23 نوفمبر، 2024 4:39 ص
Search
Close this search box.

حرب الخليج – جذور ومضامين الصراع العراقي – الايراني – ترجمة

حرب الخليج – جذور ومضامين الصراع العراقي – الايراني – ترجمة

تأليف / مجيـد خدوري   
ترجمـة / وليـد خالـد احمد   

المقدمة
ان الغاية من هذا البحث هي مناقشة الاحداث المتراكمة والقضايا المعلقة التي سببت في البداية اندلاع الحرب بين العراق وايران (الجاران اللذان يرتبطان بصلة وثيقة ليس جغرافيا فحسب، وانما بتقاليد تاريخية معقدة) قادت بالتالي الى اقحام دول الخليج الاخرى فيها. كما يتوخى البحث مناقشة الاحداث والقضايا الرئيسية التي غالبا ما ادت الى التوتر الدائم والصراع بين البلدين الجارين منذ ان ظهر العراق كدولة عصرية بعد الحرب العالمية الاولى. وبالرغم من ذلك، فأن البحث ليس دراسة في الاستراتيجية العسكرية.
 لا يقتصر البحث على دراسة الصراعات العراقية – الايرانية فقط لأن في يومنا هذا، لا يمكن لأي بلد خليجي ان يبقى بمنأى عن صراع رئيسي بين احد اعضاء الاسرة الخليجية وآخر. فقد وجدت هذه الدول نفسها متورطة في الصراع بشكل او بآخر. بالاضافة الى ذلك، كانت الصراعات المحلية منذ الازمنة الغابرة تميل الى دعوة التدخل الاجنبي، لهذا السبب، كرست الفصول الثلاثة الاخيرة الى تورط دول الخليج الاخرى. لقد ركز اهتمام خاص لمسألة كيفية اعادة السلام والامن الى منطقة الخليج. ومن اجل السعي نحو تحقيق السلام والامن، فقد اصبحت دول اخرى، وليس دول الخليج، عن طريق الامم المتحدة متورطة بعمق بشكل فردي او جماعي. وفي الفصل الاخير، جرت مناقشة المساعي السلمية المبذولة لوقف الحرب.
 وكما فعلت في اعداد مؤلفاتي السابقة خلال زياراتي المتكررة للعراق واقطار الخليج، فقد التمست المساعدة من عدد من المسؤولين الكبار الذين زودوني من خلال المناقشات بمعلومات وتوجيهات، اضافة للمعلومات التي حصلت عليها من المطبوعات الرسمية والدراسات المعدة من قبل الباحثين والكتّاب من مختلف الميول والاتجاهات. ومع ان زياراتي الى ايران قد سبقت ثورة عام 1979 (كانت الزيارة الاخيرة في شهر حزيران عام 1977)، الا انني استطعت التشاور مع عدد من الايرانيين الذين غادروا البلاد بعد الثورة واستقروا في العواصم العربية والغربية. ولا حاجة للقول ان الاشخاص الذين ناقشتهم وتشاورت معهم غالبا لم يزودوني بآرائهم الشخصية حول الاحداث والقضايا. ولم يسمح لي جميع اولئك الاشخاص الذين كان لي شرف التحدث معهم بالافصاح عن هوياتهم باعتبارهم مصادر للمعلومات. اما اسماء الاشخاص الذين حصلت على موافقتهم فيمكن ملاحظتها في الهوامش.
 اود ان اقر بالعرفان والجميل لجميع الاشخاص الذين كان لي شرف مقابلتهم وطلب مساعدتهم. كما اقدم شكري الى مدرسة الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنس لمساعدتها في اعداد هذا الكتاب والى ابنتي والانسة شيرين غريب لقيامها بجمع الفهارس.
 واخيراً ، لا يتحمل أي فرد مسؤولية الاخطاء والتعبير عن اراءه الشخصية الواردة في هذا الكتاب.

مدخــــــل

 ان حرب الخليج، التي بدأت كصراع حول السيادة الاقليمية وأمن الحدود بين بلدين خليجيين، اخذت تستقطب دول الخليج كافة تقريبا وبدرجات متفاوتة. من الجائز، ان يطرح السؤال، لو ان القتال قد نشب بسبب قضايا اقليمية، فلماذا اثبتت هذه الحرب انها صعبة ولا يمكن السيطرة عليها وانهائها؟
 ان الكتّاب والدبلوماسيين الذين نظروا للحرب من زوايا مختلفة خرجوا بتفسيرات متضاربة لجذور ودوافع الحرب: هل هي حرب حول حدود وسيادة اقليمية كما ناقشها الدبلوماسيون في المحافل الدولية، او انها اظهار لدافع السيطرة على منطقة غنية بالبترول ومهمة استراتيجيا في أي صراع مستقبلي يحتمل ان تتدخل فيه القوى العظمى؟ هل ان الانقسامات الطائفية في الاسلام الذي ينتمي اليه غالبية سكان المنطقة كانت السبب الاصلي او انها مجرد تسويغ للتقاليد والاحداث التاريخية العميقة التي اثارت الحكام المتنافسين بوعي او دون وعي للانهماك في المنافسة والنزاع؟ ما هو المدى الذي يتوجب على الدول الاجنبية، ناهيك الدول العظمى، التدخل في هذا الصراع وهل ان مساهمتها ستزيد او تقلل من حدته؟ هل ان المنظمات الدولية، سواء العالمية ام الاقليمية التي تمارس دوماً صلاحيات الحكومة الدولية، قد حاولت في أي وقت من الاوقات حل بعض القضايا او اخضاعها لسيطرتها؟
 قبل ان نتناول بحث مسائل الخليج الرئيسية، لعل بضع كلمات حول الخصائص التاريخية والعرقية والثقافية لكل من العراق وايران قد تكون ذات فائدة لكي نتذكرها، طالما ان خصوصية كل منهما لها تأثير كبير على الدور الذي لعبه عندما عاش كل منهما في ظل الحكم الاسلامي. فالعراق انشأ الحضارة البابلية والاشورية وشكل نظاما حكوميا متطورا قبل فترة طويلة من ظهور فارس (الاسم التاريخي لايران). لكن، في القرن السابع الميلادي، بينما كافحت فارس للاحتفاظ بهويتها الاصلية بعد ان اصبحت جزءا من الامبراطورية الاسلامية الناشئة حديثا، فأن هوية العراق تلاشت تقريبا وان ابناءه اندمجوا بالثقافة وتبنوا لغة الحكام العرب.
وقد استعاد العراق مكانته المرموقة عندما اصبحت بغداد مقر للحكومة ومركزاً للثقافة الاسلامية في اواسط القرن الثامن الميلادي. وبعد سقوط بغداد عام 1258م، تعرض العراق للهجرات والحكم الاجنبي (المغول، السلاجقة والعثمانيون) وانتهت بالحكم العثماني الذي دام اكثر من اربعة قرون. لم يبرز العراق كدولة قومية حديثة الا في نهاية الحرب العالمية الاولى.
 بدأ انفصال فارس عن الامبراطورية الاسلامية قبل فترة مبكرة من انفصال العراق، أي في اوائل القرن السادس عشر عندما ظهرت من جديد على الخارطة السياسية للاسلام كدولة مستقلة وتبنت المذهب الشيعي المبتدع او الهرطقي كدين رسمي. كما اتخذت موقف المعارضة من السلاطين العثمانيين الذين اصبحوا الناطقين بأسم المذهب السني الذي يؤلف القسم الاكبر من الاسلام. ان الحرب اللاحقة بين الدولتين الاسلاميتين التي كانت ظاهريا حول المسائل الطائفية قد تحولت فيما بعد الى احتلال وتنافس بين السلاطين والشاهات حول الهيمنة والسيطرة على الاراضي الاسلامية. ولكون العراق خلفا للامبراطورية العثمانية وبدأ فيه الانشقاق الاصلي للاسلام، فقد ورث كل من الخلاف الطائفي والصراع اللاحق حول السيادة الاقليمية والامن.
 كان الشعب العراقي، عندما نشأ العراق بعد الحرب العالمية الاولى، منقسما بالتساوي تقريبا الى طائفتين : سنية وشيعية. ان الطائفة الشيعية، التي كانت تعامل بشكل غير عادل في ظل الحكم العثماني، بدأت تلعب دورا مهما ومتزايدا في النظام السياسي الجديد بعد انسلاخ البلاد من الامبراطورية العثمانية. ونظرا للولاء الطائفي الشديد لاتباع الشيعة فان العلاقات بين العراق وفارس قد تأثرت بحكم الواقع بالتوترات الحاصلة بين الطائفتين السنية والشيعية. لقد اصبح هذا الموقف اكثر خطورة في تأزم العلاقات بين العراق وايران، طالما ان الثورة الاسلامية وتأسيس الجمهورية الاسلامية عام 1979 كانت تطالب بتأكيد ” الاسلام الحقيقي ” او ما يعرف بـ ( الخمينية ).
 ان هذا الكتاب ليس مقالة حول التاريخ العسكري او ادراة العمليات العسكرية التي جرت بين البلدين، انما هدفه هو تحري اسباب الحرب. كنزاع بين بلدين اولاً وفيما بعد مع دول الخليج الاخرى والكشف عن كيفية احتواءه او انهاءه بالطرق السلمية.
 بما ان بعض الاسباب التي ادت الى نشوب القتال قد بدأت قبل فترة طويلة منذ ان اصبح كلا البلدين الرئيسيين يتمتعان بالسيادة الاقليمية فان دراسة الانشقاق في الاسلام الذي خلق التنافر بين الطائفتين السنية والشيعية ضروري قبل حل مشاكل الحدود والسيادة الاقليمية الحاصلة مؤخرا.
 ان الصراع الطائفي او المذهبي قد اكتنف العلاقات العراقية – الفارسية لحد هذا اليوم، رغم ان كلا البلدين قد تبنيا القومية على افتراض احلالها بمكان الولاءات الطائفية كدليل للهوية في العلاقات الثنائية والدولية.
 تتوخى هذه الدراسة اقتفاء اكثر من وسيلة واحدة. هناك عدد من المفكرين، الذين يفترضون ان الحدث التاريخي المثير هو كشف مجموعة مبادئ وقواعد السلوك الانسان الموصوفة سابقا سواء من اصل رباني او بشري. كما يفترضون ان الحركات والاحداث التي نشهدها اليوم ينبغي النظر اليها وتفسيرها طبقا لمقاييس نظامهم الديني والسياسي. اذا كانت نتيجة الاحداث لا تتماشى مع مقاييسهم المحسوسة، فيفترض ان العملية الكاملة سيحكم عليها بالوقوع تحت تأثيرات شريرة (شيطانية واخرى) وعليه ينبغي ايقافها او تصحيحها. في الحقيقة ان آية الله خميني واتباعه وجميع المؤمنين الاخرين الذين يطلق عليهم اسم المسلمين الاصوليين يقعون تحت هذا الصنف.
 من جهة اخرى، هناك بعض الكتّاب المعاصرين الذين تأثروا بالتفسير الاقتصادي للحركات السياسية والاجتماعية وحاولوا تفسير التغيير الاجتماعي على اساس تبديل الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية. في الواقع، ان بعضهم قد تمادى لحد تفسير كافة الحركات الاجتماعية في الشرق الاوسط بموجب المذاهب الاقتصادية والاجتماعية. وبتأمين بيانات احصائية حول الاوضاع، فقد عزى هؤلاء الكتّاب جميع التغييرات الثورية الى اسباب اقتصادية واجتماعية، حتى لو كان معروفا لدى الخبراء الميدانيين ان البيانات الاحصائية ناقصة وعلى الاغلب خاطئة ولا يمكن الاعتماد عليها. ان هؤلاء المحللين الاجتماعيين، الذين اعتبروا من قبل زملائهم في الغرب بانهم قدموا حججا مقبعة او مغلفة، قد اضافوا في الحقيقة تفسيرات غير وافية واحيانا مضللة. فالعلماء الذين يعرفون المجتمع الاسلامي على نحو افضل قد ادركوا منذ امد بعيد بأن المؤمنين لا يستجيبون دائما الى نداء زعمائهم وفق المذاهب الاجتماعية والاقتصادية، وانما الى التقاليد الراسخة الاخرى والمعقدة جدا. ان المؤمنين في البلدان الاسلامية لازالوا مقيدين بواجب الاستجابة الى نداء العلماء وبالاخص المجتهدين الشيعة وانهم مدينون من ناحية المبدأ بالولاء اليهم بصرف النظر عن تغير الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية. وبالنسبة لاتباع المذهب الشيعي، ان الامام معصوم عن الخطأ وان سلطته النهائية معتمدة من الله.
 من المفترض في هذه الدراسة ان توحد فوائد ما يسمى بالطريقة المثالية دون التغاضي عن فوائد الطريقة الواقعية. ان محاولة توحيد المثالية مع الواقعية التي قد تدعى ” المثالية الاستقرائية ” هي الطريقة التي اتبعتها في دراساتي السابقة. فان هدفنا ليس توضيح النماذج القياسية والقيم بتعابير مجردة فحسب وانما بالحركات والاشخاص الذين يكافحون بشدة لفهمها ضمن الظروف الراهنة.

نهوض فارس كدولة شيعية ونزاعها مع الامبراطورية العثمانية
 
يشكل كل من العراق وايران الجبهة الشرقية للامبراطورية الاسلامية وقد تم احتلالها في مرحلة مبكرة من التوسع الاسلامي خارج شبه الجزيرة العربية خلال منتصف القرن السابع الميلادي. ولم يقدم كلاهما اسهامات ذات مغزى لتطوير الحضارة الاسلامية. مع ذلك، ان العراق قد اندمج كليا وتحددت هويته مع الفاتحين العرب الاوائل الذين انشأوا الامبراطورية الاسلامية. وسرعان ما اصبح جزءاً متكاملاً من هذه الامبراطورية، بسبب اختفاء حضارته القديمة من ناحية ومن ناحية اخرى لان المنطقة الجنوبية سكنها المستوطنون العرب الذين هاجروا الى هناك (قبل ظهور الاسلام بفترة طويلة) بأعداد كبيرة وحكمهم الامراء العرب. ومن جهة اخرى، بسبب الاختلاف في الخلفية الثقافية والعرقية قاومت ايران موجة التوسع الاسلامي وتمسكت بتقاليدها اللغوية والتاريخية رغم ان غالبية سكانها قد اعتنقوا الدين الاسلامي.
 بما ان الفرس قد خضعوا للحكم الاسلامي بدون رغبتهم وقاوموا الاندماج فقد اتهموا دوما من قبل العرب بمساندة الحركات الخارجة على الاسلام وادخال عناصر مبتدعة في الدين عن وعي بقصد تغيير هيكل المجتمع الاسلامي. ان الكتّاب العرب قد لاموا علمائهم بشكل خاص بسبب التحيز الثقافي واتهموا دائما بالعنصريين (الشعوبيين) لانهم حاولوا تمجيد الحضارة والتاريخ الفارسي على حساب التراث العربي. علاوة على ذلك، لقد اتهموا بتبني القضية الشيعية (طائفة منشقة عن الاسلام) التي ادخلوا فيها المفاهيم والممارسات الفارسية، اما تقويضا للمذهب السني (الذي ينتمي اليه غالبية السكان) او المطالبة بالمذهب الشيعي باعتباره دينهم الخاص.
 ان الحركة الشيعية لم يؤسسها الفرس ولم تنتشر على نطاق واسع في بلادهم الا في القرن السادس عشر الميلادي عندما تم تبنيها اخيرا كدين رسمي للدولة من قبل الشاه اسماعيل، مؤسس الاسرة الصفوية، الذي اصبح فعالا في فصل بلاده عن الوحدة الاسلامية. كانت الحركة الشيعية في بدايتها حركة احتجاج انبثقت في جنوب العراق وليس في فارس وكان مركزها الكوفة التي نقل اليها الامام علي (661 ميلادية) الخليفة الرابع مقر حكومته لطلب التأييد من القاطنين العرب في صراعه ضد معاوية حاكم سوريا الذي مثل الارستقراطية القبلية في شبه الجزيرة العربية(1). اطلق اسم ” العلويين ” على المؤيدين العرب للخليفة الرابع، الا انهم عرفوا فيما بعد بشيعة علي (الانصار). وبعد مقتل علي، تولى معاوية الخلافة وان اولاد علي (الحسن والحسين) غادرا الى المدينة، اول عاصمة للاسلام.
 حتى قبل وفاة معاوية، اكتسبت القضية الشيعية زخما بسبب اضطهاد وتعسف العرب (اتهم الشيعة بموالاة علي) في جنوب العراق على ايدي ولاة معينين من قبل الخليفة في دمشق. وبعد وفاة معاوية وتولي ابنه يزيد السلطة، بدأ الحسين يطالب بحقه في الخلافة (توفي اخوه الاكبر الحسن سنة 669 م). وبعث العلويون، اتباع والده، برسائل اليه يحثونه على المجيء الى الكوفة (مقر حكومة والده) على امل ان يقود المعارضة ضد يزيد الذي تولى الخلافة. ولما اقترب الى الكوفة، اعترضت الحسين قوة صغيرة في مشارف كربلاء ارسلها حاكم العراق لمنعه من الوصول الى الكوفة. وبعد رفضه العودة الى المدينة، حسب الاوامر التي اصدرها رجال الحاكم، سقط صريعا في الاشتباك الذي جرى مع القوة المعترضة.
 ان وفاته في كربلاء يوم 10 تشرين الاول 680 ميلادية، التي يحتفل به سنويا من قبل اتباع الشيعة يوم 10 محرم، وهي مناسبة للحزن وطلب المغفرة لقتل الحسين. تعتبر مأساة كربلاء فضيحة كبيرة للعدالة بالنسبة لجميع الشيعة في البلدان الاسلامية في كفاحهم لتولي السلطة في ظل الامام الشيعي (الحاكم) ضد خصومهم (عرفوا فيما بعد باتباع السنة) الذين ادعوا بان الخليفة ينبغي ان ينتخب ويتولى الخلافة ليس بالحق الشرعي وانما بقبول الشعب.
 في ظل الحكم الاموي، بدأ عدد كبير من الفرس، الذين اعتنقوا الاسلام ولاقوا تمييزا في دفع الضرائب والخدمة في الدولة، بتأييد الحركة الشيعية وان تأييدهم اسهم لحد غير قليل بسقوط الدولة الاموية سنة 750 ميلادية. كان خصوم الحكم الاموي يتألفون بالدرجة الاولى من احفاد علي وابن عباس (ابن عم علي) الذين تعاونوا في القضاء على الدولة الاموية على امل انتقال السلطة الى مرشح شيعي. على اية حال، عندما سقط آخر خليفة اموي، استحوذ على السلطة احد احفاد ابن عباس يدعى السفاح الذي اصبح مؤسس الاسرة العباسية الجديدة، وان اتباع الشيعة قد حرموا للمرة الثانية من جني ثمار كفاحهم. جرت مكافأة مؤيدي الفرس مجزيا ليس بتوكيلهم دائرة او منصب الوزير الاول فحسب وانما بالدوائر او بالمناصب العليا الاخرى التي حرموا منها سابقا.
 بالرغم من ذلك، ان اتباع المذهب الشيعي لم يتخلوا ابدا عن تأييدهم ومطالبتهم بالامامة لاحفاد الحسين واستمروا بتحديهم للحكم السني. وبمرور الزمن اتسعت حركتهم عن طريق العدد المتزايد من الفرس، لاسيما في بداية انهيار الاسرة العباسية، واكتساب القضية الشيعية الشهرة والرواج. وبفضل دعايتهم النشطة، فقد نجحوا في تكوين ثلاث اسر شيعية قبل سقوط العباسيين ولحين مجيء المحتلين المغول عام 1258 م. كانت الاولى في مصر ودعيت بالاسرة الفاطمية التي دامت من القرن العاشر الى القرن الثاني عشر. وحكمت الاسرة الحمدانية في شمالي سوريا والعراق في القرن العاشر. اما الاسرة البويهية فقد حكمت في جنوب العراق وغرب فارس (الديلم) في القرن العاشر. يبدو ان الاسرة البويهية كانت تفضل حكم غالبية السنة بأسم الخلفاء السنة وليس فرض الحكم الشيعي كما فعل الائمة الفاطميون في ذلك الحين في مصر. وبعد حكم دام مئتي عام، سقطت الاسرة الفاطمية على يد صلاح الدين الذي اعاد الحكم السني لمصر في القسم الاخير من القرن الثاني عشر.
 ان التغلغل المتزايد في فارس وآسيا الصغرى للقبائل التركية والسلجوقية (اعتنقت الاسلام مؤخرا) القادمة من آسيا الوسطى (ولا حاجة لذكر حكم المماليك السنة في مصر وسوريا) ساهم لحد كبير في ترسيخ المذهب السني. على اية حال ان نشؤ السلالة العثمانية في آسيا الصغرى في مستهل القرن الرابع عشر وتبنيها لشريعة المدرسة الحنيفة (احدى المدارس السنية الرئيسية) كمدرسة رسمية للدولة، قد عزز من مكانة المذهب السني في المناطق التي ترسخ فيها المذهب الشيعي. ولا يقل اهمية عن هذا انتشار مسلمين سنة غربا من خلال الفتوحات العثمانية، على حساب الامبراطورية البيزنطية والامراء المسيحيين في اوربا الوسطى، الذي اثار اعجاب الدوائر السنية لانجازات السلاطين العثمانيين، كما كانوا يفتخرون بالخلفاء الاوائل الذين انشأوا الامبراطورية العثمانية في القرن السابع، وعندما توجه السلاطين العثمانيون شرقا لبسط نفوذهم على الاقاليم العربية لاقوا ترحيبا من اكثرية السكان (وليس من حكامهم المماليك) الذين لا يعتبرون السلاطين العثمانيين فاتحين اجانب وانما رحبوا بهم كحكام شرعيين وحملة راية الاسلام ضد الملحدين.
 قبل انتهاء القرن الخامس عشر، كان لأنبعاث الحركة الشيعية في فارس تأثير بعيد المدى على اتباع الشيعة في اقطار اخرى، طالما ان اقامة اسرة شيعية سابقا في اراض عربية ثبت كونها ذات فترة قصيرة نسبيا. في الواقع، ان اتباع الشيعة لم يتخلوا عن مطالبهم بالامامة المشروعة حتى بعد اختفاء امامهم الثاني عشر فجأة في عام 874 ميلادية عندما كان طفلا صغيرا. وحسب رأيهم ان غيابه كان جسدياً فقط لأن روحه مازالت حية بينهم ويعتقد انه سيعود قريبا بصورة المهدي (المسيح) لأعادة اقامة الحكم والعدل الشيعي. ان هذا التفكير المشابه للمسيحية قد نما لدى الطائفة الشيعية التي تتوقع ان الوقت سيأتي قريبا عندما يتعزز موقفهم وان العدل سيسود ثانية.
 ان ظهور فارس كدولة شيعية والترحيب بها بمثابة مؤشر من ان النجم الشيعي قد ارتفع مجددا وان القوة قد عادت اليها اخيرا. لربما لأن فارس اكثر الاقطار الملائمة لمثل هذا الانبعاث. ومع ان، اتباع الشيعة لازالوا يمثلون اقلية، الا ان الشعب بكامله ينظر بفخر الى الماضي التاريخي من ان بلادهم كانت في احد العصور امبراطورية عظيمة وان اللغة الفارسية، ولو انها تداخلت بعدة كلمات عربية وتكتب بالحرف العربي، استمرت عمل كلغة قومية حتى اصبحت مستخدمة في التفاهم في الاقطار الاسلامية الشمالية والشرقية.
 ان ما نشط جميع هذه القوى هو مؤسس اسرة فارسية جديدة استولى على السلطة بأسم الامام واسس فارس كدولة منفصلة على الخارطة السياسية للاسلام وبالمذهب الشيعي كدين رسمي. اصبح نهوض فارس في البداية يشكل تحديا للسنّة في الحكم العثماني وفيما بعد بالنسبة لحكام السنة في العراق وخارجه في الاقطار العربية الاخرى.
 ان مؤسس الاسرة الفارسية الجديدة هو شاه اسماعيل الصفوي. ولد عام 1486 ميلادية لعائلة مزجت التقاليد الصفوية مع العسكرية. استفاد شاه اسماعيل في اوائل عامه الثالث عشر من تزمت جماعة قزل باشي (الرؤوس الحمراء) التي نظمها والده في كيلان الواقعة شمالي فارس لنشر التعاليم الشيعية(2). ولتحليه بالقرار المتبصر وصفات القائد الساحر للجماهير، استغل الخلاف بين الزعماء السنة واستطاع ان يبسط سيطرته على فارس كلها ويوسعها الى آسيا الوسطى. فضلا عن ذلك، بحث عن السبل لفرض المذهب الشيعي قسرا على ابناء بلده وتوسيع حكمه الى البلدان الاسلامية الاخرى بأسم الامام. وقد تصاعدت شهرته ونفوذه الى حد بحيث ان الحكام السنة الاتراك المنافسين له في اسيا الوسطى طلبوا مساندته من خلال تقديم المحاباة لاتباع الشيعة في اقاليمهم. وفي اندفاعه لتثبيت المذهب الشيعي ونشره خارج فارس، اوصى اتباعه ليس بتوجيه اللعنة الى الخلفاء ابي بكر وعمر فحسب وانما الى الخلفاء السنة وتبجيل الحسين الذي توفي في كفاحه لاسترجاع الامامة من الحكم السني عام 680 ميلادية واقامة الاحتفالات والمواكب السنوية يوم 10 محرم. هناك مناسبات عديدة اخرى يحتفل فيها الشيعة يوميا مثل زيارة الاماكن المقدسة كالنجف وكربلاء والتأكيد على الجهاد وقد اصبحت جزءا من تعاليم وتقاليد الشيعة. علاوة على ذلك، ان الجماعات الشيعية المنتشرة في اقاليم غالبيتها من السنة اتجهت دائما الى السلطات الفارسية لمساندتها في كفاحها ضد التسلط السني(3).
 بصرف النظر عن قيادته وتبصره، كان الشاه اسماعيل في البداية ناجحا في بسط نفوذه على فارس واسيا الوسطى بسبب عدم وجود منافس قوي على المسرح السياسي. لم تكن السياسة العثمانية ترمي لتوسيع حكمها شرقا في البلدان الاسلامية فقط وانما التوغل غربا في اوربا على حساب الامراء المسيحيين. على اية حال، عندما اصبحت الجماعات الشيعية في اسيا الصغرى والاقاليم العثمانية الاخرى قلقة (بتأثير التحريضات الفارسية) واظهروا علامات التمرد ضد الهيمنة السنية، توجه شرقا الى السلطان سليم الذي تسلم السلطة مؤخرا من والده عام 1514، ليس لأخماد التمرد الشيعي في المناطق الخاضعة لحكمه وانما لاعادة ترسيخ المذهب السني في المناطق الاسلامية التي انتشر فيها الشيعة. وكشأن الشاه اسماعيل، كان طموحه ليس ان يكون سلطانا على الاراضي التي يسيطر عليها فحسب بل يكون رئيسا اعلى للعالم الاسلامي كله.
 وبما عرف عنه كقائد شجاع ومتحجر القلب، قام السلطان سليم بسحق العصيان الشيعي في شرقي آسيا الصغرى وقتل جميع الطائفة الشيعية تقريبا بدون رأفة. ومن هناك، توجه شرقا واحتل تبريز عاصمة الشاه اسماعيل ودحر قوات الشاه في معركة جالديران (عام 1514)، ولعل لدهشة خصومه، فانه لم يواصل ملاحقة قوات الشاه التي تقهقرت داخل ايران بل توجه نحو الاقطار العربية. في الحقيقة، ومن دون مقاومة تقريبا، فقد استقبل من قبل السكان كبطل سني مناهض للشيعة.احتل السلطان سليم الجزيرة بكاملها (في شمالي العراق) وسوريا ومصر عام 1515 – 1517 وترك بغداد والنجف وكربلاء التي احتلها شاه اسماعيل عام 1508 تحت السيطرة الفارسية. لو تعقب شاه اسماعيل قبل توجهه الى الاراضي العربية، فمن المحتمل انه كان باستطاعته ان يعيد فارس الى الحكم السني واعادة تأسيس الوحدة الاسلامية. ويحتمل ان تغيير خطته كانت بسبب وعورة الاراضي والبرد القارس الذي منع شاه اسماعيل فرصة لاعادة تحشيد وتوسيع قواته العسكرية واستعادة مدينة تبريز ليس وحدها فحسب بل المنطقة بكاملها التي كانت خاضعة لسيطرته سابقا.
قبل مجابهة السلطان سليم، يبدو ان الشاه اسماعيل قد تصور اعادة تأسيس الوحدة الاسلامية تحت سيطرة شيعية. ولكن، بفشل السلطان سليم لمتابعة انتصاره على الشاه اسماعيل، فقد انقسمت دار السلام الى جماعتين تقريبا استنادا الى التمييز الاقليمي. ان الشريط الوسطي الواسع بين الاقليمين المؤلف بالدرجة الرئيسية من وسط وجنوب العراق اصبح السبب في النزاع بين الشاهنشاهات الفارسية والسلاطين العثمانيين.
 اما الاماكن المقدسة الشيعية في النجف وكربلاء وسامراء والكاظمية، التي استوطن فيها اتباع الشيعة منذ امد بعيد، فكانت تقع ضمن منطقة الفرات الاوسط. ومع ذلك، يبدو ان السلطان العثماني قد قرر الاحتفاظ بجميع الاراضي العربية، بما فيها منطقة الفرات الاوسط تحت نفوذه، طالما ان اكثرية سكان جنوب العراق هم من اتباع المذهب الشيعي(4). وقبل استطاعته من استعادة الاقاليم العربية التي احتلها الشاه اسماعيل، توفي السلطان سليم فجأة بعد فترة قصيرة من عودته من مصر سنة 1520. واصبح الخليفة ابنه السلطان سليمان المعروف في اوربا بأسم (العظيم). توفي الشاه اسماعيل بعد اربع سنوات في عام 1524 دون ان يحقق طموحه ببسط نفوذه على منطقة الخليج كلها.
 ومع ان ظروف استعادة بغداد ومنطقة الفرات الاوسط من النفوذ الفارسي كانت مواتية، الا ان انشغال السلطان سليمان بحملاته الاوربية منعته من متابعة سياسة والده في توسيع النفوذ العثماني شرقا ولحقبة من الزمن تقريبا. ولولا استجابته لنداءات السنة، بعد ان تم نهب وتخريب جامع ابو حنيفة والاماكن المقدسة شمال العراق من قبل اتباع الشيعة، لما تحرك السلطان سليمان اخيرا ووجه عملياته شرقا. وابتداءا بحملاته المشهورة التي ابتدأت في تبريز، سار جنوبا نحو بغداد واستعاد بسرعة المنطقة بكاملها الممتدة من اذربيجان الى الفرات الاوسط من الهيمنة الفارسية عام 1534. ولمدة تزيد على مئتي عام، اصبحت المراقد الشيعية في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء (التي يزورها اتباع الشيعة) خاضعة للطائفة السنية التي عانت الطائفة الشيعية من تسلطها الاضطهاد والتمييز. ان وصف محاولات الفرس لاستعادة بغداد وكربلاء والنجف هو من اختصاص التاريخ العسكري. ويكفي القول انه، رغم المحاولات العديدة للشاه عباس الاكبر ونادر شاه، ولو ان بغداد ومنطقة الفرات الاوسط قد احتلت من قبل القوات الفارسية (الاول في عام 1623 والاخرى عام 1743 -1744)، الا ان احتلال الفرس ثبت انه كان موقتا. عاجلا او اجلا، اصبح الحكم العثماني على الاقاليم الثلاثة: الموصل وبغداد (بضمنها منطقة الفرات الاوسط) والبصرة راسخة تماما. وتم ابرام عدة معاهدات بهدف اقامة السلام وتحديد الحدود. وسوف نتطرق اليها فيما بعد(5).
 ان الهدف من الوصف السابق للنزاع الفارسي – العثماني هو تزويد القارئ بخلفية تاريخية عن الانقسام في دار السلام، الموروث من قبل كل من العراق وايران، الذي قد يسلط النمو على الاحداث التي جرت في منطقة الخليج وخارجها ويمكن ايجاز اهميتها على الوجه التالي:
1. ان الانقسام الاقليمي للاسلام على اسس طائفية ليس جديدا كما لاحظنا آنفا في حالة مصر تحت الحكم الفاطمي، الا ان ظهور فارس كدولة شيعية وما رافقها من تمييز اقليمي قد ترسخ تماما منذ اوائل القرن السادس عشر واستمر بتقسيم سياسة الامة الاسلامية. وتحققت التجزئة الاقليمية في الاسلام من خلال اراقة فظيعة للدماء. ومع ذلك، كان ضروريا لبقاء الاقطار الناشئة وتكاملها فيما بعد كدول مستقلة في المجتمع الدولي الواسع للامم. لقد تزامنت مع انهيار المسيحية الغربية (نموذجا للمجتمع المسكوني) التي تحولت اولا الى نظام دولة اوربي ومن ثم الى مجتمع دولي للامم. لكن، انقسام الاسلام على اسس طائفية، ولو انه يوفر القاعدة المنطقية لانفصال فارس عن الوحدة الاسلامية، لم يضع سابقة لنهوض دولة اسلامية اخرى على اسس عقائدية. وعقب الحرب العالمي الاولى، عندما اصبح كل من العراق وايران اعضاء في عصبة الامم فقد تبنى كل منهما القومية كرمز لهويتهما.
2. ان انقسام الاسلام الى عدة كيانات سياسية في القرن السادس عشر لا يعني بالضرورة ان السلام قد ساد بينهم. صحيح ان الحكومتين الايرانية والعثمانية طالبت في البداية بانهاء الخلافات، ولكن ليس بالضرورة الصلح ولحين اتفاقهما اخيرا على اقامة حدود دائمية ووضع حد للخلافات الاقليمية كما شرحته بوضوح معاهدة ارضروم المفصلة للسلام عام 1847. ان هذه المعاهدة (اول معاهدة تبرم بين دولتين اسلاميتين لهما سيادة وطبقا للقواعد والممارسات الغربية) لم تكن الاولى في اقامة السلام على اسس التمييز الاقليمي. لقد سبقتها عدة معاهدات اخرى ابرمت وفق الشريعة الاسلامية، ابتداءاً بمعاهدة زهاب (1539). ان معاهدة ارضروم التي ابرمت لاقامة السلام وتخطيط الحدود، اصبحت الاساس والسابقة القانونية الرئيسية لكل التعاملات اللاحقة بين الدولتين المستقلتين الاسلاميتين. في الوقت ذاته، تم جذب الدولتين الاسلاميتين المتنافستين في النظام الاوربي لتوازن القوى وان علاقاتهم التجارية والدبلوماسية المتزايدة قادت بالاخير لقبولهما في عصبة الامم. حتى قبل تكوين الحكومة العراقية عقب الحرب العالمية الاولى، تبنت الامبراطوريتان العثمانية والفارسية مبادئ حديثة لتنظيم العلاقات بين الدولتين. مع ذلك، ان العراق باعتباره خلفا للدولة العثمانية ورث التراث القانوني والتاريخي للامبراطورية العثمانية في علاقتها مع ايران.
3. بما ان الامبراطوريتين العثمانية والفارسية وافقت على الصلح والاعتراف بالسيادة وسلامة الاراضي لكل منهما، فمن البديهي ان يتخذ الاثنان خطوات رسمية لترك خلافاتهما العقائدية في تسيير شؤونهما الخارجية، كما وافقت الدول المسيحية في اوربا على تخفيف خلافاتها الدينية الى المستوى الداخلي عقب معاهدة ويستفاليا (1648)(6).
في الحقيقة، في معاهدة مع السلطان العثماني (1763)، عرض نادر شاه صيغة مساومة تحول المذهب الشيعي الى مدرسة خامسة للشريعة تدعى المدرسة الجعفرية، الا ان السلطان لم يصادق على المعاهدة بحجة معارضتها من قبل علماء السنة، رغم ان علماء الشيعة والسنة في ايران والعراق كانوا موافقين عليها من حيث المبدأ(7). وفي الوقت المناسب، وافقت الدولتان العثمانية والفارسية ضمنا على حصر خلافاتهما الدينية بالمستوى المحلي عندما بدأ الاثنان بالمشاركة التدريجية في المشاورات الدولية والدخول في معاهدات مع الدول الاوربية، ولو ان اتباع المذهبين السني والشيعي لم يقبلوا ابدا بفكرة الهوية القومية في علاقاتهما الاسلامية المشتركة.
4. وافقت الامبراطوريتان العثمانية والفارسية على اقامة بعثات دبلوماسية دائمية في عاصمة كل منهما (علامة اخرى بانهم وافقوا على ان تسود بينهما حالة السلام) مادام ان كليهما قد وافق اخيرا على تبادل البعثات الدبلوماسية الدائمية مع القوى الاوربية وادارة علاقاتهما الخارجية طبقا لتعاليم الدبلوماسية الاوربية(8). علاوة على ذلك، بما ان الامبراطوريتين العثمانية والفارسية قد دخلت في تحالف مع عدة قوى اوربية، بالاخص بريطانيا وروسيا، وقبلت بالمساعي الحميدة بفض نزاعاتهما الحدودية، فمن المسلم، بأن المبادئ والتقاليد القانونية الغربية المطبقة لمثل هذه النزاعات ستكون مقبولة لكليهما.
     واخيرا، بقبولهما في المجتمع الدولي، اصبحت الدولتان العثمانية والفارسية في ذلك الوقت خاضعتين للقانون الدولي (ربما في اوائل منتصف القرن التاسع عشر). وقبل ان يصبح كل منهما عضوا في المجتمع الدولي، فقد اعتبر خارج نطاق القانون الدولي. وبنهوض فارس كمنافس للامبراطورية العثمانية في اوائل القرن السادس عشر، قدمت اسبانيا وانكلترا والدول الاوربية الاخرى دعما دبلوماسيا اليها، كما في حالة منافسة ملك فرنسا للامراء المسيحيين الاخرين الذي شجعه على الدخول في تحالف مع السلطان العثماني والصلح مع اقوى دولة اسلامية في عام 1535.
 وهكذا، انخرطت الدولتان الاسلاميتان الى قوة التوازن الاوربي عن طريق التنافس الناشئ عن خلافات عقائدية وقادت زيادة اتصالاتهما الدبلوماسية والتجارية مع البلدان الغربية الى قبولهما النهائي في المجتمع الدولي الحديث. لهذا، عندما ظهر كيان العراق للوجود بعد الحرب العالمية الاولى، كانت الامبراطوريتان العثمانية والفارسية قد اتفقتا على تنظيم علاقاتهما المتبادلة وكذلك علاقاتهما مع بقية بلدان العالم بموجب الاصول والمبادئ الحديثة (علمانية). ولكون العراق دولة حديثة ظهرت من خلال انحلال الامبراطورية العثمانية قد ورث ليس موارد البلد الام فحسب وانما تبعاتها. 

الهوامش

1. ظهرت جماعة تؤيد ترشيح علي للخلافة حال وفاة النبي محمد (ص) في عام 632م . وحسب التقاليد فقد اسند من قبل ابن عمه ابن عباس، الا انه اعتبر صغيرا لاشغال المنصب. رشح ثانية للخلافة في عام 644، الا ان الخلافة انتقلت الى عثمان. انتخب اخيرا للخلافة في عام 656 واصبح اول امام في الاعراف الشيعية.
2. للوقوف على حياة الشاه اسماعيل ومذهبه وانجازاته العسكرية، راجع كتاب غلام سرور ” تاريخ الشاه اسماعيل الصفوي (عليكار 1939) وكتاب ئي.جي. براون ” التاريخ الاوربي لفارس (كمبرج 1930) الجزء الرابع الصفحات 49 – 84.
3. للاطلاع على ازدياد الشعائر الدينية في المذهب الشيعي اثناء حكم الصفويين، راجع كتاب علي الوردي ” لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث الجزء الاول الفصلين 2 و 5 “.
4. لتعزيز نفوذهم في البلاد الاسلامية، اختار السلاطين العثمانيين لقب خليفة. وادعوا انه بعد غزو مصر عام 1517، تولى السلطان سليم الخلافة من اخر خليفة عباسي الذي كان حينذاك منفيا في القاهرة ومع ان انتقال الخلافة لم يحصل بشكل رسمي، الا ان الكتّاب العثمانيين ادعوا انه بعد عودته الى استانبول برفقة الخليفة، نصب نفسه خليفة للعالم الاسلامي. راجع كتاب تي. ايج. ارنولد ” الخلافة ” اكسفورد 1924 الصفحات 139 – 158 “. ” ساطع الحصري (( البلاد العربية والدولة العثمانية)” بيروت 1960 الصفحات 42- 46.
5. للاطلاع على العلاقات العثمانية – الفارسية والحملات للسيطرة على المناطق العراقية، راجع كتاب اس.هـ . لونكريك ” اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث ” اكسفورد 1925. عباس العزاوي ” العراق بين احتلالين، بغداد 1935 – 1956.
6. ان مبدأ توحيد الاديان في مجتمع اممي قد تم تبنيه لاول مرة في مؤتمر اوكسبرغ عام 1555 واصبح الاساس لنظام الدول الاوربية بعد معاهدة ويستفاليا وهيأ الارضية لتوحيد الدول المسيحية في اوربا اولا ” ومن ثم الدول ذات المذاهب المختلفة في العالم في مجتمع دولي.
7. للاطلاع على محاولة نادر شاه لتسوية الخلافات المذهبية بين السنة والشيعة وصحيفة التسوية التي اتفق عليها في مؤتمر النجف عام 1743، راجع كتاب لوكهارت، نادر شاه (لندن 1939 الصفحات 100 -101، 120 – 121، 210- 211. علي الوردي ” لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ” الجزء الاول، الصفحات 131 – 134.
8. للوقوف على اقتراح نادر شاه في معاهدة 1746 (المادة 2) وتشكيل لجان دائمية، راجع كتاب لوكهارت، نادر شاه، الصفحة 255.

