حرب القرم الحالية من مفرزات الحداثة، فالحداثة لها مشاكل بنيوية تحدثنا عنها في مقالات عدة لا أريد أن أكرر ما ذكرته في المقالات السابقة.
جانبها الأمريكي المستلم لقيادة الغرب عمليا لا نستطيع وصفه بالدولة ـــــــــــ كما يصف الدكتور جاسم السلطان ـــــــ كوصف الدولة المجرد، فهي وان كانت تبدو كجزيرة معزولة تمثل الولايات المتحدة القوى العظمى عالميا فيها وجوارها شبه تابع لها لكنها ليست معزولة وإنما تجوب العالم. بيد أن لأمريكا عوامل قوة وعوامل ضعف في حرب كهذه
عوامل القوة وتوازن
إن روسيا كما يبدو في الخارطة المستعارة من كوكل تكاد تلامس الاسكا وهذا عامل توازن حيث يقع كل منهما في مرمى أعداءه.
لأمريكا أساطيل بحرية تقدر 13 أسطول وهي مدن متكاملة وليست مجرد سفن بحرية تحوي كل أنواع الأسلحة والحياة المدنية، وهذا يعني سيطرتها على المياه دفاعا أو هجوما
هي عضو الأطلسي وعندها قواعد في أرجاء العالم ودول الحلف الأطلسي وكل قاعدة مدينة مكتفية بذاتها ايضا فهي قوة عظمى في البر
البحر والأرض يحمل قوتها الجوية والصاروخية عالية الدقة والقوة النووية التي تستطيع الاقتراب تماما من أي عدو في أنحاء العالم وربما تستطيع ردعه قبل أن ترمش عينه.
القوة الاقتصادية التي بنيت على القوة العسكرية في حماية المعاملات بالدولار وحركة المال والاقتصاد في العالم من خلاله وهذا برز واضح التأثير في حرب القرم الحالية وتضييق الخناق الاقتصادي على روسيا.
القوة الإعلامية والاتصالات ووسائل التواصل قوة معظمة لكل ما سبق.
عوامل الضعف:
ايدلوجيا الطرفين: روسيا لم تعد تابعة لمنظومة الحداثة المرتكزة على التقنية والمدنية وبلا موثوقية لكنها تحتفظ بمظاهرها، الحداثة ليست أيدلوجية فما يبدو من قيم واقعا هي سلوكيات لضرورة النفعية وليست قيم أخلاقية معيارية، أمريكا بالذات لها منهج إسبرطي وهو يتلخص بإخضاع العدو وإذلاله، وهذه نقطة مهمة هذه الأيام فروسيا تحولت إلى الأرثودوكسية كثقافة دولة مستحضرة القيصرية وفكرة الشهادة، فالتعامل معها كامتداد للشيوعية سيسبب حربا نووية.
روسيا خسرت أراضي عمليا في الحكم الاشتراكي لمناطق أضحت دول مستقلة ومنها أوكرانيا فهي تريد أن تستعيدها لتبقى درعا لها وليس أرضا تنطلق منها تحديات عليها وهو ما حصل فعلا في الدول التي انضمت للاتحاد الأوربي والأطلسي حكما فأوكرانيا منطقة حياد مسالة مصيرية.
العمق السوقي من الجهة الشرقية لا يشكل أهمية استراتيجية للهجوم والدفاع عند البلدين، فأي حركة من أحدهما بهذا الاتجاه ستوفر وقتا كافيا لتعبئة الرد وسيكون نوويا حتما، يبقى الجانب الغربي والذي نشهد به معركة القرم الجديدة باستشعار مصيري من روسيا لعملية خنقها.
ما لذي يحدث فعلا (الطريق إلى الصين):
يتصور البعض أن أوكرانيا كانت طعما للروس ليتورطوا بحرب استنزاف تسحق روسيا وليس عليهم إلا أن يقدموا الأسلحة، ثم عندما تنهار روسيا ذات مئات القوميات ممكن أن يفككوها لمرحلة قادمة، فروسيا دولة وظيفية ليس لها القدرة على مواجهة الناتو فلا يمكن أن يكون إنهائها غاية، بل هو هدف جرى إضعافه على خطوات، فدخول روسيا إلى ليبيا وسوريا اضحى توريطا وإضعافا، وأخليت أهميته الاستراتيجية بتفعيل اتفاقية مونترو التي لن تسمح للجهتين العبور إلى البحر الأسود.
فهي في الفخ، والان سيحاول الأمريكان التعامل معها بالنفس الطويل وهنا تكمن الخطورة، والتوجه مباشرة إلى حرب بأسلحة غير تقليدية لان المذهب الاسبرطي لا يتوافق مع عقلية بوتن تمتلك فكرة الشهادة وممكن أن تذهب إلى سلوك شمشون (عليَّ وعلى أعدائي)، حالة صفرية عدمية لابد أن تحسب.
لست مؤهلا لأضع حلا لهذا الواقع الخطر غير ما ذكرته في مقالي الأول (حرب القرم ما بين الحتمية والعدمية) لكن روسيا ليست غاية وإنما احد بنك الاهداف قبل أن يحاط بالغاية وهي الصين، تلك الدولة التي يقيدها الجوار واقتصادها الحرج رغم قوته، من اجل هذا فافتراض أن الصين ستبقى تتفرج وهي ترى الإحاطة بها من كل جانب افتراض محتمل يؤيده التاريخ، ربما ترى قضم دول الطوق المؤيدة لها ببرود؛ لكن عندما يعلو غبار الحروب وتتداخل عوامل الضعف البشري فالمنزلق يعطل موثوقية المنطق.