبل ، وبفصاحة اساتذة الجامعات ، فهل هذا هو من ينوب و يجسد دور ( الناقد المستقبلي ؟) أم أنه القارىء الذي يمتلك براعة التلصلص و التنكر لنصه و لنصوص غيره ؟ أم أنها أسئلة شعرهم الجديد الذي لم يحسنوا الأجابة عن مهامه و واجباته المؤرقة : و على هذا أدرك جيدا بأنني قد خرجت و أنعطفت
عن لب محور مقالنا المعنون ( حرب الناقد و المنقود ) ألا أنني أود أن أخبر القارىء ، بأن هذه الأنعطافة في مقالنا هذا ، هي جزء اساس من محورية أشكالية حرب الناقد و المنقود ، وعلى هذا أقول مجددا : هل هذا هو الخطاب النقدي اليوم ؟
و كأنه يعدو على قدم واحدة ؟ قدم ( الشعراء المتناقدون ؟)
وقدم النقاد الذين يشغلهم واقع التقريع فوق طبول الصداقات و الأخوانيات وقاعات المهرجانات الرخيصة : و أعتقد بأن السبب في هذا كله ، يعود الى عملية طاولة أختلاط الأوراق ،
أي أن الناقد بات يكتب القصيدة ، و الشاعر يكتب النقد : من جهة أخرى هناك بعض من النقاد أيضا من لهم دور أساس
في أشكالية ( حرب الناقد و المنقود ) و هؤلاء النقاد من يجاري عملا قصصيا أو شعريا من طرف صلة ( الأخوانيات) فترى هذا الناقد في كتابته عن هذا المنجز ، يصرف النظر عن الكثير من العيوب و الأخطاء الفنية و الجمالية و الأسلوبية ، في حين تتوفر فرصة لناقد أخر بالكتابة عن هذا المنجز ، لكن المشكلة أن هذا الناقد أمين في كتابته عن هذا المنجز ، فتراه ، أي هذا الناقد الأمين ، يبرز و يشخص حالات السلب قبل الأيجاب في هذا العمل ، و بهذا الأمر تتقد أول فتائل حرب ( الناقد و المنقود ) و في الختام أتمنى من أدبائنا و كتابنا و نقادنا أيضا ، بأن لا يجعلوا من كلام مقالنا هذا ، خروجا عن حدود تصورات النقد نفسه ، ولا عن حدود الرؤية التي أقرها العرب القدامى ، أعني تلك التي تتعامل مع النقد بأعتباره ، سلطة تحرس الحدود و الضفاف وتشير الى التخوم ، و لكن من جهة ما ، ندعوا على أن فهم النقد ، ما هو الا شكل أستباق للنص المنقود ، ومحاصرة له و لمستقبله ، حيث وجود وصايا أبوية كاسرة تطال جميع أطرافه في عملية الأبلاغ و التقويم : وتبعا لهذا أجدني أقول مجددا : لا أعتقد بأن الناقد الأمين والحقيقي اليوم ، سوف ينجوا من حرب ( الأدباء ؟) ولا من أتون هذا القدر الأدبي الذي سيظل يمضي بشخصه الى خرابه و أقصاء دوره و أهميته المتشبثة بين خندق الطموح و حروب
( الناقد والمنقود ) .