الصراع العراقي – الأيراني
الجانب الطائفي

إن انحلال الأمبراطوريه العثمانية في إعقاب الحرب العالمية الأولى وسقوطها الذي كان متوقعا منذ زمن بعيد قد غير لحد كبير الخارطة السياسية للعالم الإسلامي .    
لم تنشئ تركيا فقط (الوطن الأم) ، وإنما نشأت أقطار أخرى كدول وطنيه حديثه على أساس قومي وليس الهوية العثمانية التي اعترفت بالفرد كمواطن تبعا إلى انتمائه الديني . وبموجب معاهدة لوزان (1924) ، تخلت تركيا عن مطالبتها بالأراضي التي يقطنها سكان غير أتراك مسببة بالتالي انفصال جميع الأقطار العربية ( الأراضي التي يقطنها سكان اغلبهم يتكلم اللغة العربية ) التي ظهرت إما كدول مستقلة مثل نجد (فيما بعد المملكة العربية السعودية ) واليمن التي خضعت إلى حكم أجنبي مؤقت كما في الأقطار العربية الشمالية قبل إن تصبح مستقلة. وباحتفاظ تركيا بجزء صغير نسبيا من أراضي الدولة العثمانية ، فقد استطاعت وضع حد إلى النزاع التاريخي مع إيران طالما إن الحدود الجديدة التي تفصل البلدين كانت نقطة خلاف ، ولا بقاء أي جزء كبير من الطائفة الشيعية ضمن أراضيها .                                                      
إن العراق ، باعتباره احد الدول التي خلفت الحكم العثماني ، هو القطر الوحيد الذي ورث بقية الحدود بين فارس والأمبراطورية العثمانية. ولم يورث ذلك الجزء الذي لم يتم تأشيره لحد ألآن فحسب إنما ورث الأقاليم السابقة كالموصل وبغداد والبصرة التي كانت ساحة معركة للعمليات العسكرية المستمرة تقريبا منذ القرن السادس عشر الميلادي قبل إن يتفق البلدان على وضع حد لنزاعاتهما وتسوية خلافاتهما بطرق سلمية . وربما لا يقل أهمية ، إن الطائفة الشيعية التي كانت خاضعة للحكم العثماني في ولاية بغداد ، أصبحت جزءا متكاملا من سكان العراق ، وان الأماكن المقدسة الشيعية في النجف وكربلاء والكاظمة وسامراء ، التي يزورها الفرس الشيعة ومن البلدان الإسلامية الأخرى بين حين وآخر ، خضعت إلى السيطرة العراقية . وبما أن الطائفة الشيعية كانت أقلية أثناء الحكم العثماني ، فقد عانت من ألتفرقة والأظطهاد ولم تتمكن على وجه التحديد من التمتع بمكانة متساوية مع مواطنيهم العرب ألسنة (ولو إن العرب ألسنة في العراق لم يمنحوا كافة الامتيازات التي يتمتع بها الأتراك من دينهم). غير إن العرب السنة كان باستطاعتهم الحصول على التعليم العام والخدمة في الجيش و الإدارة المدنية التي حرم منها الشيعة. ولهذا السبب ، أضطر الشيعة إلى اللجوء إلى المدارس الدينية الخاصة لتعليم أبنائهم وان أكثرية العوائل المؤثرة اشتغلت في التجارة. كان السواد الأعظم من الشعب جاهلا وكان غالبية الشيعة في منطقة الفرات الأوسط لاتزال تعيش حياة البداوة.
أما بعض الشيعة في المراكز الحضرية من العراق فكانوا من أصل فارسي (سكن معظمهم في كربلاء والكاظمية)(1) ، ولكن معظم الشيعة كانوا من أصل عربي ، ولو إن التزاوج كان شائعا والعلاقات التجارية بين العراق وإيران كانت دائما محتكرة من قبل التجار الشيعة.
 تؤلف الطائفة الشيعية حوالي نصف سكان البلاد حيث كان تعدادها اقل من ثلاث ملايين عند انفصالها من تركيا. والغريب، عندما أصبح العراق خاضعا للنفوذ البريطاني، فأن الطائفة الشيعية شعرت بالارتياح لتخلصها من الحكم العثماني، وخصوصا عندما أدلى العديد من المسؤولون البريطانيون بعدد من التصريحات الغامضة التي تتعهد بالحكم الذاتي والاستقلال. وبما إن الطائفة الشيعية كانت تشكل أكبر مجموعة طائفية مفردة في البلاد، فمن الطبيعي إن تطالب بتحسين أوضاعها، وأن أولئك الذين اعتبروا الشيعة يشكلون أكثرية السكان توقعوا إن يلعبوا دورا بارزا في إدارة البلاد، إن لم يكن الدور الرئيسي(2).
على أية حال، إن السياسة البريطانية سارت عكس توقعات الشيعة. عندما احتل البريطانيون جنوب العراق بعد فترة قصيرة من اندلاع الحرب العالمية الأولى ، لم تجر صياغة أي سياسة واضحة حول مستقبل البلاد. وبدأت مثل هذه السياسة بالظهور عندما أصبح العراق خاضعا للنفوذ البريطاني في نهاية الحرب. في الحقيقة، كانت هناك مدرستان فكريتان بشأن مستقبل العراق ومنطقة الخليج. الأولى ، غالبا ما تدعى بمدرسة وزارة المستعمرات، ترى إن قوة الحملة البريطانية التي احتلت العراق قد أُرسلت ووجهت من قبل الهند، لذا فأن مستقبل العراق ينبغي أن يتقرر لحد كبير من وزارة المستعمرات (كجزء من الخليج والمحيط الهندي).
إما الثانية، تدعى مدرسة وزارة الخارجية، فتزعم إن النفوذ البريطاني المتزايد في شرقي البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر يتطلب إسناد الزعماء في المناطق التي انبثقت منها القومية العربية مؤخرا. ورأت في الشريف حسين وأبنائه في مكة الحكام المرتقبين الذين يؤمنون القيادة لحركة القومية العربية كحليف جديد لبريطانيا.
اعتبر العراق القطر العربي الأكثر تأثرا بحركة القومية العربية وكان في الحقيقة مشمولا بالوعد العام للاستقلال الممنوح إلى الشريف حسين عندما دخل الحرب حليفا لبريطانيا عام 1916 فضلا عن ذلك، أن بعض الشباب العراقيين، الذين تلقوا تعليمهم في العاصمة العثمانية، قد انخرطوا مؤخرا في الخدمة تحت قيادة الشريف حسين على أمل إن بلادهم ستصبح مستقلة.
مع ذلك، قبل إناطة قيادة العراق إلى عائلة الشريف، كان البلد خاضعا للنفوذ البريطاني وان إدارته تتم حسب وجهة نظر وزارة المستعمرات. في البداية، استجابت الطائفة الشيعية في الفرات الأوسط بشكل ايجابي إلى الإدارة البريطانية على أمل السيطرة على(الأقل في منطقتها) إدارة البلاد بعد الانسحاب العسكري البريطاني. وبطريقة مماثلة ، أصبح زعماء السنة في العراق قلقين حال انتهاء الحرب . ومع ذلك، فأن البريطانيين لم يتخذوا بعد أي قرار حول مستقبل العراق رغم التصريحات العديدة حول الحكم الذاتي والاستقلال. وبما إن القوميين العرب في سوريا بقيادة فيصل(ابن شريف مكة) كانوا يطالبون بألأستقلال ويعلنون معارضتهم للنفوذ الفرنسي ، بدأ نفر من زعماء السنة والشيعة في بغداد بإثارة القلاقل ضد الإدارة البريطاني وطالبو بالاستقلال. وبتحريض من علماء النجف وكربلاء والكاظمة ، مثل الشيخ تقي الشيرازي وأبو الحسن الأصفهاني والشيخ مهدي الخالصي ، قام زعماء العشائر الشيعة في الفرات الأوسط بشجب إعمال الإدارة البريطانية.
إن الفوضى التي ابتدأت في المناطق العشائرية امتدت إلى الأقسام الوسطى والجنوبية من البلاد و انتهت بالثورة في شهر حزيران 1920 التي دامت أكثر من خمسة أشهر . أرسلت التعزيزات فورا من إيران وأخمدت السلطات البريطانية الثورة بالقوة. في غضون ذلك، كان المجتهدون الإيرانيون ، مثل أقرانهم العراقيين، يحرضون الشعب على الثورة ضد الهيمنة البريطانية ويطالبون بإناطة السلطة إلى رجال الدين .
وبناءا على توصيات المؤتمر الذي عقد في القاهرة ، قررت بريطانيا عام 1921 إقامة حكم وطني في العراق وعرض عرش العراق على الأمير فيصل ابن الملك حسين شريف مكة(3). ومع إن الثورة في الفرات الأوسط قد تم إخمادها، إلا إن زعماء الشيعة ادعوا أن بريطانيا قررت التخلي عن سياسة السيطرة المباشرة لصالح حكومة عربية لسبب رئيسي هو مناهضة الشيعة للحكم البريطاني والمشاركة في النشاطات الوطنية للبلاد. مع ذلك، كانوا يفضلون ترشيح فيصل لعرش العراق وتأملوا بأنهم قد يلعبون دورا كبيرا في حكمه(4).
لعل اختيار فيصل رئيس دولة كان أفضل تسوية ممكنة من ناحية المبدأ فيما لو أمكن الحفاظ على التوازن بين الزعامة السنية التقليدية وطموحات الشيعة للمشاركة في حكم البلاد. وبما إن فيصل هو الحفيد الأصغر للأمام علي (الأمام الأول حسب العقيدة الشيعية) فأن اختياره كرئيس دولة كان مناسبا للطائفة الشيعية، ولو أن عائلته قد قبلت المذهب السني. وبالنسبة للطائفة السنية ، لم يكن فيصل الشخص المناسب بسبب انتمائه السني فحسب وإنما للخدمات التي قدمها مع والده إلى الحركة القومية العربية . على أية حال ، بعد ارتقاء فيصل لعرش العراق ، يبدو إن الطائفة الشيعية كان لديها أحاسيس مختلطة حول فيصل عندما تأرجح موقفة بين السياسة البريطانية المدعمة من قبل الزعماء السنة المعتدلين والضغوط الشيعية لانتهاج سياسة مستقلة . أنيطت رئاسة الوزارة للسيد عبد الرحمن النقيب (شخصية دينية سنية)في حين إن الوزراء الشيعة لم تنط بهم سوى وزارة واحدة (وزارة المعارف).
إن زعماء الشيعة الذين هنأوا أنفسهم لمساهمتهم في ارتقاء فيصل لعرش البلاد وصلوا إلى نتيجة إن الملك قد أذعن للضغط البريطاني. وبما أن البلاد لاتزال خاضعة للنفوذ البريطاني. فأن بريطانيا تعتبر مسؤولة عن إخضاع الشيعة للحكم السني. ولهذا، واصل زعماء الشيعة مهاجمة الإدارة البريطانية في البلاد. ومع إن قلة من الزعماء الشيعة، مثل الخالصي والمتطرفين الآخرين، قد تحرروا من أوهام مساندة الملك فيصل، إلا أن الآخرين لم يقطعوا الأمل من إن بالأمكان أقناعه لقبول مطالبهم.
تأثرت أحداث العراق بالتطورات السياسية في فارس. ارتأى لورد كيرزن وزير خارجية بريطانيا أنشاء ((سلسلة من الدول الفاصلة)) ( تركيا ، فارس ، أفغانستان ، العراق وبلدان أخرى حول الخليج ) للحد من النفوذ الروسي في المنطقة وحماية طريق الهند ودول الخليج . وبما أن سياسة كيرزن أخفقت في إيران فأن السياسة البريطانية تجاه العراق قد أعيدت صياغتها من قبل وزير المستعمرات ونستون تشرشل الذي نجح في إقامة حكم وطني ( يطلق علية في انكلترا “واجهة عربية” ) الذي ضمن تقريبا بقاء النفوذ البريطاني  لحقبة أخرى أو حقبتين (5). مع ذلك ، بمساندة العلماء الشيعة ، اتخذ الشاه موقفا حازما تجاه السياسة البريطانية ورفض الاعتراف بالنظام العراقي لحين تحقيقه الاستقلال . وقد سمى زعماء الشيعة في العراق لتعزيز موقفهم من خلال الدعم الذي تلقوه من إيران .
وعقب إقامة حكم وطني في العراق ، سمى كل من العراق وإيران  من خلال المفاوضات إلى حل المشاكل التي ورثوها عن الماضي . كانت المشاكل الرئيسية أربعا: التوتر الشيعي – السني ، اعتراف إيران بالعراق ، النزاع على الحدود والمشكلة الكردية . وبما إن هذه المشاكل لم تحل بشكل كامل لحد الآن ولصالح كلا الطرفين ، لذا اقترح مناقشة الأسباب الدفينة للخلافات والخطوات الكفيلة بحلها .
 في هذا الفصل، ستجري مناقشة التوتر الشيعي – السني واعتراف إيران بالعراق . أما في الفصل اللاحق، فسوف تناقش مفاوضات تسوية النزاع الحدودي ومعاهدة عام 1937 . وفي الفصول اللاحقة ، ستناقش المشكلة الكردية وتجدد نشاطات الشيعة عقب ثورة تموز عام 1958 .
أن وصفا موجزا لوضع الطائفة الشيعية عقب الاحتلال البريطاني للبلاد قد يكون مفيدا لفهم الأحداث والتوترات التي نشأت بعد إقامة الحكم الوطني، الذي اثر بشكل سلبي على العلاقات بين العراق وإيران. من الصعب ان نحدد بدقه القوة العددية للطائفة الشيعية حينما سيطرت قوة الحملة البريطانية على العراق . في الحقيقة، أن الأصعب تقديرا هو نسبة أتباع الشيعة في البلاد ، طالما أن أكثرية الشيعة خارج المناطق الحضرية الرئيسة هم رجال عشائر وقد يكون من الصعب جدا تأمين أرقام تقريبية (6). وعقب الحرب العالمية الأولى ، عندما انفصل العراق عن الأمبراطورية العثمانية ، بدأ زعماء الشيعة يدعون بأنهم يؤلفون غالبية السكان .
ولعل كان بالإمكان تبرير مثل هذا الادعاء، فيما لو أن المنطقة الكردية ، التي لم يحدد وضعها في معاهدة السلام مع تركيا (1924) ، استثنيت من البلاد .في الحقيقة، إن الأكراد رفضوا المشاركة في الحكم العربي عندما تأسس عام 1921. على أية حال ، فمن المشكوك أن يصبح الشيعة أغلبية في العشرينات لان قوتهم العددية أخذت في الزيادة في أواخر الثلاثينيات ويبدو أنهم فاقوا الطائفة السنية قليلا بعد الحرب العالمية الثانية.
وعلى أساس الكثرة العددية ، بدأ الشيعة يؤكدون مطالبتهم في الحكم . إلا أن في الحقيقة لم يحاولوا أبدا إقرار شرعية طلبهم بالمشاركة البناءة في النشاطات السياسية التي أصبحت مفتوحة أمامهم الآن في ظل الحكم العربي.
صحيح، أنهم طالبوا بتأسيس مجلس وطني منتخب وأحزاب سياسية منظمة للمشاركة في النظام السياسي، إلا أن أساليبهم عموما لم تكن متجاوبة . وبرفض المشاركة في الانتخابات العامة للمجلس النيابي ، اصدر العلماء فتاوى ( آراء فقهية ) بمقاطعة انتخابات عام 1923 ورفض المناصب السياسية العليا بحجة خضوع النظام للنفوذ الأجنبي . لهذا، إن استنكارهم لشرعية الحكم ترتكز على أسس دينية وقد لجئوا إلى أعمال العنف التي زادت حدة التوترات الطائفية وقادت إلى الشغب في المناطق العشائرية للفرات الأوسط .
ارتفعت مكانة الطائفة الشيعية بعاملين آخرين :-
1. إن الأماكن المقدسة في النجف وكربلاء وسامراء والكاظمية أصبحت مراكز للزيارات ، ليس من قبل شيعة العراق وإنما من أتباع شيعة دول أخرى بالأخص إيران. فضلا عن ذلك، إن مدينة النجف التي يوجد فيها ضريح الأمام علي اعتبرت منذ فترة طويلة اكبر مركز للعلم وأن الكثير من المجتهدين الذين برزوا كزعماء دينيين كبار قد درسوا هناك .
2. إن عدد من المجتهدين الفرس الذين درسوا في النجف أو مراكز التعليم الأخرى مثل قم ومشهد فضلوا البقاء في العراق مع احتفاظهم بالجنسية الفارسية التي منحتهم حماية كبيرة في ظل الحكم العثماني . في الوقت نفسه ، ازداد عددهم وارتبطوا بعلاقات مصاهرة مع الشيعة الذين هم من أصل عربي . في ظل الحكم العراقي الجديد ، بإمكان أولاد المواطنين الفرس الذين ولدوا في العراق المطالبة بكل من الجنسية العراقية بحكم ولادتهم في أراض عراقية ، والجنسية الفارسية بحكم انتسابهم، ولو إن بإمكان أبنائهم الاحتفاظ بالجنسية الفارسية من دون تبني الجنسية العراقية – استطاع بعض المجتهدين الوصول إلى أعلى درجات الزعامة الروحية وأصدروا فتاوى إلى أتباع الشيعة حول المسائل السياسية اليومية . فمثلا ، إن مجتهد كربلاء مرزا تقي الشيرازي ومجتهد النجف شيخ أبو الحسن الأصفهاني، اللذين كانت فتاويهما فعالة في إثارة عشائر الفرات الأوسط خلال الثورة العراقية عام 1920 ، هما مواطنان فارسيان، وعقب وفاتهما (1920) انتقلت السلطة الدينية العليا (المرجعية) الى شيخ حسين النائيني مجتهد النجف وشيخ مهدي الخالصي مجتهد الكاظمية اللذين هما مواطنان فارسيان أيضا، ولو إن الأخير يحتفظ بأصل عراقي مختلط (عربي) وفارسي. لم يشارك ألخالصي في الثورة العراقية عام 1920 فحسب، إنما لعب دوراً في النشاطات السياسية للطائفة الشيعية بعد تأسيس الحكم الوطني في العراق . أما المجتهدون  الفرس الآخرون ، مثل آية الله الكاشاني الذي ساند حكومة مصدق (1953) و(آية الله) الخميني الزعيم الروحي للثورة الإسلامية (1979) فقد أقام كل منهما في النجف قبل عودتهما إلى طهران وقم لتولي دور فعال في ثورة بلادهم . لهذا ، إن المجتهدين الشيعة ، سواء في العراق أو في إيران ، نشدوا خدمة المصالح الكبيرة لطائفة الشيعة بصرف النظر عن الانفصال الجغرافي أو الهوية القومية . وفي محاولاتهم لخدمة الأهداف الإسلامية النهائية ، دخلوا في نزاع مع مواطنيهم الذين نشدوا تأكيد المفاهيم الحديثة مثل المصالح الوطنية (دنيوية) والمحلية . إن النزاعات الداخلية الناشئة من اختلافات طائفية قد أزمت العلاقات بين العراق وإيران مؤثرة على الأحداث والقوى التي قادت إلى اندلاع الحرب بين البلدين .
          في أعقاب الحرب العالمية الأولى ، عندما برز العراق وإيران كدولتين قوميتين على خارطة الشرق الأوسط، أصبح العلماء في كلا البلدين نشطين جدا في مطالبتهم بالسلطة . ففي إيران ، من خلال مشاركتهم في الحركة القومية ، نجح العلماء في تقليص النفوذ البريطاني ومكنوا رضا خان مؤسس السلالة البهلوية من ارتقاء العرش والإحلال بمكان السلالة القاجارية عام 1923 . وفي عام 1979 ، قام العلماء بقيادة الثورة الإسلامية الاطاحة بالسلالة البهلوية . فضلا عن ذلك، إن العلماء الفرس حاولوا دائما تقديم العون لأشقائهم في الدين في العراق وكثيرا ما دعموا من قبل حكومتهم الوطنية. مع ذلك، إن علماء العراق لم يكونوا دائما في مركز لمساندة علماء الفرس بسبب صراع المصالح القومية وان العلاقات العراقية – الإيرانية كثيرا ما تعقدت بالتوترات الطائفية. حاول الملك فيصل، المعروف بالحذر والاعتدال، أتباع سياسة توازن بعد تولية العرش وكان متعاطفا مع طموحات الشيعة. حتى قبل توليه السلطة. بعث الشيخ مهدي الخالصي وعدد من زعماء الشيعة برقيات إلى الملك حسين في الحجاز ملتمسين موافقته على ترشيح ابنه فيصل لعرش العراق. ولدى وصوله، تقابل الملك فيصل مع الشيخ الخالصي وأكد على تعاطفه مع مطالب الشيعة الرامية إلى استقلال البلاد. كما أعطيت ضمانات أخرى إلى زعماء الشيعة الذين كانوا على ما يبدوا قانعين من إن الحكم العربي في ظل فيصل سيكون حصينا تجاه النفوذ الأجنبي(7).
على أية حال ، كان فيصل غير قادر على منح الرضا لكافة الجماعات المؤثرة. وطالما انه مدين بعرشه إلى بريطانيا وكذلك إلى عدد من مسؤليها البارزين في إدارة العراق، مثل المندوب السامي السر بيرسي كوكس وموظفيه (كنهان كورنواليس وغيرترود بيل وآخرين) الذين منحوه التأييد الكامل، لم يكن قادرا على الوقوف بوجه الضغوط الأجنبية عندما نصحوه، بموجب توجيهات من حكومتهم الوطنية، من إن العراق يتوجب عليه قبول الوصاية البريطانية لحين انتهاء انتداب عصبة الأمم على العراق. فضلا عن ذلك، إن غالبية الزعماء العرب الذين عملوا مع فيصل في شبه الجزيرة العربية وسوريا والعراق هم من طائفة السنة، بوجه خاص البيوت المعروفة التي أصبحت مرموقة في العهد العثماني ( الكيلاني والسويدي والسعدون وآخرين) . ولم يكن هناك عدد كاف من الشباب الشيعي المثقف ليدخل الخدمة الحكومية طالما أن أكثرية الزعماء الشيعة هم أما زعماء دينيون أو أبناء عشائر تلقوا قسطا محدودا من التعليم وربما لم يتلقوا أي تعليم. بدأ فيصل بتشجيع أتباع الشيعة على الدخول في المدارس الحكومية (دنيوية) وتعهد لهم بمناصب مرموقة بعد التخرج .
وعموما، أن زعماء الشيعة لم يكونوا على علم بالوضع الصعب الذي يجتازه فيصل وكان بعض زعماء الشيعة المعتدلين مستعدين للتعاون معه. إلا المتطرفيين بضمنهم الشيخ مهدي الخالصي الذين شعروا بأنهم انخدعوا، فانقلبوا ضده.
في مهاجمتهم للسياسة البريطانية ، ركز زعماء الشيعة على قضايا معينة بدت تحدد استقلال البلاد . كما انتقدوا زعماء العراق (السنة) الذين تعاونوا مع البريطانيين أو أخفقوا في الوقوف ضدهم . لقد وجهوا انتقادا خاصا إلى السيد عبد الرحمن الكيلاني ، رئيس الطائفة السنية ، الذي أصبح أول رئيس وزراء في حكومة فيصل . تعرض الكيلاني ووزرائه إلى هجوم لاستعدادهم في إبرام معاهدة تحالف مع بريطانيا تعترف بالانتداب البريطاني وتساوم على استقلال البلاد . من الجائز ، إن الملك فيصل لم يكن مرتاحا جدا من المقترحات البريطانية بخصوص المعاهدة إلا انه أدرك أن البلاد لاتزال بحاجة إلى معونة ماليه بريطانية وحماية ضد الاعتداءات الخارجية المحتملة .(8)
في شهر نيسان 1922، عندما كانت الوزارة تناقش المقترحات البريطانية للمعاهدة (التي عارضها عدد من الوزراء)، تعرضت منطقة البادية الجنوبية لغزو الأخوان (الوهابيين) بقيادة فيصل الدرويش، زعيم عشائري من البادية السعودية. انتهز العلماء بزعامة الشيخ  مهدي الخالصي وأصدروا نداءا إلى زعماء العشائر (السنية والشيعية) للاجتماع في كربلاء لبحث الإجراءات للدفاع عن البلاد ضد الوهابيين. بما إن الوهابيين جماعة سنية متطرفة، فأن الغارة أثارت مشاعر الشيعة وان زعماء العشائر الشيعية استجابوا بشكل ملائم لنداء الشيخ الخالصي، إلا انه أهمل من قبل زعماء العشائر السنية الذين اعتقدوا إن القضية هي سياسة وينبغي حلها من قبل الحكومة . وحرصا على اقتصار الاجتماع إلى بيان الشيخ الخالصي المعلن، فقد أرسلت الحكومة فرقة عسكرية لمنع الاضطرابات التي قد تؤدي إلى الإخلال بالنظام أو إلى ثورة كالتي حدثت عام 1920. في غضون ذلك في رسائل متبادلة بين بغداد والرياض، صدرت الأوامر إلى الاخوان بالانسحاب واعتذر بن سعود حاكم العربية السعودية عن الغارة. لهذا، فأن اجتماع كربلاء اقتصر على توقيع عريضة شكوى إلى الملك باتخاذ الإجراءات لحماية البلاد من غارات الوهابيين . إن الهدف الآني للعلماء قد تحقق (إظهار حرصهم الوطني تجاه النفوذ البريطاني) كما أشيع من أن الحكومة البريطانية قد شجعت الوهابيين على الإغارة وذلك لممارسة الضغط على الوزارة لقبول مقترحات المعاهدة. إلى إن الهدف النهائي للعلماء هو إضعاف مركز الوزارة التي يسيطر عليها زعماء السنة والتأثير على الملك فيصل لزيادة الممثلين الشيعة
فيها .(9)
وعقب اجتماع كربلاء، واصل المجتهدون ، يعاونهم المتطرفون السنة (لأسباب مختلفة كليا)، أثارت الشغب ضد الانتداب البريطاني والتأكيد على إن المعاهدة (مازالت قيد الدراسة من قبل العراق وبريطانيا) ينبغي أن تعترف باستقلال العراق. وبالرغم من معارضة عدد من الوزراء ، فقد انتشرت شائعات من أن الوزارة كانت واقعة تحت ضغط لقبول المعاهدة ضمن إطار الانتداب. في 24 آذار 1922، عمم الشيخ مهدي الخالصي برقية إلى شيوخ عشائر الفرات الأوسط  مخبرا إياهم بالضغط البريطاني على الوزارة لقبول المعاهدة وقد نشرت البرقية في إحدى صحف بغداد المشهورة.
في غضون ذلك طالب زعماء الشيعة والسنة المتطرفون بالسماح لهم بتشكيل أحزاب سياسية كوسيلة لتعبئة الرأي العام ضد المعاهدة . في شهر آب، منحت إجازة بتشكيل أحزاب ، بعدما تم صياغة قانون الجمعيات الذي نص على بعض التحديدات لكبح جماح النشاطات التي ربما تقلق النظام العام . قدمت ثلاثة أحزاب طلباتها للحصول على إجازة: الحزب الوطني برئاسة جعفر أبو التمن (تاجر شيعي) وحزب النهضة برئاسة محمد الصدر (عالم مجتهد من الكاظمية) وحزب معتدل لموازنة الحزبين المعارضين برئاسة محمود الكيلاني (نجل رئيس الوزراء) الذي يشار إليه في كثير من الأحوال بحزب الحكومة. ومع انه حزب قوي من ناحية مؤيديه، إلا انه برهن على عدم تأثيره. أما الحزبان الآخران المتشابهان من حيث الأهداف، فقد توحدا معا وشكلا حزبا معارضا واحدا .
حتى قبل تشكيل حزب المعارضة ، كان عدد أعضائه مثيرا للقلق في كل من بغداد والنجف وقد أرسلت مضبطة إلى الملك تطالب بالاستقلال الكامل ورفض المعاهدة. كما أشيع بأن الزعماء طالبوا باستقالة الوزارة التي يترأسها الكيلاني وهددوا بمقاطعة الانتخابات كاحتجاج ضد سياستها . عرض الكيلاني استقالته بشرط أن يعلن الملك فيصل تأييده للوزارة. ولكونه غير راض تماما بشروط المعاهدة، لم يعلن رأيه صراحة في تأييد الوزارة وأصر على أن سياسته لا تتبدل. وبناء على ذلك قدم الكيلاني استقالته . وبالترحيب بسقوط الوزارة ، كانت المعارضة تأمل بأن الملك سوف يدعوا زعيمها محمد الصدر لتشكيل وزارة جديدة يترأسها زعيم شيعي معتدل وبذلك يتحقق الاعتراف بقوة المركز الشيعي. لكن، الملك كان مترددا باتخاذ مثل هذه الخطوة التي تضعه في كفة المعارضة ضد مؤيدي بريطانيا وربما تجعل مركزه الخاص تحت رحمة الزعامة الشيعية .
انفجرت الأزمة بعد عدة أيام عندما جرى الاحتفال السنوي بارتقاء الملك للعرش يوم 24 آب 1922 . ذهب السير بيرسي كوكس المندوب السامي البريطاني الى البلاط لتقديم تهانيه إلى الملك فيصل .  وبمحض الصدفة، كان هناك زعماء المعارضة لتقديم تهانيهم وقدموا مضبطة يطلبون فيها استدعاء المجلس التأسيسي لغرض وضع الدستور  وبأن الانتخابات العامة ينبغي إجرائها من اجل البرلمان وتوقيع معاهدة مع بريطانيا تتضمن استقلال البلاد. وحينما كان السير بيرسي كوكس لايزال في البلاط، قام سكرتير الملك بإلقاء كلمة رد على كلمة المعارضة. كان كلا الخطابين بليغين مما حرضا احد المتجمهرين الذي حضر الاحتفال بالهتاف “يسقط الانتداب” الذي استجيب عليه بحماس عال وعندما أصبح فحوى الخطابين معلوما بالنسبة للسير بيرسي كوكس، بعث باحتجاج شديد إلى الملك في اليوم التالي يطالبه بتقديم اعتذار تسلمه في اليوم اللاحق.
في غضون ذلك كان الملك يعاني من نوبة حادة في زائدتة الدودية فقرر أطباؤه إنها تحتاج إلى عملية سريعة. وللأيام القليلة التالية، قبل أن يكون الملك قادرا على مزاولة أعماله الحكومية، بقيت البلاد من دون ملك ووزارة لأن رئيس الوزراء قد استقال مؤخرا. انتهز السير بيرسي كوكس الفرصة بتولي المسؤوليات الكاملة. في الحقيقة، إن البلاد ربما كانت بحاجة الى الهدوء والطمأنينة، إلا أن السير بيرسي كوكس استفاد لأقصى حد من الموقف. اصدر أوامره التي تنص على الإسراع بنفي زعماء المعارضة الكبار إلى جزيرة هنجام في الخليج وتجميد نشاط الاحزاب المعارضة وحجب صحيفتين عن الصدور لنشرهما أخبار عن نشاطات المعارضة. فضلا عن ذلك، تم نفي محمد الصدر والشيخ محمد الخالصي (نجل الشيخ مهدي الخالصي) بسبب اشتراكهما بإثارة الشغب ضد المعاهدة والانتداب البريطاني. ومع ان بعض الاضطرابات حصلت في المناطق العشائرية وتمت السيطرة عليها من قبل القوة الجوية البريطانية، الا  ان مراكز المدن لم يحدث فيها أي اخلال بألامن. وبالتالي خسر زعماء الشيعة المعركة في مطالبتهم بالسلطة .
وعقب استأنف الملك فيصل سلطته يوم 10 ايلول 1922 ، علم بأنه كان راضيا عن أعمال المندوب السامي السير كوكس واثنى عليه للإجراءات التي اتخذها في رسالة بعث بها إليه ونشرت في الصحف لإطلاع الرأي العام على فحواها. ان الكيلاني، الذي استقال قبل أسبوعين، وجهت اليه دعوة لتشكيل الوزارة. احتفظ الشيعة بمنصب واحد هو وزارة المعارف طالما أن جعفر ابو التمن وزير التجارة قد استبعد بحجة نشاطاته مع أقطاب المعارضة.
 إن المعاهدة، التي كانت موضع نقاش، قد تم التوقيع عليها أخيرا في 10 تشرين الأول 1922 بعد أن أعطى وزير الخارجية البريطانية ضمانا إلى الحكومة العراقية من أن الانتداب سوف ينتهي حال قبول العراق في عصبة الأمم وتعهد بالسعي لقبوله في اقرب فرصة ممكنة(10).
وقبل تقييد نفوذهم، قام المجتهدون بمحاولة أخرى لإثارة الشغب ضد السلطة. وعقب توقيع المعاهدة، استقالت الوزارة في يوم 16 تشرين الثاني 1922، تشكلت وزارة جديدة برئاسة عبد المحسن السعدون مع توصيات بعقد انتخابات للمجلس التأسيسي. واستعداداً للانتخابات، تم إطلاق سراح الزعماء السياسيين الذين ابعدوا إلى هنجام من قبل السير بيرسي كوكس. فضلا عن ذلك، كدليل على أن بريطانيا غير مصرة على الحكم لمدة طويلة، تم تقليل مدة المعاهدة من عشرين عاما إلى أربعة أعوام. وبينما رحب الملك والحكومة بالعملية وتطلعوا إلى التعاون الحقيقي مع بريطانيا، واصل المتطرفون تنديدهم بالبريطانيين على اعتبار إنهم أسياد البلاد. كان لهؤلاء المتطرفين ومؤيديهم من الشيعة موقف أدى إلى أن يوجه المجتهدون (العلماء) مضبطتهم ضد الملك ومؤيديه البريطانيين .
في مستهل شهر حزيران 1923 ، اصدر المجتهدون فتاوى بعدم الاشتراك في انتخابات المجلس التأسيسي. اعتبرت الفتاوى طعنا بالحكومة . وبما ان البلاد لاتزال تحت سيطرة حازمة، فأن الحرية الضرورية لأجراء الانتخابات قد حجبت. إن احد الأحداث أمّن للحكومة حجة للقيام بأعمال مقابلة. تم إلقاء القبض على ابن عم الشيخ مهدي الخالصي يوم 21 حزيران 1923 أثناء محاولته لصق نسخة من الفتوى على البوابة الرئيسية لجامع الكاظمين. إن المتعاطفين الذين كانوا يراقبون المشهد حاولوا السعي لأطلاق سراحه، إلا إن قوة من الشرطة أرسلت لغرض إيداعه السجن . في الوقت نفسه، حاول نجل مهدي الخالصي أيضا لصق نسخة أخرى من الفتوى. وعندما تحركت الشرطة لإلقاء القبض عليه، قام عدد من اتباعه بالهجوم عليهم ومحاولة إطلاق سراحه. أرسلت تعزيزات لتفريق المحتشدين وتم إلقاء القبض على اثنين من أبناء الشيخ الخالصي. إن عمليات إلقاء القبض شجعت الشيخ الخالصي على الطلب من أصحاب الحوانيت غلق محلاتهم كاحتجاج على تصرفات الحكومة، إلا انه على ما يبدوا استجابت قلة من الناس لطلبه ولم تحدث أي مظاهرات. وبينما كان الملك في زيارة إلى الألوية الجنوبية، عقدت الوزارة جلسة لمناقشة تحدي الشيخ الخالصي لسلطتها. وبما إن قانون العقوبات قد جرت عليه تعديلات مؤخرا في أوائل شهر حزيران لمنح الحكومة صلاحية نفي الأجانب لنشاطاتهم السياسية، قررت الوزارة إبعاد الشيخ الخالصي وولديه الاثنين (كذلك ابن عمه) بحجة نشاطاتهم السياسية وكرعايا لدولة أجنبية (إيران) . تم نقلهم بقطار خاص إلى البصرة ومن ثم نقلوا بمركب تجاري إلى عدن. من هناك، عرجوا على مكة لأداء فريضة الحج قبل عودتهم إلى إيران.
احتج المجتهدون الفرس في النجف ضد تصرف الحكومة وأغلق أصحاب الحوانيت في النجف محلاتهم يوم 27 حزيران 1923. وبقيادة العالمين أبو الحسن الأصفهاني وحسين النائيني، توجهت جماعة من المجتهدين ومؤيديهم إلى كربلاء بأمل التأثير على الآخرين للانضمام إلى رحيل جماعي للمجتهدين الشيعة إلى إيران. ومع أن عدداً كبيراً قد تحمس لذلك، إلا انه لم يصل كربلاء يوم29 حزيران سوى خمسين فردا بضمنهم العالمين. وبتوجيه من وزير الخارجية، أخبرت متصرفية كربلاء المجتهدين بأن الحكومة ليس لها نية باتخاذ إجراءات ضدهم فيما لو امتنعوا عن التدخل في السياسة. لم يقرر المغادرة سوى عدد قليل لايتعدى خمسا وثلاثين شخصا بضمنهم التلاميذ والأقارب. غادروا القطر يوم 3 حزيران 1923 في قطار خاص إلى خانقين واجتازوا الحدود إلى كرمنشاه بانتظار رد الفعل في العراق.
وبالرغم من استياء الطائفة الشيعية من تصرف الحكومة، إلا أن زعماء العشائر لم يكونوا على استعداد لإشهار سلاحهم وتأييدهم كما فعلوا في عام 1920. ولم يتوقع قيام الحكومة الإيرانية بالاحتجاج ضد الإجراء العراقي. ولتحاشي الاصطدام المحتمل مع إيران ، توجه السفير البريطاني في طهران بالطائرة إلى بغداد لبحث الحلول الممكنة. مع ذلك، كانت الحكومة حازمة ضد تدخل المجتهدون في الانتخابات وأكدوا للسفير البريطاني بأنها ستكون مستعدة بالسماح للعلماء بالعودة بعد أن يكون المجلس التأسيسي قد أنجز أعماله. وبموجب ذلك، واصل العلماء سفرهم إلى قم التي تعتبر مركز للنشاطات الدينية. قرر اثنان من العلماء العودة بقصد تقديم اقتراح حول شروط عودة زملائهم . وصلا الكاظمية يوم 12 ايلول وعادا الى مسكنيهما في النجف. وفي شهر تشرين الاول ، عاد الشيخ مهدي الخالصي الى ايران وذهب الى قم عقب وصوله، حدث سوء تفاهم مع عدد من الذين نفوا الى خارج وطنهم بسببه وان رغبتهم بالعودة إلى وطنهم شجعتهم على الاتصال بالسلطات العراقية. في أوائل عام 1924 ، بدأ زعماء الشيعة في العراق بالتوسط نيابة عنهم. وأوضحت الحكومة العراقية بأن ليس هناك مانع من عودة العلماء ، باستثناء الشيخ مهدي الخالصي، بشرط امتناعهم عن التدخل في الأمور السياسية. سمح لهم بالعودة في نيسان 1924. واصل الشيخ مهدي الخالصي، الذي اختار الإقامة في مشهد ، التنديد بالحكومتين العراقية والبريطانية(11).
وبعد انتهاء انتخابات المجلس التأسيسي وإكمال أعماله (تصديق المعاهدة العراقية -البريطانية، تشريع الدستور وتطبيق قانون الانتخاب)، بدأ الملك فيصل بانتهاج طريقة استرضائية للطائفة الشيعية. حتى قبل حل المجلس (1924)، استقال السعدون رئيس الوزراء في شهر تشرين الثاني 1923، بسبب استياء الشيعة من وزارته التي كانت خلافاتها مع الشيخ مهدي الخالصي غير قابلة للتسوية من ناحية، ومن ناحية أخرى بسبب الخلافات بين الملك ورئيس الوزراء حول قضايا إدارية. شكلت وزارة جديدة برئاسة جعفر العسكري حيث خصصت وزارتان ( المالية والمعارف ) إلى زعيمين شيعيين مما يدل على تحسين الموقف نحو الطائفة الشيعية. وبالتالي، قام وفد من زعماء الشيعة بتقديم رسالة إلى الملك عبروا فيها عن ولاءهم للتاج وتعاونهم مع الحكومة. ولإظهار ولائهم، أعرب زعماء الشيعة عن تأييدهم لانتقال الخلافة من بيت عثمان إلى البيت الملكي للحسين (والد فيصل) عندما تخلت الحكومة التركية عن الخلافة عام1924(12) .في الوقت نفسه، ساد التوتر عندما قام الملك بزيارة رسمية إلى كربلاء بمناسبة افتتاح خط سكة حديد ومن ثم مواصلته الرحلة لزيارة النجف. في كلتا المدينتين، أستقبل بحفاوة بالغة .
في الوقت الذي بدأت العلاقات بين الطائفة الشيعية في العراق والحكومة بالتحسن ، بقيت العلاقات بين العراق وإيران في حالة فتور. رفضت إيران الاعتراف بحكومة العراق وان العلاقات الدبلوماسية الرسمية جرت عن طريق البعثات الدبلوماسية البريطانية في طهران التي تمرر الرسائل إلى العراق من خلال المندوب السامي البريطاني في بغداد (ولو أن إيران تتمتع بامتيازات التشاور في العراق) وبما ان هذه العلاقة من طرف واحد بين بلدين جارين هي غير اعتيادية، مع امتيازات مفوضة من طرف إلى آخر، فلا بد من لفت أنظار عصبة الأمم. فقد جاء في تقرير الحكومة البريطانية حول الإدارة العراقية لسنة 1926 ما يلي :
من الجدير بالملاحظة إن إيران هي العضو الوحيد في عصبة الأمم التي لها علاقات وثيقة مع العراق وتحتفظ بموظفين قنصليين في ذلك القطر وقد أخفقت لحد الآن بمنح اعتراف رسمي…… يبدو، أن الحكومة الايرانية تعتقد ان رفضها للأعتراف بالعراق يمنعها من التعاون بموجب اجراءات معينة ستكون مفيدة لكلا البلدين مثل تأسيس مواصلات برقية مباشرة ونقطة كمارك مشتركة على الحدود على الطريق التجاري الرئيسي بين البلدين. ولمدى محدود، ان عدم وجود هذين المرفقين يعزيان الى تدهور العلاقات التجارية .(13)
لدى دراسة هذا التقرير أولا من قبل لجنة الأنتدابات الدائمة التابعة لعصبة الامم ومن ثم من قبل لجان مجلس العصبة التي تناقش قضايا تتعلق بالاقطار الخاضعة للانتداب، تمت ملاحضة رفض ايران للاعتراف بالحكومة العراقية . في لجنة المجلس، أعلن محمد علي خان فروغي مندوب ايران في تعليقة حول العلاقات الايرانية مع العراق بأن المسؤولين العراقيين قد أساءوا معاملة الرعايا الايرانيين القاطنين في تلك البلاد(14) . وفي مقابلة مع لجنة الانتدابات الدائمة، صرح مستر رابرد أحد أعضاء اللجنة بأنه يستغرب من أن ايران التي ترفض الاعتراف بالعراق تحتفظ بموظفين قنصليين في العراق. وفي رد على تعليق رابرد، أفاد فروغي بأن ((ايران لاتحتفظ بأي موظفين معينين رسميا بل وانما وكلاء معتمدون عن القنصليات))(15). وبشأن الرعايا الايرانيين القاطنين في العراق، زعم بأنهم مخولون بأمتيازات قانونية خاصة ممنوحة الى بعض الاجانب بموجب المعاهدة العراقية – البريطانية لسنة 1922 لأنهم عوملوا معاملة سيئة من قبل المحاكم العراقية .
في رد الممثل المعتمد البريطاني المستر بورديلون الى المندوب الايراني في العصبة ومستر رابرد، صرح بأن هناك “عراقيل” معينة بين العراق وايران، الا أنه كان يأمل أن الحل يمكن التوصل اليه من خلال المناقشات الودية. وبصدد استفسار رابرد حول القناصل ، قال بورديلون ان رسالة مؤرخة في 7تشرين الثاني 1927 وموجهة من وزارة الخارجية الايرانية الى الوزير المفوض البريطاني في طهران ربما توضح قضية اجراء التعيين: يلتمس الوزير للشؤون الخارجية أن يلفت أنظار البعثة البريطانية للحقيقة من ان ميرزا جواد خان القنصل السابق في ايران قد تم تعيينة قنصلا ايرانيا في الموصل وغادر الى مقر عمله(16).
ويمضي بورديلون شارحا ان السياق المتبع من قبل السفير البريطاني في طهران هو ابلاغ المندوب السامي البريطاني في بغداد بالتعيين . وبدوره أبلغ المندوب السامي الحكومة العراقية والتمس عدم وضع عراقيل في طريق تحقيق مثل هذا التعيين على أفتراض أن هذا المنصب ليس مستحدثا جديدا، طالما أنه موجود منذ العهد العثماني. وللسعي وراء هذه الشكليات ، استمرت ايران بالاحتفاظ بقناصل في العراق دون الاعتراف بهم. مع ذلك، ان الحكومة العراقية سمحت للقناصل الايرانيين باستخدام القابهم الكاملة وأجراء كافة الواجبات الاعتيادية للموظفين القنصليين.
ومع ذلك، واصل العراق مطالبته بالاعتراف، طالما ان الطلب الايراني في المساواة بالمعاملة مع الاجانب بموجب المعاهدة العراقية – البريطانية لم يكن بتلك السهولة كما أدعت ايران. ليس جميع الموظفين الفرس القاطنين في العراق هم أجانب. هناك العديد من الفرس الذين ولدوا في العراق (حتى ان بعضهم كان لديهم أبناء ولدوا في العراق) وبأمكانهم المطالبة بالجنسية الايرانية على أساس أن قانون الجنسية الايراني يعترف بالأشخاص المولودين من آباء إيرانيين على أنهم مواطنين إيرانيين بصرف النظر عن المكان الذي ولدوا فيه. من جهة أخرى، إن قانون الجنسية العراقي، المبني من ناحية معاهدة لوزان (1924) ومن ناحية أخرى على مبادئ عامة تعترف بها الأمم والدول ينص على أن الشخص المولود في العراق هو مواطن عراقي فيما لو أن والده كان مولودا في العراق أيضا. وبالنتيجة، احتفظ عدد كبير من الإيرانيين بجنسيتين. وعموما، إن القاعدة هي أن السيادة تكون جنسية مكان الاقامة. لهذا، أن المواطن الايراني المولود في العراق سوف يعامل كعراقي وفي ايران كأيراني. مع ذلك، في كلا البلدين، لايمكنه المطالبة بحماية قنصلية للبلد الآخر .ولهذه الاسباب، ان ايران لم تمنح نفس الامتيازات لرعاياها في اقطار أخرى وفقا للاتفاقية العراقية – البريطانية. رغم ذلك، أستمرت ايران بالمطالبة بحق حماية أشخاص هم بحكم القانون العراقي مواطنون عراقيون ولم يتخذوا خطوات للتنازل عن هويتهم الايرانية.
ان الطلب الايراني، المبني على مبدأ المساواة في التعامل قد فقد الكثير من فاعليته، عندما قامت الحكومة البريطانية بأبلاغ الحكومة العراقية انها ترى أن المواطن البريطاني الذي هو مواطن عراقي ايضا غير مشمول بالامتيازات(17). مع ذلك، مادامت الاتفاقية القضائية العراقية – البريطانية سارية المفعول، فقد أصرت إيران على حقوقها بالمساواة ورفضت الاعتراف بالعراق. ولكن، لم تكن هذه خاتمة المطاف. لقد استمرت إيران بالشكوى عن طريق المندوب السامي البريطاني في بغداد حول سوء معاملة رعاياها سواء في المحاكم العراقية أم في العلاقات الاجتماعية والتجارية(18). ردد المندوب الإيراني في عصبة الأمم هذه الشكاوى وذهب الى حد التأكيد أن النظام القضائي العراقي لايفي بتحقيق العدل وان الرعايا الايرانيين يعانون من التفرقة بسبب الطائفية (شيعة) رغم ان القضاة الشيعة في المحاكم يبتون في قضايا تتعلق بأبناء طائفتهم. فضلا عن ذلك، ان الممثل البريطاني المعتمد أعلن امام لجنة الانتدابات الدائمة أن النظام القضائي الموضوع حديثا أفضل بكثير من النظام الذي كان في العهد العثماني(19).
بما ان ايران أصرت على حقها في المعاملة المتكافئة، رغم عروض التفاوض لحل الخلافات، فأن رفضها للأعتراف بالعراق أستمر حتى عام 1929 عندما وافق كل من العراق وبريطانيا أخيرا بوقف العمل بالاتفاقية القضائية والغاء الامتيازات الخاصة الممنوحة للأجانب. في شهر آذار 1929، أبلغ المندوب البريطاني مجلس عصبة الامم أن “الامتيازات الخاصة” سوف تلغى وسيحل مكانها نظام قضائي منسق في العراق، وبشرط أن الاقطار التي تتمتع بالامتيازات الخاصة راغبة في التنازل عنها ،فأن المقترح تم تبنيه وان بريطانيا واصلت عملية تنفيذه. كما تم ابرام أتفاقية قضائية جديدة مع العراق تنص على بقاء قاضي بريطاني ضمن النظام القضائي العراقي. في الوقت نفسه، أستمرت المفاوضات مع الاقطار المتمتعة بامتيازات خاصة، بضمنها الولايات المتحدة، وبرضا متبادل لانهاء الامتيازات الممنوحة للرعايا الاجانب في الدولة العثمانية(20).
وما أن صادقت عصبة الامم على المقترح البريطاني لإلغاء “الامتيازات الخاصة” حتى شرع كل من العراق وايران فورا لبدء مفاوضات مباشرة وأقامة علاقات دبلوماسية طبيعية عام 1929. تبودلت البرقيات بين شاه ايران وملك العراق (3 نيسان 1929) قدم فيها الشاه تهانيه الى الملك لقيام العصبة بالغاء الاتفاقية القضائية وأزالة “الحواجز التي تقع بينهما”. في رد ملك العراق، شكر الشاه لتمنياته الطيبة وأضاف بأنه يترقب ((أستعادة سبل الاستقرار والعلاقات الحسنة بين الدولتين الجارين اللتين تربطهما أواصر الاخوة القائمة منذ أمد بعيد)). ارسل الملك سكرتيره الخاص رستم حيدر (من أتباع المذهب الشيعي) الى طهران لأبلاغ تحياته الشخصية ردا على رسالة الشاه التي بعثها يوم 20 ايلول. وتم الاتفاق على تبادل مذكرات الاعتراف في شهر آب 1929. شجعت هذه المباحثات ايران لتعيين ميرزا تقي خان نبوي أول سفير لها في العراق في شهر شباط 1930 وبالمقابل عين العراق توفيق السويدي (وزير سابق) أول سفير له في ايران في شهر آذار 1931. ومنذ ذلك الوقت فصاعدا، بدأ العراق وايران ليس بعلاقات دبلوماسية فحسب، بل وانما بمفاوضات لحل القضايا الاخرى القائمة منذ أمد بعيد(21).

