تمثل الحرب التي اندلعت لمدة اثني عشر يوماً بين إسرائيل وإيران تحولاً جوهرياً في شكل الصراعات المسلحة ، إذ بدا واضحاً أن ميدان المعركة لم يعد يقتصر على الجغرافيا أو سيطرة الجيوش على الأرض ، بل أصبح ميداناً افتراضياً تتحرك فيه التكنولوجيا وتدار عبر الذكاء الاصطناعي والمسيرات الذكية وأنظمة الحرب السيبرانية . هذه الحرب لم تكن مجرد صدام تقليدي بين جيشين ، بل عرضاً استراتيجياً عالي التقنية كشف ملامح حروب العقود القادمة ، حيث لم تحرك فيها أي وحدات برية أو يسجل احتلال أراضي ، لكن وقع دمار هائل على البنية التحتية والمنشآت الحيوية عبر أدوات غير مرئية .
شهدت هذه المواجهة استعمالاً مكثفاً للمسيرات المتقدمة والمقاتلات من دون طيار ، التي لم تكتفِ بمهمات الاستطلاع أو الضربات الدقيقة فحسب ، بل دخلت مرحلة متقدمة من التنسيق مع أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تقرر وتضرب وتتكيف ميدانياً دون تدخل بشري مباشر . كانت السماء مكتظة بمسيرات هجومية واستخبارية تتبادل المعلومات بشكل لحظي مع غرف عمليات افتراضية ، مما جعل القرار الحربي أسرع وأكثر دقة ، ولكن أيضاً أكثر عزلة عن الحس الإنساني التقليدي في إدارة المعركة .
أما على الصعيد السيبراني ، فقد تميزت الحرب بتبادل هجمات إلكترونية غير مسبوقة ، استهدفت بنوك المعلومات ، أنظمة الطاقة ، شبكات الاتصالات ، وحتى المحطات الفضائية . الحرب السيبرانية لم تكن مرافقة للصراع بل في كثير من الأحيان كانت هي القصف الأول ، حيث شلّت أنظمة الدفاع وتم اختراق قواعد بيانات حساسة وأطفئت مدن كاملة بالضغط على مفاتيح من خلف شاشات . لم تعد الجبهات تحدها الخنادق أو الأسلاك الشائكة ، بل باتت الجبهة هي كل شيء متصل بشبكة الإنترنت.
هذا النوع من الحروب يضع الجيوش التقليدية أمام تحديات وجودية ، فالخنادق والدبابات لم تعد تحسم شيئاً ، والقوة البشرية صارت عرضة للهشاشة ما لم تكن مدعومة بأنظمة تكنولوجية متطورة . إن تقليص الحاجة للجندي على الأرض لا يعني نهاية البشرية في الحرب ، لكنه يحول الإنسان من مقاتل إلى مشغل ، من قائد ميداني إلى مراقب لشاشات وأزرار .
بالمقابل ، فإن هذه الحروب تطرح تساؤلات أخلاقية عميقة ، فالمعارك التي تدار عبر الذكاء الاصطناعي قد تفتقر للتقدير الإنساني في تقييم الأضرار الجانبية ، وتنذر بتحولات في طبيعة القرار العسكري ، إذ بات بإمكان خوارزميات مبرمجة مسبقاً أن تقرر القتل والتدمير دون مراجعة ضمير أو اعتبار لخطأ محتمل .
حرب إسرائيل وإيران الأخيرة ليست حدثاً منعزلاً ، بل هي تمرين عملي لطبيعة الحروب المقبلة ، حروب ستخاض عن بعد بأسلحة ذاتية التشغيل وساحات قتال لا ترى بالعين المجردة ، حيث يكون الانتصار لمن يمتلك تفوقاً في الأدوات لا في الأعداد ، وفي البرمجيات لا في الصواريخ والجنود . لذا فإن أي دولة تريد البقاء في معادلة التوازن الإقليمي أو العالمي ، عليها أن تدرك أن الاستثمار الحقيقي لم يعد في التجنيد ولا في ترسانة الحديد ، بل في المعامل والخوارزميات والعقول التي تبرمج آلة الحرب القادمة .