الهوامش

1. علاوة على ذلك، هناك عدد من الشيعة من أصل عربي اكتسبوا الجنسية الإيرانية لكي يتهربوا من التجنيد والخدمة في الجيش العثماني.
2. للاطلاع على وصف العلاقات البريطانية مع الطائفة الشيعية، راجع كتاب غيرترود بيل ” استعراض موجز للإدارة المدنية في بلاد ما بين النهرين” لندن 1920 الصفحات 27 – 33 .
3. اعتمدت مقترحات مؤتمر القاهرة على آراء مدرسة وزارة الخارجية التي كان يمثلها تي.ئي. لورنس ورسائله الموجهة الى وزير المستعمرات ونستون تشرشل (لندن 1938 ) الصفحات 328 – 329. مع ذلك ، هناك آراء اخرى تعكس النفوذ المحلي في العراق منها كتاب فليب كريفر “حياة السير بيرسي كوكس” لندن 1941 الفصل 21.
4. بخصوص أدعاء الشيعة ان ثورة 1920 أثرت على قرار بريطانيا في تأسيس حكومة عربية، راجع كتاب “الحقيقة الناصعة للثورة العراقية عام 1920 جزءان – بغداد 1952 ” لمؤلفه فريق مزهر الفرعون احد رؤساء العشائر الذي شارك في الثورة. أما بصدد تأييد الشيعة لترشيح فيصل وارسال الشيخ رضا الشبيبي الى مكة لألتماس موافقة الشريف حسين على الترشيح، راجع وصف مهمة الشبيبي في نفس الكتاب، الصفحات 568 – 577 .
5. للوقوف على سياسة كيرزن في فارس ، راجع كتاب هارولد نيكلسون “كيرزن” المرحلة الاخيرة ، لندن 1934 الفصل 5 . لمناقشة كيف أستطاعت بريطانيا الاحتفاظ بنفوذها في العراق، راجع كتاب ” دانيال  سيلفرفارب ” الامبراطورية البريطانية غير الرسمية في الشرق الاوسط. دراسة تحليلية للعراق 1929 – 1941 (نيويورك 1986).
6. ان جميع الاحصائيات المهمة سواء قبل الحرب العالمية الاولى أو خلال سنوات الحرب العالمية الثانية  جرى تقدير سكان المدن الثلاث : الموصل بغداد والبصرة خلال الحكم العثماني بحوالي 1,25 مليون نسمة ( محمد حسن سلمان ، تطور الاقتصاد العراقي –  بيروت 1951 الجزء الاول ، الصفحات 39 –40  .
7. للاطلاع على محادثات فيصل مع زعماء الخالصيين وزعماء الشيعة الاخرين ، راجع كتاب علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، الجزء 6 عام 1976 الصفحات 71 – 73 – 107 – 111  اعتمدت المعلومات من ناحية على المذكرات غير المنشوره لابن الخالصي.
8. راجع محادثات الملك مع أمين الريحاني حول أستيائه من مسودة المعاهدة وحاجة البلاد الى معونة بريطانية ازاء المزاعم التركية لاستعادة منطقة الموصل التي أستولت عليها القوات البريطانية بعد توقيع الهدنة عام 1918 كتاب أمين الريحاني ” ملوك العرب ، بيروت ، الجزء ، الصفحه 275 .
9. فيما يخص الشائعات من ان غارة الاخوان جائت بتحريض بريطاني ، راجع كتاب عبد الامير هادي العكام ” الحركه الوطنية في العراق 1921 – 1933 الصفحات 106 – 107 تقرير وزارة المستعمرات عن العراق عام 1922 – 1923 . لندن 1924 الصفحات 4 – 5 .
10. بالنسبة الى تصريح وزير الخارجية ، راجع تقرير وزارة المستعمرات عن العراق 1922 – 1923 الصفحات 186 – 187 .
11. المصدر نفسه تقرير عام 1923 – 1924 لندن الجزء الاول الصفحات 531 – 534 علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، الجزء 6 الصفحة 201 .
12. ان اسم الملك حسين الذي نودي به مؤخرا ” خليفة المسلمين ” قد حل بمكان الخليفة العثماني السابق في مراسيم يوم الجمعة وباتفاق مشترك من علماء السنة والشيعة .
13. تقرير وزارة المستعمرات البريطانية حول الادارة في العراق لسنة 1926 . لندن صفحة 25 . تكرر هذا الموقف في تقرير حكومة صاحب الجلالة الموجه الى مجلس عصبة الامم حول الادارة في العراق سنة 1927 ، لندن صفحة 61 .
14. عصبة الامم ، محاضر لجنة الانتدابات الدائمة ، الجلسة الرابعة عشرة ، تشرين الثاني 1928 صفحه 177 .
15. المصدر نفسه ، صفحة 177 .
16. المصدر نفسه .
17. المصدر نفسه ، صفحة 178 .
18. راجع تقرير وزارة المستعمرات البريطانية حول الادارة في العراق لسنة 1928 (لندن 1930) الصفحات 35 – 36 .
19. عصبة الامم محاضر جلسات لجنة الانتدابات الدائمة ، صفحة 178 .
20. وزارة المستعمرات البريطانية ، تقرير خاص عن الادارة في العراق لسنة 1930 (لندن 1930) الصفحات 35 – 36 .
21. فيما يخص اعتراف ايران بالعراق وتبادل البرقيات بين شاه ايران وملك العراق، راجع تقرير وزارة المستعمرات حول الادارة في العراق لسنة 1929،الصفحات 36 – 39 .
اما بالنسبة لنصوص البرقيات باللغة العربية ومهمة رستم حيدر الى ايران ، راجع كتاب عبد الرزاق الحسني،  تاريخ الوزارات العراقية، الطبعة الرابعة ( بغداد 1974 ) الجزء 2 الصفحات 207 – 214

الصراع العــراقي –  الايــراني
الجوانب القانونية والدبلوماسية

 منذ لحظة اعتراف فارس بالعراق رسميا في عام 1929، تم توجيه العلاقات بين البلدين بشكل مباشر من قبل حكوماتها. الا ان، قبل ان يصبح العراق مستقلا ويتخلص من الخضوع للانتداب البريطاني عام 1932، استمرت بريطانيا بتوجيه العلاقات الخارجية للعراق وكانت تستشار في كافة المسائل الرئيسية بين البلدين المتجاورين. كان يقتضي على العراق بحث عدة مسائل معلقة في علاقته مع فارس مثل القومية، وتأشير الحدود وهجرة القبائل عبر الحدود. وقدمت الحكومة البريطانية خدمات قيمة من خلال تركيزها على المسائل التي جرى مناقشتها مع فارس مؤخرا نيابة عن العراق.
 كان الوضع القانوني للاشخاص الذين يحتفظون بجنسيتين احد المشاكل المستعصية التي واجهت سلطات البلدين منذ صدور قانون الجنسية العراقي عام 1924. بسبب وجود اعداد كبيرة من المواطنين الفرس القاطنين في العراق. لقد قدر بما يزيد عن 250000 شخص يحتفظون بجنسيتسن. ان هؤلاء هم عراقيون بحكم قانون الجنسية العراقي وفرس بحكم قانون الجنسية الفارسي. وبموجب قانون الجنسية العراقي، فان اولئك الذين اختاروا الاحتفاظ بجنسية اسلافهم سمح لهم بالعمل على هذا النحو خلال سنة من اعلان القانون(1).
 ان  المشاكل المتأتية بسبب عدم وجود سجل رسمي والتأخير في التسجيل من جراء جهل الناس بوضعهم القانوني قاد فارس الى الشكوى بسبب المعاملة السيئة لمواطنيها. وتعقدت المشكلة لان بعض المواطنين الفرس ليسوا من اصل فارسي. واحسن مثال هم رجال قبائل المحيسن في منطقة البصرة. الذين هم عرب يعيشون على ضفتي شط العرب. اعلنت الحكومة العراقية ان رجال العشائر الذين يعيشون على الضفة اليمنى في الاراضي العربية وسكنوا هناك منذ اجيال عديدة هم رعايا عراقيون. وبسبب الخوف من احتمال تجنديهم، يبدو ان بعضهم قد احتفظ بالجنسية الفارسية ولم يحضر امام سلطات الاحصاء لتسجيل اسمائهم. لهذا، تعرض العديد منهم الى الاضطهاد لعدم الالتزام او لاسباب اخرى وجرى تغريمهم او ايداعهم السجن. ولهذا السبب واسباب اخرى، واجه سكان المدن والعشائر القاطنة على كلا ضفتي شط العرب، لاسيما في المدن الكبيرة مثل البصرة والمحمرة (فيما بعد خرمشهر) مشاكل عدة، كانت تقريبا السبب للاحتكاك المستمر وسوء الفهم بين السلطات العراقية والفارسية(2). ومع ان هذه المشاكل قد عولجت بشكل غير مباشر من قبل المندوب السامي البريطاني في بغداد فان معظمها امكن تذليله قبل اعتراف فارس بالعراق عام 1929. وبعد اقامة علاقات دبلوماسية رسمية، تركزت المسائل الرئيسية على اجتياز الحدود من قبل العشائر والثوار الذين ينشدون اللجوء (الاحداث التي حاول كلا الجانبين حلها عن طريق المفاوضات) . ان تكرار هذه الحوادث لم يتوقف نهائيا بسبب العلاقات العائلية والعشائرية بين السكان الذين يعيشون على جانبي الحدود من جهة، وبسبب عدم اكمال تأشير الحدود منذ العهد العثماني من الجهة الاخرى الذي قاد الى النزاعات بين العراق وفارس التي لم تحل لحد الان.
 وبعد عام 1932، عندما انتهى الانتداب البريطاني وتم الاعتراف بالعراق كدولة مستقلة، اصبح توجيه العلاقات الخارجية من مسؤولية العراق. وما عدا قضايا السياسة الخارجية والدفاع عن البلاد بموجب معاهدة التحالف العراقية- البريطانية لسنة 1930، لم يعد العراق ملزما باستشارة بريطانيا. اما بخصوص المسائل الداخلية، فان الوحدة الادارية الوحيدة التي احتفظت بها بريطانيا هي ميناء البصرة الذي يحتفظ بميزانية خاصة لانه يتقاضى ديونا من الحكومة البريطانية تدفع اليه سنويا. وما دامت بريطانيا منشغلة في ميناء البصرة، فان فارس يبدو وقد مارست نوعا من ضبط النفس، ولو انها اكدت على طلبها بالمشاركة بالملاحة في شط العرب. وعندما بدأ النفوذ البريطاني بالانحسار بعد استقلال العراق، فان مسألة الملاحة في شط العرب، التي تضمنت ميناء البصرة وجميع خط الحدود بين البصرة والخليج، قد اثيرت مجددا من قبل فارس لأعادة النظر فيها. ولكن، قبل ان نتناول بحث النزاع الحدودي الواسع، فلربما من المفيد في هذه المرحلة اعطاء فكرة موجزة عن ميناء البصرة.
 انشأ ميناء البصرة من قبل بريطانيا اثناء الحرب العالمية الاولى وكان يدار كمرفق مستقل لفترة طويلة قبل انتقال ملكيته الى العراق. وقبل الحرب العالمية الاولى. لم تكن هناك أية تسهيلات نقل في البصرة وان سفن الشحن الاجنبية لا يمكن تحميلها وتفريغها عدا السفن الخفيفة. ان احتلال البصرة من قبل القوات البريطانية عام 1924، وانفتاح القوات تطلب تقديم المعدات الحديثة وخدمات الميناء. في عام 1919، لم تعد العمليات العسكرية ضرورية في ميناء البصرة وبدأ الميناء يدار من قبل السلطات البريطانية على اسس تجارية.
 عند تأسيس الحكم الوطني في العراق عام 1921، كانت ادارة البصرة توجه من قبل هيئة مدنية مؤلفة من مدير الميناء ولجنة استشارية، قوامها افراد عراقيون وبريطانيون. اضافة لذلك، تم تغطية ديون الميناء بموجب الاتفاقية المالية ملحقة بالمعاهدة العراقية – البريطانية لسنى 1922 ومناقشة الميزانية وكذلك الميناء باعتباره دين يدفع لبريطانيا لانها انجزت الانشاء الاولي للميناء… ومع ان ديون الميناء لم تنظم لبحث مسألة التقدير، فان الميزانية قد استثنيت من الحساب العام للحكومة العراقية وان شروط دفع الديون قد نظمت بموجب اتفاقية مستقلة. ان العمل  بهذه الاتفاقية دام لحين حل استقلال العراق مكان الوصاية البريطانية بموجب معاهدة عام 1930 التي نصت على انتقال مسؤوليات الميناء الى العراق عندما تصفى الديون نهائياً(3).
 وخلال الفترة الكاملة للوصاية البريطانية، يبدو ان الخدمات التي قدمها ميناء البصرة الى جميع السفن الاجنبية كانت مرضية لكافة البلدان الاجنبية بما فيها فارس، التي كانت سفنها تحمل بضائع الى الموانئ الفارسية على شط العرب.
ان شركة النفط الانكليزية – الفارسية التي تعمل في عبادان لشحن النفط عن طريق شط العرب الى اقطار اخرى تعاونت مع سلطات ميناء البصرة في تقديم قروض للحفر وادامة قناة للمياه العميقة. على ما يبدو، لم تبرز أي مشكلة حقيقية قبل تولي العراق مسؤولية الميناء، الا ان الموقف بدأ تدريجيا بالتغيير عندما قدمت فارس طلبات بممارسة حق الملاحة وقضايا اخرى في مطلع عام 1930.
 عقب الحرب العالمية الاولى، برز العراق وفارس كدولتين حديثتين. بدأ كلاهما بتوجيه سياسته الخارجية وفق مبادئ وقواعد الدبلوماسية الحديثة والقانون الدولي. لم يضمر كلا البلدين شعور العودة الى الحرب واستخدام القوة لتسوية خلافاتهما واتفقا على الالتزام باتفاقية عصبة الامم ومعاهدة باريس (1928) التي نددت بالحرب، عدا الدفاع عن النفس، كوسيلة للسياسة القومية. اتخذت هذه الالتزامات بشكل جدي عندما اتفق كل من العراق وفارس على السير كدولتين حديثتين. وعليه، عندما قبل العراق عضوا في عصبة الامم عام (1932) سعى كلا البلدين لتعزيز العلاقات الودية والتعاون من خلال المنظمة العالمية الجديدة التي ينتمي اليها كل منهما. ولأطلاعه على تقييدات وتحديدات موارد بلاده، لم يكن لدى الملك فيصل طموحا للشروع بمغامرات خارجية. فوق كل ذلك، من خلال سياسته الحسنة مع جيرانه، سعى الملك لكسب ود فارس وحل القضايا المستعصية بطرق سلمية.
 على اية حال، ان فارس نظرت الى علاقتها مع العراق من زاوية مختلفة. صحيح، ان الشاه استجاب لعلاقات الود والتعاون التي قدمها الملك فيصل، الا ان وزراءه حاولوا عن طريق الاتصالات الشخصية والعلاقات الرسمية لتحقيق مكاسب قومية خاصة في مفاوضاتهم مع الحكومة العراقية، ولاسيما مطالبتهم في شط العرب ومسائل الحدود الاخرى. ومنذ لحظة الاعتراف بالعراق كدولة مستقلة، اصبحت الحكومتان العراقية والفارسية غير قادرتين على حل الادعاءات المتضاربة على خط حدود شط العرب من خلال المفاوضات المباشرة. كان الملك فيصل ووزراءه على علم بهذا الموقف حتى قبل ان يحقق العراق استقلاله. ان مسألة الحدود شرحت بوضوح عندما قام الملك فيصل بزيارة رسمية الى طهران عام 1931 (قبل عام من حصول العراق على استقلاله). وخلال تلك الزيارة حيث كان يرافقه رئيس وزرائه نوري السعيد، تم الترحيب قلبيا بالملك فيصل من قبل الشاه الذي وضع قصر جولستان تحت تصرفه وان الجانبين اظهرا اقصى قدر من الاحترام لكل منهما. الا انه عندما كانت الفرصة تسمح للملك ورئيس وزرائه بالتحدث  في مشاكل الحدود، اخبر الشاه ووزراؤه ضيوفهم العراقيين بانهم يتوقعون منهم التنازل عن بعض مطاليبهم القومية الخاصة كدليل للصداقة. حتى قبل زيارة الملك فيصل لايران، حذر المندوب السامي البريطاني في بغداد من المطاليب الفارسية، طالما انه زار طهران في بداية شهر نيسان وناقش رسميا، من بين مواضيع اخرى، مشكلة الحدود مع السلطات الفارسية. وعندما اثيرت المسألة امام الملك فيصل، طلب من رئيس الوزراء نوري السعيد مناقشة القضية بعد مغادرته. ولعدم الوصول الى اتفاق مع الوزراء الفرس، حصر نوري السعيد مفاوضاته بمسائل اقل تعقيدا. اما المفاوضات بشأن الحدود والملاحة في شط العرب فقد ارجئت في البداية لمدة شهر ومن ثم لمدة غير محدودة قد تستغرق عدة سنين(4).
 وبمناسبة قبول العراق عضوا في عصبة الامم عام 1932، اشار مندوب فارس، خلال انضمامه لأعضاء العصبة الاخرين للترحيب بقبول العراق، بان مازال هناك عدد من المواضيع ينبغي التفاوض عليها ومن المسائل الحدودية الاخرى ينبغي حلها. وبقيت العلاقات الرسمية بين البلدين ودية، الا ان الاحتكاك وتصاعد انتهاكات الحدود شجعت وزارتي الخارجية للبلدين لتبادل المذكرات والاحتجاجات التي اثارت اهتمام السلطات المسؤولة في البلدين. وربما يكون تأمين سجل بحوادث الحدود والتجاوزات حسب تسلسلها الزمني غير ضروريا، الا ان نسبة حدوثها اقنعت الطرفين بأنه، مالم تحل قضية الحدود الكبرى فان حوادث الحدود سوف تستمر بدون هوادة، ولو لجأ الطرفان الى العنف فسوف يكون من الصعب السيطرة عليها(5).
 لم تحقق المفاوضات المباشرة أي نتيجة لان فارس طعنت في طلب العراق بالسيادة الكاملة على شط العرب وطالبت بالتالوك، خط الملاحة للنهر (المطبق اعتياديا للانهار الدولية) بان يكون خط الحدود. وتقرر عرض النزاع على مجلس عصبة الامم طالما ان البلدين هما عضوان في المنظمة.
ان العراق، الذي اتخذ زمام المبادأة، عرض النزاع برسالة مؤرخة في 29 نيسان تشرين الثاني 1934 وان فارس عبرت عن موافقتها بمذكرة مؤرخة في 23 كانون الاول 1934 (6).
 بما ان قضية العراق تستند على عدة معاهدات عقدتها فارس مع الامبراطورية العثمانية، فلربما الاستعراض الموجز للمعاهدات ذات العلاقة بمشكلة الحدود قد يسلط الضوء عليها. لقد رأينا توا كيف ان الامبراطورية العثمانية وفارس، بعد فترة طويلة من العداء والحرب، اتفقا اخيرا على ان حفظ السلام يكمن في مصلحتهما المشتركة رغم الخلافات الطائفية الموجودة بينهما. ومع ذلك، اثار التعايش السلمي للبلدين المجاورين ضرورة التفاهم حول مسألة الحاجة الى حدود وذلك لفصل الاختصاص الاقليمي لقطر واحد عن الآخر. تم ابرام اكثر من اثنتي عشرة معاهدة لاقامة حدود ثابتة بين البلدين ووضع حد للخلافات بينهما. يمكن تقسيم هذه المعاهدات الى صنفين.
 ان الصنف الاول، المؤلف من اكثر من ست وثائق، يمكن وصفه كأتفاقيات هدنة التي اوقفت الحرب بين القوات الفارسية والعثمانية، الا انها لم تستطع نشر السلام او تثبيت حدود دائمة. صحيح، بموجب معاهدة زهاب (1639)، في اول محاولة مهمة لتحقيق السلام، سعى كلا البلدين لتحديد الاراضي التابعة لكل طرف، الا انه لم يتم تثبيت خط حدودي واضح لفصل منطقة واحدة عن الاخرى، طالما ان مثل هذه الخطوط الحدودية اعتبرت فاصلة لاراضي السلام (دار السلام) عن اراضي الكفار المسماة منطقة الحرب (دار الحرب) حسب لشريعة الاسلامية للامم(7). لهذا السبب، اطلقت الامبراطوريتان العثمانية والفارسية على معاهدة زهاب اسم صلح (هدنة) وليس سلم (سلام)، طالما ان الاخير يعني الشروط الدائمة للسلام بين المؤمنين، في حين ان الاول هو فترة قصيرة للسلام مع المشركين (هدنة ينبغي ان لا تتجاوز عشر سنوات)(8).
في الحقيقة، لم يعتزم السلطان العثماني ولا الشاه الفارسي دوام المعاهدة المبرمة بينهما طويلا، طالما ان كليهما كان متتوقا لاستئناف القتال في اقرب لحظة ممكنة وذلك لكي يعيد اقامة دار السلام تحت سلطة عليا واحدة. وما عدا حكم الخليفة او الامام (استنادا الى من سينصب في الحكم) لا يمكن للمسلمين ان يتوقعوا ان يتحقق السلام. الا انها عندما ادركا في الاخير من ان السلام والوحدة لا يمكن تحقيقهما عن طريق الحرب، قرر المسؤولون العثمانيون والفرس الدخول في اتفاقيات لاقامة السلم من دون محاولة فرض احد المذهبين (السني او الشيعي) على الاخر.
ان المبادأة، لابرام معاهدة تجسد مبادئ الوحدة والسلام، قد نفذت مبدئيا من قبل نادر شاه (بتاريخ 1747) الذي اقترح بحصر العقيدة الشيعية بمدرسة الشريعة الخامسة التي تدعى المدرسة الجعفرية بشرط ان يعترف علماء السنة بالمذهب الشيعي ضمن التنظيم الاعلى للاسلام. وقبل عرض مسودة المعاهدة، الداعية الى التسوية، على  السلطان العثماني، عقد نادر شاه مؤتمرا في النجف عام 1743 دعا اليه علماء السنة والشيعة حيث تمت الموافقة على اقتراحه المتعلق بتسوية الخلافات بين الطائفتين السنية والشيعية(9). تم التوقيع على المعاهدة في عام 1746 بمدينة كردان (مدينة قريبة من طهران) من قبل نادر شاه والممثل المعتمد للسلطان العثماني. وكما لاحظنا سابقا، قبل قيام السلطان بتوقيع المعاهدة، اجرى استطلاعا لآراء العلماء السنة الذين رفضوا الاعتراف بالمذهب الشيعي كمدرسة خامسة للشريعة. ولهذا السبب، فان السلطان، عندما قبل بمبادئ السلام والانفصال الاقليمي، رفض مبدأ التسوية، كما في حالة الامراء الاوربيين الذين رفضوا وحدة المذهب المسيحي ووافقوا على اقامة السلام بموجب معاهدة ويستفاليا (1648) التي حصرت الخلافات الدينية بالنطاق المحلي.
 اما الصنف الثاني من المعاهدات، فقد تناول بشكل خاص بحث مسائل الحدود واكد مجددا على مبادئ السلام والسيادة الاقليمية وحصر الخلافات بالمستوى الداخلي الذي قبل به ضمنا في المعاهدات السابقة. ان هذا الصنف من المعاهدات، المؤلف من ست وثائق (معاهدات، بروتوكولات وتقارير الدعاوى) عالجت معظم مشاكل الحدود. كانت اهم الوثائق هما المعاهدتان اللتان تسميان معاهدتا ارضروم الاولى والثانية. وقعت الاولى بتاريخ 28 تموز 1823 والثانية بتاريخ 31 آذار 1847 (10).
 يمكن اعتبار معاهدة ارضروم الاولى خطوة نحو الثانية لانها اكدت من جديد على المناطق العائدة الى الامبراطورية العثمانية وفارس كما نصت عليها معاهدة زهاب (1639) ومعاهدة كردان بتحديد مناطق الحدود وليس خطوط الحدود الفاصلة بين اراضي البلدين. ومع ان معاهدة كردان لم يصادق عليها السلطان، فمن الاهمية ان يشار اليها لانها تضمنت مبادئ التسوية بين الشيعة والسنة وتطبيع العلاقات العثمانية – الفارسية على اساس السلام وتبادل المبعوثين الدبلوماسيين بشكل مستمر. واضافت المعاهدة ” لا يجوز السماح لاحد البلدين الساميين التدخل في الشؤون الداخلية للبلد الاخر ” (المادة 1). كما نصت ايضا انه ” يتوجب على البلدين ارسال سفير كل ثلاث سنوات لقضاء تلك المدة في بلاط البلد الاخر” (المادة 7). سمح للحجاج الفرس بالسفر دون عراقيل سواء عند زيارتهم الاماكن المقدسة في مكة والمدينة او النجف وكربلاء، وان التجار الفرس توجب عليهم دفع الرسوم التي كان يدفعها جميع رعايا السلطان. ان شروط المعاهدة لم تلق ترحيبا. لقد هاجمت القوات العثمانية مدينة المحمرة الواقعة على شط العرب في عم 1837 ودخلت القوات الفارسية السليمانية (مركز رئيسي في كردستان) عام 1840 مدعيا كل منهما بان المنطقة المحتلة تخضع لسلطانه. وعليه، فان معاهدة السلام لعام 1823 قد انتهكت، وان الاحترام المتبادل لخط حدودي واضح كان ما يزال بحاجة اليه. ان هذه الحاجة لم يشعر بها كلا الطرفين فحسب، وانما كلا من بريطانيا وروسيا ايضا. لقد اصبحت هاتان القوتان الكبيرتان تهتمان بعمق في الشؤون العثمانية – الفارسية وان حفظ السلام في المنطقة اصبح ضروريا فيما لو ان القوتين الكبيرتين تحاشتا الحروب الناشئة عن نزاعات اقليمية. وقدمت المساعي الحميدة وقبلت، وان ممثلي الدول الاربع اجتمعوا في ارضروم لتوقيع معاهدة ثانية تحمل نفس الاسم في سنة 1847.
 اكدت معاهدة ارضروم الثانية بشكل خاص على مشاكل الحدود التي يمكن تلخيص بنودها كالآتي:
1. تتنازل فارس عن الاراضي المنخفضة الواقعة غرب اقليم زهاب وتتنازل الامبراطورية العثمانية عن الجزء الشرقي (الجبلي) لذلك الاقليم (بضمنه وادي كرند).
2. تتخلى فارس عن مطالبها بمدينة ومقاطعة السليمانية وتتعهد بعدم التدخل في الشؤون الكردية لتلك المنطقة.
3. اعترفت الامبراطورية العثمانية بالسيادة الفارسية على مدينة وميناء المحمرة وجزيرة خضر والمرسي والاراضي الواقعة في الضفة الشرقية لشط العرب التي تقطنها قبائل يعتقد بانها من رعايا الدولة الفارسية.
4. يحق للسفن الفارسية بالملاحة الحرة في شط العرب ابتداءا من رأس الخليج الى نقطة تماس حدود البلدين.
5. وافقت الحكومتان العثمانية والفارسية على تعيين قومسيون تحديد الحدود ومهندسين كممثلين لغرض تأشير الحدود المتفق عليها بموجب المعاهدة. فضلا عن ذلك، تم تعيين هيئة قومسيون حدود للحكم على كافة الاضرار الناجمة عن تسوية الحدود المعروضة من قبل احد الطرفين.
6. منح الزوار الفرس حق زيارة الاماكن المقدسة في المناطق الخاضعة للحكم العثماني كما من قبل.
7. وافق الطرفان على وضع حد لاعمال السلب والاعتداءات التي ترتكبها العشائر القاطنة على جانبي الحدود.
8. يرابط قناصل في المراكز التي تعتبر ضرورية لتقديم خدمات لرعايا طرف واحد في المنطقة التابعة الى الاخر على اساس متساو.
لو اخذنا معاهدة ارضروم الاولى والثانية بنظر الاعتبار، فيمكن القول بانها امنت اطارا للتسوية السلمية ربما اكثر دلالة من أي اطار تسوية شاركت فيه الامبراطورية العثمانية والفارسية من قبل. ان المبادئ الاساسية الثلاثة للسلام والسيادة الاقليمية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية قد تمت المصادقة عليها اخيرا في سبيل تطبيع العلاقات بين البلدين المسلمين.
وكدليل على حسن النوايا، وافقت الدولتان المسلمتان على اقامة دعامات حدودية ثابتة وتبادل البعثات الدبلوماسية ومنح مواطنيهم حق ممارسة الاعمال التجارية وزيارة العتبات المقدسة والنشاطات الاخرى في مناطقهم الخاصة دون عراقيل. تم تعيين قومسارية مختلطة ضم ممثلين بريطانيين وروس لتأشير الحدود. ان الخلافات الناجمة عن ممارسة حقوق متبادلة او القيام باي واجبات محددة وفق المعاهدة يمكن حلها عن طريق المفاوضات او أي وسيلة سلمية وفقا لشروط المعاهدتين.
ومع ذلك، ان تنفيذ المعاهدات سبب حوادث لا تعد ولا تحصى تقريبا وان الخلافات حول تفسير البنود ذات العلاقة بالحدود ارجأ تعيين الحدود الفاصلة بين البلدين لمدة تزيد عن نصف قرن. وفي الحقيقة، في الوقت الذي اصبحت الامبراطورية العثمانية منهمكة في الحرب العالمية الاولى وبالتالي مقطوعة الاوصال، لم تكن لجنة تعيين الحدود قد انجزت عملها وان جزءا صغيرا نسبيا في المنطقة الجنوبية كان يقتضي انجازه. وعندما نشأ العراق على انقاض الدولة العثمانية، ورث ليس المشاكل الناجمة عن عدم اكمال اعمال لجنة تحديد الحدود فحسب، انما تركة الخلافات التاريخية بين فارس والامبراطورية العثمانية. ان بعض المشاكل، لاسيما المتعلقة بالحدود، نشأت عن خلافات في تفسير عدد من شروط معاهدة ارضروم الثانية. اما الاخرى، فقد نتجت عن الظروف الجديدة المنبثقة بعد الحرب العالمية الاولى، عندما بدأ كل من العراق وفارس باعادة النظر في علاقاتهما كدولتين حديثتين وفقا لمعايير تختلف تماما عن تلك المتبعة في العهد العثماني – الفارسي.
ان الخلافات التي حصلت نتيجة التفسيرات المتضاربة للمعاهدة يمكن ايجازها على الوجه التالي:
1. ان بعض الشروط التي بدت غامضة جدا قد اعطت فرصة لاحد الاطراف بتزويد تفسير يخالف الطرف الاخر.
2. بما ان لجنة تحديد معالم الحدود لم تكن قد منحت صلاحيات للقرار على قضايا قد نشأت عن تعيين الحدود فأن الخلافات لابد من عرضها على السلطات العليا التي ابطأت سير العمل لحد كبير في تلك المنطقة.
ورغم الاتفاق لحل المسائل في بروتوكولين تم التوقيع على الاول في طهران في سنة 1911 والاخر في استانبول في سنة 1913 (الاول ينص على احالة الخلافات الى مجلس تحكيمي في لاهاي والاخر حل المسائل بشكل ملحق لمعاهدة ارضروم) فان عمل لجنة تعيين الحدود لم يكن كاملا عندما اندلعت الحرب العالمية الاولى عام 1914 .(11)
 عندما استؤنفت المفاوضات في اعقاب الحرب، طالبت فارس باعادة النظر من جديد في مسألة الحدود الكاملة، وليس فقط حوادث الحدود والانتهاكات على اساس ان صحة معاهدة ارضروم والبروتوكولات هي موضع شك. ان رفض فارس لتسوية الحوادث والانتهاكات ضمن اطار معاهدات ارضروم وبروتوكولاتها قد شجع العراق على احالة القضية الى عصبة الامم في عام 1934.
 استندت شكاوى العراق ضد فارس بالدرجة الرئيسية على رفض فارس للاعتراف بالحدود القائمة على اتفاقيات وافقت عليها مؤخرا في مفاوضاتها مع الامبراطورية العثمانية. مع ذلك، هناك قضايا خاصة اخرى، مثل تدخل فارس بالملاحة في شط العرب التي تخضع لصلاحيات مديرية موانئ البصرة وانشائها مراكز شرطة على الاراضي العراقية ومطالبتها بملكية سره كشك (شريط ارضي في الحدود الوسطية) وانشائها السدود على نهر كنجام الذي حول مجرى المياه الضرورية للري في العراق. ان هذه القضية وقضايا اخرى عرضت للمناقشة في جلسة لاحقة لمجلس عصبة الامم(12).
 لدى عرض القضية امام مجلس العصبة، واكد وزير الخارجية العراقي الفريق نوري السعيد على حقوق بلاده في العدل التي لا تقل اهمية عن ترتيبات المعاهدة. وقال: من ناحية المسألة العامة للعدل، تشعر الحكومة العراقية ان العراق وليس فارس الذي لديه اسباب الشكوى. تحتفظ فارس بخط ساحلي طوله حوالي 2000 كيلومتر ذي موانئ ومراسي عديدة. في خورموسى الذي لا يبعد سوى 50 كيلومترا من شط العرب ويقع في شرقه، تمتلك فارس ميناءاً عميقا يتوغل بعيدا في الاراضي الفارسية حيث شيدت مؤخرا نهاية خط سكة حديد عبر فارس. ان العراق في الاساس هو بلاد النهرين: الفرات ودجلة. اما شط العرب المتكون نتيجة التقاء النهرين فيؤلف المنفذ العراقي الوحيد الى البحر. لهذا، فهو بحاجة الى رعاية مستمرة لكي يكون صالحا لملاحة السفن الحديثة وان البصرة التي تبعد مسافة 50 كيلومترا عن المصب هي ميناء العراق الوحيد. من وجهة نظر العراق،ليس من المرغوب بان تتحكم قوة اخرى بهذا الممر من ضفة واحدة. ان العراق لا يطالب بتغيير الحدود، الا انني اعرض هذه الملاحظات لبيان ان هذا ليس بسبب كون الخط الموجود بشكل غير ملائم(13).
 كان الفريق نوري السعيد يقف على ارضية صلبة عندما ناقش مطالبة العراق بالسيادة الكاملة على شط العرب لانه استند على معاهدة ارضروم الثانية والبروتوكولات لعام 1911 وعام 1913. نصت الاتفاقيات الاخيرة على تشكيل لجنة رباعية لتخطيط الحدود بشكل تفصيلي وان اللجنة قد توجهت الى المنطقة لتحديد معالم الحدود وتأشير الخط الفاصل في الحال. ومضى الفريق نوري السعيد يشرح (( ان اللجنة انجزت جميع اعمالها، ماعدا قاطع صغير يقع شمال جبل دلامبار وعليه فهو خارج المنطقة التي تخصنا…. ان هذه هي الحدود الواضحة والمدروسة بعناية التي تأمل حكومتي بان ترها محترمة كحدود بين البلدين ))(14).
 اما بالنسبة لطلب ايران من خط الثالوك ينبغي ان يكون القاعدة الوحيدة التي ستطبق على الانهار الدولية، فقد عبر الفريق نوري بصراحة من ان هذه هي ليست قاعدة تامة اطلاقا. كان بأمكانه ان يضيف ان شط العرب في ذلك الحين لم يكن على وجه التحديد نهرا دوليا. واضاف الفريق نوري (( ان الحدود يمكن ان تكون احيانا ثابتة على الضفة عن طريق الاتفاق وعندما تكون المسألة على هذا النحو فان الاتفاق صحيح لا يقبل النقاش ))(15).
 بتاريخ 15 كانون الثاني 1935، اعلن وزير خارجية فارس باقر خان كاظمي اثناء عرض قضية بلاده رفض السيادة العراقية الكاملة على شط العرب على اساس ان معاهدة ارضروم لم تشر الى السيادة على شط العرب. كما ان بروتوكول  القسطنطينية ولو انه ليس بروتوكول طهران، لم تتم المصادقة عليه وان الممثل الفارسي الذي حضر الى القسطنطينية قد تجاوز صلاحياته في قبوله بروتوكول القسطنطينية عند توقيعه من قبل المسؤولين العثمانيين. لقد بعث كاظمي بمذكرة في 8 كانون الثاني عرض فيها وجهات نظر بلاده بالتفصيل. واوجز اسباب رفضه لبروتوكولات عام 1913 وعام 1914 على الوجه التالي:
1. يجب رفضها لانها استندت على معاهدة لا وجود لها في الوقت الذي اشارت اليها اتفاقية طهران لعام 1911.
2. لان في ابرام بروتوكول عام 1913، الذي يحيد عن شروط واحكام اتفاقية طهران لعام 1911 لحد كبير، اشترط التحكيم في حالة عدم الاتفاق.
3. لان بحجة معاهدة بين فارس والامبراطورية العثمانية رافقتها اتفاقية مباشرة حول شط العرب عقدت في لندن بين بريطانيا العظمى والباب العالي والنتيجة غير المتوقعة لتفاهم مشترك في العاصمة البريطانية الذي كان يفترض ان تتخلله محادثات بين الطرفين في القسطنطينية.
4. واخيرا، لان احد الطرفين، وهو الامبراطورية العثمانية التي اخفقت في الحال ومن نواح عديدة بتنفيذ بروتوكول لعام 1913 حول تثبيت الحدود (اخفاق، حتى لو كان جزئيا، تضمن الانهيار الكامل للبرتوكول بسبب طبيعته التي لا يمكن تجزئتها).
     يتضح من المباحثات العراقية – الفارسية بان موقف فارس يستند بالاساس على الدليل الاجرائي وليس الجوهري. فمثلا، رفضت فارس بروتوكول القسطنطينية لعام 1911 وسجل اللجنة لعام 1914، الا انها قبلت بصحة بروتوكول طهران لعام 1913 رغم الوثائق الاخرى قد جرى مناقشتها وتوقيعها وفق نفس السياق المتبع في طهران. فضلا عن ذلك، اثارت فارس المسألة الدستورية للتصديق وذلك لبيان ان معاهداتها مع الامبراطورية العثمانية لم تكن ملزمة عقب التوقيع عليها. وبحكم القانون الدولي، ان المعاهدة حالما يتم التوقيع عليها من قبل السلطات المخولة تصبح ملزمة، طالما ان الطرق الدستورية تختلف بين بلد واخر وان رؤساء الدول يفترض بان يكونوا على علم بتحديداتهم الدستورية عندما يوقعوا او يفوضوا الاخرين لتوقيع المعاهدات. ولا الزعم يكون مقبولا بشكل مطلق من ان الانهار الدولية يجب ان يعمل بها وفق قاعدة التالوك من قبل اكثرية المحكمين. لكن، يبدو، ان ايران قد افرطت في التأكيد على الاتفاق الاجرائي للاعلان بان التزاماتها التعاقدية لا يسري مفعولها لمدة طويلة بعد التوقيع عليها. ولهذا، مارست ضغطا على العراق لقبول طلباتها.
 ولما علم مجلس عصبة الامم ان هذه الحجج المتشعبة لا يمكن تسويتها بسهولة اقترح تعيين مقدم التقارير واجراء مفاوضات مباشرة لاحقة. عرض المفوض الايطالي   البارون الويزي خدماته عندما استؤنفت المفاوضات. ففي البداية، اقترح الويزي من ان تأميم شط العرب قد يكون الرد على السؤال. الا ان اقتراحه لم يلق تأييدا سواء من العراق او ايران (عام 1935). اقترح العراق احالة الخلاف على محكمة العدل الدولية وذلك للوقوف على رأيها الاستشاري، الا ان ايران رفضت ذلك. على اية حال، ان المفاوضات شطبت  من جدول اعمال العصبة في مطلع عام 1936 بأتفاق الطرفين. انتقل مركز المفاوضات من جنيف الى طهران واستمر الفريق نوري بأجراء مفاوضات مباشرة مع المسؤولين الفرس. وعندما وصلت المفاوضات الى نقطة الانهيار تقريبا، اعطى الشاه دفعا اكثر، عندما لمح للفريق نوري في حديث خاص ان بلاده لا تطمع من العراق اكثر من خط التالوك في شط العرب المقابل لعبدان. ان هذا يعني ان العراق سوف يحتفظ بحقه الكامل في السيادة على شط العرب، ما عدا بضع كيلومترات من منطقة عبدان وان نوري قبل بهذه التسوية لانها ستكون اساسا لمفاوضات لاحقة.
 ان تعقيدات الموقف الدولي، المتأتية بسبب طموح موسليني للسيطرة على شرقي البحر الابيض المتوسط واحتلاله للحبشة عام 1935، قد نبهت ليس العراق وايران فحسب، انما تركيا وافغانستان بالخطر العام المداهم للمنطقة البعيدة عن البحر الابيض المتوسط. لهذا، شرعوا في الحال بتشكيل حلف امني للشرق الاوسط. كانت تركيا اول من حس بخطر موسليني. وعليه، اقترحت بان على العراق وايران الاسراع بتسوية خلافاتهم وذلك لكي يناقشوا مشكلتهم الرئيسية (امن المنطقة) بعث الرئيس التركي برسالة شخصية ودية الى حكام العراق وايران وعبر عن امله في الوصول الى اتفاق مقبول. في هذه الظروف، كان العراق وايران على استعداد بان يكونا اكثر مرونة بالتسوية التي تمخضت عن توقيع ميثاق سعد آباد يوم 8 تموز 1937 (اتفاقية امن مشتركة بين اربعة اقطار في الشرق الاوسط هما: تركيا، العراق، ايران وافغانستان). كان هذا الميثاق الباعث الذي شجع كلا من العراق وايران على التفاوض لابرام معاهدة جديدة تنظم الملاحة في شط العرب(17).
 وبينما كان مندوبوا الدول الاربع مجتمعين لتوقيع ميثاق سعد آباد في طهران، كان المندوبان الرئيسيان للعراق وايران قد اجتمعا على انفراد لتوقيع معاهدة الحدود (4 تموز 1937) التي كان يتوقع بأن تحل النزاع القائم منذ امد بعيد بين البلدين. ان المعاهدة اكدت صحة بروتوكول القسطنطينية لسنة 1913 وتقرير لجنة تعيين الحدود لسنة 1914 كأساس الى الحدود المعدلة بين العراق وايران (المادة 1). كما نصت على ان الحدود بين البلدين ستكون على امتداد شط العرب من جانبه الايسر، ما عدا الجزء البالغ طوله ثمانية كيلومترات مقابل عبادان حيث ستكون الحدود خط التالوك لشط العرب (المادة 2). وافق البلدان على تشكيل لجنة لوضع (علامات الحدود) المحددة من قبل لجنة تخطيط الحدود كدليل لخط الحدود بين البلدين (المادة 3). كما تم الاتفاق ايضا على ان البلدين سوف يوقعا اتفاقية لبحث جميع القضايا المتعلقة بالملاحة في شط العرب، مثل اعمال الحفر وارشاد السفن واستيفاء الديون والقضايا الاخرى المتعلقة بتحسين ممر الملاحة (المادة 5).
 في بروتوكول ملحق بالمعاهدة، وافق العراق وايران على التفويض الممنوح من قبل طرف الى اخر على الوجه التالي:
 ان الترخيص الذي يمنحه احد الفريقين الساميين لاحدى السفن الحربية او السفن الاخرى غير المستخدمة لاغراض تجارية والعائدة الى دولة ثالثة وتدخل موانئ تعود الى الطرف السامي المتعاقد والواقعة على شط العرب تعتبر وكأنها اعطيت ترخيصا من قبل الطرف… الاخر وذلك لكي تتمكن مثل هذه السفينة من استخدام المياه العائدة له عند مرورها في شط العرب وان الطرف الذي منح هذا الترخيص يجب ان يبلغ الطرف الاخر حالا.
 وجاء في البروتوكول ” ليس في هذه المعاهدة ما يلحق الضرر بحقوق العراق والتزاماته التي قطعها للحكومة البريطانية بخصوص شط العرب حسب المادة (4) من المعاهدة المؤرخة في 30 حزيران 1930 (18).
 ان معاهدة 1937، التي كان من المؤمل ان تحل المسألة المعلقة منذ امد بعيد وازالة العقبات التي اعاقت البلدان عن التعاون من اجل قضاياها المشتركة، قد عانت من بعض القضايا غير الواضحة التي جعلت تطبيقها عسيرا للغاية. فضلا عن ذلك، ان الظروف سواء المحلية والعالمية التي نشأت فيها المعاهدات بدأت بالتغيير واثرت بشكل سلبي على موقف كل بلد من الاخر. وحتى قبل توقيع المعاهدة، ان الوزارة العراقية، التي كان الفريق نوري وزيرا للخارجية والذي كان فعالا في مفاوضات المعاهدة، قد اطاحها الانقلاب العسكري. ان التغييرات الوزارية بين حين واخر منحت ايران فرصة لتقديم مطاليب جديدة عندما ناقشت سبل التطبيق. وفوق ذلك، ان الظروف المنبثقة عن الحرب العالمية الثانية وسنوات ما بعد الحرب اثبتت عدم ملائمتها للتطبيق وان انتهاكات متكررة الحدوث للمعاهدة من قبل طرف واخر جرت البلدين تقريبا الى حافة الحرب.

 

الهوامش

1. فيما يخص نص قانون الجنسية العراقية لسنة 1924، راجع تقرير وزارة المستعمرات البريطانية حول الادارة في العراق لسنة 1925 (لندن 1925) الصفحات 162-165 (اشير اليه فيما بعد بالتقرير العراقي).
2. ان عشائر بشدر في السليمانية، القاطنة على حدود المنطقة الوسطى، هي جماعة ثانية سبب اجتيازها للحدود سوء فهم في منتصف عام 1920 (راجع تقرير العراق لسنة 1926 الصفحة 26 وتقرير العراق لسنة 1927 الصفحة 62).
3. راجع تقرير حكومة صاحب الجلالة الخاص الموجه لمجلس عصبة الامم حول تقدم العراق 1920 – 1931 (لندن غير مؤرخ) الصفحات 169 – 78.
4. راجع تقرير الحكومة البريطانية ادارة العراق لسنة 1932 (لندن غير مؤرخ) صفحة 14 – 15.
5. للاطلاع على خلاصة الحوادث وانتهاكات الحدود، راجع كتاب جابر ابراهيم الراوي “الحدود الدولية ومشاكل الحدود العراقية – الايرانية (بغداد 1975) الصفحات 366 – 377.
6. بخصوص نص الرسالة، راجع النشرة الرسمية لعصبة الامم شباط 1935، الصفحات 196 – 197.
7. راجع كتاب مجيد خدوري ” القانون الاسلامي للامم “.
8. المصدر نفسه، الصفحات 17- 18، 142 – 157. 
فيما يخص معاهدة زهاب، راجع كتاب جي. سي. هيرتز ” الشرق الاوسط وشمال افريقيا في السياسة الدولية ” سجل وثائقي (نيوهيفن 1975) الجزء الاول، الصفحات 25 – 28.
9. حضر مؤتمر النجف كل من علماء السنة والشيعة، الا ان علماء السنة في الاقطار الاسلامية الاخرى كانت لديهم تحفظات من نادر شاه. للمزيد من المعلومات عن مؤتمر النجف، راجع كتاب علي الوردي لمحات اجتماعية، بغداد 1969 الجزء الاول صفحة 131.
10. للاطلاع على نص معاهدة ارضروم الاولى، راجع كتاب ئي. هيزرليت ” المعاهدات بين بريطانيا العظمى وايران (لندن 1981) الصفحات 163 – 168.    هيروتز ” الشرق الاوسط وافريقيا الشمالية في السياسة الدولية ” الصفحات 219 – 221.
اما بالنسبة لنص معاهدة ارضروم الثانية، راجع النشرة الرسمية لعصبة الامم 1935 الصفحات 11 – 13.
الامم المتحدة ” سلسلة معاهدات ” تموز 1969 الصفحات 1 – 3.
11. لمناقشة معاهدة ارضروم والبروتوكول الملحق لها، راجع كتاب الراوي ” الحدود الدولية ” صفحة 266.
خالد العزي ” النزاع حول شط العرب ” لندن وبغداد 1981 الصفحات 25 – 36.
12. راجع النشرة الرسمية لعصبة الامم شباط 1935.
13. المصدر نفسه، الصفحات 113 – 14.
14. المصدر نفسه، الصفحة 116.
15. المصدر نفسه، الصفحة 118.
16. المصدر نفسه، الصفحات 118 – 119.
17. بخصوص تاريخ ميثاق سعد آباد، راجع كتاب ارنولد تونيبي ” نظرة عامة في الشؤون الدولية ” 1936، لندن 1937 الصفحات 801 – 3. كذلك عباس خلعبري ” ايران والاحلاف ” باريس 1938.
18. للاطلاع على نصوص معاهدة 1937 والبروتوكول الملحق بها، راجع سلسلة معاهدات عصبة الامم 190 التسلسلات 440 – 3 440(1938) الملحق 1.

 

الحركة الثورية في العراق ورد الفعل الايراني

 لقد سبق وان رأينا كيف ان العراق وايران قد سعيا، في ظل نظام حكمهما القديم، على حل قضاياهما المعلقة التي ورثوها عن الماضي بطرق سلمية وكذلك على تنمية علاقات حسن الجوار والصداقة. صحيح، ان معاهدة 1937 قد حسمت قضايا الحدود الرئيسية، الا انها تغاضت عن الكثير في تحديدها للتفاصيل، لاسيما المتعلقة بالاشراف على الملاحة في مياه شط العرب. مع ذلك، بدا ان تيار التوتر الطائفي قد خفت حدته. ان اتباع المذهب الشيعي في العراق، بضمنهم اولئك الذين هم من اصل فارسي، قد انسجموا مع النظام العراقي وان زعماءهم كانوا قادرين على الوصول الى المناصب السياسية العالية. وعندما اقتربت سنوات ما بين الحرب الى نهايتها، كان العراق وايران يتعاونان في تعزيز مصالحهما المشتركة والدفاع عن السلام والامن من خلال ميثاق سعد آباد والاتفاقيات الثنائية. وبدا ان البلدين يتجهان الى عهد جديد من العلاقات الودية.
 مع ذلك، ان ملامح السلام في انحاء العالم لم تكن تبشر بالخير. ففي 1 ايلول 1939، ما كاد يمضي عامان على تسوية الخلافات بين البلدين، حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية. ان منطقة الخليج، بضمنها العراق وايران، قد اجبرت على الدخول في الحرب. لقد عانى كلا البلدين من الاحتلال العسكري الذي دام من عام 1941 ولغاية 1946، عندما تم في النهاية سحب آخر قوة اجنبية. في اعقاب الحرب، اخذت الاوضاع في كلا البلدين بالتغيير الكامل وبدأ كل منهما بإتباع خط معين من التطور السياسي والاجتماعي الذي اثر بشكل سلبي على السياسة الخارجية التي اتبعوها قبل الحرب.
 تخلى الشاه رضا خان مؤسس السلالة البهلوية في ايران عن عرشه لولده الشاه محمد رضا في عام 1941. ولفترة عقد من الزمن تقريبا، حاول الابن تعزيز حكمه واتباع سياسة التحديث التي وضع اسسها والده. ولافتقاره الى سحر وخبرة والده، فلربما كان بامكانه تحقيق التحديث بطرق ديمقراطية، لان البرلمان قد بدأ الان بممارسة صلاحياته بعد تخلي والده عن العرش وربما امّن الشرعية والتأييد الشعبي لسياسته. الا ان طموحه لحكم البلاد وفق القاعدة الاستبدادية لوالده قد احبط مساعيه لتحقيق اصلاحات آنية ذات مغزى. ففي نطاق السياسة الخارجية على وجه التخصيص، كان والده قادرا على اثارة القوتين المتنافستين منذ القديم (الاتحاد السوقيتي وبريطانيا) وتأليب الواحدة ضد الاخرى للحفاظ على استقلال بلاده. مع ذلك، ان التأييد الامريكي الذي طلبه محمد رضا لتخطيطه الامبراطوري اسفر عن نفور تدريجي للشعب واضعاف حكمه. ان هدف صانعي السياسة الامريكية هو تشجيع الشاه ليواصل سياسة محلية بناءة وليس تبديل النفوذ البريطاني بالامريكي، الا ان الشاه استغل النفوذ الامريكي لتعزيز سلطته وحكمه الاستبدادي الذي استأمنه الشعب، وحتى سياسته، كما كشفتها الاحداث اللاحقة، لم تخدم المصالح المفضلة للغرب. فمن منظور اقليمي، نظرت الدول العربية الى السياسة الامبراطورية للشاه بعين الارتياب وعدم الاستحسان وان تأييده لحرب الاكراد في العراق وطرد العلماء الشيعة من بلاده اثار اهتمام كل من العراق واقطار الخليج العربي الاخرى.
 ففي العراق، كانت السياسات الداخلية والخارجية للنظام القديم مشابهة لسياسات ايران اثناء حكم الشاه السابق. لقد وضعت في الاساس لتشجيع الاصلاح الداخلي والتنمية وضمان استقلال البلاد وعلاقات حسن الجوار. ان هذه السياسات، التي يعتقد بانها مصاغة من قبل الملك فيصل الاول  وسار على نهجها الفريق نوري، اثبتت بانها كافية لاحتياجات العراق. مع ذلك، بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت الاوضاع بالتغيير وان عائدات النفط، المكرسة للاعمار، بدت تخدم اهتمامات متنوعة، طالما انها خصصت لمشاريع طويلة الامد ومشاريع قصيرة الامد التي ربما كانت تحسن الاوضاع العامة، الا انها اهملت للاسف. بالاضافة لذلك، ان السياسة الخارجية التي انتهجها الفريق نوري السعيد وعارضها الشعب الذي طالب بالحياد من الصراع بين الشرق والغرب كانت خاطئة لانها دفعت البلاد للتحالف مع الغرب. ولم يكن الجيل الجديد ومؤيديه قانعين بالسياسة الداخلية لنوري، طالما انهم محرومون من حق المشاركة في الشؤون العامة. وكما في ايران، نشأ بالتالي تحالف متزعزع بين الفئات الساخطة (بصرف النظر عن خلافاتهم) اطاح بالنظام القديم. وبخلاف الجيش الايراني (الذي بحكم التقاليد مخلص للنظام الملكي وينشد حماية النظام القديم حتى ضد الاحتجاجات العامة ولحين الاطاحة به من قبل الثورة الاسلامية عام  1979  ) فان الجيش العراقي (ولاسيما الضباط الاحداث) قد شارك تذمر الجيل الجديد ودخل في صراع مع الملكية. وبعد عدة محاولات، استطاع ضباط الجيش (الذين يطلقون على انفسهم الضباط الاحرار) التحرر من ولائهم للحكم القديم واستولوا على السلطة واطاحوا بالحكم في شهر تموز عام 1958. 
 من الطبيعي، كان موقف الشاه من ثورة تموز غير متجاوب. وفي البداية، لم يكن راغبا حتى بالاعتراف بالنظام العراقي الجديد لانه كان يأمل ان يسقط عن طريق تدخل اجنبي. مع ذلك، عندما اعترفت بلدان عديدة، بضمنها الدول الغربية، بالحكم الثوري الذي تولى رئاسته الزعيم (العميد) عبد الكريم قاسم، كان الشاه متردداً في التجاوب معهم واعترف بالعراق بعد اسبوعين، طالما انه تعهد باحترام المواثيق الدولية والتعاون ليس مع الدول العربية فحسب، انما مع الدول الاسلامية ايضا.
 مع ذلك، استمر الشاه في ارتيابه من القادة العسكريين العراقيين وان التوتر بين البلدين بقى عاليا. لقد اشيع بان الشاه وحاشيته الملكية قد اصيبوا بالذعر من جراء الطريقة التي تم فيها اغتيال افراد العائلة المالكة في العراق ووحشية القتل التي اتبعتها مجموعات الغوغاء الغاضبة بالهستيريا الجماهيرية. ولعل الاهم هو الاطاحة بحكم مدني من قبل ثورة عسكرية. لقد انذر ذلك الشاه وكذلك المسؤولون المدنيون في المنطقة بالخطر، طالما ان موجة الانقلابات العسكرية التي بدأت في مصر عام 1952 كانت تظهر دلائل من انتشارها الى الاقطار العربية الاخرى. كما انها مثال يقتدى به القادة الثوريون العسكريون او غيرهم في اقطار اخرى. ولم يكن التيار المذهبي في العالم العربي اقل تحذيراً للشاه. في الحقيقة، ان ايران قد تمرست مؤخراً بأخطار الدعاية المذهبية التي كانت تفسح المجال للتدخل السوفيتي، وان السلطة المركزية كانت تتخلص بصعوبة من انقلاب يقوده الحزب الشيوعي الايراني. صحيح، ان النظام الجديد في بغداد لم يكن بيد الشيوعيين، الا ان قاسم فسح المجال للحزب الشيوعي بالتسلل في دوائر حكومية عديدة والتأثير على سياسته. فضلاً عن ذلك، عقد عدة اتفاقيات اقتصادية وعسكرية مع الاتحاد السوفيتي التي شجعت الشيوعيين لنشر دعايتهم والتحريض على عمليات التمرد التي ربما قد تدعو الى التدخل السوفيتي. ان الشاه قد تحسس الخطر اخيرا نتيجة تصاعد النفوذ السوفيتي في سوريا ومصر اثناء حكم ناصر. لهذا، ان لديه من الاسباب ما تدعوه ان يكون قلقاً من سير الاحداث في العراق واحتمال انضمام العراق للاقطار العربية الاخرى في موجة معاداة الغرب التي بدأت تطوق وتعزل بلاده عن الغرب. والغريب، ان الشاه كان متردداً لحد كبير في التفاوض مع قاسم والوصول الى تفاهم مع نظامه.
 حتى قبل اندلاع ثورة تموز في بغداد، شعر الشاه بعمق من ان الولايات المتحدة لوحدها قادرة على تحدي المطامع السوفيتية في منطقة الخليج. مع هذا، ان الولايات المتحدة، ولو انها استجابت بشكل ايجابي تجاه نداءات التعاون مع الشاه، الا انها تحركت ببطء للقيام بدور الحليف. وبعد آن ابرم قاسم اتفاقية مع الاتحاد السوفيتي في عام 1959 واستلم معونة اقتصادية وعسكرية، وافقت الولايات المتحدة على الدخول في اتفاقيات شاملة والتعهد لايران بتقديم المساعدة عندما تتعرض لهجوم خارجي(1). لهذا، كما توقع ذلك الشاه، ان الولايات المتحدة كادت لا تقوم بدور حليف، لربما لسبب رئيسي انها لم تكن راغبة بتجاوز الموقف الذي اتخذه الاتحاد السوفيتي في اتفاقيته الثنائية مع العراق وتحريض قاسم للدخول في حلف رسمي مع الاتحاد السوفيتي(2). ومع ان توقعات الشاه لم تحقق كليا، فقد كان مستعداً للسير ببطء في اشغال الولايات المتحدة لتعزيز مركزه ضد النفوذ السوفيتي المتزايد في الاراضي العربية. ورغم تعهدات امريكا، اعتبر الشاه الحكم العسكري في بغداد، الذي جاء عن طريق الثورة، غير جدير بالثقة وحاول تشويه حكم قاسم وربما تبديله بحكومة اخرى اكثر ملائمة له. ولتحقيق هذا الهدف، بدأ الشاه بإثارة المشاكل والقضايا التي كانت قائمة بين العراق وايران منذ القديم.
 اولا، مازال النزاع الحدودي التاريخي قائما حول مياه شط العرب. ان الحدود بين البلدين، حسب معاهدة عام 1937، التي كانت الضفة الشرقية للنهر، قد جرى تعديلا طفيفا عليها بمنح ايران منطقة (حوالي 8 كيلو مترات تقريبا) مقابل عبادان يحددها خط التالوك. كما اتفق ايضا بتشكيل لجنة مشتركة لبحث مشاكل الملاحة في النهر على اساس الاتفاقية التي ستبرم بين العراق وايران. وسبب الخلاف حول طبيعة وواجبات اللجنة المشتركة، كان العراق متردداً في توقيع مثل هذه الاتفاقية وتولى مسؤولية الاشراف على الملاحة دون النظر الى شكاوى ايران. وفي ظل النظام القديم، جرت محاولات عديدة بدون جدوى لحل المسألة، ولم يتم التوصل الى اتفاق.
 في البداية، حاول الشاه معرفة موقف قاسم من قضية الملاحة. بعد فترة قصيرة من اعتراف ايران بحكم قاسم في خريف عام 1958، ناقش الوفد الايراني في الامم المتحدة الموضوع مع الوفد العراقي، ولم يتم التوصل الى تقدم كبير حول الموضوع. في الحقيقة، ان الموقف قد ازداد سوءاً، عندما قرر العراق الانسحاب من حلف بغداد عام 1959، وان السفن الايرانية في شط العرب قد جابهت عراقيل كثيرة. تبودلت المذكرات شديدة اللهجة حول الموضوع وان الشاه في احد مؤتمراته الصحفية (28 تشرين الثاني 1959) انتقد العراق لرفضه تسوية قضية الملاحة بالوسائل السلمية. اشتاط قاسم غضيا من نقد الشاه واستنكر طلبات الشاه واكد من جديد سيادة العراق على كامل شط العرب دون مراعاة نص معاهدة عام 1937 بشأن ثمانية كيلومترات لخط التالوك مقابل عبادان. ورغم تبادل التصريحات شديدة اللهجة، لم يتخذ أي من البلدين اجراءات معادية ضد الاخر، ولو ان التوتر قد اثر بشكل سلبي على العلاقات التجارية بينهما وتوقف زيارات الايرانيين الى الاماكن المقدسة الشيعية في العراق.
 ثانيا، في عام 1961ـ اصبح قاسم متورطا في مشكلة اخرى التي توجس بانها جاءت بتحريض من قبل ايران (الحرب الكردية). ان الاكراد في العراق، مع انهم اقل عدداً من اكراد ايران، كانوا دائما اكثر مجاهرة في التعبير عن تطلعاتهم القومية وتمردوا لعدة مرات ضد السلطة المركزية. واصبح حل المشكلة الكردية مستعصيا بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب التحريض السوفيتي، ولو ان السبب الرئيسي هو ان القومية العربية (ستبحث هذه المشكلة بالتفصيل فيما بعد). واثناء حكم قاسم، قدم الاكراد طلبا رسميا بالحكم الذاتي. ومع ان قاسم اعطى عدة وعود غامضة في البداية، الا انه لم يف بتحقيقها وفشل في استيعاب مفهوم القومية الكردية.
 ان الاكراد، الموزعين في اربع دول مجاورة (تركيا، ايران، العراق وسوريا) لا ينشدون في الحقيقة الاستقلال. لقد طمحوا بنوع من الاستقلال الذاتي ضمن العراق الذي قد يتيح لهم فرصة ادارة شؤونهم الداخلية الخاصة. وباعتبار الملا مصطفى احد زعماء العشائر المتيقظين، فقد تزعم قضية الاستقلال الذاتي وبرز كأكبر واقوى قائد في سنوات ما بعد الحرب. ترك العراق للمشاركة في تأسيس الجمهورية الكردية في مهاباد عام 1945 وقد منح رتبة عسكرية تعادل جنرال.
 وبعد انهيار جمهورية مهاباد، توجه عدد قليل من اتباعه الى الاتحاد السوفيتي في عام 1947 حيث يبدو انه تلقى تدريباً عسكريا طالما لم يكن بمقدوره العودة الى العراق.
 وبعد الاطاحة بالنظام القديم في عام 1958، فان الملا مصطفى البارزاني الذي تعززت شهرته الوطنية، عاد الى بغداد. وقام بعدة زيارات الى قاسم ويبدو ان اتفاقا حول التعاون بين العرب والاكراد تم التوصل اليه. سعى قاسم لكسب تأييد الاكراد في سبيل تقوية حكمه، الا انه لم يف بوعوده. توقع الجيل الكردي الناشئ ان ينعم بحرية اكبر في ظل النظام الجديد. وعندما لم يبد قاسم أي اهتمام الى طموحاتهم، فقد تحتم عليهم السير وراء قيادة الملا مصطفى، حتى ولو انه تمسك بالزعامة العشائرية التقليدية. ولما اصبح قاسم على علم بطموح الملا مصطفى، بدأ بتقييد نشاطاته عندما شرع الملا بالتجول في المناطق الكردية في اوائل عام 1959 لكسب التأييد لحركته. ان التصدع بين قاسم والملا مصطفى ازداد عمقاً تدريجيا وقاد في عام 1961 الى الحرب التي دامت اكثر من عامين.
 لابد وان كان لدى الشاه مشاعر مختلطة حول الحرب الكردية في العراق. حتى ولو ان الشاه لم يكن مستعد لمنح الاكراد تأييده، فان الحرب قد تضعف مركز قاسم وربما تقود الى تقويض نظامه. الا ان النفي الذي اختاره الملا مصطفى في الاتحاد السوفيتي والدعم الذي تلقاه من الفئات الشيوعية والتقدمية اثر عودته الى بغداد اعطت انطباعاً من ان الحركة الكردية في العراق هي حليفة الشيوعية. فضلا عن ذلك، يبدو ان زيارة الملا مصطفى لموسكو في عام 1960 بدعوة من الاتحاد السوفيتي لحضور احتفال ثورة اكتوبر (عاد الى العراق في شهر اذار 1961) قد اثارت مخاوف الشاه وولدت لديه انطباع من ان الحرب الكردية قد جرت بتحريض من الاتحاد السوفيتي. في مثل هذه الظروف، لم يكن مستعدا لتقديم العون الى الملا مصطفى، ولو ان الاكراد الايرانيين الذي يتعاطفون مع اخوانهم في العراق قدموا اسنادا غير مباشر ان فشل الملا مصطفى في تلقي الاسناد المباشر من الشاه شجعه على التوصل الى تفاهم مع عبد السلام عارف الذي خلف قاسم في عام 1963. لقد ادرك الملا عدم جدوى اطالة الحرب دون اسناد خارجي كبير. وعندما استأنف الملا مصطفى القتال لتحقيق طموحه الذي يعتز به في حكم ذاتي كردي تحت حكم البعث، لم يتوان الشاه لحظة واحدة عن تقديم الدعم. سوف نتطرق الى هذا الموضوع فيما بعد(3).
 ثالثاً، كان مصدر القلق الاخر بالنسبة لنظام قاسم هو الزعامة الدينية. ومع ان رجال الدين في العراق مسندون من قبل المتعاطفين الايرانين فان الشاه، ماعدا معارضتهم لقاسم، لم يكن متجاوبا قلبيا معهم. ان هذه العناصر (كلا الطائفتين الشيعية والسنية) تم تنظيمها رسمياً عندما منح قاسم ترخيصا باجازة الاحزاب السياسية بعد فترة قصيرة من اقامة حكمه. وكشأن الاكراد، كان الشاه مترددا في التعامل مع الجماعات التي كان يقف ضدها في بلاده، طالما انها تشكل تهديداً لنظامه. ولكن، عندما طرد قاسم اتباع الشيعة من اصل فارسي كرد انتقامي على الادعاءات الايرانية بالتالوك كخط حدودي في شط العرب، لم تستطع الحكومة الايرانية السكوت عن هذا العمل. وماعدا عمليات الشجب في البرلمان الايراني وتبادل الانتقادات البليغة من قبل صحف كلا البلدين، لم تتخذ اية خطوة جديدة تجاه العراق من قبل الحكومة الايرانية.
 مع ذلك، ان المجتهدين لم يكونوا متوانين عن العمل. لقد دعوا اتباع الشيعة في العراق لانتقاد حكم قاسم ونظموا مظاهرات للاحتجاج ضد تصرفاته. واصبح محسن الحكيم باعتباره ابرز زعيم ديني شيعي في النجف نشطا جدا في السياسة العراقية. وعندما قدمت مجموعتان دينيتان طلبا الى السلطات للسماح لهما في العمل كأحزاب مجازة. رشح الحكيم كمشرف لاحدهما. من البديهي، ان هذه الجماعة هي حزب مناوئ للشيوعية، طالما انها اعلنت في منهاجها ان هدفها هو محاربة الالحاد والعلمانية. ولما كان وزير الخارجية يشك في اخلاص قادته، فقد رفض منحهم اجازة العمل. ولدى الاستئناف، كان قرار المحكمة في صالح المؤسسين وان الحزب الاسلامي مارس نشاطه في عام 1960.
 لم يشن الحكيم واتباعه هجوما قاسيا ضد النظام وان انتقادهم كان في البداية معتدلاً. اما فيما بعد، عندما اصبح انتقادهم للشيوعية اكثر علنا على افتراض ان قاسم متعاطف مع الشيوعيين، فقد تحول ضد نظامه. ففي 2 شباط 1960، اصدر الحكيم فتوى (رأي شرعي) في رد على استفسار عرض عليه حول فيما لو ان الشريعة الاسلامية تجيز الانضمام الى الحزب الشيوعي الذي تعاليمه تشدد على ((الالحاد والكفر)). ان نص الفتوى، المنشور في الصحف، قد لاقى ترحيبا من قبل اوساط كثيرة، سواء سنية او شيعية، واعتبر مضمونه معاديا الى النظام. بعد ذلك، اعلن الحكيم عن رأيه بصراحة عندما اصدر الحزب الاسلامي بيانا في 5 تموز 1960 حذر فيه الشعب من النشاطات الشيوعية ودعاياتها الخبيثة. وبعد ثلاثة شهور، في 15 تشرين الاول 1960، قدم الحزب الاسلامي عريضة الى قاسم حيث وجهت انتقادات قاسية الى الحكومة لاهمالها التعاليم الدينية وترويجها للتعاليم الملحدة والشيوعية. وطالبت العريضة بشكل خاص بنبذ الشيوعية وحجب جميع المنشورات والصحف التي تدعو للمبادئ الشيوعية واطلاق سراح زعماء الدين الذين القي القبض عليهم او زجوا في السجن خلال العامين المنصرمين. ونتيجة للنقد المتزايد، تم سحب اجازة الحزب الاسلامي عام 1961 والقي القبض على زعمائه بحجة اثارة الاضطرابات والدعاية المضادة للنظام. ان المعارضة الدينية للنشاطات الشيوعية ساهمت لحد غير قليل في اضعاف حكم قاسم واستجابت لحد كبير لرغبات الشاه. مع ذلك، كان اسناد الشاه للحكيم غير مباشر لان زعماء الدين الشيعة حذروا من ان الشاه يعارض المجتهدين في ايران. اصبح محمد باقر الحكيم، سليل اسرة الحكيم، مؤيداً (لآية الله) الخميني (الزعيم الروحي المرتقب للثورة الايرانية) عندما وصل الى النجف في عام 1965. سوف نعود الى نشاطات الحكيم الاصغر.
 منذ سقوط قاسم عام 1963 ولحد تسلم حزب البعث السلطة عام 1968، فان حدة العلاقات المتوترة بين العراق وايران خفت لحد كبير، لسبب رئيسي هو ان الانظمة التي اعقبت قاسم (حكم عبد السلام اولا ومن ثم اخيه عبد الرحمن) بدت للشاه معادية للشيوعية. يبدو ان أي قضية كبيرة لم تثر من قبل ” الاخوين عارف ” وان المشكلتين الناشئتين عن انشاء العراق لخط انابيب النفط ومسألة السيادة في المياه القريبة من ضفاف الخليج قد نوقشت عن طريق المفاوضات.
 في نيسان 1963، قررت الحكومة العراقية انشاء خط انابيب للنفط (سعة 12 عقدة) من خانقين (قرب الحدود العراقية – الايرانية) الى بغداد. يبدو، ان احتياطي النفط في كل من خانقين (على الجانب العراقي) ونفط شاه وخانة (على الجانب الايراني) يحتفظان بنفس المصدر في باطن الارض. ناقشت الحكومة الايرانية ان الاجراء العراقي سوف يزيد من استثمار احتياطي النفط المشترك على حساب ايران. كانت المرة الاولى منذ سقوط الملكية في العراق ان يتفق البلدان لحل قضاياهما المعلقة بطرق سلمية. في شهر تموز 1963، قام وزير النفط العراقي عبد العزيز الوتاري بزيارة الى طهران وقد تم التوصل الى اتفاق حول حجم النفط الممكن انتاجه سنويا من قبل كل قطر وطريقة الاشراف (يحق لكل دولة تفتيش اعمال الاخرى).
 بخصوص المياه البعيدة عن الخليج، التي ادعى العراق ان ايران قد تجاوزت على حقوقه الاقليمية فيها، تم الاتفاق على حل المسألة بموجب قاعدة ” الاستثمار المشترك ” ، الا ان كيفية تنفيذ ذلك قد ارجأت مناقشته الى جلسة لاحقة. على اية حال، عندما قام وزير الخارجية العراقي صبحي عبد الحميد بزيارة طهران في شهر شباط 1964، لم يتحقق أي تقديم ملموس وان الموضوع قد ترك لمباحثات اخرى. ويبدو، ان الطرفين قد تحاشيا الاستمرار بالمفاوضات التي ربما قد تعكر حالة الاستقرار بينهما. وبأظهار ميل معاداة الشيوعية والموقف الودي تجاه الغرب، لم يعد العراق على ما يبدو خلال حكم ” الاخوين عارف ” معاديا للغرب. ويبدو انه تخلى مؤقتا عن الخلافات التي اثارها مع جيرانه حول قضايا صغيرة، الا ان ذلك الموقف لم يستمر طويلاً.
 كان مجيئ حزب البعث للسلطة، الذي نادى بخليط من الافكار الداعية للوحدة العربية والاشتراكية، حدثا غير مرغوب فيه بالنسبة للشاه. تولى حزب البعث السلطة نتيجة انقلاب عسكري ونادى بسياسة عدم الانحياز واعتبر الشاه الاتحاد السوفيتي المستفيد الوحيد منها. لهذا، فان الشاه اعتبر الحكم الجديد في بغداد، ليس معاديا لايران فحسب وانما للغرب باجمعه.
 في البداية، تأمل الشاه ان حكم البعث، الذي لا يختلف عن حكم قاسم، سوف لا يدوم طويلا وربما يحل مكانه قريباً حزب اخر اكثر اعتدالا وملائمة له. وخلال اول عامين من حكم البعث، لاحظ بان قادة البعث منهمكون في الصراع على السلطة مع خصومهم وان الحكم بدأ غير مستقر وربما يستبدل في أي لحظة بحزب اخر اكثر اعتدالا. وذهب بعيد لحد انه قام بمساندة ضابطين متقاعدين هما اللواء عبد الغني الراوي والعقيد صالح مهدي السامرائي (الاول مؤيد سابق لحكم الاخوين عارف والاخرين رجال العهد البائد اللذان فشلا في محاولتهما لتبديل نظام الحكم عن طريق انقلاب عسكري يوم 20 كانون الثاني 1970). ان اتصالاتهم السرية مع ايران قد كشفتها الشرطة العراقية التي قادت بالتالي الى القاء القبض على المتآمرين وهم متلبسون بجريمتهم حيث تم تقديمهم للمحاكمة. نفذ حكم الاعدام بحق القادة الرئيسيين مثل السامرائي واخرين، الا ان اللواء عبد الغني استطاع الهرب والبقاء خارج البلاد حيث صدر بحقه حكم غيابي.
 وبالنظر لوجود شك في ضلوع ايران بالانقلاب الفاشل، اصدرت حكومة البعث في 22 كانون الثاني 1970 امرا الى السفير الايراني عزة الله اميلي واربعة من موظفيه بمغادرة البلاد خلال اربع وعشرين ساعة(4). كما جرى في نفس الوقت طرد موظفي القنصليات الايرانية في كل من بغداد والبصرة وكربلاء. وكمقابلة بالمثل، قامت ايران بعد ساعات بطرد السفير العراقي في طهران والملحق العسكري واربعة من موظفيه. تصاعدت حدة التوتر بين البلدين لحد توقع نشوب الحرب في أي لحظة عندما حركت ايران قواتها الى الحدود العراقية. ان هذا العمل حث العراق على الالتجاء الى الامم المتحدة في 2 شباط لغرض اتخاذ الاجراءات والحيلولة دون تردي الموقف وتحوله الى حرب حقيقية. ربما ان العراق لم تكن لديه نيّة الدخول في حرب مع ايران، فقد قام وزير الداخلية العراقي صالح مهدي عماش بزيارة انقرة في 3 شباط ملتمسا المساعي الحسنة لتركيا في منع الازمة من ان تتطور الى نزاع مسلح. وبعد الاطلاع على المحادثات التي جرت بين الوزير العراقي والحكومة التركية، اجابت ايران: لو شن العراق هجوما فأن القطعات الايرانية سوف تقاتل من اجل الدفاع عن بلادها، واقترحت بان يسحب كلا البلدين قواتهما من الحدود. ان الحرب قد امكن تحاشيها، الا ان التوتر والشك بين النظامين بقيا مستمرين.
 حتى قبل محاولة الشاه للتخلص من نظام البعث عن طريق الانقلاب، فقد اثار مسألة الملاحة في شط العرب بعد فترة قصيرة من تولي حزب البعث مقاليد السلطة عام 1968. ان الملاحة في النهر هي مسألة قائمة منذ امد بعيد اثارها الشاه في اكثر من مناسبة، لاسيما اثناء اصطدامه مع حكم قاسم، الا ان المسألة بقيت دون حل. ولما كان الشاه معارضا بشكل خاص لسياسة البعث القومية التي تؤكد على الوحدة العربية وتعتبر شط العرب الحدود الشرقية للوطن العربي، فان النزاع على الملاحة، من الوجهتين القانونية والسياسية، قد تجددت ثانية. على اية حال، ان حكم البعث قد صمم على حماية السيادة الاقليمية للعراق بموجب معاهدة عام 1937 ولم يكن مستعدا للاستسلام الى الطلبات الايرانية. وبما ان الشاه فشل في الضغوط على العراق عن طريق المناورات السياسية، فقد سعى الى الوسائل الدبلوماسية والقانونية لتحقيق هدفه.
 لاشك، ان الانهار الدولية اثارت دوما مشاكل ادارية وفنية، مثل التغييرات في مجرى النهر والاختلافات في القناة العميقة بالنسبة للدول الواقعة على الضفاف. الا ان ايران لا تشارك الا بجزء فقط من شط العرب ولا يمكن اعتباره، على وجه التدقيق، نهراً دوليا(5). لقد اصبحت الملاحة في شط العرب سببا للنزاع، لان ايران ادعت ان معاهدة عام 1937 تركت القضية لكي تبحث من قبل البلدين في مؤتمر لاحق الذي سيتم فيه تشكيل لجنة مشتركة التي واجباتها واختصاصاتها لم تحدد، رغم ان المعاهدة لم تتطرق الى لجنة مشتركة للاشراف على الملاحة (المادة 5). وعقب الحرب العالمية الثانية وانسحاب القوات البريطانية من العراق، بدأ الشاه يعرض طلباته التي تجاوزت نصوص معاهدة عام 1937. لقد ناقشنا سابقا مناورات الشاه في اثارة القضية على اسس قانونية ودبلوماسية ومطالبته في اعادة النظر في مسألة الحدود ككل قبل قيامه بفسخ معاهدة عام 1969. وبرفض الطلب الايراني، اصرت حكومة البعث بان أي نزاع ينشأ عن معاهدة عام 1937 يجب تسويته بموجب الطرق المنصوص عليها في الاتفاقية الملحقة بها التي تشترط ان جميع الخلافات الحدودية بين البلدين يقتضي حلها، اما عن طريق التحكيم او الاجراء القانوني(6). الا ان على ما يبدو، ان الشاه قد تخلى عن الطريقة القانونية، على افتراض ان الرجوع الى التسوية القانونية قد لا يكون في صالح ايران(7).
 في شهر نيسان 1969، اعلنت ايران من جانبها ان معاهدة عام 1937 تعتبر مفسوخة وبما ان المفاوضات، حتى اثناء الحكم المعتدل لعبد السلام وعبد الرحمن عارف، لم تؤد الى اتفاق، لذا لم يتوقع ان تتحقق تسوية في ظل نظام البعث الاكثر تعنتاً. مع ذلك، قبل ان تتخذ ايران تلك الخطوة الصارمة بالفسخ، وتوجه وفد ايراني الى بغداد في شهر اذار 1969، ولدى اجتماعه مع ممثلي وزارة الخارجية العراقية قدم مسودة معاهدة جديدة لكي تحل مكان معاهدة 1937 مع بروتوكول بتوكيل الملاحة في شط العرب الى لجنة مشتركة. وبعد ان فوجئ بذلك، اشار الوفد العراقي من ان واجباته هي محددة بقضايا فنية وليس لديه تعليمات او صلاحية مناقشة مسودة معاهدة جديدة(8). ولعدم قدرة الايرانيين على اقناع العراقيين لمناقشة المسودة الجديدة عادوا الى ايران صفر اليدين. في غضون ذلك، استمرت ايران بتأكيد سيطرتها على سفن الشحن الايرانية من خلال مرافقة السفن العسكرية لها مما حمل العراق على الشكوى واعتبار هذا العمل انتهاكاً لمعاهدة 1937. في 15 ايلول 1969، تم ابلاغ السفير الايراني في بغداد بفحوى الشكاوى العراقية بعبارات شديدة اللهجة، التي اعتبرتها ايران تهديدا لها حثت وكيل وزير خارجيتها على التصريح في البرلمان الذي اعلن فيه بأن معاهدة 1937 قد فسخت من جانب واحد وان المذكرة الحاوية على فسخ المعاهدة قد ابلغت الى العراق(9). واعقب العمل الايراني تبادل الاتهامات التي ظهر صداها في صحف ووسائل اعلام طهران وبغداد وادت بالتالي الى زيادة حدة التوتر بين البلدين.
 في مثل هذه الظروف، اوصى العراق مندوبه الدائم بالامم المتحدة لالفات نظر مجلس الامن بالعمل الايراني وتقديم كافة المستندات ذات العلاقة بالموضوع والخاصة بالنزاع بين البلدين. وبالمقابل، قدم المندوب الايراني المستندات المتعلقة بانهاء معاهدة 1937. واكد ثانية على معارضة ايران السابقة للمعاهدة (المستندة على معاهدات عثمانية لم تعترف ايران بصحتها مطلقا) واستمر في نقاشه من ان نصوصها قد اخل بها العراق لعدة سنوات. واعلن تذمره، بالاخص من العراقيل المفروضة على مرور السفن الايرانية في شط العرب من قبل السلطات العراقية ورفض العراق للتعاون مع السلطات الايرانية في الاشراف وتحسين الملاحة، ولو ان الاشراف وتحسين الملاحة في النهر هي من مسؤولية العراق طبقا للمادة (2) من بروتوكول معاهدة 1937. فضلا عن ذلك، اعتقد بان الحدود، وفقا لمعاهدة 1937، هي خط يتغير بالمد والجزر، في حين ان الحدود الحقيقية ينبغي ان تكون خط التالوك كما في حالة جميع الانهار الدولية وطبقا للقاعدة المعمول بها في القانون الدولي. ولهذه الاسباب واسباب اخرى، (تتناولها المستندات الايرانية بالتفصيل)، لجأ المندوب الايراني الى المراوغة مشيرا من ان نصوص معاهدة 1937 لم تعد ذات علاقة بالظروف الجديدة الناشئة بعد سنوات الحرب.
 وباعتبار ان معاهدة 1937 لازالت ملزمة، اعلن العراق ان الغاءها من جانب ايران هو مخالف للقانون الدولي. في الحقيقة، قد يجادل المرء من ان هناك اسبابا مقنعة في صالح رفض العراق للعمل الايراني. وبحكم القانون الدولي، لا يمكن لطرف واحد الغاء معاهدة من دون موافقة الطرف الاخر، ما لم تحدد المعاهدة نفسها مثل هذا الحق وكذلك طريقة الالغاء. فضلا عن ذلك، ان الادعاء باخلال العراق لنصوص المعاهدة المتعلقة بالملاحة يعود من جهة الى فشل الطرفين للاتفاق على ابرام الاتفاقية الضرورية لتشكيل لجنة ملاحية(10). ولا تبرر فقرة المراوغة العمل الايراني في الرفض دون الرجوع الى الاجراء القانوني، بضمنه قبول العراق او اخذ رأي (لا حاجة لذكر القرار) محكمة العدل الدولية(11). من بين جميع المعاهدات، تكون معاهدات الحدود اكثر استمرارا من الاخرى، ما لم تحدث تغييرات اقليمية جذرية تستدعي اعادة النظر او التبديل غير ان مثل هذه التغييرات، كما اشير اليها بايجاز، يقتضي ان لا تدون مبررا للتهرب من التزامات المعاهدة التي قد تجدها الدولة غير ملائمة للتنفيذ(12).
 لهذا السبب، ان معاهدة 1937 لا يمكن التغاضي عنها بهذه السهولة، وان العراق طالب بعرض القضية على محكمة العدل الدولية لغرض اخذ رأيها الاستشاري. لكن، ايران سوف لا يكون لديها أي علاقة مع الاجراء القانوني، طالما ان القانون بجانب العراق. ولفشله في تحقيق غرضه بالوسائل القانونية، لجأ الشاه الى الضغط والتآمر السياسي (اسناد الاكراد العراقيين في كفاحهم لتحقيق الحكم المحلي).
 لم تكن المرة الاولى التي دخل فيها الاكراد بحرب مع الحكومة المركزية، وان القضية الكردية قد اصبحت بيدقا في اللعبة الدبلوماسية بين العراق وايران. وبما ان القيادة الكردية قد سمحت لنفسها بأن تستغل من قبل قوى اجنبية، ولجأت للحرب التي لا تنتفع منها سوى ايران، فلربما ان خلاصة مقتضية لخلفية وتشعبات القضية قد تلقي ضوءاً على النزاع بين البلدين.
 حتى قبل تسلم حزب البعث للسلطة، فقد اعلن بصراحة عن مقترحاته لتسوية القضية الكردية ونظرته الى الطريقة التي يمكن فيها للعرب والاكراد ان يعيشوا معا في سلام في ظل الوحدة العربية التي ستتيح للاكراد التمتع بكيان ذاتي. وبعد مباحثات مطولة بين قادة حزب البعث والاكراد، تم اعلان مذكرة تفاهم في 11 اذار 1970 اطلق عليها اسم (( بيان حول التسوية السلمية للقضية الكردية)). لقد تعهد البيان بمنح الاكراد حكما ذاتيا يمارس من قبل مجلس اداري محلي ومجلس تشريعي منتخب. كما قدمت ضمانات كافية للاعتراف باللغة الكردية واعتبارها لغة رسمية مساوية للغة العربية في المنطقة الكردية والسعي لتطوير الثقافة والتقاليد الكردية(13). ان هذه الخطة جاءت قريبة من الصيغة المعلنة من قبل المفكرين الاكراد (وقد نسبت شهرتها الى جلال الطالباني) الذين اعلنوا ان الاكراد سوف يطالبون بدولة ذات شبه سيادة ضمن الاتحاد الفيدرالي العربي فيما لو سينضم العراق للاتحاد العربي، الا انهم سوف يقبلون بالحكم الذاتي والهوية العراقية فيما لو بقي العراق مستقلا(14). وبما ان حزب البعث ينادي بوحدة البلاد العربية، فأن بيان اذار يقدم حلا وسطا مقبولا بين الطموحات القومية للعرب والاكراد. لكن، مساومة البعث لم يقدر لها ان تتجسد لأن هناك خلافات شخصية ملموسة بين زعماء الاكراد. علاوة على ذلك، ان الشك وفقدان الثقة، اللذين نشآ منذ تكوين الدولة العراقية، احبط مساعي كل من العرب والاكراد.
 بعد الحرب العالمية الثانية، كان الاكراد موزعين على اربع دول هي: تركيا، ايران، العراق وسوريا. يرى اكراد العراق ان وجودهم في بلد خاضع للسيطرة البريطانية ربما يجعلهم يتمتعون بحرية كاملة وان حياتهم السياسية قد تتطور الى نضوج، طالما ان الترتيب، بموجب معاهدة سيفر في انشاء دولة كردية كبيرة في شرقي تركيا، قد ذهب ادراج الرياح(15). ومنذ ان تم الحاق جزء كبير من كردستان في العراق، فأن الاكراد في العراق قد اعترف بهم كشعب يتمتع بهويته الحضارية ومنح حقوقا اسوة بالمواطنين العراقيين. كان من المؤمل بأن يتوحد العرب والاكراد (في الواقع كافة الجماعات العرقية) لتكوين الشعب العراقي.
 على اية حال، لم يكن العرب والاكراد بعد الاستقلال مستعدين للتنازل عن هويتهم القومية وان تصاعد الشعور العربي لدى الجيل الجديد بين الحين والآخر اثار حفيظة الاكراد من ان اعتمادهم على الهوية العربية قد يكون مجرد خطوة نحو الدمج مع عرب العراق. ان الهوية القومية الكردية، التي كان من المتوقع ان تحل مكانها القومية العراقية الجديدة، بدأت تتنامى وقد اعطيت محفزاً من قبل المد المتصاعد للقومية العربية بعد الحرب العالمية الثانية دون محاولة جدية لاعاقة الاتجاه او ترسيخ ضرورة تأكيد سيادة هوية القومية العربية في ذهن العرب والاكراد. حتى ان الثورة العراقية عام 1958 ، تعهدت بتحقيق الطموحات القومية للعرب والاكراد، ولكن لم تنجح في الحد من المخاوف الكردية. وعليه، ان الاكراد دخلوا الحرب مع حكم قاسم لتحقيق طلبهم المعلن الجديد في الحكم الذاتي. وبعد مجيء حزب البعث للسلطة عام 1968، قام بمحاولة اخرى لحل القضية الكردية على ضوء المقترحات الواردة في بيان آذار. ومع ان الزعماء الاكراد كانوا مختلفين حول القضية، الا ان عددا كبيرا منهم كانوا مستعدين للتوصل الى حل وسط مع نظام البعث وقبلوا بالحكم الذاتي كما جسده بيان اذار. على اية حال، رفض الملا مصطفى طلب البعث واصر على مفهومه في الحكم الذاتي.
 ما الذي شجع الملا مصطفى على رفض بيان اذار وبالنتيجة الدخول في حرب مع حكومة البعث؟ من خلال تجربته السابقة لحكم قاسم من عام 1961 لعام 1963 (لا حاجة لذكر تجاربه الاولى) ادرك الملا مصطفى ان الحرب مع الحكومة المركزية، بصرف النظر عن طول المدة التي ستستغرقها، لا يمكن ان تكون حاسمة في ارغام العراق على القبول بصيغة الحكم الذاتي بدون معونة اجنبية. لهذا، كان لابد له من القبول بالمساومة مع البعث او طلب المساعدة الاجنبية.
 هناك اربع قوى تساعد الاكراد هي: الاتحاد السوفيتي، ايران، الولايات المتحدة واسرائيل. في سنوات ما بعد حربه الاولية، اقتنع من ان الاتحاد السوفيتي هو القوة الوحيدة الراغبة باسناد شعبه في كفاحه لتحقيق طموحاته القومية، طالما ان الولايات المتحدة قد تعهدت مؤخراً باسناد العراق وايران ضد التسلسل الشيوعي في اراضيها. وعندما تأسست جمهورية مهاباد في عام 1946، التحق بالزعماء الاكراد، الذين رحلوا الى المركز الجديد للنشاطات القومية الكردية وتأمل من هناك اثارة المشاعر الكردية في كردستان العراق. وبعد سقوط حكومة مهاباد، رحل الى الاتحاد السوفيتي حيث بقي ضيفا منفيا للسنوات الاثنتي عشرة اللاحقة. ولدى عودته في عام 1958، كان يأمل، من الحكم الثوري القائم حديثا بزعامة قاسم، منح المواطنين الاكراد الحرية. على اية حال، سرعان ما اصيب الملا مصطفى بخيبة امل من قاسم ودخل في صراع معه. عاد الى الاتحاد السوفيتي في عام 1961 بحجة حضور احتفال ثورة اكتوبر، الا انه في الحقيقة طلب الاسناد السوقيتي في نزاعه مع قاسم. وعاد خالي الوفاض طالما ان قاسم عقد اتفاقية مؤخراً مع الاتحاد السوفيتي ونصح الملا مصطفى بتسوية خلافاته مع قاسم. مع ذلك، دخل الحرب من دون مراعاة العرض السوفيتي في مساعيه الحميدة، مادام انه وصل للنتيجة من ان الاتحاد السوفيتي غير مهتم بالطموحات القومية الكردية. ان انخذاله من جراء تردد السوفييت لمساعدته ربما كان السبب المهم لاتفاقه مع حكم عارف بعد سقوط قاسم عام 1963 وقبوله بمقترحات التسوية المقدمة من ذلك الحكم عام 1966. ولم يتجه للاتحاد السوفيتي ابدا في طلب المعونة والاستشارة.
 ان مصدر المعونة الثاني المحتمل هو شاه ايران. ومع ان الملا مصطفى يتلقى دعما من مواطنيه في ايران، الا انه يعرف بان الشاه لا يميل بدرجة كبيرة الى الاكراد في العراق، طالما انه حارب الاكراد في ايران وحطم جمهورية مهاباد. ان الشاه مستعد لاسنادهم كمتمردين ضد حكم البعث وليس كمواطنين ينشدون اقامة وطن قومي كردي في العراق. فضلا عن ذلك، ليس جميع الزعماء الاكراد، وبالاخص الشباب، هم مستعدون لمساعدة الملا مصطفى ضد الحكومة العراقية التي تعهد بتحسين الاحوال الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة الكردية. في الحقيقة، ان بعض الزعماء الاكراد شرعوا بالتعاون مع حكومة البعث قبل اندلاع الحرب في عام 1974. وحال صدور بيان اذار، تخلى عبيد الله (ابن الملا مصطفى) عن والده ووقف بجانب الحكومة. واعلن عزيز عقراوي، احد مؤيديه المقربين، بأن جماعة الحزب الديمقراطي الكردي، تحت زعامتة، ستبقى مخلصة الى الحكومة المركزية. كان يساند عقراوي عدد من الزعماء الاكراد بضمنهم هاشم حسن رئيس المجلس التنفيذي للمنطقة الكردية الذي اعتقد بأن مصالح الاكراد سوف تخدم بشكل افضل بأساليب سلمية، وليس بأساليب العنف(16).
 واخيراً، قدمت اسرائيل مساعدة الى الاكراد قبل ان يعرض الشاه مساندته للحركة. لقد كانت اسرائيل مستعدة دائما للتفاهم مع الملا مصطفى واستمرت بتقديم الاسناد بعد دخل الحرب مع الحكومة المركزية لأن هدف اسرائيل، عدا الدافع الايديولوجي، يبدو انه مجرد اضعاف نظام البعث بسبب ارائه الصريحة حول الصراع العربي – الاسرائيلي علاوة على ذلك، بما ان البعث رفض الاعتراف بأسرائيل ووضع نهاية لحالة الحرب القائمة بين البلدين، حاولت اسرائيل استغلال صداقة الاكراد كوسيلة لمعارضة الحكومة العراقية. ومع ان الملا مصطفى يبدو انه قبل بمساندة اسرائيل في اكثر من مناسبة، فأنه لم يقاتل الحكومة المركزية عندما ارسلت القوات العراقية للمشاركة في الحرب العربية مع اسرائيل عام 1973 (17). لهذا، كان من غير المحتمل بأن يقع الملا مصطفى بسهولة في شرك الشاه او قبوله المساعدة من اسرائيل قبل ان يحصل مبدئيا على ضمانات امريكية من ان وعود الشاه سوف تكون مشرفة.
 طلب الشاه المساعي الحميدة الامريكية عندما علم بأن التحالف مع الملا مصطفى لا يمكن تحقيقه بسهولة. وبما ان الولايات المتحدة قد تعهدت مؤخرا بتطبيق سياسة الشاه ودوره كشرطي في منطقة الخليج، لهذا استجابت بشكل ملائم لالتماسه وان وزير الخارجية الامريكي هنري كيسنجر اكد للملا مصطفى من ان الشاه سوف يلتزم بوعوده اتجاهه، اثناء سعيه لتحقيق حكم ذاتي للاكراد(18).
 لكن، كيف يمكن تنفيذ مثل هذا التحالف غير المستقر؟ لقد اتضح بعد التفكير بامكانية تحقيقه بطريقتين. الاولى، عمليات عسكرية في المنطقة الكردية التي قد تجبر حكومة البعث على الاذعان لمطاليب الاكراد في الحكم الذاتي حسب مفهوم الملا مصطفى. الثانية، بما ان الشاه لا ينوي الدخول في حرب علانية، فقد لجأ الى التآمر السياسي بتشجيع عناصر معارضة للبعث للتعاون مع الملا مصطفى وتكوين جبهة عربية – كردية قد تحقق السيطرة وتسوية المسائل المعلقة لصالح الطرفين المعنيين.
 لم يكتب لأي طريقة النجاح. ان حكومة البعث، التي تحتفظ بخطتها لتسوية القضية الكردية،واصلت تنفيذها. ففي 11 اذار 1974 وبمناسبة الذكرى الرابعة لأعلان بيان اذار، اعلنت الحكومة بانها ستنفذ البند المتعلق بالحكم الذاتي الكردي دون تأخير. رفض الملا مصطفى ذلك واعلن الحرب ضد السلطة. كان الطرفان يعقدان الامل على تحقيق الانتصار السريع. وخلال الربيع واوائل صيف عام 1974، ركز الجيش العراقي على انقاذ الحاميات المطوقة وفتح الطرق والتحرك ببطء في المنطقة الكردية. في شهري آب وتموز، تم دفع قوات بيش مركة (القوات العسكرية للملا مصطفى) الى الجبال الممتدة على طول الحدود التركية والايرانية. ومنذ ذلك الوقت، كان يقتضي على قوات البيش مركة الاعتماد على التعزيزات الايرانية، التي من دونها لا يمكنها مقاومة التعرض العراقي الواسع الذي يشمل قصف المدن والقرى الكردية. ولستة اسابيع لاحقة، حصل بطء في تقدم القوات العراقية داخل المنطقة الجبلية وبالاخص خلال اشهر الشتاء. في عام 1975، استؤنف التعرض مجددا، الا ان احتمال أي انتصار سريع من احد الطرفين اصبح غير مؤكد.
 اقتصر نشاط البيش مركة على المناطق الجبلية وان تعرضا عراقيا في الجو الدافئ المقبل سوف يكون من المستحيل وقفه من دون تعزيزات ايرانية كبيرة. بدأ الشاه يتردد ويفكر ثانية حول احتمال النصر العسكري. ولم تثبت الاحداث من ان المناورة السياسية لاسقاط قيادة البعث بان يتوقع لها النجاح. زيادة على ذلك، ان نصرا عسكريا سريعا للعراقيين لم يكن مرتقبا. وبما ان الاتحاد السوفيتي، باعتباره المصدر الوحيد لتجهيز العراق بالسلاح قد اوقف ارسال الاسلحة المطلوبة (حتى المواد الاحتياطية) لانه اعلن حياده في حرب الاكراد، فان تجهيزات العراق اخذت على ما يبدو بالتضاؤل الكبير. لهذا، ان التعرض في ربيع عام 1975  لايمكن ان يكون حاسماً، سواء اكان الشاه على علم تام من ان العراق ربما سيكون غير قادر على مواصلة الحرب ام لم يعلم فمن الصعب تحديد ذلك، الا انه ادرك ان الحرب قد وصلت نقطة الجمود ولا يتوقع حصول تغير في نظام الحكم(19). وفي مثل هذه الظروف، اصبح كل من العراق وايران مستعدين ذهنيا لقبول عرض الوساطة والجلوس على مائدة المفاوضات. وعليه، ان المسرح اصبح مهيأ لتسوية سلمية.

 

الهوامش

1. ان قصة كيفية تفكير الشاه بالدور والخطوات المتخذة لتطوير ” علاقة خاصة ” بين ايران والولايات المتحدة موصوفه في دراسات عديدة حول السياسة الخارجية لايران منذ الحرب العالمية الثانية.
من الدراسات المهمة الحديثة عن العلاقات الخارجية لايران، راجع كتاب آر.ك. رمضاني ” السياسة    الخارجية لايران 1941 – 1973 (شارلوت قبل 1975)، الولايات المتحدة وايران (نيويورك 1982) شهرام شابين وستيفن رابي، العلاقات الخارجية لايران (بيركلي ولندن 1974).
2. حسب زعم السفير البريطاني في العراق ترفليان ان بريطانيا عرضت بيع السلاح الى قاسم، الا انه حبذ تحصيلها من الاتحاد السوفيتي بحجة ان الاتحاد السوفيتي عرض سعراً ” مخفضاً ” (همفري ترفيليان “الشرق الاوسط في غليان” لندن، 1970، الصفحات 152 – 155).
3. حول حرب الاكراد اثناء حكم قاسم، راجع كتاب ادمون غريب ” المسألة الكردية في العراق ” نيويورك 1981 الصفحات 37 – 41. كذلك، مجيد خدوري ” العراق الجمهوري ” لندن 1969 الصفحات 173 – 181.
4. كدليل لمشاركة ايران في الانقلاب الفاشل، كشفت الحكومة العراقية معلومات سرية عن اتصال السكرتير الثالث في السفارة الايرانية مع المتآمرين بتاريخ 15 نيسان 1969. وعقب هذه اللقاءات، قامت الحكومة الايرانية بتزويد المتآمرين بـ (3000) رشاشة خفيفة و (650000) اطلاقة عتاد وجهازين لاسلكيين متنقلين. وافادت المعلومات ان اتصالات خفية جرت بين اللواء الراوي والمشاركين في المؤامرة عن طريق السفارة الايرانية في بغداد. يبدو، ان بعض الرسائل والمستندات الاخرى المرسلة عن طريق المتآمرين بضمنها احاديث مسجلة للمتآمرين والممثلين الايرانيين قد وقعت بحوزة الحكومة العراقية وان النسخ المصورة نشرت في الصحف (مجيد حذوري ” العراق الاشتراكي”) واشنطن دي. سي 1978 الصفحات 53 – 56.
5. للوقوف على حقيقة فيما لو ان شط العرب هو نهر محلي او دولي، راجع كتاب جابر ابراهيم الراوي “الانهار الدولية ومشكلة الحدود العراقية – الايرانية (بغداد 1975) الصفحات 327 – 331.
6. ان الاتفاقية قائمة على الطرق السلمية المنصوص عليها في اتفاقية عصبة الامم والمعاهدات ذات العلاقة وقد الحقت بمعاهدة 1937 بعد توقيعها (المصدر نفسه الفصل 6).
7. في حديث مع عبد الحسين القطيفي الاستاذ السابق في كلية الحقوق العراقية الذي عمل كمستشار في وزارة الخارجية العراقية وشارك في محادثات النزاع حول شط العرب، علمت ان امتناع ايران عن اللجوء الى التسوية القانونية قد اعطيت لايران من قبل عدد من المحامين الذين اعتقدوا ان التسوية القانونية بموجب معاهدة 1937 ستكون غير مواتية لايران (القطيفي في حديث مع المؤلف في بغداد عام 1976 وعام 1985).
8. راجع تقرير وزارة الخارجية العراقية (الاعتداءات الفارسية على الحدود الشرقية للوطن العربي) بغداد 1981، الصفحات 54 – 55.
9. سلمت المذكرة الايرانية المؤرخة في 29 ايلول الى الحكومة العراقية عن طريق السفارة الايرانية في بغداد. وللوقوف على خلفية المفاوضات التي قادت الى فسخ معاهدة عام 1937، راجع الراوي “الحدود الدولية” الفصل 8 وزارة الخارجية (ايران)  بعض الحقائق بخصوص النزاع العراقي الايراني حول شط العرب (طهران 1969) الصفحات 78- 79.
10. ان اتفاقية الملاحة للصيانة والاشراف على شط العرب كان من المتوقع صياغتها خلال سنة من سريان مفعول معاهدة 1937 وطبقاً للمادة 5 من هذه المعاهدة والبند 2 من ملحقها. اذا لم يتم ابرام هذه الاتفاقية خلال سنة واحدة، عند ذلك فأن المدة يمكن تمديدها بالاتفاق المشترك  للاطراف المعنية. وتبعا للبروتوكول، ان العراق ” سيتولى على اساس مايجري حاليا ”  كل القضايا التي ستعالجها الاتفاقية البند 2 (5). وبما ان البروتوكول يعتبر غير ملزم في حالة عدم ابرام الاتفاقية، فان العراق اعتبر ان مسؤولية الصيانة والاشراف ستقع عليه وذلك لكي يمارس واجباته كما في السابق. في الحقيقة، ان العراق لفت انظار ايران لمثل هذا الموقف حتى قبل تصديق معاهدة 1937، الا ان ايران اخفقت في الرد على التحذير العراقي، رغم انها اشتكت فيما بعد حول فشل العراق لمعالجته. ولمعرفة موقف العراق بالنسبة لذلك، راجع كتاب عبد الحسين القطيفي ” بعض الجوانب القانونية لانهاء معاهدة عام 1937 بين العراق وايران ” مجلة دراسات قانونية 1969 الصفحات 39 – 40.
11. راجع دبليو. ئي. هول ” موجز القانون الدولي ” الطبعة 8 اوبتهايم القانون الدولي (لندن 1935) الجزء 1 الصفحات 938- 42 لورد ارنولد دنكان ” قانون المعاهدات ” (اوكسفورد 1961) صفحة 510.
12. جي. لي. بريلي ” قانون الامم ” الطبعة 6. وكذلك، همفري والدوك (اكسفورد 1963) صفحة 335.
13. للاطلاع على نص البيان، راجع كتاب خدوري ” العراق الاشتراكي ” الصفحات 231 – 40.
14. راجع كتاب جلال الطالباني ” كردستان والحركة القومية الكردية ” (بيروت 1971) الصفحات 321 – 323. وكذلك، غريب ” المسألة الكردية في العراق ” الصفحات 61 – 62.
15. معاهدة سيفر (1920) المعقودة بين السلطان العثماني والحلفاء التي استنكرت من قبل الحكومة الكمالية واستبدلت بمعاهدة لوزان (1923) التي لم تعترف بحكومة كردية.
16. انقلبت جماعات اخرى ضد الملا مصطفى عندما اندلعت الحرب مثل الحزب الثوري الكردستاني وفئات تقدمية بقيادة عبد الله اسماعيل والحزب الشيوعي الذي شارك في الجبهة الوطنية (خدوري ” العراق الاشتراكي) الصفحات 91 – 95.
17. راجع كتاب غريب ” المسألة الكردية في العراق ” ص 142 – 145.
18. خلال وجوده في البيت الابيض، اعلن هنري كيسنجر ان الرئيس نيكسون وافق على ” تشجيع الشاه لمساندة الحكم الذاتي الكردي في العراق ” الا انه لم يرو قصة المشاركة الامريكية في الحرب الكردية، ولو انه وعد بشرح المشاركة الامريكية في الجزء الثاني من مذكراته ” سنوات البيت الابيض ” (بوسطن 1979) ص 4، 12، 5، 16. وللوصف التفصيلي لمشاركة امريكا في الشؤون الكردية المبني على تقرير بابك في الكونغرس، راجع كتاب غريب ” المسألة الكردية في العراق ” الفصل 7.
19. بعد توقف المعونة عن الاكراد، ادعى الشاه بانه عقد اتفاقية مع العراق لان الاكراد ليس لديهم امل في ربح الحرب. وفي تصريح صحفي قال بانه اوقف مساندته للاكراد لانهم ” لم يحرزوا أي تقدم في الحرب “. جوزيف كرافت ” ماالذي قيّد الشاه صحيفة واشنطن بوست 27 نيسان 1975. وبالنسبة لتقييدات الجانب العراقي زيادة عدد الخسائر لتسوية سياسية من قبل اعضاء حزب البعث راجع التقرير المركزي للمؤتمر القطري التاسع حزيران 1982 ( بغداد 1983) ص 56 – 64.

تسـوية قصيــرة الامـــد
معاهدة عام 1975

 حتى قبل ان يكون العراق وايران مستعدين للقاء على طاولة المفاوضات، فقد جرت محاولات للتفاهم بين البلدين عن طريق المفاوضات المباشرة، ولكن على ما يبدو لم يتم التوصل أي اتفاق في الرأي(1). ففي اواخر عام 1974، عرضت كل من تركيا والاردن مساعيها الحميدة التي ربما قد تمهد الطريق بصورة غير مباشرة نحو اجتماع الطرفين معا. على اية حال، كان ذلك بعد فترة قصيرة من الجلسة الاختتامية لمنظمة الاقطار المصدرة للنفط (اوبك) في الجزائر (اذار 1975) حيث وافق صدام حسين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، على الاجتماع بشاه ايران بعد ان وجه الرئيس الجزائري هواري بومدين الدعوة لهما بتسوية الخلافات القائمة بينهما.
 وقبل سفره الى الجزائر، لم يعلن الشاه عن رحلته او ابلاغ وزرائه، لقد علموا برحيله بعد ان غادرت الطائرة البلاد. كان يعلم بدقة كل ما يبتغيه في حديثه المرتقب مع صدام حسين، وقرر ان في حالة التوصل الى اتفاق فأن هدفه لابد من تحقيقه. وبالعكس، تلقى صدام حسين تعليمات من حكومته تخوله بالتمسك بالحد الادنى لمطاليب العراق الامنية، وفي مسألة الحدود النهرية فأنه على ما يبدو قد منح حرية المساومة مع مطاليب ايران (أي خط التالوك). لهذا، كانت نتيجة المفاوضات تعتمد لحد كبير على قرار الزعيمين اللذين قررا بعد مراجعة دقيقة للقضية التوصل الى اتفاقية وفتح فصل جديد في العلاقات الحسنة بين البلدين المجاورين. عقدت جلستان في 5 و 6 حزيران 1975 حضرها الشاه و صدام حسين وبومدين فقط. قام بومدين بعمل مترجم(2). لم يتم التوصل الى أي اتفاق في اليوم الاول. اصر الشاه على التالوك كخط حدود في شط العرب الذي اعتبره حيويا لأمن ايران وكذلك الملاحة في مياه شط العرب وعرض ان يوقف مساعداته للاكراد. على اية حال، عندما اجتمع الزعيمان ثانية في اليوم التالي، يبدو ان المحادثات اللاحقة قد توصلت الى اتفاق حول القضايا الرئيسية ذات الاهتمام المشترك. تركز الاتفاق حول القضايا التالية:-
1. يعتبر خط التالوك خط الحدود في شط العرب.
2. وافق الشاه على ايقاف مساعدته للاكراد مما يعني تقريبا ان العراق سوف يعالج قضية الاكراد بموجب مقترحات الحكم الذاتي المعروضة سابقا.
3. وافق العراق وايران على التعاون لحفظ السلام والامن ووضع حد لعمليات التسلل والتخريب على جانبي الحدود.
     اعلن الشاه (( لقد اتفقنا على تناسي خلافاتنا ونجحنا في ازالة سوء التفاهم الذي غذاه الاستعماريون بيننا(3). ان الاتفاق بدأ كتسوية سارة ستنهي كافة الخلافات، على الاقل، لفترة وجود الشاه في الحكم. وقال الشاه للسيد صدام حسين ” ان سعادة العراق هي مهمة لأمن ايران” (4). من وجهة نظر الشاه كان الاتفاق بالتأكيد مرضيا، طالما انه حقق طلبه الذي رعاه منذ زمن بعيد بأن يكون التالوك خط الحدود في شط العرب وعن طريقه سوف يتنازل العراق عن سيادته على نصف الشاطئ لأيران. على اية حال، لقد ثبت بأن السلام والامن هما مجرد وهم كما كشفته الاحداث اللاحقة.
 وعقب الاتفاق بين الزعيمين، تقابل وزراء خارجية البلدين في مؤتمرات على انفراد حضرها عبد العزيز بوتفليقة وزير خارجية الجزائر. جرت اعادة نظر دقيقة لجميع القضايا التي تهم البلدين والواردة في الاتفاقية التي عرفت فيما بعد بأسم اتفاقية الجزائر الموقعة في 6 اذار 1975. ان هذه الاتفاقية، القائمة على سلامة الاراضي الاقليمية وعدم انتهاك حرمة الحدود وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، نصت بأن يتعهد الطرفان القيام بما يلي:-
1. اجراء تخطيط نهائي للحدود البرية بين العراق وايران بناءً على بروتوكول استانبول لسنة 1913 ومحاضر لجنة تحديد الحدود سنة 1914.
2. تحديد الحدود النهرية حسب خط التالوك.
3. بناءً على ذلك، سيعيد الطرفان الامن والثقة المتبادلة على طول حدودهما المشتركة، ومن ثم الالتزام باجراء رقابة مشددة وفعالة على حدودهما المشتركة وذلك من اجل وضع حد نهائي لجميع عمليات التسلل والتخريب من جانبي الحدود.
4. اتفق الطرفان على اعتبار هذه الترتيبات المشار اليها اعلاه كعناصر لا تتجزأ لحل شامل، وبالتالي فان أي مساس باحدى مقوماتها يتنافى بطبيعة الحال مع روح الاتفاقية.
5. قرر الطرفان اعادة الروابط التقليدية لحسن الجوار والصداقة وتبادل وجهات النظر بشكل مستمر حول المسائل ذات المنفعة المشتركة وتعزيز روح التعاون المشترك(5).
في الجلسة الاختتامية لمؤتمر الدول المصدرة للنفط (اوبك) في 6 اذار 1975، اعلن بومدين نبأ الاتفاقية بين الزعيمين العراقي والايراني وقال بانها وضعت نهاية للنزاع بين ” البلدين المتآخيين “. ان الاعلان المفاجئ قوبل بالابتهاج وان الحاضرين نهضوا للزعيمين وكذلك لرئيس البلد المضيف للترحيب بهما للنجاح الذي تحقق في الجزائر. لهذا، ان مؤتمر القمة لمنظمة (اوبك) يمكن ان يعزو له الصلح بين العراق وايران. واحسن مثال هو ما ورد في سجلات مؤتمر القمة حول ذلك ” ان التسوية النهائية لسوء الخلاف المعقد بين العراق وايران في الجزائر خلال ليلة 5/6 اذار تعتبر شاهداً ماثلاً للعيان لنضوج وتضامن وقدرة المنظمة(6).
 ادعى الشاه عند عودته الى ايران بانه قد انجز احد مطاليبه القومية التي يطمح لتحقيقها منذ امد بعيد(7). ولم يكن صدام حسين اقل رضا بنتيجة اجتماع الاوبك حيث عرض اتفاقية الجزائر في اجتماع مشترك لمجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية لحزب البعث في 10 اذار 1975 لفحص النص بدقة. تم التصديق عليه من قبل جميع الحاضرين طبقا للدستور المؤقت (المادة 43) وتخويل وزير خارجية البلاد للتعهد بتطبيق الاتفاقية. اجتمع السيد سعدون حمادي وزير الخارجية العراقي مع السيد عباس علي خلعتبري وزير الخارجية الايراني في طهران في 15 اذار وتم توقيع بروتوكول بعد يومين نص على تشكيل ثلاث لجان:-
الاولى – تحديد حدود شط العرب.
الثانية – الحدود البرية بين البلدين.
الثالثة – طرق واساليب منع التسلل عبر الحدود.
 كان يترتب على اللجان اعلام وزيري الخارجية في جلسة قادمة خلال مدة شهرين. وقام رئيس وزراء ايران امير عباس هويدة بزيارة رسمية الى بغداد في الفترة الواقعة ما بين 26 – 29 اذار واجرى محادثات لاحقة اكدت التمسك باتفاقية الجزائر ووضع الخطى لتنفيذها.
 في شهر حزيران 1975، كانت مسودة معاهدة ” التسوية “، المنظمة لاحتواء المبادئ المتفق عليها في الجزائر لحل الخلافات القائمة بين البلدين، جاهزة للتوقيع من قبل وزيري خارجية العراق وايران. اما بالنسبة لوزير خارجية الجزائر بوتفليقة، الذي لعب دوراً بناءاً في المفاوضات السابقة، فقد انضم الى وزيري خارجية العراق وايران في التوقيع على المعاهدة يوم 13 حزيران 1975.
  ان المعاهدة، المؤلفة من ثماني مواد، جسدت المبادئ العامة المتحكمة بتسوية النزاعات بين البلدين التي تم الاتفاق عليها في اتفاقية الجزائر (المواد 1- 3) كما اشترطت ان نصوص المعاهدة والبروتوكولات الملحقة بها هي (( نصوص نهائية ودائمة، ولا يمكن نقضها لأي سبب كان او تجاوز على أي عنصر منها وان أي انتهاك لأحد مكونات هذه التسوية الشاملة هو مناقض من حيث المبدأ لجوهر اتفاقية الجزائر )) (المادة 4). ان مبدأ عدم التجاوز قد تكرر فيما يخص (( سلامة الاقاليم الوطنية لكلا الدولتين )) وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بالحدود التي اعتبرت ثابتة ونهائية (المادة 5). تناولت المادة الاخرى تفسير وتطبيق المعاهدة والبروتوكولات. اذا حصل أي خلاف بين الطرفين فيقتضي حله طبقا للاجراءات التالية:-
1. عن طريق المفاوضات الثنائية المباشرة خلال شهرين من وقت احالة الطلب من قبل احد الطرفين.
2. في حالة عدم التوصل الى الاتفاق، يلجأ الطرفان، خلال مدة ثلاثة اشهر، طلب المساعي الحميدة لدولة ثالثة صديقة.
3. في حالة رفض احد الطرفين قبول المساعي الحميدة يصار الى تسويته عن طريق التحكيم لدولة اخرى خلال شهر من وقت رفض المساعي او الاخفاق في الاستفادة منها.
4. في حالة عدم اتفاق الطرفين بصدد التحكيم، يحق لأحد الطرفين ان يلجا خلال خمسة عشر يوما التي تلي الاتفاق الى التحكيم. ان محكمة التحكيم سوف تشكل بتعيين قاض واحد من رعايا كل طرف وفي حالة عدم تعيين القاضيين سيكون لرئيس محكمة العدل الدولية حق تعيين القضاة وكذلك الحكم خلال مدة شهر من اخفاقهم في العمل.
     تم الحاق اربعة بروتوكولات بالمعاهدة. نص الاول على اقامة ترتيبات امن حدودية لمنع المتسللين والمخربين والعناصر غير المرغوب بهم من احد جانبي الحدود الى الجانب الاخر (أي الاشخاص غير المرغوب بهم من قبل أي نظام من النظامين). وحدد البروتوكول طرق ووسائل (بضمنها تبادل المعلومات) كيفية حل مشكلة المتسللين والمخربين من احد الجانبين. ونص البروتوكول الثاني على تشكيل لجنة عراقية – ايرانية – جزائرية لتنفيذ اعادة تحديد الحدود البرية بين العراق وايران كما جرى تحديدها في:-
1. بروتوكول الاستانة لسنة 1913 ومحاضر جلسات لجنة تحديد الحدود التركية – الايرانية لسنة 1914.
2. بروتوكول طهران في 17 اذار 1975.
3. محاضر مؤرخة في 20 نيسان 1975 التي صادقت، ضمن امور اخرى على محاضر اللجنة المكلفة باعادة تحديد الحدود البرية في طهران بتاريخ 30 اذار 1975.
4. محاضر وصفية مؤرخة في 13 حزيران 1975 للجنة تحديد الحدود البرية بين البلدين.
5. الخرائط والصور الجوية وكافة الوثائق الاخرى المتعلقة بالحدود البرية.
اشترط البوتوكول الثالث على ان حدود الممر المائي لشط العرب بين البلدين سيكون خط التالوك، وليس الضفة الشرقية كما حددته اتفاقية الجزائر في 6 اذار 1975 واكد عليه بروتوكول طهران في 17 اذار 1975 ومحاضر جلسات وزراء خارجية البلدين في بغداد بتاريخ 20 نيسان 1975. اما السفن العراقية والايرانية وكذلك السفن العائدة لبلد ثالث فسوف تتمتع بحرية الملاحة في جميع اقسام قنوات الملاحة في شط العرب بصرف النظر عن خط التالوك.
 ان هدف المعاهدة على هذا الاساس هو ليس مجرد تسوية النزاعات الحدودية، بل انما وضع حد للقضايا المعلقة منذ زمن بعيد بين الجارين اللذين تعاونهما المشترك ضروري للوحدة الداخلية وكذلك السلام والامن في المنطقة. لقد ادت الاعمال الانتقامية دائما الى الاضرار بمصالح المواطنين المقيمين في البلد الاخر وان كل بلد اصبح منهمكا في تشجيع العناصر المخربة ضد نظام البلد الاخر. ان تأييد الشاه للاكراد قد اثبت خطره ليس على نظام البعث فحسب وانما يمثل تهديدا للوحدة الوطنية. لو ان الملا مصطفى كسب الحرب، فمن المحتمل ان يطالب بطلبات تتجاوز الحكم الذاتي. ولو فشل في الوصول الى اتفاق مع العراق ووضع حد للحرب الكردية فان العراق سوف يكون مجبرا لطلب الاسناد السوفيتي الذي سيزيد حدة التوترات الاقليمية والتنافس بين القوى العظمى في الشرق الاوسط. لهذا، كانت علامة بارزة ومهمة في العلاقات الدبلوماسية بين العراق وايران وربما ستبقى وثيقة ذات اهمية في مفاوضات مستقبلية تخص الحدود بين البلدين عقب الحرب الحالية.
 حتى قبل سريان مفعول المعاهدة، فقد اتخذت خطوتان عاجلتان. الاولى، ان شاه ايران امتنع عن تقديم مساعدات للاكراد وشجع الملا مصطفى على قبول الهدنة المعلنة من قبل العراق وايران في 13 اذار 1975(9). اعلن العراق بأن العفو سوف يمنح للاكراد، بضمنهم الهاربين من الجيش العراقي، واوضح بان الطريقة الوحيدة ” لحقن الدماء ” هي قبول شروط العفو العام، التي ستنتهي في 1 نيسان 1975. دعت ايران اللاجئين الاكراد الذين كانوا في ايران للقرار في 1 نيسان فيما لو يرغبوا بالبقاء في ايران او العودة الى العراق، طالما ان الحدود بين البلدين ستغلق في ذلك التاريخ. لم يعد في نهاية شهر اذار سوى عدة الاف، وعندما تم تمديد مدة العفو الى نهاية شهر ايلول عادت الاف اخرى، طالما ان الحدود الايرانية والتركية قد اغلقت بالنسبة للمتسللين الاكراد. ان عمل الشاه العاجل للتعاون في وضع نهاية للحرب الكردية ارضى الحكومة العراقية لحد كبير وان الجيش العراقي سيطر بشكل كامل على المنطقة الكردية في نهاية شهر اذار. وكشأن حليفه الشاه، اعلم الملا مصطفى بانه لابد وان يجري علاجا طبيا واستسلم للسلطات الايرانية. وبعد فترة وجيزة، توجه الى واشنطن حيث تلقى علاجا طبيا. توفي نتيجة مرض السرطان في سنة 1977(10).
 الثانية، ان اللجان المكلفة بتحديد واعادة تحديد الحدود البرية والمائية قد تشكلت للعمل بموجب البروتوكولين الثاني والثالث بعد فترة قصيرة من سريان مفعول المعاهدة في خريف 1975. وبينما كان من اليسير جدا انجاز عمل اللجنة المكلفة بالحدود المائية (خط التالوك) وعدم اعتراض الشاه عليها، فان اللجنة المكلفة بتحديد الحدود البرية، على افتراض تصميمها باعادة عدة قواطع للعراق، قد تأخرت لحد كبير بالمشاكل الطبيعية للارض والعمل الروتيني. وفي وقت سقوط حكم الشاه، كانت هناك ثلاثة قواطع يقتضي ان تسلمها السلطات الايرانية. فضلا عن ذلك، بدأت ايران ايضا تطالب ببعض امتيازات في الملاحة في شط العرب، (الذي يعتبر مخرج العراق الوحيد الى الخليج وحقوق السيادة على المياه لامكان استخدامها للملاحة من قبل العراق. على اية حال، اعتبر العراق هذه القضايا ليست ذات اهمية كبيرة ويمكن حلها عن طريق المفاوضات، طالما ان الهدف الرئيسي هو اقامة علاقات حسن الجوار ووضع حد الى التسلل والتدخل في الشؤون الداخلية(13).
 ان انهماك الشاه بالامور الداخلية والاحجام البيروقراطي للاسراع في تطبيق معاهدة 1975 جعل العراق يتخذ مبدئيا موقفا وديا من الحكم القائم مؤخرا في ايران الذي جاء عن طريق الثورة الاسلامية. ويبدو، ان قيادة البعث كانت تعتقد ان الحكم الايراني الجديد ربما يتعاون مع العراق، فيما لو اعترفت به وفتحت فصلا جديدا من الثقة والعلاقات الحسنة بين البلدين. مع ذلك، ان قادة ايران الجدد لا شأن لهم بحكم البعث. فقد تجاهلوا، ليس دلائل الصداقة الاولية فحسب انما شرعوا باطلاق تصريحات غير محببة حول العراق وقادته سواء في المراكز الرسمية العليا ام في الصحافة ووسائل الاعلام الاخرى. وسرعان ما اتضح ان نظام الثورة في ايران ليس مستعدا لقبول معاهدة 1975 (او على الاقل تطبيق نصوصها) او الاعتراف بنظام البعث.
 لم يتخذ نظام ايران الجديد قرارا رسميا بصدد معاهدة 1975، الا ان عددا من المسؤولين الكبار (بضمنهم رئيس الوزراء ووزير الخارجية والممثلين في الامم المتحدة) ادلوا ببيانات اعلنوا فيها ان المعاهدة مع العراق الموقعة من قبل الشاه المخلوع لم تعد ملزمة بالنسبة لايران(14). وعندما تكررت هذه التصريحات في الصحف، بعث وزير الخارجية العراقي برسالة الى نظيره الايراني تساءل فيها، فيما لو ان البيانات التي ادلى بها المسؤولون الايرانيون بشأن معاهدة 1975 تمثل موقف الحكم الايراني الجديد. لم يرد أي جواب على هذا الاستفسار(15).
 قد يتساءل المرء، هل اعتبرت المعاهدة ملغية، طالما ان ايران لم تبد ميلا لاحترام النصوص المتعلقة بقواطع الحدود البرية التي توقع العراق بانها ستعاد له؟ ولحكم القانون الدولي، ان المعاهدة ماتزال سارية المفعول وملزمة، حتى لو انها فسخت من جانب واحد دون موافقة الجانب الاخر او الاطراف الموقعة لها. فضلا عن ذلك، نصت معاهدة 1975، من ان احكامها (بضمنها البروتوكول الملحق بها) ” لا يجوز خرقها قانونيا في أي ظرف وان انتهاك أي فقرة من فقرات التسوية الشاملة سوف يتعارض مع  روح معاهدة الجزائر (المادة 4). بما ان يران فشلت في مراعاة الاحكام المتعلقة بالحدود البرية ورفضت اعادة القواطع الثلاثة للعراق، فهل ينبغي ان يتنازل العراق عن سيادته لمنتصف مياه شط العرب؟
 اعلن العراق فسخ المعاهدة كخطوة رسمية لانقاذ نفسه من التزاماته قبل ان يطالب باللجوء الى التحكيم حول القواطع البرية الثلاثة التي رفضت ايران تسليمها بموجب المعاهدة. لهذا، ان روح اتفاقية الجزائر، التي لاقت ترحيبا من قبل الموقعين من انها ستفتح فصلا جديدا في علاقات حسن الجوار، قد تلاشت تقريبا حال جفاف الحبر الذي وقّعت به.
 
الهوامش

1. في عامي 1973 و 1974 ، كانت هناك طريقتان مباشرتان للاتصال بين الممثلين العراقيين والايرانيين (مع انها لم تعلن انباء رسمية حولها) الا انه لم يتم التوصل الى اسس عامة يمكن الاتفاق عليها. حصل اللقاء الاول في بغداد عندما وصل عباس مسعدي نائب مجلس الاعيان الايراني ورئيس تحرير صحيفة اطلاعات الى بغداد واجتماعهم مع عدد من القادة العراقيين. وحصل اللقاء الثاني في جنيف عام 1974، عندما اجتمع وزير خارجية ايران خلعتبري مع وزير خارجية العراق مرتضى الحديثي (حديث وزير خارجية العراق طارق عزيز مع المؤلف في بغداد بتاريخ 30 ايار 1986). وخلال زيارتي الى بغداد عام 1974، اخبرني نائب الرئيس العراقي صدام حسين بان العراق لا يوافق على تقسيم السيطرة على شط العرب (حديث مع المؤلف في 6 أي 1974).
2. تحدث الشاه باللغة الفرنسية وتحدث صدام حسين باللغة العربية. وبما ان بومدين يتكلم العربية والفرنسية بطلاقة، فقد عمل كمترجم بين ضيفيه.
3. محمد رضا بهلوي، رد على التاريخ (نيويورك 1980) ص 133. ان اشارة الشاه الى  ” النفوذ الاستعماري ” ربما الى بريطانيا التي اثرت على العراق وايران في المفاوضات التي ادت الى ابرام معاهدة 1937.
4. المصدر نفسه.
5. للاطلاع على النص الكامل، راجع ملفات وزارة الخارجية العراقية ص 285. راجع تقرير وزارة الخارجية العراقية ” العدوان الايراني” بغداد 1981 ص 67 – 69.
6. راجع الجمهورية الديمقراطية الشعبية الجزائرية. مذكرة قدمت من قبل الجزائر الى مؤتمر رؤساء واعضاء دول الاوبك (الجائر 1975) ص 4.
7. بعد فترة قصيرة من عودته الى ايران، اخبر الشاه السفير الامريكي في ايران ريشارد هيلمز ان والده ارتكب خطأين يحاول تصحيحها.  في مفاوضاته مع بريطانيا عام 1933، لم يحاول تأميم الصناعة النفطية. وفي مفاوضاته مع العراق من اجل معاهدة 1973 ، لم يصر على ان خط التالوك هو خط الحدود في شط العرب. اما في عام 1950، قال الشاه انه حقق التأمين.
وفي الجزائر عام 1975 استطاع تثبيت خط التالوك كحدود في شط العرب (حديث ريشارد هيلمز مع المؤلف في 13 اذار 1986).
8. للاطلاع على نصوص المعاهدة وبروتوكولاتها، راجع كتاب مجيد خدوري ” العراق الاشتراكي” واشنطن دي. سي. 1978 (الملحق ئي).
9. بما ان الولايات المتحدة وافقت على تعهدات الشاه باسناد الملا مصطفى فان قرار الشاه بوقف مساعدته للاكراد دون التشاور المسبق مع الامريكان لابد وان يكون مثبطا لعزيمة صانعي السياسة الامريكية. ولدى اطلاعه على محاضر اتفاقية الجزائر، قيل بان هنري كيسنجر غضب من قرار الشاه بوقف المعونة عن الاكراد.
10. وفي مقابلة مع الملا مصطفى ومستشاره محسن دزئي في واشنطن في 12 كانون الاول 1976 استفسرت منهم فيما لو ان اعتماد الاكراد على الدول الاجنبية كان مساعداً في حل المشكلة الكردية قد تعلموا الدرس بان لابد من الاعتماد على انفسهم، على افتراض انهم سوف يحلون خلافاتهم مع العراق بطرق سلمية لان اللجوء الى الحرب قد زاد التوتر والحق اضراراً بالطرفين.
11. ان القواطع الرئيسية الثلاثة التي بقيت تحت السيطرة الايرانية هي: سيف سعد، زين القوس وميمك، وزارة الخارجية العراقية ” الصراع العراقي – الايراني في القانون الدولي ” (بغدد 1981) ص 58. ان هذه القواطع مهمة من الناحية السوقية لانها تشرف على بعض المدن العراقية عبر الحدود وهي واهنة للقصف الجوي الايراني.ويقول سعدون حمادي وزير خارجية العراق ” وهذا ما حدث بالضبط عندما هاجمت القوات الايرانية العراق في 4 ايلول 1980 (سعدون حمادي – ملاحظات حول مسألة الحرب مع ايران بغداد 1982 ص 88).
12. المصدر نفسه.
13. مقابلة سعدون حمادي للمؤلف في بغداد 21 تشرين الثاني 1985.
14. راجع خطاب رئيس الوفد الايراني امام الجمعية العامة للامم المتحدة (الملفات الرسمية أي/35/بي في 33 للامم المتحدة في 10 تشرين الاول 1980).
خطاب الرئيس علي رجائي امام مجلس الامن (الملفات الرسمية لمجلس الامن رقم اس/ بي في، تشرين الثاني 1980). اما بالنسبة للتصريحات الاخرى التي ادلى بها وزير خارجية ايران صادق قطب زادة والمسؤولين الكبار الاخرون، راجع كتاب ” الحرب العدوانية ضد الجمهورية الاسلامية في ايران طهران 1981.
15. وزارة الخارجية (العراق) ” الصراع العراقي – الايراني في القانون الدولي ” ص 60
16. المصدر نفسه ص 64

 

 
تغييرات نظامي الحكم في العراق وايران
والتطـورات السياسية المؤدية لحرب الخليج

 ماكادت تمضي اربع سنوات منذ ان توصل كل من العراق وايران على تسوية سلمية في الجزائر (1975) حتى حدثت تغييرات مهمة في البنية السياسية لكلا البلدين، التي كان لها تأثير معاكس على العلاقات الودية القائمة بينهما. ففي شهر كانون الثاني 1979، تمت الاطاحة بحكم الشاه من قبل الثورة الاسلامية. وبعد ستة اشهر، انتقلت رئاسة العراق من احمد حسن البكر الى صدام حسين. ليس الغرض هو تحري الاسباب والاحداث المؤدية الى قيام الثورة الاسلامية في ايران او تركيب النظام السياسي في العراق. مع هذا، ان التغييرات في التركيب السياسي للعراق عقب انتقال الرئاسة من احمد حسن البكر الى صدام حسين (الاحداث التي يعرفها القراء في الغرب بدرجة اقل من تأسيس الجمهورية الاسلامية) لها تأثيرات بعيدة الامد، ليس على العلاقات العراقية – الايرانية فحسب، وانما على العلاقات العراقية – السورية وبالتالي على تطور حرب الخليج.
 لقد لاحظنا مؤخرا بان فارس، قبل ظهورها كدولة مستقلة، كانت جزءاً من المجتمع الاسلامي الكبير، الذي يعتبر جميع البلدان الكافرة في ” حالة حرب ” (استعارة المفهوم القانوني الحديث) مع الاسلام. ولكن، طالما انها انفصلت عن الوحدة الاسلامية وتبنت المذهب الشيعي كدين رسمي فان ادارة علاقاتها الخارجية لابد وان تتغير بدرجة كبيرة لكي تقبل كعضو في مجموعة الامم المتمدنة. وباحياء القيم الاسلامية القديمة في هذا اليوم، فقد طمحت الثورة الاسلامية عكس التطورات القائمة سابقاً، عندما انفصلت فارس عن الوحدة الاسلامية وبدأت تدريجيا بتبني المعالم الدنيوية الحديثة. وبموجب النظام السياسي الاسلامي، ان الحدود التي تفصل دول اسلامية عن اخرى غير معترف بها. فالامام او ما ينوب عنه (طالما ان حكم الامام هو معلّق حسب الاعتقاد الشيعي) هو نظريا الحاكم الاعلى لجميع المؤمنين بصرف النظر عن الانفصال الاقليمي. يعتبر (اية الله ) الخميني السلطة الدينية العليا في ايران ويؤدي دور الامام (او نائبة) ومن حقه دعوة المؤمنين في كافة ارجاء العالم للتمرد ضد الحكم الاجنبي والظلم والحكام غير العادلين.
 وحسب وجهة نظر الخميني، ليس هناك خلافات اساسية بين التعاليم السنية والشيعية بشأن العلاقة بين المؤمنين والكفار. يبدو، ان تعاليمه ترمي لترسيخ تعاليم الزعماء الروحانيين في البلدان الاسلامية الاخرى الذين دعوا ايضا الى ارساء معايير اسلامية ونددوا بالظلم والضغوط الاجنبية. لهذا، فليس من المستغرب بان يدعو، بعد تأسيس الجمهورية الاسلامية في ايران، علماء الاقطار الاخرى للقيام بانقلابات مشابهة تثير الفزع في قلوب الحكام المسلمين بالاخص العناصر المتطرفة التي اصبحت في السنوات الاخيرة نشطة.
 وبعد قيام الجمهورية الاسلامية في ايران، بدأت القيادة الايرانية (بموافقة الخميني غير المعلنة) بتأكيد مبدأ شرعية الامامة (بأن الامام يجب ان يكون من سلالة الخليفة علي مباشرة) التي هي غير مقبولة لاتباع المذهب السني الذين يصرون على مبدأ انتخاب الامام (او الخليفة) علنا. بما ان اخر ائمة الشيعة قد اختفى في القرن التاسع (الا انه سيعود اخيرا كمهدي او مسيح)، فمن البديهي ان العلماء سوف يؤمنوا التوجيه للمؤمنين اثناء غياب الامام.
اصبح حكم الشاه في ايران ينشد مشورة وتوجيه العلماء حول مسائل تتعلق بالقانون والدين، ولو انه من الناحية العملية يتجاهل تلك المشورة. مع ذلك، لم يقف جميع العلماء معا ضد الشاه عندما تسللت المبتكرات الدنيوية الغربية واعمال الظلم والممارسات الفاسدة الاخرى الى الادارة المدنية، طالما ان البعض اعتقد ان واجبهم ينحصر باسداء النصح فقط، وليس الانهماك في النشاطات السياسية.
 ولايمان الخميني بالعنف، فقد وجه نداءاً لكافة العلماء من ان واجبهم هو ليس مجرد تقديم النصح، لان في حالة تجاهله فانهم ملزمين بحكم الواجب بتولي المسؤولية ووضع حد لظلم الشاه وسياسته الطائشة.
في خطبه حول الحكومة الاسلامية التي القاها في النجف قبل الثورة، اقترح تكوين حكم يترأسه الفقهاء (علماء قانون) يدعي ولاية الفقيه (حكم علماء القانون) ويتولى كافة الصلاحيات بموجب الشريعة التي يقتضي ان تتقدم التشريع المدني وتصبح الاساس في جميع القرارات السياسية، بما فيها الشؤون الخارجية(1). وعقب الثورة الايرانية، تم تشكيل مجلس أعلى يتزعمه الخميني، على افتراض ممارسة واجبات ولاية الفقيه وتوجيه الثورة الاسلامية التي واجبها هو وضع السلطة العليا للامام في حيز التطبيق. بالطبع، ان اهتمام خميني الآني هو الظروف السائدة في ايران، الا ان دعوته لتكوين حكومة اسلامية كانت بمثابة رسالة الى علماء البلدان الاسلامية. ان خطبه بصدد الموضوع قد نشرت عندما كان لايزال منفيا وان افكاره واراءه المثالية قد ارتقت فوق المفهوم القومي، طالما انه تحدث بصوت امام يتقدم على عهد القومية وان دعوته ليست موجهة الى اتباع الشيعة فحسب، وانما الى جميع المؤمنين.
 في اعقاب الثورة الايرانية، لقيت اراء ورسائل الخميني تجاوبا من قبل الشيعة الايرانيين المتمسكين دائما بالقومية الفارسية. في الحقيقة، كلما اصبح منهمكا بعمق في الشؤون الداخلية كلما بدت نشاطاته تتضح اكثر وتكشف التقاليد الفارسية خاصة بعد ان اصبحت ايران متورطة في حربها مع العراق. لم يعد النظام الايراني الجديد قادرا على تحقيق وعود الثورة التي تلقت في البداية اسناداً من عناصر عديدة خارج الدوائر الكهنوتية. ويمكن القول بان هناك ثلاثة عوامل جوهرية قد اثرت بدرجة كبيرة على خصوصية الثورة الاسلامية وحصرها في النطاق القومي.
 اولاً، اصرار خميني على ان السلطة العليا للامام (السبب الجوهري في انقسام الاسلام الى طائفتين رئيسيتسن) تمارس طبقا للعقيدة الشيعية مما شجع علماء السنة على معارضة هذا الرأي(2). وقبل الثورة، تحاشى الخميني الخوض في الاختلافات الجدلية حول الامامة بين علماء السنة والشيعة. مع ذلك، منذ عودته الى ايران، فقد تمت مخاطبة الخميني من قبل اتباعه ” بالامام ” على افتراض المعني الضمني بانه اما ” نائب ” الامام المحتجب او رئيس مجموعة العلماء المتمثل في المجلس الاعلى للثورة الاسلامية. في أي من الحالتين، تسميته غير مقبولة سواء من علماء السنة ام بعض رجال الدين الشيعة الذين رفضوا تفسير العقائد الشيعية، وبالاخص مفهوم ولاية الفقيه. في الواقع، هناك بعض الاشخاص الذين يعتقدون بانه لا يستحق ان يدعى حتى ” نائب ” الامام.
 ثانياً، ان دعوة خميني الاولية للمؤمنين في البلدان الاسلامية الاخرى للمشاركة في الثورة الاسلامية اثار حماس المتطرفين في مصر ومنطقة الخليج والباكستان والبلدان الاسلامية الاخرى (في الحقيقة، حاول البعض الاستيلاء على السلطة بالقوة)، الا ان مشاركته في الثورة الايرانية والنزاع بين قادة الثورة الايرانيين قد اساء لسمعة زعامته الروحية ووصمها بالتعصب الضيق، ان لم يكن على وجه التحديد منحازا قوميا. ولكي يضمن نجاح الثورة الاسلامية، كان ملزما في تقديم دعم للزعماء الثوار الايرانيين وذلك لكي تكون ايران مصدر انطلاق الثورات الاخرى في العالم. مع ذلك، بدلا من الارتقاء فوق مستوى الجماعات المتنافسة، التزم جانب الزعماء الذين يمثلون وجهات نظره الدينية المتطرفة. وعندما فاز المتطرفون، هرب الزعماء المعتدلون من البلاد وحذروا مواطنيهم من منفاهم باخطار التطرف الديني. وربما لا يقل اهمية ان خميني، ولو انه مطلّع بدقة على التعاليم الاسلامية، ليس على اتصال بالحركات الحديثة. وبخلاف جمال الدين الافغاني، الذي طاف في البلدان الاسلامية (وكذلك اوربا) وخاطب اتباع السنة والشيعة على حد سواء، فان رحلات الخميني الى الخارج كانت محدودة نسبيا (لم يمض سنة واحد في باريس بعد مغادرته للنجف) وعاد الى ايران وهو طاعن في السن دون أي رغبة لمغادرتها ثانية. لقد اعطى انطباعا، قولا وفعلا، من ان اهتمامه الرئيسي هو الشؤون الاسلامية التقليدية (الشيعية) وان لم يكن ذلك قصده الاساسي. لهذا، خسر تأييد العناصر الاسلامية المعتدلة.
 ثالثاً، ان مذهب خميني في ” تصدير ” الثورة، المعلن بعد انهيار حكم الشاه، ربما في البداية يستهدف انتشار الحركة الثورية بالوسائل السلمية. في عام 1972، عندما كان منفيا في النجف، القى خطبا في الجهاد (المفهوم الاسلامي للحرب) الذي اكد فيه على الجانب الدفاعي وركز بشكل خاص على كفاح الفرد ضد قوى الشر. فضلا عن ذلك، قال ان الهدف النهائي هو نقاء الروح(3). ان هذا الجانب من الجهاد، على نقيض الرأي من ان الجهاد يركز على اللجوء الى العنف، يدعي دائما (بالجهاد الاكبر). وبعد قيام الجمهورية الاسلامية لم يخف الخميني نواياه بنشر الثورة الاسلامية الى الاقطار الاخرى عن طريق العنف، الذي اثار قلق جيرانه القريبين. صحيح، ان واجب الجهاد، حسب النصوص القديمة، يمكن القيام به بطرق عنيفة وكذلك سلمية وان الجوانب الدفاعية والتعرضية للحرب تصبح غير قابلة للتمييز، لاسيما في حروب ضد البلدان الكافرة(4). الا ان هدف خميني في ” تصدير الثورة “، وليكن انجاز واجب الجهاد، يقتضي توجيهه ضد الكفار خارج البلاد الاسلامية وليس ضد المؤمنين في الداخل حسب النصوص الموثقة(5). وبتشجيع من خميني، يبدو ان اتباعه قد تأثروا بالسرعة التي تم فيها اقامة الجمهورية الاسلامية وطمحوا الى تصدير خيراتها الى جيرانها في اقرب فرصة ممكنة. حسب رأيهم، ان الانظمة التي يسيطر عليها حكام علمانيون، مثل نظام البعث في العراق وانظمة السلالات في الخليج، قد وقعت تحت تأثيرات اجنبية، ولهذا، كشأن النظام الايراني في عهد الشاه، فهي لا تستحق البقاء. وعلى هذا الاساس فقد ادينت الانظمة علنا واعتبرت فاقدة للشرعية وعرضة للسقوط بحكم الواجب الديني وحسب ما ورد في الآية القرآنية التي نصها (( يا ايها الذين امنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا ان الله مع المتقين )) سورة التوبه، الآية 123(6).
 وكما لوحظ سابقا، ان الكفار المشار اليهم، ليسوا من رعايا الدولة الاسلامية (مالم يصبحوا مرتدين) وانما هم خارج حضيرة الاسلام(7). لهذا السبب، اعتبر العراق ودول الخليج الاخرى مذهب الخميني في تصدير الثورة لا صله له بالاسلام وتهديد للانظمة القائمة الان، ناهيك عن انتهاك السيادة الاقليمية والتدخل في الشؤون الداخلية لبلدانهم من خلال اثارة العناصر الشيعية ضدهم.
 في البداية، ان نبأ سقوط حكم الشاه على يد الثورة الاسلامية قد استقبل في العراق ودول الخليج الاخرى بشعور ممزوج من المشاعر. فعلى الصعيد الشيعي، كان رد الفعل لسقوط الشاه مواتيا، طالما ان رجال الدين قد تحالفوا في البداية مع القادة الاحداث الذين تلقوا تعليمهم في المعاهد الغربية. على اية حال، كان من المؤمل ان يقتفي القادة الجدد سياسة خارجية متعاطفة مع طموحات الاقطار الاسلامية الاخرى وكذلك الاقطار العربية، طالما ان خميني والقادة الاحداث صرحوا في مناسبات عديدة بدعم منظمة التحرير الفلسطينية والمنظمات الاخرى. وزيادة على ذلك، ان بعض قادة البعث في مراكز رسمية عليا، من منتقدي السياسة التسلطية، زعموا ان الثورة الاسلامية قد توفر فرصة للثقة والتعاون طالما ان القادة الجدد ادانوا الاحلاف الاجنبية ورغبوا بأتباع سياسة خارجية غير منحازة. وابتداءاً من شهر شباط 1979، عندما كانت الثورة ماتزال في طورها الاولي، ولغاية شهر تموز 1979، عندما انتقلت زعامة العراق من احمد حسن البكر الى صدام حسين، فان مسألة فيما لو ينبغي على العراق ان يتخذ موقف مؤيد او غير متميز تجاه الثورة الايرانية قد نوقش مرارا في الجلسات السرية لمجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية لحزب البعث. ناقش عدد من قاده البعث ان النظام الجديد لا يتوقع منه بان يغير سياسة ايران في السيطرة على العراق ومنطقة الخليج واقترحوا اتخاذ موقف حازم ضدها. اما القادة الاخرون، فقد ارتأوا بان كلتا الحكومتين قد دعت لعدة اهداف متشابهة (الاستقلال التام وسياسة خارجية في عدم الانحياز والمبادئ الثورية الاخرى) التي قد تكون الاساس للتعاون بينهما. زعم بان البكر قد اتخذ الموقف الاخير. الا ان الاخرين آثروا في التحلي بالصبر لحين انجلاء الموقف الرسمي للنظام الجديد تجاه العراق.
 وعقب قيام الجمهورية الاسلامية، فان وجهة نظر المعتدلين، الذين سعوا لتسوية الخلافات مع ايران وبدء عهد جديد من التعاون والعلاقات الحسنة، قد سادت. الا ان النظام الايراني الجديد بدا غير مستعد للتباحث مع العراق على اساس المساواة وتبادل المنافع والاحتفاظ بادنى حد من العلاقات الاعتيادية بين البلدين المتجاورين. ومع ذلك، ان البكر تذرع بالصبر على امل ان الظروف الداخلية في ايران قد تتحسن وان القادة المعتدلين ربما يتولون المسؤولية. غير ان الاتجاهات السياسية في ايران لم تكن مشجعة وبدأ رجال الدين المتطرفون مؤخرا في طريق تسلق السلم السياسي. ومما يثير الدهشة ان عدداً قليلاً من قادة البعث قد قلقوا من ان انتقال السلطة الى رجال الدين الايرانيين ربما يشجع الفئات المعارضة في العراق على التمرد ضد نظام البعث. لقد ادركوا مدى اهمية القوة في حماية النظام من تسلل عناصر الثورة الى البلاد.
 في مثل هذه الظروف، ان الاتجاهات السياسية في العراق والاقطار العربية الاخرى بدأت بالتغيير وان العلاقات بين العراق وايران سارت نحو الاسوأ.
 هناك حادثتان قادت الى انتقال السلطة من البكر الى صدام حسين وان الداعين الى موقف حازم من ايران قد برزوا في الامام.
 اولاً، الزيارة التاريخية للرئيس انور السادات الى القدس عام 1977 الرامية في البداية لحل النزاع العربي مع اسرائيل الذي يقود الى ابرام اتفاقية مستقلة بين مصر واسرائيل. في احدى جلسات مؤتمر القمة العربي في بغداد (2 – 5 تشرين الثاني 1978 ) تم توقيف عضوية مصر في الجامعة العربية وقطعت العلاقات الدبلوماسية معها(8). لعب نائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي وقتئذ صدام حسين دورا بارزا في مؤتمر قمة بغداد الذي سلط الضوء على شخصيته في معالجة الشؤون العربية الداخلية. زيادة على ذلك، ان سوريا باعتبارها حليفة مصر في حرب تشرين ضد اسرائيل (1973) اتخذت موقفا صارما من السادات، وبالتعاون مع العراق، اقنعت الدول العربية الاخرى على مقاطعة مصر عقب اعتراف السادات بأسرائيل. في خضم هذه الاحداث، بدأ كل من العراق وسوريا بمفاوضات في اعلى المستويات لامكان تحقيق وحدة بين البلدين وتأمين قيادة مؤثرة في الشؤون العربية الداخلية. ان هذه المفاوضات، التي استمرت حتى عام 1979، قد توقفت فجأة بسبب قضايا جانبية نتناولها فيما بعد.
 ثانيا، في الوقت الذي كانت مفاوضات الوحدة جارية، شعر البكر، الذي تدهورت صحته منذ زمن طويل، بانه مجبر على استشارة مجلس قيادة الثورة حول قراره للتخلي عن منصبه. انتشرت الشائعات في الحال من انه كان مرغما على التنازل عن منصبه، طالما ان الاحداث في ايران والمفاوضات مع سوريا لم تكن جارية وفق رغبات قادة حزب البعث الكبار. في الحقيقة، لم تكن المرة الاولى التي رغب فيها البكر الاستقالة طالما انه يعاني من امراض عديدة (بضمنها ضغط الدم العالي ومرض السكر) ويريد العناية بصحته. قبل خمسة اعوام، كان البكر يفكر باعتزال الخدمة لاسباب صحية، الا ان قادة الحزب الكبار اقنعوه بالبقاء في السلطة(9). وليس من الغريب من انه كلما زادت وطأة العمل، شعر البكر ان البلاد بحاجة الى قيادة اكثر تصميما وان الوقت قد حان للأستقالة. كان من المسلم به بان صدام حسين سيخلفه في المنصب وان البكر عبر شخصيا عن رغبته بترشيح صدام حسين للرئاسة. الا ان الاحداث السريعة المتعاقبة والجارية في اعقاب المفاوضات المعقدة للوحدة مع سوريا، تقود الى التساؤل من ان تنازل البكر كان مفروضا.
 في 1 تشرين الاول 1979 ، خلال الاعداد لاجتماعات مؤتمر القمة في بغداد، عرض مجلس قيادة الثورة مشروعا بموجبه تقرر ما يلي:-
1. يسمى المؤتمر مؤتمر القمة العربي ويعقد في بغداد لمناقشة القضايا الممكن اتخاذها في التصدي لاتفاقية كامب ديفيد.
2. دعوة سوريا والعراق للتعاون في المواجهة المرتقبة مع اسرائيل.
3. دعوة جميع الاقطار العربية لتشكيل جبهة ضد تنفيذ اتفاقية كامب ديفيد وتوفير اموال كافية لفترة عشر سنوات.
وما ان تم اعلان قرار مجلس قيادة الثورة حتى بعث حافظ الاسد برسالة مؤثرة الى البكر عبر فيها عن قلقه حول فقدان التعاون بين العرب في تصديهم لخطة السلام المرتقبة للنزاع العربي مع اسرائيل، واضاف بانه لم يمر وقت كانت فيه الحاجة للوحدة بين العراق وسوريا بهذا الشكل الملح. ويتعين عليهم الوقوف معا ضد خطوة السادات في ابرام اتفاقية سلام مع اسرائيل. وتساءل الاسد، لو كانت مصر قادرة على اقامة سلام مع اسرائيل فكيف يمكن للعراق وسوريا (البلدين المتآخين) ان يخفقا في التعاون ضد عدوهم المشترك، في حين انهما ادعيا بالانتماء الى حزب واحد (حزب البعث) ويدافعان عن نفس الاهداف القومية؟ واشيع بان البكر قد تأثر لحد كبير بنداء الاسد وبانه طلب في الحال البدء بمفاوضات الوحدة بين البلدين. كان صدام حسين في ذلك الوقت في المملكة العربية السعودية يحضر اجتماع قمة عربي وعاد في الوقت المناسب للمشاركة في جلسات مجلس قيادة الثورة والقيادتين القطرية والقومية جرى خلالها مناقشات رسالة الاسد.
اتفقت الاراء جميعا على استئناف المفاوضات مع سوريا، لم تكن هذه المرة الاولى التي تناقش فيها الوحدة بين العراق وسوريا ومناقشة الخطوات اللازم اتخاذها في توحيد القطرين معا في شكل معين من الاتحاد. كلف وزير خارجية العراق طارق عزيز بمهمة استطلاع اراء الاسد بشأن صيغة الاتحاد الذي رغب باقامته. غادر عزيز بغداد الى دمشق يوم 5 تشرين الاول 1978 واجتمع بالرئيس الاسد والقادة السوريين الاخرين في نفس اليوم. وبعد ابلاغه بما حصل من اجراءات في بغداد، سئل الاسد من قبل عزيز ” ما هو نوع الاتحاد الذي تقترحونه؟ ” ولاثبات صحة ما طلب منه، اجاب الاسد بانه يريد ان يقدم العراق مقترحات الوحدة. واضاف قائلا” بلغ تحياتي للرفاق واخبرهم باننا مستعدون لقبول أي شكل من الاتحاد ابتداءاً بالقول ” مرحبا ” الى ” الوحدة الشاملة “.
 ولدى عودته الى بغداد في نفس اليوم، ابلغ عزيز ردود فعل الاسد. قرر القادة العراقيون في الحال اعداد مسودة (( ميثاق العمل الوطني )) ليعرض على القادة السوريين. اقترح في تلك المسودة تشكيل لجنة عليا مؤلفة من اربعة عشر عضوا (سبعة اعضاء من كل قطر) تقرر بالتالي شكل الوحدة الملائمة لكلا القطرين. فضلا عن ذلك، اقترح القادة العراقيون تشكيل عدة لجان للنظر في جميع القضايا ذات المصلحة المتبادلة. تم اقتراح تشكيل خمسة لجان:
1. لجنة الشؤون السياسية.
2. لجنة الشؤون الثقافية والاعلامية.
3. لجنة الشؤون الاقتصادية.
4. لجنة الشؤون التعليمية.
5. لجنة الشؤون العسكرية.
وبتزويده بمسودة ميثاق العمل الوطني ورسالة توضيحية من البكر، غادر عزيز بغداد متوجها الى دمشق بعد اسبوع تقريبا من زيارته الاولى. مكث ليلة واحدة بانتظار رد فعل القيادة السورية. في اليوم التالي، اخبر بأن المقترحات العراقية من حيث المبدأ متفقة مع اراء القيادة السورية. وبعد ابلاغه من ان الاسد نفسه سيزور بغداد قريبا لاجراء مباحثات اكثر حول المقترحات العراقية، غادر عزيز العاصمة السورية حالا.
24 تشرين الاول 1978، وصل الرئيس الاسد الى بغداد على رأس وفد كبير وخلال اليومين التاليين، عقدت عدة اجتماعات جرى خلالها مناقشة المقترحات العراقية. تم نشر النص المنقح والمعنون ” بيان الميثاق الوطني” وعمم على الجمهور. اعلن كل من العراق وسوريا بانهما مستعدان للدخول في مباحثات الوحدة التي سيكون شكلها، فدراليا او وحدة كاملة، عرضة للتمحيص الدقيق، طالما ان امورا معينة مثل العلاقة بين فرعي حزب البعث هي بحاجة الى توضيح اكثر(10).
في 2 تشرين الثاني 1978، عندما كان مؤتمر القمة العربي يعقد جلساته في بغداد (لمناقشة الاجراءات اللازم اتخاذها ضد مبادرة السادات لعقد صلح مع اسرائيل) حصل سوء تفاهم حول معنى الكلمة “واحدة” بين القيادتين العراقية والسورية عندما اخبر البكر حافظ اسد عند زيارته للوفد السوري ” نحن (أي العراقيون والسوريون) يقتضي ان نتعامل مع الوفود العربية الاخرى وكأننا دولة واحدة. ” اخذ تصريح البكر بمعناه الحرفي من قبل الوفد السوري بانه يعني ان القيادة العربية تحبذ قيام دولة موحدة وقد استخدم بمعناه المجازي ليدل على ان القطرين سوف يكونان في معسكر واحد في علاقتهما مع الوفود الاخرى. ان هذه الحادثة، التي زرعت الشك بين القطرين، حفزت لجنة الشؤون السياسية لاستئناف المحادثات حول شكل الوحدة المناسبة لهما.
بما ان لجنة الشؤون السياسية اجتمعت اولا في بغداد، فان اجتماعها الثاني قد عقد في دمشق في كانون الثاني 1979. ترأس الوفد العراقي صدام حسين. في الجلسة الاولى للجنة، كان شكل الوحدة هو الفقرة الاولى في جدول الاعمال لان صدام حسين كان يرغب بمعرفة أي نوع من الوحدة يفكر بها الاسد. مع ذلك، ان الاسد لم يفصح عن رأيه، لقد اشار من انه يحبذ ” الوحدة التي لا يكون احد الطرفين خاسرا فيها ” . على اثر ذلك، اجتمع وزيرا خارجية العراق وسوريا، طارق عزيز وحليم خدام، لمناقشة الصيغة التي ستكون موافقة للطرفين. لقد اقترح ان الحد الادنى للوحدة ينبغي ان يكون بشكل ” اتحاد فدرالي “. كان الوفد العراقي مكلفا بمهمة اعداد مقترحات وحدة الدولة والوفد السوري بمقترحات وحدة حزب البعث.
اجتمع الوفد العراقي في الحال وقام بصياغة مشروع خطة لاقامة دولة فدرالية (اتحادية) تدعى ” بالدولة العربية الفدرالية ” مؤلفة من اقليمين. اقترح بان كل اقليم ينبغي ان يحتفظ بحكومته الخاصة المؤلفة من : رئيس محلي ومجلس وزراء ومجلس قيادة اقليمي ومجلس تشريعي. اما الوفد السوري، الذي كان يتوقع بان يعد خطة معينة لتوحيد حزب البعث، فقد عرض بدلا من ذلك ثلاث خطط لمشروع وحدة الدولة وليس خطة لوحدة الحزب. كانت المقترحات الثلاثة هي خطة تحالف كخطة الوحدة التي كانت قائمة انذاك بين مصر وسوريا وليبيا. دولة موحدة مثل الجمهورية العربية المندثرة ودولة فدرالية طليقة. ولخيبة املهم بغموض الخطط السورية، تساءل الوفد العراقي لماذا لم يقدم الوفد السوري خطة محددة لوحدة حزب البعث. ادعى السوريون في جوابهم بان القضية في غاية الحراجة نظرا للحقيقة من ان هناك عددا من السوريين في حزب البعث العراقي مثل ميشيل عفلق واخرين. وبتهكم وسخرية، رد احد اعضاء الوفد العراقي قائلا ” الا ان هناك ايضا عددا قليلا من العراقيين في حزب البعث السوري” . حتى ان اللجان السورية، ماعدا لجنة الشؤون التعليمية، قد اعدت مقترحات للتنسيق حول قضايا ذات مصلحة متبادلة. ان جلسات اللجنة العليا في دمشق اثبتت خذلانها وان العراقيين عادوا الى بغداد قبل انجاز الاعمال التحضيرية للوحدة.
في 24 حزيران 1979 ، وصل حافظ الاسد فجأة الى بغداد على رأس وفد سوري. اعلن بان الوفد السوري مستعد لمواصلة النقاش حول الوحدة بين القطرين ووحدة فرعي حزب البعث. في البداية، عقدت جلسة سرية بين الاسد (ممثلا لسوريا) والبكر وصدام حسين (ممثلا العراق). وبعد مناقشات مطولة، دعا القادة الثلاثة وزيري الخارجية طارق عزيز وعبد الحليم خدام للانضمام اليهما واخبروهم بانهم وافقوا على  الصيغة ” الجمهورية العربية المتحدة ” كشكل للوحدة بين البلدين، الا انهم لم يتفقوا على شكل مجلس الرئاسة. وبعد مناقشات اكثر، اقترح الاسد تشكيل مجلس مؤلف من عضوين واحد سوري والاخر عراقي كما اقترح البكر صدام حسين ثلاثة اعضاء واحد سوري واثنان عراقيان. وكحل وسطي، عرض طارق عزيز تكوين مجلس من سبعة اعضاء: اربعة عراقيين وثلاثة سوريين. مع ذلك، لم يتم التوصل الى اتفاق.
في جلسة حضرها جميع اعضاء الوفدين السوري والعراقي، جرت مناقشات البرلمان الاتحادي والميزانية الاتحادية. اقترح السوريون بان جميع واردات النفط يجب ادخالها في ميزانية الاتحاد – ولمعرفتهم ان جميع واردات النفط تأتي عن طريق العراق، اقترح العراقيون ان واردات نفط كل منطقة يجب ان تترك لميزانية الاقليم وعرضوا ان نسبة معينة من واردات نفط كل منطقة (يتم الاتفاق عليها فيما بعد) ستخصص الى ميزانية الاتحاد. فيما يخص تأليف البرلمان، عرض السوريون ان العضوية يجب توزيعها بالتساوي بين البلدين، الا ان العراقيين اصروا على ان البرلمان ينبغي ان لا يمثل الاقاليم وانما مجموع السكان. ومع ان هناك ثمة مرونة حول مسائل اخرى، الا ان الطرفين لم يمكنهما الاتفاق على تأليف البرلمان. على اية حال، قبل ان يغادر الوفد السوري بغداد، عرض الوفد العراقي مشروع خطة الوحدة المؤلف مما يلي:
1. رئيس دولة الاتحاد.
2. نائب الرئيس.
3. مجلس قيادة (مؤلف من 14 عضوا موزع بالتساوي بين البلدين).
4. حكومة اتحادية (مؤلفة من 7 وزارات: الخارجية، الدفاع، الاعلام والثقافة، التخطيط، التعليم، العدل والمالية).
5. البرلمان (مؤلف من اعضاء منتخبين حسب عدد السكان في كل قطر).
6. حكومة محلية لكل قطر.
7. دستور اتحادي.
     فيما يخص وحدة حزب البعث فان الموضوع ترك مفتوحا، اما توحيدهما في حزب واحد او تقسيمها الى فرعين (فرع في كل اقليم).
 ان الصخرة التي تحطمت عليها الوحدة بكاملها هي مسألة الرئاسة، التي نوقشت باستمرار بين اعضاء الوفدين، الا انها لم تدرج في جدول الاعمال لغرض بحثها. مع ذلك، ان كل وفد كان مطلعا على اراء الوفد الاخر. ان العراقيين ركزوا بشكل خاص على ان الرئيس يجب ان يكون من العراق بسبب قدرة البلاد البشرية والطبيعية ودورها الحضاري في تاريخ العرب. تبلورت هذه الاراء بوضوح في اللقاءات غير الرسمية. ومع ان القادة السوريين اعتبروا وجهات النظر العراقية تعبيرا عن التقاليد المحلية الضيقة، الا انهم لم يعبروا عن ارائهم الخاصة بصدد القضية اطلاقا. ان الخلافات حول الرئاسة وتأليف البرلمان افاضت القادة السوريين واثبتت دائما انها سبب الانشقاق حول قضايا غير هامة مثل الحدود الاقليمية واختيار عاصمة الاتحاد. وبينما كانت المفاوضات ماتزال متوقفة، غادر الاسد بغداد فجأة بحجة هجوم الاخوان المسلمين المباغت على معسكرات حلب التي اثار شعورا طائفيا في البلاد، الا ان السبب الحقيقي لمغادرته هو الخلافات على الرئاسة. ان مفاوضات الوحدة لم تستأنف ابدا(11). في الواقع، ان العلاقات بين العراق وسوريا بدأت بالتدهور وقادت البلدين الى اللجوء دائما للعنف، ولاسيما بعد انتقال الرئاسة من البكر الى صدام حسين. فوق ذلك، اتهمت القيادة السورية بالتدخل في انتقال السلطة من البكر الى صدام حسين. وعندما دخل العراق الحرب مع ايران، وقفت سوريا بجانب ايران بسبب التنافس الكبير على القيادة.
 ما كاد يمضي شهر واحد على مغادرة الاسد بغداد، الا وقرر البكر التخلي عن منصبه. ومع ما شيع بانه ربما فرضت عليه الاستقالة بسبب اختلافات وجهات النظر حول قضايا معينة للسياسة الخارجية. كان البكر في الحقيقة متوعك الصحة ومصرا على ترك منصبه. ولكي يتحاشى اعطاء انطباع ان هناك خلافات شخصية بين الزعيمين الكبيرين، اقترح البكر ترشيح صدام حسين خليفة له.
 على اية حال، هناك غموض دستوري معين حول انتخاب رئيس الجمهورية. تنص المادة 38 من الدستور المؤقت ان طريقة انتخاب الرئيس تكون على الوجه التالي:
 يقوم مجلس قيادة الثورة……. باغلبية ثلثي……. (أ) انتخاب الرئيس من بين اعضائه الذي يدعى باسم رئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الجمهورية. ان هذه الفقرة لا تشير الى مدة بقاء الرئيس في المنصب او امكانية استقالته. يبدو بان من المسلم به ان الرئيس سوف يخدم طيلة حياته وبان مجلس قيادة الثورة سينتخب بثلثي اعضائه أي عضو كرئيس. مع ذلك، لو ان الرئيس استقال، فهل يمكنه ترشيح نائب رئيس لانتخاب محتمل من قبل مجلس قيادة الثورة؟ يحتمل، ان هذه المسائل واخرى غيرها… قد خطرت في اذهان بعض اعضاء مجلس قيادة الثورة قبل اجتماعهم لمناقشة استقالة البكر. في البداءة، كان صدام حسين المرشح الطبيعي للرئاسة بسبب مؤهلاته وصفاته الشخصية العالية. لم يكن هناك أي مرشح اخر يمكن ترشيحه كمنافس لصدام حسين. لابد وان احاديث كثيرة بين اعضاء مجلس قيادة الثورة حول انتقال السلطة قد حصلت مباشرة بعد ان اعلن الرئيس البكر عن رغبته بالاستقالة، الا ان ما يبدو ظاهريا لم تكن هناك خلافات في الرأي بينهم.
 في 11 تموز 1979، دعا البكر مجلس قيادة الثورة للاجتماع الذي ترأسه شخصيا واعلن في عبارات صريحة من انه يرغب بالتخلي عن منصبه بسبب تردي حالته الصحية وعدم قابليته لانجاز واجباته بالشكل المطلوب. بعد ذلك، طلب اعفاءه من كافة الواجبات الرسمية. وبعد هذا العرض الموجز، انسحب البكر وترأس الاجتماع صدام حسين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة. ومع ان رغبة البكر للاستقالة لم تكن مخفية على القادة الاخرين وانهم جميعا تأسفوا على عمله هذا، الا انهم قدروا هذه الرغبة.
 في اليوم التالي، اجتمع مجلس قيادة الثورة ثانية لانتخاب رئيس جديد طبقا لشروط الدستور المؤقت. تم ترشيح صدام حسين وانتخب بالاجماع كرئيس للجمهورية ومجلس قيادة الثورة لحزب البعث. وانتخب عزت الدوري، احد اقطاب حزب البعث الكبار، نائبا للرئيس. وتقرر اعلان نتيجة انتخاب الرئيس ونائب الرئيس يوم 16 تموز وبان يعلن البكر استقالته وانتخاب صدام حسين في بيان يذاع على الشعب في ذلك اليوم. في يوم 17 تموز، تقرر القيام باحتفالات ومسيرات لاحياء ذكرى ثورة 17 تموز وتولي صدام حسين منصب الرئاسة.
 وما ان تم تنفيذ هذه الاجراءات، الا ونبرى محي الدين حسين مشهدي (المعروف لدى رفاقه بالشمري) رئيس ديوان الرئاسة والسكرتير العام لمجلس قيادة الثورة، ليعلن طعنه بالانتخابات: ” لماذا قبلت استقالة البكر بهذه السرعة؟ ” ان المعنى الضمني كان ينبغي اقناع البكر بالبقاء وقد سبق وان وافق على البقاء عندما طلب منه ذلك. وعلى ما يبدو، ان هذه الملاحظة العابرة قد اتخذت بشكل جدي من قبل اكثرية اعضاء مجلس قيادة الثورة، لانها عرضت بعد انتهاء انتخاب صدام حسين رئيسا وعزت الدوري نائبا له.
 لقد دللت بان محي الدين غير راض عن الانتخابات (في الحقيقة، تعني رفض الاجراءات التي اتخذها مجلس قيادة الثورة) التي شارك فيها. لو طرح سؤاله يوم 11 تموز في جلسة مجلس قيادة الثورة عندما عرض البكر استقالته، فلربما ان معارضته مقبولة وربما تناقش بنفس الروح التي عرفت بها، ولو ان من المشكوك بان تغير الاكثرية وجهات نظرها. الا اعتراضه على قبول استقالة البكر خلال اجتماع مجلس قيادة الثورة بعد انتخاب الرئيس ونائب الرئيس قد اثار شكا من اعادة النظر في ارائه ربما كانت نتيجة مؤامرة، طالما انه شوهد خلال اليوم بين الاجتماعين لمجلس قيادة الثورة يتحدث على انفراد مع محمد عايش وزير الصناعة السابق وربما اعضاء اخرين من حزب البعث. تم القاء القبض عليه حالا بعد اجتماع مجلس قيادة الثورة يوم 12 تموز. وبعد ان استأنف مجلس قيادة الثورة جلسته في نفس اليوم، قرر طرد محي الدين من عضوية المجلس واحالته الى لجنة تحقيق خاصة. بعد ذلك، قام مجلس قيادة الثورة بتشكيل وزارة جديدة. بالاضافة للرئاسة، عهد لصدام حسين منصب رئيس للوزراء ويساعده ثلاثة نواب لرئيس الوزراء يعينون من بين اعضاء الوزارة الجديدة.
 وكما كان متفقا، وجه احمد حسن البكر بتاريخ 16 تموز خطابا الى الشعب اعلن فيه استقالته من الرئاسة وانتخاب صدام حسين رئيسا جديدا. اثنى على خلفه ثناءاً بالغاً ووصفه بالشخص الاكثر ملائمة للرئاسة(12). كما اذيع على الشعب خبر تشكيل الوزارة الجديدة واسماء اعضائها. في الوقت نفسه، كان عدنان الحمداني، احد نواب رئيس الوزراء الجدد ووزير التخطيط، متوجها الى دمشق لتبليغ القيادة السورية بانباء انتخاب السيد صدام حسين لرئاسة. ف ي18 تموز، دعا صدام حسين الى مكتبه بعض القادة الكبار في مجلس قيادة الثورة لكشف النقاب عن قرارات لجنة التحقيق الخاصة فيما يخص مؤامرة محي الدين مشهدي. لقد اعترف مشهدي امام اللجنة بان الملاحظة التي ابداها حول استقالة البكر لا تعكس مجرد رأية الشخصي فحسب، وانما رأى اربعة اعضاء اخرين من حزب البعث: عدنان الحمداني نائب رئيس الوزراء الجديد ووزير التخطيط، وغانم عبد الجليل رئيس الديوان الجديد ووزير التعليم العالي سابق، محمد محجوب وزير التربية ومحمد عايش وزير الصناعة السابق. واعترف مشهدي بانه اتفق سرا مع شركائه الاربعة بضرورة الاستيلاء على السلطة بالتعاون مع الحكومة السورية التي تعهدت بتقديم الدعم المالي والعسكري. ولما كان عايش انشط الاربعة، فقد عمل كوسيط بين جماعته والقيادة السورية.
 في جلسة لمجلس قيادة الثورة، قام صدام حسين باستدعاء مشهدي ليدلي باعترافه امام رفاقه السابقين. لقد افاد مشهدي انه اخبر لجنة التحقيق الخاصة بان شركاءه الاربعة يحملون اراء مشابهة لرأية حول انتقال السلطة من البكر الى صدام حسين. وبما ان عايش كان انشط الجماعة، فقد تم القاء القبض عليه واستدعي للشهادة امام مجلس قيادة الثورة. وكشأن مشهدي، اعترف بدوره في المؤامرة. عقد مجلس قيادة الثورة جلسة اخرى ووجهت الدعوة الى عدنان الحمداني وغانم عبد الجليل. تم استنطاقهم، الا انهم نفوا اشتراكهم في المؤامرة. لقد احيلوا الى لجنة تحقيقية خاصة. بعد ذلك، استدعي المتآمرون الخمسة الى جلسة اخرى لمجلس قيادة الثورة. اعترف مشهدي وعايش بجرمهما وتوريط الاخرين في المؤامرة، الا ان الحمداني وعبد الجليل انكرا مشاركتهما.
 انهت لجنة التحقيق الخاصة تحرياتها خلال اسبوع وقدمت الى مجلس قيادة الثورة تقريراً يؤكد التهم الموجه ضد المتآمرين الخمسة. تم تعيين محكمة خاصة برئاسة نعيم حداد عضو مجلس قيادة الثورة وان المتآمرين الخمسة احيلوا الى المحكمة طبقا للدستور المؤقت (المادة 387). كشفت المحكمة مشاركتهم في المؤامرة ضد الرئيس المنتخب الجديد. حكم عليهم بالاعدام مع عدد اخرين كانت لديهم علاقة مباشرة بالمؤامرة بضمنهم عبد الخالق السامرائي (الذي كان في السجن لمشاركته في مؤامرة سابقة)(13).
 ان الحادثة ابرزت بوضوح الصراع على السلطة في الدوائر العليا لحزب البعث. هناك تفسيران محتملان يمكن تقديمهما لشرح المؤامرة. تمثل الجماعة الاولى المصالح المحلية (العراقية). اما الاخرى، فتعكس الصراع العقائدي (الايديولوجي) ويمكن تسميتها بجماعة الوحدة العربية. من وجهة نظر الاخيرة، ان المتآمرين الخمسة يؤيدون رئاسة البكر لانه ابدى تفهما وربما تعاطفا مع القيادة السورية في تحقيق الوحدة. تبين بان صدام حسين يركز لحد كبير على دور العراق وذلك بتثبيت زعامته على البلاد. اما الجماعة الاخرى، المؤلفة من المقربين الى صدام حسين، فقد رأت في استمرار رئاسة البكر المعتدلة اضعافا لحزب البعث في وجه الخطر المتزايد من الجار القريب للعراق، رغم انها تكن الاحترام العالي لشخصية البكر ومزاياه الاخرى. لقد حام الشك ايضا من ان المتآمرين الخمسة ربما قد تصورا بان لو تحققت الوحدة مع سوريا اثناء حكم البكر فان الاسد، وليس صدام حسين، سوف تكون لديه الفرصة ليخلفه كرئيس للاتحاد. وبما ان ثلاثة من المتآمرين الخمسة (مشهدي، الحمداني، وعبد الجليل) هم من الطائفة الشيعية فانهم اتهموا بانهم بجانب رئيس شيعي مثل اسد وذلك لتعزيز مركز الجماعة الشيعة في الاتحاد.
 لكن المسألة لم تنته عند هذا الحد. في اجتماع مشترك مع اعضاء القيادة القطرية لحزب البعث، كانت اكثرية اعضاء مجلس قيادة الثورة هي في جانب الرئاسة الوطنية لصدام حسين. ان مشهدي لم يعلن عن عدم رضاه بنتيجة الانتخاب الا في يوم 12 تموز (أي اليوم التالي للانتخاب). وصلت معلومات الى صدام حسين انه عندما كان عدنان الحمداني (الذي يعود ارتقاؤه الى المنصب العالي في الحكم الى صدام حسين) في دمشق ليبلغ خبر انتقال الرئاسة قد وقع تحت تأثير القيادة السورية. ان ما خطط اليه الحمداني في الحقيقة ولينفذه اثر عودته الى بغداد لربما يبقى طي الكتمان، الا ان كونه احد المقربين من صدام حسين وقد تم اعادة تعيينه مؤخرا نائبا للرئيس ووزيرا للتخطيط في الوزارة الجديدة فلابد وان كانت خيبة امل كبيرة الى الرئيس الجديد.
 واخيرا اعترف مشهدي في اجتماع لمجلس قيادة الثورة بانه اتفق مع شركائه في معارضة ترشيح صدام حسين للرئاسة، ولو ان اعترافه قد فسر كوعد بانه سيعفى من عقوبة الاعدام وربما بالتالي يطلق سراحه (من المحتمل بعد مدة قصيرة من بقائه في السجن). الا ان اعترافه قد تأكد من قبل عايش الذي اعترف بجريمته امام مجلس قيادة الثورة ولجنة التحقيق الخاصة. على اية حال، بتاريخ 18 او 19 تموز، عندما كان حليم خدام وزير خارجية سوريا في زيارة الى بغداد لتبليغ تهاني القيادة السورية لصدام حسين بمناسبة تسلمه منصب الرئاسة، تم اخباره بالمشاركة المزعومة للقادة السوريين في المؤامرة. ومع ذلك، انكر مشاركة سوريا رغم مشاهدته لتسجيل مصور باعتراف مشهدي. وفي دمشق نفت الحكومة السورية رسميا أي مشاركة واعتبرت المؤامرة بكاملها مسألة عراقية داخلية محضة(14).
 اما في العراق، فقد اصبح واضحا انه لكي يبقى الحزب مستمرا في ظل قيادة البعث فلابد من وقوفه بكامله خلف صدام حسين الذي اثبت انه انشط قائد منذ تسلم الحزب للسلطة عام 1968. وكما اشرت في كتاب اخر قبل حقبة من الزمن، ان صدام حسين ” الوريث الظاهر ”  قد اصبح  ” الامل المفضل لحزبه في قيادة البلاد مستقبلاً ” (15).  

 

الهوامش

1. الخميني ” الحكومة الاسلامية ” ترجمة حامد الغار (بيركلي 1981) ص 27 – 149.
2. للاطلاع على اراء الخميني بشأن الامامة، راجع المصدر نفسه ص 72.
3. للوقوف على نص محاضرات الخميني حول الجهاد (الكفاح الروحي او الجهاد الاكبر). راجع كتاب “الاسلام والثورة ” ترجمة حامد الغار، ص 351 – 360. وبالنسبة لمعنى مفهوم ” الجهاد الاكبر ” وفق النصوص السنية القديمة التي استند عليها الخميني، راجع كتاب خدوري ” الحرب الكبرى ” مجلة عالم ارامكو تموز – اب 1968، ص 25 – 27.
4. حسب النصوص السنية، ان مفهوم الجهاد كحرب دفاعية- تعرضية قد اكد عليه الشافعي مؤسس مدرسة الشريعة التي تحمل اسمه وقد لاقى قبولاً معظم المفسرين من القرن التاسع الى القرن الرابع عشر في البلاد الاسلامية الشافعي – كتاب الامة – القاهرة، 1904 الجزء 4، ص 84 – 85 . للاطلاع على وجهة النظر من ان الجهاد هو حرب دفاعية شاع بعد سقوط الخلافة العباسية في القرن الثالث عشر، راجع كتاب ابن تيمية (1327)، مجموعة مقالات (القاهرة 1949)، ص 115 – 146.
5. سورة التوبة ، الاية 29.
بسم الله الرحمن الرحيم
” قتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولايدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ”   صدق الله العظيم
6. لكشف هذه العقيدة، راجع (اية الله) احمد جناتي (الدفاع والجهاد في الاسلام) مجلة شهرية حول الفكر والحضارة الاسلامية (1984) ص 39 – 54.
7. للاطلاع على تفسير العلماء الكلاسيكيين، راجع كتاب مسعد بن جرير الطبي تفسير محمد شاكر (القاهرة 1958) الجزء 14 ، ص 574 – 76.
8. بالنسبة لمقررات مؤتمر القمة العربي في بغداد ، راجع وثائق وزارة الاعلام (العراق) ” وثائق حول معارضة المواجهة” بغداد 1979. وكذلك، الرئيس صدام حسين ” العراق والسياسة الدولية” بغداد 1981.
9. مقابلة المؤلف للرئيس احمد حسن البكر، بغداد 14 اب 1974.
10. للاطلاع على نص ميثاق الوحدة، راجع صحيفة الجمهورية (بغداد) 27 تشرين الاول 1978.
11. يستند الوصف الحالي من جهة على محادثات مع عدد من القادة العراقيين والسوريين خلال زياراتي الى بغداد ودمشق في ربيع وخريف عام 1978. علاوة على ذلك ، اعتمدت على محادثاتي مع طارق عزيز وزير خارجية العراق اثناء زياراتي الى بغداد في تشرين الثاني 1985 وايار 1987 ومحادثاتي مع بعض المخبرين العراقيين والسوريين الذين فضلوا عدم كشف هوياتهم. اما بالنسبة للرأي العراقي الرسمي حول مفاوضات الوحدة، راجع تقرير المؤتمر القطري التاسع، حزيران 1983 بغداد ، ص 319 – 32.
12. بالنسبة لنص خطاب البكر، راجع صحيفة الثورة (بغداد) 17 تموز 1979.
13. فيما يتعلق بمشاركة السامرائي في ما يسمى بمؤامرة كرار، راجع كتاب مجيد خدوري ” العراق الاشتراكي ” واشنطن دي. سي 1978 ، ص 65.
14. خلال زياراتي الى دمشق عام 1981، عملت من بعض القادة السوريين بما فيهم الرئيس الاسد بان الخلافات بين سوريا والعراق هي ايديولوجية (الافكار القومية ازاء المصالح القطرية) وليست شخصية (مجيد خدوري، الشخصيات العربية في السياسة ، واشنطن دي. سي 1981، ص 22).
15. خدوري ” العراق الاشتراكي ” ص 76. بالنسبة الى التقدير المقدم الى قيادة الرئيس صدام حسين من قبل الحزب في مؤتمر القيادة القطرية التاسع عام 1982، راجع التقرير المركزي للحزب، ص 36 – 43.

 

الحرب العراقية – الايرانية
الجوانب القانونية والدبلوماسيـة

 ان معاهدة 1975، التي كان هدفها حل القضايا المعلقة ووضع حد للتنافس والنزاع بين العراق وايران، اصبحت السبب في التوترات وتأجيج الصراعات عندما تمت الاطاحة بنظام الشاه عام 1979. صحيح، ان هناك اسبابا دفينة للصراع بين البلدين، كالتوتر الطائفي التاريخي ومطاليب الاكراد لحكم ذاتي، التي ما كان بامكان المعاهدة تسويتها. مع ذلك، انها ارست القاعدة لحسم النزاع والتعاون على مستوى رسمي لربما ساعد على حل المساءل الاخرى. وبرغم ذلك، اثبتت المعاهدة انها مخيبة لآمال (اية الله) خميني، لأن حكومة البعث لم توقف مساندتها الى العلماء الايرانيين في العراق فحسب، وانما فرضت تقييدات على نشاطاتهم. ولعل ما زاد خيبة الامل هو الضغط الموجه على خميني لوقف نشاطاته ضد الشاه، لأن العراق عقد صلحا مع ايران. وعندما لم يمتثل الى تحذيرات العراق، اخبر بالتالي برسالة مهمة: ” اسكت او ارحل “.
 وابتداءاً من توقيع العراق المعاهدة مع ايران في عام 1975 ولغاية 1978 عندما طرد الخميني من العراق، اصبحت حكومة البعث تقريبا حليفة للشاه. اما بالنسبة للخميني واتباعه، فأن الشاه في نظرهم مازال عدوا ومتهما بالفسق ومعاداة الدين والظلم والتعسف. لهذا، فهم لم يتوقفوا مطلقا عن التحريض ضده لحين الاطاحة به وبحكمه اخيرا. حتى قبل ان يوقع العراق اتفاقية مع الشاه، لم تكن صداقة الخميني مع حكومة البعث وثيقة او هادفة لعلاقات بعيدة المدى، انما كانت علاقة مصلحية لأنه يعلم جيدا وحزب البعث، ان تعاونهما يخدم الاهداف الانية فقط، وليس هو اتفاق قائم على اسس متينة. وكانت خطب الخميني حول مبادئ الحكومة الاسلامية التي القاها في النجف بعيدة كل البعد عن ايديولوجية البعث.
 عقب طرده من العراق، توجه الخميني الى باريس حيث تمتع بحرية تعبير واسعة وانضمت اليه مجموعة من القادة الثوريين الايرانيين. ان حكم الشاه، الذي تعرض لحملة دعائية غادرة في ارجاء العالم نظمتها الصحافة ووسائل الاعلام الاخرى، قد تحطم بسرعة تحت وطأة الظروف الداخلية المتغيرة. في شهر شباط 1979، عندما غادر الشاه ايران، عاد الخميني منتصرا ليعلن قيام الجمهورية الاسلامية التي تصورها اثناء وجوده في المنفى. تم تشكيل حكومة مؤقتة ترأسها مهدي بازركان (احد اتباع خميني المدنيين) لأعداد النظام الدستوري للحكم الجديد. وكما لاحظنا، ان العلماء تحركوا ببطء، ولكن بثقة للهيمنة على المشهد السياسي وبالتالي اخضاع السلطتين المدنية والعسكرية لسيطرتهما. ان السلطة الروحية للخميني، التي مارسها ليس كرئيس دولة وانما كزعيم روحي ورئيس المجلس الاعلى، قد سادت في البلاد. وبتعبير اخر، اصبح القوة الحقيقية في البلاد. ومع انه كان يدعى ” امام ” احتراما له، الا انه لم يكن الامام التاريخي لطائفة الشيعة. لقد مارس سلطته ((كنائب)) فقط او وكيل للامام الذي توارى عن الانظار ( الغيبة ) حسب رأي معلقي الطائفة الشيعية.
 ان السرعة التي تم فيها انهيار حكم الشاه جائت مفاجأة كبيرة للقيادة العراقية. في الحقيقة، لقد كانت مفاجأة لاتقل تأثيرا بالنسبة لقادة كثيرين في انحاء العالم. ان مسألة الموقف الذي ينبغي على الحكومة العراقية اتخاذه تجاه الحكم الايراني الجديد قد نوقش دائما في الدوائر السياسية العليا لحزب البعث، الا انه لم يتخذ قرارا آنيا بصدده. ويمكن القول، ان مدرستين فكريتين قد ظهرت. الاولى، تنادي بموقف المواجهة وترتأي القيام بالعمل العاجل. اما الاخرى، فبالرغم من ترددها على العمل، الا انها ارتأت اتخاذ موقف الحياد. يبدو، ان اكثرية قادة البعث ساندوا المدرسة الاخيرة، على اساس ان الثورة الايرانية هي مسألة داخلية بحتة لاعلاقة للعراق بها. بما ان الشاه قد اثار مشاكل كثيرة للعراق في الماضي، فقد ارتأت هذه المدرسة ان ليس من مصلحة العراق ادانة الحكم الجديد قبل ان ينكشف موقفه بوضوح. وعليه، فان المدافعين عن مدرسة المواجهة قد اقنعوا بالتريث قبل القيام باي عمل. وساد اعتقاد، انه قبل قيام الحكومة العراقية بالاعتراف بالنظام الايراني الجديد لابد من توضيح سياسته نحو جاره عن طريق بيان رسمي، ولو ان حقيقة ارسال مثل هذه الوثيقة يعني ضمنا ان العراق مستعد للاعتراف بحكومة ايران الجديدة.
 في 13 شباط 1979، تم تسليم مذكرة معنونة الى رئيس الحكومة الايرانية المؤقتة بواسطة القائم باعمال السفارة العراقية في ايران. اعلن فيها سياسة العراق تجاه النظام الجديد ويمكن تلخيصها على النحو التالي:
1. ان السياسة التقليدية للعراق، المصادق عليها من قبل حكومة البعث، كانت دائما تنشد العلاقات الودية مع جيرانها القائمة على اساس مبادئ الاحترام والسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وحق الامة في تحقيق طموحاتها القومية المشروعة.
2. لقد نظر العراق دائما الى ايران وتركيا باحترام كبير بسبب الروابط الدينية والتاريخية مع العرب عموما والعراق بشكل خاص.
3. ان العراق، الذي عانى من التسلط والظلم الاجنبي، يتعاطف مع ايران ويأمل انه سوف يحقق اهدافه في الحرية والعدل والتقدم.
4. يشعر العراق ايضا برضا من التصريحات الاخيرة (لآية الله) الخميني والقادة الايرانيين الاخرين حول نواياهم الحسنة تجاه العرب وادانتهم للصهيونية.
5. يتطلع العراق للتعاون مع النظام الايراني الجديد ويأمل تحقيق علاقاته الودية وتنمية المصالح المشتركة وحفظ السلام والامن في المنطقة القائمة على اساس العدل والحرية(2).

بتاريخ 15 نيسان 1979، بعث الرئيس العراقي احمد حسن البكر ببرقية هنأ فيها (اية الله) الخميني بمناسبة اعلان الجمهورية الاسلامية وكرر عرض العراق لاقامة علاقات ودية بين البلدين. كلف الرئيس البكر السفير العراقي في طهران بزيارة ابو الحسن بني صدر رئيس الجمهورية وتبليغ تحياته. فيما بعد، وجه العراق دعوة الى رئيس الوزراء بازركان (رئيس الحكومة المؤقتة) لزيارة العراق والدخول في مفاوضات لتطبيع العلاقات بين البلدين. لم يتلق العراق أي رد على هذه البرقيات، عدا برقية واحدة بعث بها الخميني عن طريق وزارة الخارجية الايرانية ونص محرر لنفس البرقية كما نشر في الصحف الايرانية. ومع ان البرقية كانت مهذبة ومقتضبة، الا ان النص المحرر كان خشنا ومخالفا في لهجته(3). حاول العراق مرتين، دون تحقيق نجاح عن طريق الاتصالات المباشرة، الشروع بمفاوضات (الاولى عن طريق البكر والاخرى من قبل سعدون حمادي وزير الخارجية وزير الخارجية الذي وجه دعوة لرئيس الوزراء بازركان ووزير الخارجية يزدي بزيارة العراق اثناء اجتماعات مؤتمر عدم الانحياز في هافانا عام 1979). وبينما كان كل من بازركان ويزدي مستعدين لاجراء التفاوض مع حكومة البعث، قام (اية الله) خميني بتحذير وزرائه من انه لا يحبذ التفاوض معها. ولم تقف المسألة عند هذا الحد. لقد جرت محاولات غير رسمية لاقامة اتصالات والوصول الى تفاهم بين البلدين، الا ان هذه الجهود الفردية لم تثمر شيئا(4).
 ان فشل عملية جلب الجارين لطاولة المفاوضات قد شجع المتطرفين في كلا البلدين الى الظهور ثانية. لقد لاحظنا قبل قليل كيف جرى تبديل المعتدلين بالمتطرفين الذين كانوا مصممين في البداية على تنفيذ مذهب خميني في تصدير الثورة. اعتبر العراق ” الجار القريب ” الهدف الاولي قبل الوصول الى بلدان اخرى. لقد رأينا كيف ان الرئيس البكر، بسبب صحته المتردية وكذلك كرد فعل لاتجاهات المتطرفين في ايران، تخلى عن منصبه لصالح صدام حسين. ومع ان صدام حسين كان مستعدا للتفاوض مع ايران، فقد اصبح قلقا تماما حول نوايا المتطرفين الذين كانوا يطلقون التصريحات المهددة لمصالح العرب في منطقة الخليج.
ان الحاجة لاتخاذ موقف حازم ضد الثورة الايرانية قد تحسسته بعمق العناصر القيادية في حزب البعث مؤخراً وان تولي صدام حسين لمنصب الرئاسة اشار من ان اولئك الذين يؤيدون اتخاذ موقف حازم قد تغلبوا على اولئك الذين احجموا عن اتخاذ القرار. هناك ثلاث مراحل في العلاقات المتوترة بين البلدين يمكن التمييز بينها بوضوح قبل دخول العراق الحرب مع ايران يوم 22 ايلول 1980.
 اولا، ان رفض ايران لتفاوض مع العراق اثار قلق القادة العراقيين من ان النظام الايراني الجديد غير مستعد لاحترام اتفاقية الجزائر التي وقعتها ايران مع العراق سنة 1975. وبتقدير الانشغال الاولي للقادة الايرانيين في الشؤون الداخلية، كانت حكومة البعث مستعدة لتبرئة القادة الايرانيين من الادانة وبدأت بأرسال برقيات رسمية تتضمن حسن نية العراق تجاه النظام الجديد واستعداده لفتح فصل جديد من التعاون والصداقة. وبما انه لم يستلم أي رد مشجع، فقد توصلت حكومة البعث الى ان القيادة الايرانية لا تحترم التزامات المعاهدة المتعلقة ببلادها ولا التباحث مع العراق طبقا للاعراف الدبلوماسية المعمول بها.
 ثانيا، ادلى مسؤولون كبار في القيادة الايرانية، مثل اية الله الخميني وصادق قطب زادة ومحمد علي رجائي وعلي اكبر رفسنجاني، بتصريحات الى المراسلين الاجانب حيث اتهموا فيها قادة البعث بالعداء تجاه ايران واتهموهم بالتعسف والالحاد والفسق. اما التصريحات الاخرى، التي تكشف الطموحات الاقليمية، فقد افاد بأن ((بين البلدين الاسلامية لا توجد حدود)) وبأن ((جميع البلدان حول الخليج هي من الناحية التاريخية جزء من الاراضي الايرانية)). علاوة على ذلك، ان مذهب خميني في تصدير الثورة قد تكرر دائما على لسان القادة الايرانيين على انه سياسة النظام الجديد. ان هذا المذهب، المعلن في 21 اذار 1983، قد ضمن داخل تصريح اذاعه ابنه نيابة عن والده الذي جاء فيه (( يجب…. تصدير ثورتنا الى الاقسام الاخرى من العالم ونتنازل عن مفهوم حصر الثورة في حدودنا))(5).
 عبرت الصحافة ووسائل الاعلام الاخرى باسلوب بلاغي رفيع عن قبولها التام بمذهب خميني وقدمته الى جيران ايران كطلب اسلامي. لكن، جيران ايران شجبوه لكونه لا يتماشى مع تعاليم الاسلام ووصفوه بالشعوبية (تعبير عن التعصب الفارسي). ان مذهب خميني في تصدير الثورة وتفسيراته للمذاهب الاسلامية الاخرى قد تكرر في الصحف دائما، وصعد من الحرب الكلامية التي حدثت مؤخرا عندما اشتبك البلدان في قتال. سوف نعود لهذا الموضوع فيما بعد.
 ثالثاً، ان المرحلة الاخيرة في هذه التطورات هي لجوء ايران الى العنف الذي كان كحوادث ومناوشات على الحدود قبل ان يتقابل البلدان في ساحة المعركة. ليس غرضنا مناقشة الجانب العسكري للحرب القائمة في الوقت الحاضر، بل انما سنتناول الجانبين القانوني والسياسي ولو ان الاحداث العسكرية التي لها تأثير على الموضوع سوف تؤخذ بنظر الاعتبار.
 ان انتهاكات المجال الجوي كانت تنشر دائما في الصحف في اوائل شهر شباط 1979 عندما كانت الثورة الاسلامية في بدايتها(6). وبالتأكيد، ان هذه الانتهاكات تكررت على جانبي الحدود، الا ان العراق لم يكن الاول في اللجوء لاستخدام القوة. في البداية، شنت ايران سلسلة من الهجمات على عدد من المدن داخل الاراضي العراقية مسببة تدمير حياة الناس وممتلكاتهم بهدف الاساءة الى الحكم وباثارة الخوف والاحباط بين السكان. ولعل الحادثة المهمة الاولى التي وقعت في مركز حضري هي الانفجار المفاجئ لقنبلة في اجتماع سلمي للطلبة في الجامعة المستنصرية في بغداد يوم 1 نيسان 1980. واعقب ذلك الحال محاولات لاغتيال طارق عزيز نائب رئيس الوزراء ولطيف نصيف جاسم وزير الثقافة والاعلام. في 5 نيسان، انفجرت قنبلة اخرى (يعتقد بانها القيت من مدرسة ايرانية في حي الوزيرية) في وسط موكب تشييع جرى لتخليد ذكرى الذين استشهدوا في الجامعة المستنصرية قبل اربعة ايام. ولدى التحقيق، كشفت الحكومة العراقية شبكة من نشاطات سرية موجهة من قبل ايران في مختلف ارجاء القطر. ان التسلل ونشاطات التخريب هي ليست جديدة، الا ان الحكومة تنبهت بتلك الاحداث وبدأت بمراقبة الاشخاص المشتبه بهم الذين سيقوا للمحاكمة فيما بعد(7).
 خلال صيف عام 1980، اثارت انتهاكات المجال الجوي والتسلل عبر مناطق من الحدود اهتمام السلطات العراقية من ان القوات الايرانية قد اصبحت فعالة جدا. في 4 ايلول، بدأت القوات الايرانية في مناطق من الحدود الوسطية – زين القوس، ميمك وسيف سعد – التي كان يقتضي اعادتها الى العراق بموجب اتفاقية الجزائر، بقصف عدة مدن وقرى بضمنها خانقين ومندلي ونفط خانة ضمن الاراضي العراقية. ان هذه الاعمال العدائية حثت الحكومة العراقية لارسال مذكرة رسمية احتجاجية الى ايران عن طريق السفارة الايرانية في بغداد بتاريخ 7 ايلول وتحذير من ان هذه التصرفات غير المسؤولة ربما تقود الىالقيام باعمال انتقامية، الا ان تحذيرها لم يلق آذاناً صاغية. لهذا، سيطرت القوات العراقية على زين القوس لمنع الهجمات العنيفة.
 بتاريخ 8 ايلول، بعد يوم من الاستيلاء على زين القوس، بعث العراق بمذكرة اخرى الى ايران مطالبا اياها “باعادة بقية الاراضي التي تجاوزت عليها ايران خلال الفترات السابقة… (وبذلك) سوف يتحاشى كلا البلدين احتمالات المواجههات الواسعة(8) “. وبعد عدم اذعان ايران لهذه الاحتجاجات والتحذيرات، اوعزت الحكومة الى قواتها باجتياح القواطع الاخرى (ميمك وسيف سعد) على اساس انها أُقرت كأراضي عراقية في اتفاقية الجزائر ومعاهدة 1975.  بتاريخ 11 ايلول، بعث العراق بمذكرة مهذبة الى ايران، الا انها كانت شديدة اللهجة. يمكن تلخيص فحواها على الوجة التالي:
اولاً، ان العراق قلق من ان القادة الايرانيين بسبب انشغالهم بالامور الداخلية ربما ” يجهلون التجاوزات الايرانية المتكررة على الاراضي العراقية” . وتعتبر هذه الاعمال مناقضة لاتفاقية الجزائر والقانون الدولي. ان العراق يود ان يلفت انتباه السلطات الايرانية لهذه الحوادث.
ثانياً، اكدت المذكرة بان القادة الايرانيين ينبغي ان يدركوا من ان الهجمات على المدن والقرى العراقية من قبل القوات المسلحة الايرانية ” هي قضية خطيرة ” وليست ” مباريات ” قد ينشغل فيها العسكريون الايرانيون دون مراعاة امن العراق. في حالة عدم الكف عن هذه الاعمال (كما حذرت المذكرة) فان العلاقات بين البلدين سوف تتدهور وتتحول الى موقف خطير جدا.
ثالثاً، ليس للعراق نية لمهاجمة ايران، الا انه في حالة عدم ايقاف هذه الحوادث فان العراق سوف يضظر لاستخدام القوة كوسيلة للدفاع عن المناطق المعرضة للهجوم(9).
 في غضون ذلك، وصلت تقارير للعراق تفيد ان النظام الايراني في وضع مضطرب وبان الجيش والشعب في الاقاليم مترددين في تأييد قادة الثورة الاسلامية. زودت هذه التقارير بالدرجة الاولى من قبل الهاربين الايرانيين (ضباط سابقين وسياسيين) في باريس الذين اعتقدوا بان الجيش لم يعد بأياد متمرسة، طالما ان الضباط البارزين قد تم تطهيرهم وليس بمقدورهم كسب حرب مع العراق. قام ضابطان من هؤلاء الضباط (الجنرال شابور بختيار والجنرال غلام علي اوفيزي) اللذان احتفظا بمنصب عسكري عال في حكم الشاه، بعدة زيارات الى بغداد لاجراء مشاروات. يبدو، انهم رسموا صورة قاتمة عن الجيش والاوضاع في البلاد. لقد اعتقدوا، لو ان ايران تورطت في حرب، فان النظام الجديد سيواجه انقلابات خطيرة في المدن. على اية حال، كشأن الضباط المنفيين الاخرين، كانوا منعزلين عن بلادهم ويبدو انهم نسوا الدرس التاريخي من ان تحت وطأة تهديد الحرب، فليس هناك من يتوانى عن الاستجابة لنداء الواجب وحماية ارض الوطن. لكن، صدام حسين، المعروف بتصميمه وشجاعته، لم يحتج الى تحفيز كبير ليضع حدا للتجاوزات المتكررة وانتهاكات الحدود العراقية. ان توليه السلطة بعد استقالة البكر قبل عام، قد اوحى لنظامه بالقوة والتصميم لاتخاذ موقف حازم ضد جار معاد. لقد اصبحت قابليته وقوته الشخصية معروفة في البلاد. لهذا، فليس من المتوقع ان يبقى متهاونا في وجه التجاوزات الايرانية المستمرة على امن والسيادة الاقليمية للعراق. وبالنسبة لصدام حسين، كان عداء ايران تحديا لقيادته. ان استجابته للتحدي كان يشار اليه دائما في الصحف بقادسية صدام (تخليدا لذكرى المعركة الفاصلة التي قضت على الامبراطورية الفارسية في سنة 635 من قبل الجيش العربي) التي اشتبك بها العراق مع ايران منذ اوائل شهر ايلول 1980.
 يبدو، ان ارسال تعزيزات ايرانية الى زين القوس قد اغاظ صدام حسين، طالما انه هو الذي اعاد تأكيد سيادة العراق على هذا القاطع والقواطع الحدودية الوسطية الاخرى في مفاوضاته مع الشاه في الجزائر عام 1975. ان هذه اساءة علنية لصدام حسين واعتبرت على انها عمل مقصود للحط من مركزه وتشويه حكمه. لقد اشار اليها فيما بعد في بعض خطبه العامة وتصريحات وزير خارجيته الدكتور سعدون حمادي التي اطلق عليها في خطابه الموجه الى الجمعية العامة للامم المتحدة (3 تشرين الاول 1980) “بالنقطة الحاسمة” في سلسلة التجاوزات الايرانية عبر الحدود العراقية(10). الا ان ذلك، بالنسبة للرئيس صدام حسين، كان مدعاة للحرب، طالما ان العراق قد حاول عبثا تسوية الخلافات مع ايران بوسائل المفاوضات المباشرة.
 بتاريخ 17 ايلول 1980، قرر صدام حسين، بعد عدم تمكنه من اقناع النظام الايراني على احترام معاهدة 1975 وتسوية الخلافات بين البلدين بطرق سلمية، الغاء اتفاقية الجزائر ومعاهدة 1975 كخطوة لحماية سيادة الاراضي العراقية بالقوة. صرح في خطاب اذاعه على الشعب ما يلي:
 ان موقف حكام ايران، منذ توليهم السلطة ، قد اكد انتهاكهم لعلاقات حسن الجوار وعدم التزامهم باتفاقية اذار (اتفاقية الجزائر). وعليه، فهم يتحملون المسؤولية القانونية والشرعية الكاملة في جعل هذه الاتفاقية ملغاة. وبما ان حكام ايران قد خرقوا هذه الاتفاقية… اعلن هنا امامكم بأن اتفاقية 6 اذار 1975 (اتفاقية الجزائر).هي ملغية من جانبنا ايضا.
 لهذا، ان العلاقة القانونية في شط العرب يجب ان تعود كما كانت علية قبل 6 اذار 1975… ونؤكد… باننا ننشد العلاقات الحسنة مع الاقطار المجاورة، بضمنها ايران، وبان العراق ليس لديه نوايا بالتجاوز على الاراضي الايرانية او شن حرب ضد ايران او توسيع منطقة الصراع خارج حماية حقوقنا وسيادتنا(11).
 على اثر ذلك، ارسلت مذكرة الى ايران في نفس اليوم. في المذكرة،  اصر العراق بان اتفاقية الجزائر ومعاهدة عام 1975 هما ملغيتان بموجب شروط كلا الوثيقتين (الفقرة 4 لاتفاقية الجزائر والمادة 5 لمعاهدة 1975) واضافت المذكرة ان العراق سوف يدعو الجمهورية الاسلامية في ايران لقبول الوضع الجديد وتبني موقفا مقبولا وحكيما تجاه ممارسة العراق لسيادته وحقوقه المشروعة… كما كان الموقف قبل اتفاقية الجزائر السالفة الذكر(12). وبتعبير اخر، طلب من ايران التنازل عن نصف مياه شط العرب التي قد تحققت عن طريق اتفاقية الجزائر ومعاهدة 1975 والاعتراف بسيادة العراق الكاملة على النهر كما حددته معاهدة 1937.
 ان وزارة الخارجية الايرانية اجابت بشكل متوقع لهذه المذكرة في رسالة بعثتها ليس للعراق، بل انما الى كورت فالدهايم السكرتير العام للامم المتحدة (26 تشرين الاول 1980). رفضت ايران طلب العراق “بالالغاء من طرف واحد ” لكل من اتفاقية الجزائر ومعاهدة 1975 وطعنوا بحجة العراق، من ان خرق أي نص منفرد لاتفاقية الجزائر او معاهدة 1975 يبطل كلا الوثيقتين. كما اضافت المذكرة بان ” ايران قد احترمت دائما ” معاهدة 1975 واصرت بان ايران ” ماتزال تعتبر نفسها ملزمة بنصوصها ” واكدت المذكرة، ان العراق هو الذي خرق اتفاقية الجزائر ومعاهدة 1975 باعتدائه ونشاطاته التخريبية ضد ايران. فضلا عن ذلك، ان المادتين 5 و 6 لمعاهدة 1975 (بشأن الحدود بين البلدين) كانت تعني حدود ” مصانة ” وثابتة ونهائية ” حسب المذكرة الايرانية ” . وادعت ايران، ليس هناك نص يخول احد الاطراف بالغاء المعاهدة. لهذا، اعلنت ايران بعبارات صريحة من ان اتفاقية الجزائر ومعاهدة 1975 هما ” لازالتا سارية المفعول وملزمة “(13). وبالنسبة للعراق، ان هذه المذكرة اشارت الى تناقض في الموقف الايراني بشأن وثائق الجزائر كما عبر عنه في تصريحات سابقة.
 جوابا على ذلك، بعث العراق برسالتين، واحدة الى ايران (16 تشرين الثاني 1980) والاخرى الى فالدهايم السكرتير العام للامم المتحدة (26 تشرين الثاني 1980) في الرسالة الاولى، كرر العراق ادعاءه من ان ايران جعلت اتفاقية الجزائر ومعاهدة 1975 ملغيتين (( بالانتهاكات المستمرة لتلك المعاهدة، ليس من خلال تصريحات المسؤولين الايرانيين بانهم لا يعترفون بتلك المعاهدة فحسب، وانما من خلال الانتهاكات الايرانية لعناصرها الاساسية)). اما في الرسالة الموجهة الى فالدهايم، فقد ذكر ان المادة 4، التي تشترط بان أي خرق لنص واحد من معاهدة 1975 يجعل المعاهدة ملغية بكاملها، والمادة 6 ، التي تقدم سياقات لحل الخلافات الحدودية، لم تكن ذات صفة متبادلة، طالما ان ” تطبيق المادة 6 يفترض مسبقا وجود المعاهدة من خلال عدم خرق أي عناصر منفردة “. وبتعبير اخر، ان المادة 6 يمكن ان تدخل حيز التطبيق فقط استنادا الى صحة المادة 4، الا انه لو حصل انتهاك في المادة 4، فسوف تعتبر المعاهدة بكاملها ملغية(14). وفي مذكرات سابقة عديدة، وجه العراق دعوة الى ايران لحل خلافاتهما عن طريق التفاوض، الا ان جهوده لم تلقي تجاوبا. لهذا، ان ايران لا يمكنها التنصل من مسؤولية خرق معاهدة الجزائر عندما دعا العراق النظام الايراني لتسوية الخلافات بموجب السياقات المثبتة في الوثائق الرسمية.
 كان رد ايران على الغاء معاهدة الجزائر من قبل العراق بمثابة تصعيد لحوادث الحدود وتوقيف الملاحة في شط العرب. في الفترة الواقعة ما بين 10 ايلول و22 ايلول ، تم الابلاغ عن خمسة عشرة حادثة، معظمها في منطقة البصرة(15). ارسلت عدة مذكرات الى طهران احتجاجا على الاعمال الحربية الايرانية وجاء في احد المذكرات ان العراق يحذر من ان ” تصعيد العنف ” سوف يضع ” المسؤولية الكاملة ” على عاتق ايران، طالما ان العراق لا يمكنه البقاء غير مبال عندما تنتهك سيادته الاقليمية(16).
 بتاريخ 21  و22 ايلول 1980، اجتاز الجيش العراقي الاراضي الايرانية وشرع بقصف المراكز المدنية التي كانت تبدو للمراقبين الاجانب خارج المتطلبات الامنية والدفاعية للعراق. وقامت الطائرات الحربية العراقية بقصف المطارات في طهران وعدة مدن اخرى وان القوات العراقية تقدمت باتجاهات عديدة باتجاه ديزفول وخرم شهر وسوسنكرد شمالي الاحواز. وفي اليوم التالي، استمر القتال الضاري وقصفت الطائرات الحربية مناطق مدنية اخرى. كما قصفت الطائرات الايرانية المنشآت النفطية العراقية في الفاو وميناء البكر في منطقة البصرة مسببة التوقف الكامل لشحن النفط. استمرت العمليات العسكرية من دون توقف، عندما قرر جيش الثورة الايرانية، الذي قاوم تقدم القوات العراقية، شن هجوم مقابل. لهذا، بدأت الحرب تسير ببطء. جرت محاولات منذ بداية الحرب من قبل الامم المتحدة والاطراف الاخرى باقناع كل من العراق وايران بعقد هدنة والرجوع الى الوسائل السلمية في التسوية.
بتاريخ 21 ايلول، وجه وزير خارجية العراق سعدون حمادي خطابا الى السكرتير العام للامم المتحدة فالدهايم لغرض تعميمه على اعضاء الامم المتحدة شرح فيه الخطوات التي اتخذها العراق قبل لجوئه لاستخدام القوة ضد ايران. وكما لاحظنا آنفا، ان الرسالة اوضحت خلفية النزاع العراقي – الايراني قبل الثورة الايرانية. وللاسباب المعلنة في تلك الرسالة، قرر العراق استعادة القواطع الثلاثة بالقوة ووضع نهاية للانتهاكات الحدودية(17).
 وما ان بدأ القتال بين العراق وايران، الا وعرض فالدهايم القضية على رئيس مجلس الامن. وبعد مشاورات رسمية بين اعضائه، قام رئيس مجلس الامن، على اعتبار ان القضية ” تشكل تهديدا خطيرا على الامن والسلام العالمي “، بحث فالدهايم على التماس الطرفين بوقف القتال. ولم تقف المسألة عند هذا الحد. بعد مشاورات مباشرة، وجه رئيس مجلس الامن فالدهايم نداءات الى كل من العراق وايران وطلب منهما ” بممارسة اقصى انضباط والعمل بكل قدراتهما للتفاوض من اجل حل مشاكلهما”. وطلب رئيس مجلس الامن، نيابة عن بقية اعضاء مجلس الامن، في نداء وجهه الى الدولتين ” بالكف ” عن جميع الفعاليات العسكرية كخطوة اولية تجاه حل نزاعهما وكافة الاعمال التي ربما تزيد الموقف الحالي سوءاً وتسوية خلافاتهما بالوسائل السلمية(18).
 كان اول من رد هو العراق. في رسالة الى فالدهايم مؤرخة في 26 ايلول 1980، اعلن فيها الرئيس صدام حسين ما يلي:
 ان العراق لم يتدخل بالمصالح التي تؤثر على السلم والامن والاقتصاد العالمي…. ان هدف العراق الوحيد هو الحصول على اعتراف ايران النهائي بحقوق العراق في اراضيه وسيادته على مياهه الاقليمية. هل ان ايران مستعدة لذلك؟ ….. يرغب العراق بطرح سؤال، فيما لو ان ايران مستعدة لعقد هدنة. من الواضح، ان هذه المعلومات مهمة في تقدير موقفنا(19).
 واعترافا برد الرئيس صدام حسين، عبر فالدهايم في رسالة بعث بها الى اليه من ان طلب عقد هدنة قد تم تبليغه الى ايران ” بنفس العبارات على وجه التحديد” كما في حالة تبليغ العراق وانه بانتظار جواب ايران لطلبه.
 قبل ان تستجيب ايران الى نداءات عقد هدنة، دعا مجلس الامن عصمت كتاني ممثل العراق في هئية الامم المتحدة بالمشاركة من دون تصويت في مناقشة موضوع (( الموقف بين العراق وايران )). ومع ان البعثة الايرانية الدائمة في الامم المتحدة اخبرت فالدهايم من ان الرد الرسمي الى نداء عقد هدنة سيصل ” يوم 1 تشرين اول 1980 كآخر موعد ” فان مجلس الامن عقد جلسته الاولى حول النزاع العراقي – الايراني يوم 28 ايلول قبل وصول جواب ايران على نداء مجلس الامن للسلام.
 بتاريخ 28 ايلول، عرض عصمت كتاني قضية العراق امام مجلس الامن. انتقد ايران لعدم ايفائها باحترام التزاماتها في المعاهدة واعتدائها على الاراضي العراقية. وبما ان ايران رفضت الانصياع لتحذيرات العراق وتسوية خلافاتها مع العراق بالطرق السلمية، اعلن كتاني بان العراق اصبح مجبرا على استخدام القوة لوضع حد لخرق ايران التزاماتها التعاقدية.
 وعقب مناقشة حول ” الموقف بين العراق وايران ” اقر مجلس الامن قرارا يطالب كلا البلدين بالكف عن استخدام القوة والقبول بعرض الامم المتحدة لعقد هدنة وتسوية الخلافات بالوسائل السلمية. كلف فالدهايم بواجب تنفيذ قرار مجلس الامن والابلاغ خلال ثمان واربعين ساعة(20). ومن الجدير بالملاحظة، ان مجلس الامن اطلق على النزاع العراقي – الايراني اسم ” موقف ” متحاشيا تسميته ” الحرب ” وذلك ليتجنب مناقشة “العدوان ” وبالتالي من كان البلد المعتدي (الذي قد يقود الى احتمال تطبيق اجراءات تأديبية بموجب الفصل 7 لميثاق الامم المتحدة). كما لم يعلن العراق وايران حالة وجود حرب بينهما. ولم يقطع البلدان علاقاتهما الدبلوماسية. ان سفارة كل بلد هي موجودة رسمية في عاصمة البلد الاخر، ولو ان سفير كل منهما قد تم استدعاؤه وتنزيل درجته الى مرتبة قائم باعمال.
 وبعد يوم من تبليغ قرار مجلس الامن الى الاطراف المعنية، تلقى فالدهايم جوابا من الرئيس صدام حسين اعلن فيه ان العراق مستعد تماما (( للتقيد بوقف اطلاق النار الفوري)) بشرط تلتزم ايران به والدخول في مفاوضات مباشرة او غير مباشرة (( بهدف الوصول الى تحقيق حل عادل ومشرف يضمن حقوقنا وسيادتنا))(21).
 بالرغم من ذلك، رفضت ايران القرار. في رسالة موجهة الى فالدهايم في 1 تشرين الاول، لم يصرح الرئيس بني صدر في البداية من ان قرار مجلس الامن قد رفض. وكل ما اعلنه من انه رغب (( بتوضيح موقف الثورة الاسلامية في ايران بشأن النزاع القائم مع الجمهورية العراقية )).
ان الاحداث المؤدية للنزاع بين البلدين قد وضحت على النحو التالي:
1. منذ بداية الثورة، خرق العراق اتفاقية الجزائر عن طريق ” ارسال وكلاء عراقيين ووحدات مسلحة عبر حدودنا الغربية والجنوبية الغربية…. والقيام بعمليات تخريبية واسناد الفئات المناهضة للثورة”. فضلا عن ذلك، اصبح العراق ” ملاذا ” للايرانيين الهاربين من النظام القديم الذين انهمكوا بنشاطات تخريبية موجهة ضد الجمهورية الاسلامية في ايران.
2. قام العراق في شهري آذار ونيسان 1980 بطرد 40000 مواطن عراقي اما لكونهم من اصل فارسي او لانهم من معتنقي المذهب الشيعي. قال بني صدر ان الاجراء هو دليل لعداء العراق تجاه ايران. كما انه ” انتهاك لحقوق الانسان “. واضاف قائلاً ” لقد تم تبليغ ذلك الى مجلس الامن، الا ان ادانته لهذا العمل لم تصدر من أي منظمة في هيئة الامم.
3. قبل تاريخ 22 ايلول 1980، كانت هناك ثلاثة ادلة مثل حركة القطعات العراقية الى الحدود الايرانية التي تشير الى ان العراق كان مستعدا ” لتصعيد عملياته العدوانية ضد ايران “. لهذا، قال بني صدر بان الاجراء العراقي كان ” متعمدا ” ضد ايران.
     وبالنظر لهذه الاعمال العدوانية، قال بني صدر في النهاية ” لا يمكن لحكومتنا بحث قرار مجلس الامن. ” وبتعبير اخر، كشف بني صدر ان ايران غير مستعدة لقبول نداء مجلس الامن لتسوية خلافاتها مع العراق بالطرق السلمية وان عزمها على مواصلة الكفاح يعني بوضوح رفض قرار مجلس الامن (22).
 ان رفض ايران لقرار مجلس الامن قد اكد عليه آية الله الخميني في خطاب وجهه للشعب يوم 3 تشرين الاول 1980 الذي استبعد احتمال أي مفاوضات مع العراق واعلن ان هدف الحرب ليس وقف المحتلين وانما معاقبة ” قادة البعث المجرمين” . (23). ومنذ ان القى ذلك الخطاب، لم يظهر الخميني أي دليل من انه سيغير رأيه مادام قادة البعث في السلطة(24).
 بالرغم من رفض ايران لقرار مجلس الامن وقبول العراق غير المشروط (من ان ايران يجب ان تلتزم به وتفاوض العراق بصورة مباشرة او غير مباشرة) فان مجلس الامن لم يتخل عن مساعيه في اقناع الطرفين على قبول وقف اطلاق النار. وبما ام قرارات هيئة الامم المتحدة هي وصايا وتوجيهات لا يمكن تطبيقها الا اذا قرر مجلس الامن فرضها باجراءات رادعة بموجب المادة (7) من الميثاق فان دور مجلس الامن قد اقتصر على مجرد دعوة ايران (5 تشرين الاول 1980) للمشاركة من دون تصويت في النقاش الدائر حول النزاع بين ايران والعراق في محاولة لاقناع الطرفين على قبول وقف اطلاق النار.
 في جلسة مجلس الامن التي ترأسها ترويا نوفسكي من الاتحاد السوفيتي بتاريخ 17 تشرين الاول 1980 لمناقشة (( الموقف بين العراق وايران ))، وجهت دعوة الى محمد علي رجائي رئيس وزراء ايران لعرض قضية ايران.
 القى رجائي خطابا باللغة الفارسية وكان مثيرا للمشاعر. اعلن ان بلاده في ” حرب ” مع العراق (مفروضة علية على حد قوله) وانه حضر توا من الجبهة حيث كان ” مشهد القتلى والجرحى الذي شاهده بعينه ربما يثير مشاعر اقسى الرجال “. وللقيام بعمل عدواني ضد ايران، ادعى رجائي ان العراق ” استخدم 12 فرقة واكثر من 2500 دبابة وكذلك كميات هائلة من الاسلحة ومئات الطائرات الحربية ” لقتل الناس الابرياء وسلب وتخريب البلاد وحتى قصف المستشفيات والمدارس وقتل التلاميذ الصغار والاطفال. اتهم قادة البعث، بالاخص صدام حسين، بفرض الحرب على ايران وذلك للاطاحة بالجمهورية الاسلامية والشروع بحركة ثورية في ايران. ان ” الاعمال اللاانسانية ” التي ارتكبتها قوات الجيش العراقي من دون رحمة، قد قوبلت بصمت من قبل شعوب العالم التي ادعت ” مطالبتها بالكرامة ” قد اعلنت ” حيادها المطلق “. لقد ناشد ضمير ” العالم باجمعه وبالاخص الشعوب الاسلامية  ” التي نشترك معها في عقيدة واحدة وقيم واحدة ” للحكم على الاعمال التي ارتكبت ضد بلدنا.
 في محاولته للسيطرة على مشاعر المتعاطفين، اشتكى رجائي من ان الامم المتحدة والدول الموالية للغرب الاخرى كانت ” تساعد حكومة البعث في العراق بطريقة مباشرة او غير مباشرة “. واضاف قائلا ” فالولايات المتحدة بطائرات الانذار المبكر (اواكس) في العربية السعودية تسيطر على تنقل القطعات الايرانية وتمرير كافة المعلومات الى العراق. اما الدول الاخرى مثل مصر والاردن والمغرب فقد زودت العراق بالسلاح والعتاد والمواد الاحتياطية. واشتكى من موقف العراق تجاه ايران واعتبره ” انعكاسا لعداء القوى العظمى ” وان العدوان العراقي ما هو الا جزء من العدوان العالمي ضد الثورة الاسلامية.
 بعد تقريعه المطول ضد العراق والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، انتقل رجائي الى اتهامات اكثر خصوصية تجاه العراق. اولا، اشار بان اتفاقية الجزائر التي اعتبرها العراق سبب النزاع، هي مجرد ذريعة لشن العدوان ضد ايران. ثانيا، اتهم العراق بالتدخل في الشؤون الداخلية لايران. ثالثا، اتهم العراق بمساعدته العناصر المعادية التي استخدمت كل الوسائل المادية المتاحة لها للاساءة الى النظام الايراني. وصرح بان هناك اذاعتين نشيطتين في الاراضي العراقية من خلال برامجها الحماسية تحرض الفئات المعارضة ضد الحكومة الايرانية. وقال رجائي، غير ان الثورة الاسلامية (( لم تنحرف عن شروط الاتفاقية)) ولو انها قد استدعت الى تنقيح الاتفاقيات المبرمة مع العراق مؤخرا. لقد عزا جميع ما حصل من سوء فهم بين العراق وايران الى قادة البعث بالاخص صدام حسين الذي ” ارغم الامام الخميني على مغادرة العراق “. وسعى الى شل نشاط الثورة الاسلامية. مع ذلك، اكد رجائي لاعضاء الامم المتحدة ان ايران ” بوحي من العقيدة الاسلامية تحت زعامة (الامام) الخميني ستواصل القتال وبالتالي ” تقرير مصيرها “.
 وفي نهاية خطابه، حذر رجائي ان حكومة البعث قد طالبت ” بوقف اطلاق النار وذلك لكي تخدع الرأي العام العالمي “. وقال رجائي ” في رفض القرار، نود ان نعلن بان الحل العادل لهذه الحرب يكمن فقط في معاقبة ودحر العدو. ان هذا هو موقفنا النهائي “(25).
 وعقب هجوم رجائي القاسي على العراق، قام سعدون حمادي وزير خارجية العراق الذي دعاه رئيس مجلس الامن، بعرض وجهات نظر بلاده حول ” الموقف بين العراق وايران”. وباحجامه عن استخدام عبارات بذيئة، قال بكل بساطة من ان  ” اللغة غير اللائقة ” لرجائي هي لا تنسجم مع ” قدسية الاجتماع ” ولا تؤدي “الغرض” المطلوب. في دفاعه عن موقف رئيس بلاده الذي قد وصفه رجائي بالطاغية الذي يعمل ضد مصلحة ابناء شعبه، قال حمادي بان ” زعيم العراق انبثق من الشعب ومن مرتبة الفقراء ” وقضى معظم حياته في سبيل شعبة ضد ” الملكية والكتاتورية “.
 اما بقية حديثه، فقد كرس لمناقشة القضايا التي اثيرت بين العراق وايران. ناقش بشكل خاص مسائل انهاء اتفاقية الجزائر ومعاهدة 1975 وكذلك القضايا الاخرى ذات العلاقة، طالما انه احس بوجود سوء فهم كبير حولها، بسبب الاختلاف في تفسيرات النصوص من ناحية ومن ناحية اخرى بسبب الاخفاق باكمال بعض النصوص الاخرى. اشار حمادي بأن رجائي قد اتهم العراق بخرقه لاتفاقية الجزائر ومعاهدة 1975 بالغائها من طرف واحد. في الحقيقة، بدأ بشرح ” ان العراق اعلن الغاءها بعد ان اعلنت ايران فسخها  نصا وروحا ” كما اشار في حديثه في الجمعية العامة للامم المتحدة ومجلس الامن. واضاف، ان الاجراء العراقي قد نفذ طبقا لاتفاقية الجزائر (الفقرة 4) ومعاهدة 1975 (المادة 4). وشرح ان اتفاقية الجزائر قد قدمت كصفقة كاملة غرضها هو ” الوصول الى حل دائمي ونهائي للمشاكل القائمة بين البلدين والمستندة على مبادئ السيادة الاقليمية وعدم انتهاك الحدود والتدخل في الشؤون الداخلية. واوضح بان عناصر الصفقة هي:
1. تخطيط نهائي للحدود البرية.
2. تحديد الحدود النهرية في شط العرب حسب خط التالوك.
3. مراقبة مشددة على حدودهما المشتركة وذلك من اجل وضع حد نهائي لكل التسلالات ذات الطابع التخريبي بغض النظر من اين انت.
     فضلا عن ذلك، اتفق الطرفان على مراعاة جميع هذه الالتزامات وبأنها لاتتجزأ وان (خرق أي منها) سوف يعتبر انتهاكا للاتفاقية.
 وبصدد الاتهام من ان العراق قد اهمل المادة 6 من معاهدة 1975 التي تناولت الاختلافات الناجمة عن تفسير وتطبيق المعاهدة، كرر سعدون حمادي (الذي مثل العراق خلال مفاوضات توقيع كلا الوثيقتين) بان معاهدة 1975 قد اعتمدت على معاهدة الجزائر واوضح تفاصيلها الفنية. واشار حمادي بايجاز من ان المادة 6 اصبحت نافذة المفعول كلما رغب احد الطرفين بتطبيقها بشرط ان المعاهدة ماتزال سارية المفعول. ولكن، لو حصل خرق في المادة 4 فأن المعاهدة بكاملها سوف لا يكون لها وجود. وقال سعدون حمادي ” ان الخرق المستمر لعناصر معاهدة 1975 المذكور في المادة 4 ترك العراق من دون معاهدة لتنفيذ التزاماته”.  واضاف حمادي، ان القادة الايرانيين ردوا من ان الاتفاقية لا تلبي رغبات ايران وان ايران لا تعتبر نفسها ملزمة بها.
 وقال وزير الخارجية، ان رئيس الوزراء الايراني قد انتقد العراق لتدخله في الشؤون الداخلية لايران، الا ان ايران هي المسؤولة في الحقيقة عن المشاكل التي اصبح العراق منشغلا فيها. كانت المسألة موضوع النظر هي الارتباط العراقي القديم المزعوم بالاقليات القومية في ايران. قال حمادي، بما ان النظام الايراني اتخذ خطوات لاعادة بناء الدولة على اساس ديني مؤكداً على مذاهب الطائفة التي ينتمي اليها اكثرية الايرانيين، فمن الطبيعي ان عملها اثار مشاعر الطوائف الاخرى في ايران التي ينتمي اليها العديد من العراقيين. واعلن، لو ان هذه الاقليات تثور وتطالب بالاعتراف القومي فان ذلك ليس خطأ العراق. واضاف ” نحن في العراق قد منحنا حكما محليا وقوميا وحقوقا ثقافية الى الاقليات الدينية والقومية التي فشلت ايران في الاعتراف بها.
 وقال حمادي، اما القضية الاخرى فهي مغادرة خميني للعراق. عندما كان الخميني في العراق (حسب قول حمادي) حاول القيام باعمال تخريبية ضد الشاه ودعا الصحف الاجنبية ومراسلي التلفزيون لاذاعة هجومه على الشاه واعتبرها العراق تدخلا في الشؤون الداخلية لايران. وبعد مغادرة الخميني للعراق، يبدو انه اعتبرها اهانة لشخصه.
 وقال وزير الخارجية العراقي ان رئيس الوزراء رجائي قد وصف العراق بالمعتدي. واعلن حمادي ” ان العراق لم يبدأ الحرب مع ايران”. واضاف حمادي، عندما فشلت النشاطات التخريبية للخميني في العراق في تحقيق اهدافها، لجأ الى العمل العسكري. في الواقع، لقد لفت العراق انظار مجلس الامن الى قصف المدن والقرى الحدودية قبل فترة طويلة من قصف ايران خانقين ومندلي يوم 4 ايلول 1980. ورغم تحذيرات العراق، فان القصف استمر مما حفز العراق على اعادة احتلال القواطع المركزية الثلاثة التي تعود له. واجه العمل العراقي عمليات عسكرية ايرانية مكثفة. وقال حمادي، ان خرق اتفاقية الجزائر ومعاهدة 1975 حث العراق على اعلان فسخ هاتين الوثيقتين. قابلت ايران ذلك بالقصف المدفعي الشديد للمناطق المأهولة بالسكان في العراق. وقال حمادي، في الفترة الواقعة ما بين حزيران وايلول 1980، وصل عدد انتهاكات الحدود والعمليات العسكرية 187. وذكر وزير الخارجية العراقي المذكرات العديدة المسلمة الى ايران في 8 و 9 ايلول التي كرر فيها العراق عدم رغبته بتوسيع الصراع واكد لايران بان العراق ليس لديه اطماع اقليمية. الا ان ايران لم تجب على أي من هذه المذكرات. في مثل هذه الظروف، اعلن العراق الغاء اتفاقية الجزائر واتفاقية 1975 ، طالما انها قد خرقت من قبل ايران قولا وفعلا. وقال حمادي، بعد ان استنزف العراق جميع الوسائل السلمية الممكنة، فقد ترك العراق بخيار واحد فقط، بالاخص ممارسة حق الدفاع الذاتي لاستعادة سيادة العراق على جميع اراضيه. واختتم قوله ” ليس لدينا طموحات اقليمية في ايران، الا اننا نصر على السيادة الكاملة للعراق في البر والبحر وعدم التدخل في شؤننا الداخلية(26).
 جرت مباحثات لاحقة من قبل اعضاء اخرين من الوفدين العراقي والايراني ( رياض القيسي من العراق وارداك هاني من ايران ) تناولت بشكل خاص المسائل مثل التدخل في الشؤون الداخلية والاختلافات السياسية والعقائدية.
 وعقب مناقشة الاراء المتضاربة لكل من العراق وايران، ايد مجلس الامن مساعي السكرتير العام فالدهايم لاقناع الطرفين بقبول وقف اطلاق النار كخطوة نحو التسوية النهائية. اقر مجلس الامن والجمعية العامة عدة قرارات لاحقة مطالبة كلا الجانبين بالكف عن استخدام القوة وتسوية خلافاتهما بالطرق السلمية. وبينما ابدى العراق رغبة بقبولها مبدئيا، فان ايران بقت متعنتة في رفضها وقد اصرت بانها كانت ضحية عدوان وطالبت بادانة النظام العراقي. وبتعبير اخر، ان ايران ستواصل استخدام القوة لحين الاطاحة بنظام البعث. في غضون ذلك، تم ارسال بعثات لاطراف محايدة ( بضمنها بعض الدول التي ترعاها الامم المتحدة ) الى العراق وايران لاقناعهما بتسوية خلافاتهما بوسائل سلمية.
 اولا، تم تشكيل لجنة تقصي الحقائق وحسن النوايا من قبل وزراء خارجية الدول الاسلامية في اجتماع عقد في نيويورك ( 26 ايلول 1980) برئاسة الرئيس الباكستاني ضياء الحق الذي اصبح فيما بعد رئيس منظمة المؤتمر الاسلامي كان الهدف النهائي للجنة هو احلال( تسوية سلمية في روح الاخوة الاسلامية ) . وصلت اللجنة الى ايران يوم 27 ايلول 1980 ومن ثم توجهت الى بغداد في اليوم التالي. في الوقت ذاته، قام ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية بزيارة طهران وبغداد في تأييد الى لجنة ضياء الحق. ان هذه اللجنة، التي تزامن تشكيلها مع دعوة مجلس الامن، لم تحقق أي شيء. بما ان ايران رفضت قرار مجلس الامن الداعي الى التسوية السلمية فان ضياء الحق لم يجد أي دليل للاستعداد في العاصمة الايرانية لقبول وقف اطلاق النار. وبعد عودته الى الولايات المتحدة، صرح ضياء الحق في خطاب له امام الجمعية العامة ( تشرين الاول 1980 ) بانه ( قد نقل باخلاص لكل اخ اراء وموقف الآخر فيما يخص وقف القتال )(27). كما اعلن ايضا عرض العراق المشروط لوقف اطلاق النار لمدة اربعة ايام. وعقب الاعلان من طرف واحد بوقف اطلاق النار يوم 4 تشرين الاول 1980، صرح العراق بان ايران اخفقت في مراعاة وقف اطلاق النار. لهذا، استؤنف القتال في اليوم التالي.
 ثانيا، على الرغم من فشل اللجنة في تحقيق السلام فان الدول الاسلامية لم تثبط عزيمتها وانما قامت بمحاولات اخرى بعد مرور عام. في اجتماع منظمة المؤتمر الاسلامي الثالث في مكة والطائف (25 – 29 كانون الثاني 1981) الذي حضرته كافة الاقطار الاسلامية ما عدا ليبيا، تم تعيين لجنة دائمية موسعة اطلق عليها اسم لجنة المساعي الحميدة مؤلفة من تسعة اعضاء يترأسها الزعيم الغامبي احمد سيكوتوري(28). كلفت بمهمة زيارة عاصمتي العراق وايران واعداد مجموعة من المقترحات لعرضها على البلدين ودراستها. التحق بالوفد رؤساء باكستان وبنغلاديش وغامبيا وفينا وذلك لعكس اهمية اللجنة. وصلت الى طهران يوم 28 شباط 1981 وقابلت في المطار وفدا كبيرا ضم رئيس الدولة بني صدر ورئيس الوزراء رجائي. وعقب كلمات الترحيب وتفتيش حرس الشرف، اخبرت لجنة الوساطة بانها ستقابل مجلس الدفاع الاعلى في ساعة متأخرة من اليوم واية الله الخميني في اليوم التالي.
 عقد مجلس الدفاع الاعلى اجتماعا في وقت الظهيرة واعلن الرئيس بني صدر في كلمة الافتتاح ان هدف الاجتماع هو اعطاء اللجنة فرصة لسماع اراء المجلس حول الحرب. افاد سيكوتوري في خطابه بان هدف اللجنة ليس العمل كمحكمة بل انما تقصي ” الحقيقة والعدل “. واشار بان ” الحكم على الخلافات الحالية سيكون عملا عسيرا للغاية “. واستطرد قائلا ” الحقيقة هي ان الحرب قد آلمتنا بعمق وان الرابح والخاسر سيكون في النهاية الخاسر بنظر الاسلام. لهذا، ان هذه الحرب ينبغي انهاؤها عن طريق الاجراءات العادلة والآنية. ان الشيطان يفضل الكائنات الحية بعضها عن البعض الاخر، الا ان الاسلام يوحدها….. “.
 ان ملاحظة سيكوتوري حول الشيطان حثت بني صدر للجواب بعدد قليل من التعليقات. اتفق مع سيكوتوري بان ” الشيطان موجود ” . وقال ” ان طلبنا هو اقرار من الشيطان في هذه الحالة”. وطلب من لجنة الوساطة تحري ” من هو المعتدي “. واضاف قائلا ” بعد ان يتقرر من هو المعتدي فمن سيعاقبه وفقا للمبادئ الاسلامية” . كان جواب سيكوتوري على النحو التالي:
 لقد حضرنا هنا ليس للاجابة على استفساركم، بل انما لاعطائكم هذه الرسالة من اننا نطمح بالسلام وانهاء هذه الحرب. نتذرع اليكم بان تتجاوزوا بحث المشكلة وكونوا على ثقة ان ليس هناك عمل تضحية وبذل مجهود في سبيل القضية الاسلامية يمكن تسميته خداعا…… ان هذه الحرب، بكل الحسابات، غير مقصورة على العراق وايران، انما على الدول الاخرى واخوانكم المسلمين الذين يعانون من الآم هذه الحرب. وبلا شك، ان احلال السلام بين العراق وايران سوف يجعل الامة الاسلامية ترفل بالسعادة.
 في تبادل الآراء هذه، يبدو ان الكلمة الاخيرة قد خصصت الى بني صدر الذي قال ” لانهاء هذه الحرب، نقترح:
أ‌. سن قانون اسلامي لتشخيص المعتدي ومعاقبته.
ب‌. مادام المعتدي باقيا على اراضينا فلا يمكننا الموافقة على وقف اطلاق النار(29).
ومع ان خطيب المجلس المدعو علي اكبر رفسنجاني لم يشارك في المناقشة، الا ان جوابه الى لجنة الوساطة عن طريق تصريحاته في الصحف:
 ” اننا على ثقة من النصر ولا نريد ان نكافئ المعتدي. وعليه نرفض التفاوض “. واضاف قائلا “باعتقادي ان افضل موقف لنا هو … القتال بصبر لحين (ان يحفر صدام حسين قبره في ايران ويتحرر الشعب العراقي). في الحقيقة، ان المجلس قد احال مسألة الوساطة الى اجتماع لجان الدفاع والشؤون الخارجية ويمكن تلخيص بياناتها كالآتي:
 اولاً: قام العراق بشن عدوان عسكري على ايران ” وكان الرد على هذا العدوان هو الحرب “.
 ثانياً: مادامت الاراضي الايرانية محتلة ” فان أي محادثات… مع العدو هي مدانة وبدون فائدة “.
ثالثاً: ان النظام العراقي لا يتمتع بشرعية سياسية وان قادته ينبغي ” ادانتهم ومعاقبتهم لخيانتهم الشعبين المسلمين العراقي والايراني”(30).
بتاريخ 1 اذار 1981 ، قابلت اللجنة (آية الله) الخميني على امل مناقشة الطرق التي تحقق التسوية السلمية. الا ان الخميني، لعله يتحاش الخوض في مناقشة، القى خطبة مطولة باللغة الفارسية طلب فيها من اللجنة القرار على اساس الفرائض الاسلامية أي امة كانت معتدية في الحرب العراقية – الايرانية. وقال ” لو كنا معتدين، عندئذ قاتلونا. ولو كان (حكام العراق) هم المعتدون عندئذ قاتلوهم. وادعى ان في البلدان الاسلامية ينبغي على الحكام ان يحكموا حسب رغبات شعوبهم. وقال، اذا كانت شعوبهم ترفضهم، فينبغي على حكامهم التنازل عن السلطة. واضاف، لو سألت الشعبين العراقي والايراني فسوف يخبرونكم فيما لو انهم يريدون حكوماتهم ام لا “. طلب الخميني من اللجنة عقد استفتاء شعبي في العراق (بشرط ان يكون حرا) للقرار ” فيما لو ان الشعب العراقي يريد ان يحكمه صدام حسين ونظامه البعثي”. وطلب اذا كانوا لا يقبلون به، فكيف يمكن ان توافق ايران على عقد صلح مع حكومة شعبها لايريدها”. وفي قذفه الموجه ضد النظام العراقي، اتهم خميني صدام حسين بالتعسف والظلم والالحاد. وطلب من اللجنة تحري الظروف والقرار فيما لو ان حكام العراق يخدمون مصالح شعبهم او يخدمون مصالح الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. لكنه اختتم قوله ” لو اتبع الحكام تعاليم الاسلام وليس تعاليمهم المزيفة، فسوف لا تكون هناك حاجة الى مليار مسلم لكي يتمردوا ويعلنوا ثورتهم، طالما ان الاسلام يقدم الهداية (من خلال الايمان بالله) نحو الرخاء والنجاح. وقبل مغادرة ايران، لم تتهيأ للجنة فرصة مناقشة مسألة التسوية السلمية مع (اية الله)، ولو انها لم تيأس من ان التسوية السلمية قد تكون مقبولة اخيرا لدى القادة الايرانيين(31).
 بعد الوصول الى بغداد في 2 اذار، اجتمعت اللجنة مع الرئيس صدام حسين ووزرائه البارزين. اخبرت اللجنة ان العراق مستعد لقبول وقف اطلاق النار وطلب منها بيان موقف ايران. اجابت بانها اجتمعت مع الرئيس بني صدر والاخرين في المناصب العليا، الا انها لم تتلق أي تفسير رسمي لخطاب خميني، ولو انها تعرف خلاصته من وسائل الاعلام الايرانية. اشار القادة العراقيون انه لا يستطيع أي فرد من الجمهورية الاسلامية في ايران التحدث نيابة عن الخميني وقد ادركت اللجنة اخيرا ان مسألة وقف اطلاق النار والتسوية السلمية يجب ان تناقش مع الخميني نفسه.
 وبعد عودتها الى ايران بتاريخ 3 اذار 1981 ، قابلت اللجنة الرئيس بني صدر وحضر الاجتماع مجلس الدفاع الاعلى الذي اعلن فيه سيكوتوري ” انه لشرف ان انفذ المرحلة الثانية للجنة… والتسوية السلمية لانهاء الحرب وذلك لكي… يكون بامكان العراق وايران تنفيذ خططهم التنموية”. واكد بان مهمته هي ” السلام ” وتأمل ان كلا الجانبين سوف ” يتخليان عن احقادهما وخصوماتهما وغيظهما”(32). بعد ذلك، عرض على المجلس ” مجموعة مقترحات ” اعدتها اللجنة لانهاء الحرب وطلب بان تنقح من قبل السلطات الايرانية. يمكن تلخيص هذه المقترحات على النحو التالي:
1. المبادئ.
أ‌. احترام سيادة العراق وايران وسلامتهما الاقليمية.
ب‌. التأكيد ثانية عدم جواز الحصول على الاراضي بالقوة.
ج‌. التأكيد من جديد على عدم التدخل في الشؤون الداخلية.
د‌. التأكيد ثانية على تسوية النزاعات الدولية بطرق سلمية.
    هـ. حرية الملاحة في شط العرب.
     2.عناصر التسوية السلمية.
         أ. يسري مفعول وقف اطلاق النار بين العراق وايران ليلة الخميس/ الجمعة من يوم 13 اذار 1981 الساعة الصفر.
         ب. يبدأ انسحاب القوات العراقية من الاراضي الايرانية اعتبارا من يوم الجمعة المصادف 20 اذار 1981 وينتهي في مدة اربعة اسابيع بشرط دراسته من قبل لجنة عسكرية فرعية.
         ج. يتم وقف اطلاق النار والانسحاب تحت اشراف المراقبين العسكريين الذين ينتقون من اعضاء منظمة المؤتمر الاسلامي المقبولة للطرفين.
          د. تحال قضية شط العرب الى لجنة مؤلفة من اعضاء منظمة المؤتمر الاسلامي المقبولة من قبل العراق وايران لوضع حل نهائي لهذا الممر المائي.
         هـ.ان مفاوضات التسوية السلمية للنزاعات الاخرى سوف يتبعها انسحاب القوات العراقية من الاراضي الايرانية.
          و. تبادل تصاريح عدم التدخل في الشؤون الداخلية لكل من العراق وايران.
          ز. سيضمن اعضاء منظمة المؤتمر الاسلامي تقيد الطرفين بالالتزامات المتخذة على اساس التسوية السلمية الشاملة، واذا كان ضروريا الاحتفاظ بمراقبين على كلا الجانبي الحدود الدولية ولفترة محددة.
3. اجراءات مؤقتة للملاحة الحرة في شط العرب.
         أ. منذ وقت سريان مفعول وقف اطلاق النار ولغاية التوصل الى اتفاق نهائي حول شط العرب، تنظم الملاحة في الممر المائي وتشرف عليها هيئة خاصة تحت رعاية منظمة المؤتمر الاسلامي.
        ب. يمكن لهذه الهيئة الطلب من منظمة المؤتمر الاسلامي تجهيزها بقوة حفظ السلام لضمان الملاحة في شط العرب خلال الفترة المؤقتة.
4. تشكل منظمة المؤتمر الاسلامي لجنة فرعية لمساعدة الاطراف في تطبيق نصوص المقترحات الكاملة للتسوية السلمية(33).
 وقبل صلاة الظهر بفترة قصيرة، قابلت اللجنة (اية الله) الخميني يضع دقائق ومن ثم ادت الصلاة التي امها الخميني نفسه. وعقب الصلاة، وجه الخميني كلمة مقتضبة لم يعط فيها أي دليل من انه مستعد لتبديل موقفه المتصلب قبل ان تغادر اللجنة طهران مساءاً الى بغداد. واثناء وجود اللجنة في المطار، تحدث الرئيس بني صدر بايجاز عن الحرب مع سيكوتوري وحبيب الشطي. ومع ان اللجنة شعرت ان السلطات الايرانية قد اتخذت موقفا متصلبا، الا انها تأملت ان تسود روح الاخوة الاسلامية اخيرا(34). بتاريخ 6 اذار، رفض مجلس الدفاع الاعلى الايراني المقترحات بحجة ان الخطة الكاملة تقع خارج نطاق اتفاقيات 1975. طالبت ايران ايضا بان تعين لجنة اسلامية دولية لتتحرى مسألة العدوان(35). في 13 اذار، عندما لم يتم التقيد باليوم المحدد لوقف اطلاق النار بموجب مجموعة المقترحات، توصلت اللجنة اخيرا الى ان السلام سوف لا يتحقق في القريب العاجل.
 مع ذلك، لم تتخل اللجنة عن امل تحقيق السلام بمناشدة الاسلام والعقل(36). وفي 22 تشرين الاول 1982 ، اقرت الجمعية العامة للامم المتحدة قرارا بتأييد مساعي منظمة المؤتمر الاسلامي للتعاون في احلال السلام. ان هذا القرار حث اللجنة لتجديد ندائها الى ايران والعراق بقبول وقف اطلاق النار، لاسيما بعد ان سحب العراق قواته من ايران. وافق العراق على عرض اللجنة، الا ان ايران رفضته.
 وعقب وفاة سيكوتوري في سنة 1983 ، اصبح السيد داودا غريبة جاوارا رئيس غامبيا وعضو اللجنة رئيسا للجنة المساعي الحميدة. اقترح زيارة العراق وايران والسعي مجددا لترتيب وقف اطلاق النار. رحب العراق بزيارته، الا ان ايران وافقت على استقباله كرئيس لغامبيا وليس رئيسا للجنة المساعي الحميدة. في هذا الظرف، لم يستطع جاوارا التقدم بخطته وان نشاطات لجنته قد توقفت. مع ذلك، واصلت منظمة المؤتمر الاسلامي مساعيها عن طريق الاتصالات الرسمية المباشرة وغير المباشرة للمطالبة بوقف اطلاق النار والتسوية السلمية. دعيت ايران والعراق لمؤتمر القمة الاسلامي في الكويت (كانون الثاني 26 – 28 /1987)، الا ان ايران رفضت الحضور بحجة ان الكويت ليست قطرا محايدا. لم تستطع منظمة المؤتمر الاسلامي عمل اكثر من تجديد طلب وقف اطلاق النار وتسوية النزاع بالطرق السلمية.
 واخيرا، حاولت بعثتان اخريان للوساطة التي تم اختيار اعضائها من اقطار خارج البلدان الاسلامية لتحقيق التسوية السلمية. في اوائل شهر تشرين الثاني 1980، اعلن فالدهايم، طبقا لقرار مجلس الامن المؤرخ في 28 ايلول 1980، ان ممثلا خاصا قد عين لزيارة العراق وايران وبحث امكانيات التسوية السلمية. ودعا اولوف بالما، رئيس وزراء السويد سابقا، لتنفيذ المهمة ووافق بالما على العمل في ذلك المجال. وعقب موافقة العراق وايران على البعثة، اخبر فالدهايم رئيس مجلس الامن (11 تشرين الثاني 1980) وتوجه بالما الى طهران بعد اسبوع. زار بالما ايران والعراق خمس مرات (مرة في سنة 1980 وثلاث مرات في سنة 1981 ومرة في سنة 1982) واجتمع بالمسؤولين الكبار في كلا البلدين.
 لاحظ بالما ان هناك رغبة لبحث المسائل الجوهرية للحرب، الا انه لم يجد مرونة من ناحية القتال. ولا أي تغيير في ارائهم عن الاراء التي عرضها ممثليهم في الامم المتحدة. قابل بالما في العراق كبار المسؤولين في النظام (الرئيس صدام حسين ونائب رئيس الوزراء طارق عزيز ووزير الخارجية سعدون حمادي) وجميعهم عرضوا آراءهم بوضوح وانسجام. اما في ايران، فقد وجد خلافات في الرأي بين القادة المدنيين الذين يمثلهم بني صدر القادة المدنيين الذين يمثلهم اية الله بهشتي وحجة الاسلام رفسنجاني. وفي زيارته الاخيرة 1982، التقى بالرئيس علي خامنئي ورئيس الوزراء رجائي. وبسبب المناقشة والنزاع على السلطة بين الجماعتين، اضطر بالما الى اجراء مناقشاته على انفراد مع كل جماعة. وكان من الصعب الحصول على اتفاق عام بين الآراء.
 كانت طريقة بالما في بحث النزاع بين البلدين هي تقسيم القضايا الى صنفين: الاول، المبادئ الاساسية للقانون الدولي المتحكمة بقضايا النزاع. ثانيا، المقترحات الخاصة بصدد جميع القضايا التي ستكون موضوعا للمفاوضات.
 وبشأن المبادئ الاساسية، وجد بالما اتفاقا عاما في وجهات نظر كلا الجانبين حول:
1. عدم التدخل في الشؤون الداخلية.
2. احترام السيادة والسيادة الاقليمية.
3. الكف عن اللجوء لاستخدام القوة.
خلال زياراته الثانية والثالثة، بحث بالما المقترحات التالية:
1. وقف القتال.
2. سحب القوات على خطوط الحدود المرسومة وفق معاهدة 1973.
3. مفاوضات تشمل جميع المسائل المثارة عن معاهدة 1975 مثل خط التالوك في شط العرب.
يبدو ان الجانبين قد اتخذا مواقف غير مرنة حول بعض القضايا بحيث كان من المتعذر تسويتها. طالب الايرانيون بسحب جميع القوات قبل مشاركتهم في المفاوضات واصر العراقيون على ان الانسحاب يجب ادخاله في المفاوضات بعد قبول وقف اطلاق النار.
خلال مفاوضاته مع كلا الجانبين، حاول بالما المساعدة في حل مسألة السفن الاجنبية التي ارغمت على البقاء في شط العرب ولم تستطع الخروج منه. اقترح وقف اطلاق نار محدد للسماح بتطهير شط العرب من البواخر الغارقة والعتاد غير المنفلق. وبصرف النظر عن مسألة السيادة على النهر، فقد توصل الى صيغة تجريبية للمساعدة في نقل السفن. ان خلافات الرأي حول تمويل العملية قد احبط الاتفاق النهائي. اقترحت ايران دفع نصف التكاليف، في حين ان العراق وافق على دفع الكلفة كاملة. وتم بحث المصادر البديلة، التي قادت اخيرا الى نقل السفن، الا ان بالما غادر قبل حل القضية.
في زيارته الاخيرة الى طهران (27- 28 شباط 1982)، علم بالما ان الرغبة السياسية الى تسوية تعاقدية لا وجود لها. ومع انه لم يفقد الامل في تحقيق السلام، كما ابلغ السكرتير العام العراق وايران، الا ان المهمة قد ارجئت الى اجل غير مسمى بعد وفاة رئيسها(37).
اما لجنة الوساطة الاخرى فقد عينت من قبل حركة عدم الانحياز في عام 1981 لأن كلا من العراق وايران هما عضوان في تلك الحركة. ان اللجنة، التي تأسست على المستوى الوزاري، كانت تضم كلا من وزراء خارجية الجزائر (الذي انسحب بعد معارضة العراق)وكوبا والهند والباكستان وغامبيا وماليزيا وممثل منظمة التحرير الفلسطينية. وبعد زيارة طهران والعراق، لم تجد اللجنة رغبة للتفاوض، عدا ان كل متنافس طالب بطرد الآخر من حركة عدم الانحياز. عارضت ايران قيام العراق باستضافة مؤتمر عدم الانحياز في ببغداد في شهر ايلول 1982. يحتمل بسبب ظروف الحرب والاعتبارات الامنية، ان الرئيس صدام حسين وافق على عقد المؤتمر في أي مكان اخر. كانت الزيارات اللاحقة في اواخر عام 1981 واوائل عام 1982 غير ناجحة. واخيرا، عندما اخبر بشكل فظ من قبل ايران في عام 1982 ان النزاع مع العراق تقرره ساحة المعركة، جرى حل اللجنة.
لربما من المفيد في هذه المرحلة مناقشة الموقف لكل جانب والشروط الموضوعة لانهاء الحرب. صحيح، ان العراق قبل بالمساعي السلمية في التسوية وان ايران رفضتها، الا ان كل جانب عرض شروطه للتسوية.
ماذا كانت هذه الشروط؟ في البداية، عندما كانت الحرب قائمة في الفترة الاخيرة، عبر العراق عن طلباته بعبارات صريحة كما اعلنها الرئيس صدام حسين في خطابه الموجه الى الشعب في 28 ايلول 1980:
ما نطلبه هو ان تعترف الحكومة الايرانية بصراحة بالوضع الراهن والشرعي، والحقوق المشروعة والتاريخية للعراق على اراضيه ومياهه والتمسك بسياسة حسن الجوار والتخلي عن ميولها العنصرية والعدائية والتوسعية ونبذ محاولاتها الشريرة في التدخل بالشؤون الداخلية لاقطار المنطقة واعادة كل شبر قد اغتصبته من اراضي الوطن والنظر الى حقوقها وحقوق العرب والعراقيين على نفس الاساس واحترام القوانين والمواثيق الدولية(38).
وبصرف النظر عن التصريحات العامة، يمكن ايجاز الطلبات العراقية الخاصة على الوجه التالي:
اولاً، ان الحدود البرية والبحرية المشار اليها من قبل الرئيس صدام حسين هي المحددة والمعنية في مختلف المعاهدات التاريخية والاتفاقيات التي ادخلت اخيرا في معاهدة 1937 واتفاقيات الجزائر سنة 1975. بما ان المعاهدات الاخيرة اقرت خط التالوك كحدود مائية، الا ان العراق قد تنصل منها بتاريخ 17 ايلول 1980 على اساس ان اتفاقية الجزائر ومعاهدة 1975 قد انتهكت من قبل ايران. لهذا، طالب العراق بان تكون الحدود المائية هي الضفة الشرقية لشط العرب، كما كانت قبل تاريخ 6 اذار 1975 (أي قبل معاهدة 1975)(39).
ثانيا، طالب العراق باعادة الجزر الثلاث ابو موسى وطنب الصغرى وطنب الكبرى التي اشار اليها الرئيس صدام حسين في خطابه كجزء من الوطن العربي الى الامارات العربية المتحدة، طالما ان ايران قد الحقتها دون موافقة اصحابها عام 1971. كان بعض المسؤولين الكبار في العراق يأملون من عرب اقليم الاحواز (الذي يطلق عليه العراقيون عربستان) التحرر من الحكم  الايراني ولو نظموا انقلابا وعرضوا مثل هذا الطلب، فلربما يعترف العراق بالوجود الفعلي لهذا الاقليم ككيان عربي. ولعل هذه التوقعات جعلت القوات العراقية تتجاوز اكثر من طلبات الحدود المشروعة، مما حثت الرئيس كارتر لاعلانه ان القوات العراقية قد توغلت ” خارج الهدف النهائي ” ( على افتراض الحدود الموضوعة بموجب اتفاقية 1975 ) وبأن الولايات المتحدة ” ترغبان في انسحاب القوات الغازية”(41). ولم يعد العراق يثير قضية عربستان وجزر الخليج كقضايا للتفاوض.
ثالثاً، طالب العراق باحترام مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، ذلك المبدأ الذي وافقت عليه ايران بموجب معاهدة 1975 وميثاق الامم المتحدة. من الواضح ان مذهب خميني في ” تصدير الثورة ” المؤيد من الجمهورية الايرانية، يعارض مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى، طالما انه اثار اتباع الشيعة مؤخرا في العراق وفي الاقطار الخليجية الاخرى للتمرد ضد حكوماتهم.
رابعاً، طالب العراق باحترام مبدأ علاقات حسن الجوار (المنصوص عليها في عدة معاهدات بين البلدين) وتسوية الخلافات بالطرق السلمية. ان ايران لم ترفض التفاوض مع نظام البعث فقط، بل طالبت بتغيير النظام العراقي قبل التفاوض.
خامساً، ان التعليل الدبلوماسي والقانوني لاجتياز العراق الحدود الايرانية قد عرض من قبل وزير الخارجية سعدون حمادي على الجمعية العامة للامم المتحدة في 15 تشرين الاول 1980. ولاستعادة القواطع البرية المركزية الثلاثة، اكد حمادي ” ان حكومتي تركت امام خيار واحد فقط، بالاخص ممارسة حق الدفاع الشخصي لغرض استرجاع سيادة العراق على جميع اراضيه” . واضاف ( مستشهدا بعبارات مقتبسة من القضية المشهورة والمثيرة للجدل ” الكارولين سنة 1837 ) هناك ضرورة للدفاع الشخصي والاني والساحق الذي لا يترك وسيلة للخيار ولا حركة للمناقشات”.وبتعبير اخر، ان العراق قد لجأ الى ما يسمى بالعمل الاجهاضي الذي استند عليه في السنوات الاخيرة لتبرير لما يعتبر بخلاف ذلك عملا عدوانيا.
سادساً، عرض العراق احالة النزاع مع ايران الى التحكيم او أي نوع من الاجراء القانوني بموجب المعاهدات القائمة بين البلدين ومبادئ واحكام القانون الدولي. ومع ان ايران وجهت لوما الى العراق لفسخ اتفاقيات الجزائر، فانها قد رفضت طلب العراق الى رأي استشاري من محكمة العدل حول القضية.
وبرفضها اللجوء لكل وسائل التسوية السلمية، تدعي ايران ان الهجوم الاولي العراقي على اراضيها في 21 ايلول 1980 هو عمل عدواني يتحمله الحكام العراقيون وحدهم ( ولو ان ادعاء ايران قد تم مناقضته من قبل العراق لان ايران قد لجأت مؤخرا الى العنف عندما هاجمت المدن والقرى ضمن اراضي العراق بتاريخ 4 ايلول 1980). صحيح، ان الهجوم العراقي كان ضخما وغير متكافئ ويمكن اعتباره رداً انتقامياً على لجوء ايران في البداية الى العنف. مع ذلك، ان الغارات الايرانية عبر الحدود كانت مستمرة ولم يكن هناك دليل انها ستتوقف رغم احتجاجات العراق المتكررة. على اية حال، ان الحجة الايرانية قد فقدت تأثيرها عندما وافق العراق على قرار مجلس الامن الداعي لوقف اطلاق النار وسحب قواته الى الحدود الدولية في شهر حزيران 1982. ولم ترفض ايران نداءات مجلس الامن في الانسحاب الى الحدود الدولية فقط، وانما توغلت في اراضي عراقية واحتلت بعض المناطق منذ عام 1984. فضلا عن ذلك، ان ايران قد طالبت بتحديد هوية المعتدي ومعاقبته ( الحّت ان العراق هو المعتدي ) وتبديل النظام قبل ان تتفاوض مع العراق. ما هو نوع النظام الذي سيكون موافقا لقادة ايران؟ بما ان ايران قد استمرت بالدفاع عن مذهب ( تصدير الثورة ) فان النظام الوحيد المقبول من قبلها سيكون جمهورية اسلامية مماثلة لايران. وتبعا لذلك، ان البنية الاساسية والمذهبية يقتضي تغييرها كليا لكي تنسجم مع الجمهورية الاسلامية في ايران. لا توجد دولة ذات سيادة تقبل بمثل هذا الطلب، طالما انه ليس مناقضا لميثاق الامم المتحدة والمبادئ المتحكمة بالعلاقات بين الدول فحسب، وانما لكونه مخزيا ومهينا للشعب العراقي. كما طالبت ايران ايضا بدفع تعويضات الحرب (تكررت في عدة مناسبات لاسيما من قبل علي اكبر رفسنجاني خطيب المجلس بتاريخ 22 تشرين الاول 1982).
ومادام العراق وايران قد خرقا القانون الدولي، اقترح ريشارد أي. فالك ” ان العنصر الجوهري في أي تسوية ناجحة لهذه الحرب بين العراق وايران هو الاجراء الذي لا يظهر فيه أي جانب بانه خسر الحرب…”(42). ومع ان جوانب معينة مثل النزاعات الحدودية والاشخاص ذوي الجنسيتين، هي نزاعات قانونية، الا ان جوانب اخر، مثل العلاقة بين الدولة والدين والخلاف السني – الشيعي، هي نزاعات سياسية. بالامكان بحث النزاعات القانونية بعد وقف اطلاق النار. على اية حال، في أي تسوية سياسية توافق الطرفين، فمن الجدير ان لا تظهر خلال النقاش من ان احد الاطراف قد خسر الحرب. ان هذا الموضوع سوف نتناوله في الفصل الاخير.

 

الهوامش
 
1. راجع كتاب موسى الموسوي ” الثورة البائسة ” بيروت 1980 ص 98،160. ان موسوي الذي يعرف الخميني كان عضوا ” في البرلمان الايراني خلال عام 1960″.
2. بالنسبة لنص المذكرة، راجع تقرير وزارة الخارجية العراقية ” الصراع العراقي – الايراني في القانون الدولي” ( بغداد 1981 ) الملحق 1 ص 115 – 16. لاحظ ايضاً خطاب الرئيس صدام حسين امام مؤتمر القمة الاسلامي الثالث في الطائف ( المملكة العربية السعودية ) عام 1981 ص 28.
3. راجع خطاب سعدون حمادي وزير الخارجية العراقي امام مجلس الامن في 15 تشرين الاول 1980 السجلات الرسمية لمجلس الامم اس/بي في. 225. وكذلك، وزارة الخارجية (العراق) ملف وثائقي (بغداد 1981) 234 -235. قال السيد حمادي انه يحاول ايجاد توضيح للاختلافات بين النصين خلال السبل الدبلوماسية. اخبر بان برقية وزارة الخارجية الايرانية هي البرقية الرسمية وان ليس هناك استقصاء حول النص المحرر للبرقية الاخرى. لم يطلع الجانب العراقي على تصحيح البرقية.
4. في وصف زيارته الى ايران عام 1979 ، قال موسى الموسوي اثناء حديثه مع نائب الرئيس انذاك صدام حسين بانه علم من ان حكومة البعث مستعدة تماماً لفتح صفحة جديدة في علاقتها مع ايران. ولدى وصوله الى ايران، قام موسوي بزيارة بزركان وبني صدر والخميني. اخبر موسوي من قبل بزركان وبني صدر ان ايران مستعدة لتسوية جميع الخلافات بين البلدين بطرق سلمية، الا ان بني صدر حذر بان الخميني يعارض التفاوض مع حكام البعث. وعندما تحدى موسوي مع الخميني في قم، وجد بانه متمسك بموقفه، ولو ان الموسوي ناشده ان حزب البعث قد ساعده اثناء نفيه في العراق (موسوي، الثورة ص 74 – 90).
5. فيما يتعلق بهذا التصريح والتصريحات الاخرى، راجع خطاب السيد سعدون حمادي (الامم المتحدة اس/بي في. 225) . وزراة الخارجية (العراق ملف وثائقي ص 238 – 39).
6. بالنسبة الى قائمة الانتهاكات الحدودية في البر والبحر والجو من قبل ايران، راجع الملف الوثائقي لوزارة الخارجية العراقية ص 28 – 49.
7. اعترف احد المشتبهين عبد الامير حامد الانصاري في المحكمة بانه استلم مع رفقائه متفجرات واموال من ايران للقيام بنشاطات تخريبية في العراق. ان اعترافه اذيع من راديو بغداد والتلفزيون في 24 نيسان 1980 وابلغ الى السكرتير العام فالدهايم لتعميمه على وفود الامم المتحدة (الامم المتحدة، مجلس الامن، السجلات الرسمية أي/35/68 تاريخ 28 ايار 1980.
8. راجع ملف وزارة الخارجية العراقية ص 194.
9. راجع خطاب الرئيس صدام حسين ص 37 وزارة الخارجية (العراق) ملف وثائقي ص 198.
10. راجع كراس الرئيس صدام حسين (العراق والسياسة الدولية) بغداد 1981 الصفحات 275 – 76. بالنسبة لخطاب السيد حمادي، راجع السجلات الرسمية للجمعية العامة للامم المتحدة الجلسة 35 والجلسة الكاملة 22 في 3 تشرين الاول 1980 وزارة الخارجية (العراق) الملف الوثائقي ص 229.
11. فيما يتعلق بنص الخطاب، راجع الملف الوثائقي لوزارة الخارجية العراقية ص 212.
12. المصدر نفسه.
13. بالنسبة لنص المذكرة، راجع السجلات الرسمية لمجلس الامن اس/14249 في 11 تشرين الثاني 1980.
14. فيما يتعلق بالمذكرة المرفوعة الى ايران (16 تشرين الثاني 1980). والرسالة المعروضة على الجمعية العامة للامم المتحدة (25 تشرين الثاني 1980) راجع السجلات الرسمية لمجلس الامن اس/14272 في 26 تشرين الثاني 1980.
15. راجع مذكرة الاحتجاج العراقية على ايران في الملف الوثائقي لوزارة الخارجية العراقية ص 202 -204. وكذلك، خطاب الرئيس صدام حسين ص 39 – 40.
16. راجع نشرة وزارة الخارجية العراقية ” الصراع العراقي – الايراني في القانون الدولي ” ص 24 – 27، 68 – 74، 77 – 89.
17. السجلات الرسمية للجمعية العامة للامم المتحدة أي 35/483، اس/14191 في 24 ايلول 1980 (الملحق) ص 3.
18. راجع السجلات الرسمية لمجلس الامن اس/14193 في 23 ايلول 1980.
19. راجع السجلات الرسمية لمجلس الامن اس/14199 في 26 ايلول 1980 (الملحق2).
20. راجع السجلات الرسمية لمجلس الامن اس/14190 في 28 ايلول 1980.
21. راجع رسالة الرئيس صدام حسين الى فالدهايم السكرتير العام للامم المتحدة في الملفات الرسمية لمجلس الامن اس/ 14203 في 29 ايلول 1980 (الملحق). الملف الوثائقي لوزارة الخارجية العراقية ص 225.
22. فيما يتعلق بنص رسالة بني صدر، راجع السجلات الرسمية لمجلس الامن اس/14206 في 1 تشرين الثاني 1980.
23. جريدة نيويورك تايمز 4 تشرين الاول 1980.
24. تأييداً للخميني وبني صدر، صرح علي اكبر رفسنجاني في البرلمان (29 ايلول 1980) بان مسألة وقف اطلاق النار بين العراق وايران مستحيلة. جريدة نيويورك تايمز 30 ايلول 1980.
25. فيما يتعلق بنص خطاب رجائي، راجع السجلات الرسمية لمجلس الامن اس/بي في. 2251 في 17 تشرين الثاني 1980.
26. بالنسبة لنص خطاب السيد حمادي، راجع السجلات الرسمية لمجلس الامن اس/بي في. 2251 في 17 تشرين الثاني 1980.
27. راجع السجلات الرسمية للجمعية العامة للامم المتحدة الجلسة 35 في 1 تشرين الثاني 1980 ص 337.
28. بالاضافة الى سيكوتوري ممثل كامبيا والسكرتير العام لمنظمة المؤتمر الاسلامي، تألفت لجنة المساعي الحميدة من ممثلي الدول: السنغال، الباكستان، بنغلادش، تركيا، غينيا،ماليزيا ومنظمة التحرير الفلسطينية.
29. راجع جريدة كيهان انترناشنال (طهران) 1 اذار 1981.
30. راجع جريدة كيهان انترناشنال (طهران) 28 شباط 1981.
31. بالنسبة لخطاب خميني، راجع جريدة كيهان انترناشنال 2 اذار 1981.
32. راجع جريدة كيهان انترناشنال 5 اذار 1981.
33. لجنة السلام الاسلامية ” مقترحات للتسوية السلمية الشاملة ” (جدة اذار 1981).
34. جريدة كيهان انترناشنال 5 اذار 1981.
35. جريدة كيهان انترناشنال 7 اذار 1981.
36. اقترح الخميني وزعماء ايرانيون اخرون التسوية على اساس السلام. وخلال زيارتي الى واشنطن عام 1984، علمت من حديث لي مع السكرتير العام لمنظمة المؤتمر الاسلامي ان التسوية السلمية على اساس المبادئ الاسلامية قد تكون مقبولة من جانب ايران والعراق. ولكن، عندما طلبت من عدد من علماء الدين في كل من العراق وايران بيان رأيهم حول الموضوع، كانت اجاباتهم متضاربة. وفي الوقت الذي وافق علماء الدين في العراق على السلام، فأن علماء الدين في ايران رفضوه على اساس ان المعتدي يجب معاقبته عن طريق الحرب (الجهاد) على افتراض ان الجماعتين من العلماء كانت تناقش وفق النصوص الاسلامية المعتمدة.
37. راجع السجلات الرسمية لمجلس الامن اس/14251 في 11 تشرين الثاني 1980، اس/15449 في 7 تشرين الأول 1982. راجع جريدة نيويورك تايمز في 23 شباط 1981. كذلك، سف.كي.يونك ” فضائح السلاح السويدي شوهدت صورة تحقيق السلم ” جريدة واشنطن بوست 5 ايلول 1987 (زعمت ان بالما مشارك في صفقة بيع السلاح السرية نيابة عن الشركات خلال مهمته السلمية في العراق وايران).
38. بالنسبة الى نص الخطاب، راجع ملف وزارة الخارجية العراقية ص 216 – 23.
39. المصدر نفسه. الرئيس صدام حسين ” العراق والسياسة الدولية ص 252.
40. في حديث مع المراسلين الاجانب، صرح النائب الاول لرئيس الوزراء طه ياسين من ان العراق ” سيواصل تطهير المنطقة ويستولي على مدن عربستان ” وان ” النفط في عربستان سيبقى عراقياً، وطالما ان ايران ترفض التفاوض ” وان الجزر الثلاث في مضيق هرمز هي ” اراضي عربية ” (جريدة نيويورك تايمز 21 تشرين الثاني 1980). فيما يتعلق بالمناقشة من ان ايران انكرت الوجود القومي لعرب الاحواز وحرمت عليهم الاستقلال الذاتي، راجع مذكرة وزارة الخارجية العراقية ” الانتهاكات الايرانية للحدود الشرقية من الوطن العربي “. (بغداد 1981) ص 107 – 137.
41. جريدة نيويورك تايمز 18 تشرين الثاني 1980.
42. راجع كتاب ار.اي.فالك  القانون الدولي والتسوية السلمية للصراع في الحرب العراقية – الايرانية. أي.ئي.اين. دسوقي (برنستون) مدرسة وودرو ولسن للشؤون الخاصة والدولية، 1981 ص 83.

الحرب العراقية –  الايرانية
الجانب العقائدي

 في الحرب غير المعلنة بين العراق وايران، جرى القتال على عدة جبهات. لقد رأينا سابقا كيف خاض الدبلوماسيون هذه الحرب في المحافل الدولية قبل ان تشتبك قوات الطرفين في ساحة المعركة. ماتزال هناك جبهة اخرى، يمكن ان يطلق عليها اسم ” الحرب الاعلامية ” التي تؤكد بالاساس على الجانب العقائدي. ان المعركة في هذه الحرب تجري، ليس بقوات مسلحة وانما بواسطة الاذاعات عبر وسائل الاعلام والمجادلات الطائفية والاغارات التخريبية. وبخلاف المدافع التي تدمر الاهداف المادية، فان الحرب الاعلامية تحاول التأثير على افكار وميول المواطنين بالاعتماد على الاخبار الملفقة والمتكررة وذلك لتعزيز مركز احد الاطراف والاساءة الى الطرف الاخر. ان الحرب الاعلامية قد لا يكون لها تأثير الحرب الحاسمة، الا انها ربما لديها التأثير الفعال على النتيجة النهائية للحرب.
 في البداية، لم تشن الحرب الاعلامية حول مسائل معينة (نزاع حدودي وتدخل في الشؤون الداخلية) وانما على طبيعة النظام وشخصية القادة الذين مارسوا السلطة في بلادهم. فقد تم التأكيد في الصحف والنشرات الدعائية على شكل الحكومة الاسلامية، وقد تداولت نصوص من كتابات الخميني بشكل واسع وترجمت الى اللغات الاجنبية. ادعى قادة الدين بان الحمهورية الاسلامية التي اقامتها الثورة الاسلامية هي الشكل النهائي للحكومة الاسلامية التي وضع اسسها النبي محمد (ص) وخلفاؤه. ان هذه الحكومة، كما تفسرها تعاليم خميني، تعارض الظلم وتهدف الى تحقيق العدالة وفق الشريعة الاسلامية.
طمحت القيادة الايرانية في اقامة هذا النوع من الحكم ليس للمؤمنين في ايران فقط وانما الى المؤمنين في البلدان الاسلامية الاخرى (حسب مذهب خميني في تصدير الثورة).
 حسب طبيعة النظامين، البعث العراقي والجمهورية الاسلامية في ايران، فانهما مستعدان للاشتباك في حرب عقائدية حتى قبل بداية الحرب. سعى كلاهما الى اقامة انظمة اجتماعية حديثة، احدهما يجسد المبادئ الاساسية وقيم الاسلام والاخر يناصر المذاهب الحديثة مثل القومية والاشتراكية والديمقراطية. مع ذلك، ان المذهبين، ولو على ما يبدو انهما على طرفي نقيض، ولكن لديهما اهداف معينة عامة (تأكيد الاستقلال، معارضة الضغوط الخارجية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية). وبما ان الغالبية العظمى من السكان في كلا البلدين هي مسلمة، لذا اصبح الاسلام مصدر الهام لكليهما. اتخذت القيادة الايرانية من الاسلام اساس لنظامها، في حين ان حزب البعث اعتبره عنصرا لايديولوجيته القومية.
 لقد وضحنا سابقا آراء الخميني بخصوص الحكم استنادا الى افتراض ان السلطة النهائية تعود الى الله وان ممارستها تفوّض الى الإمام. في غياب الإمام، ان السلطة الالهية ماتزال تمارس نظريا من قبل المجتهدين، ولو انها من الناحية العملية مجزأة. تمارس السلطة المدنية من قبل الشاه، في حين ان السلطة الدينية تمارس من قبل مجموع المجتهدين(1). رفض الخميني الرأي القائل ان سلطة (الامام) مقسمة الى مجالين: مدني وديني ويرتأى انها ينبغي ان تمارس من قبل مجلس قضاة (ولاية الفقيه) بصفة تمثيلية. ان أراءه، التي اعتبرت المصدر الاساسي للدستور الايراني الجديد، لاقت تأييدا واسعا، في حين ان الذين عارضوها وصموا بالخزي والعار والاجرام من قبل النظام الثوري.
 من الواضح، ان شكل الحكومة الاسلامية في المذهب الشيعي، المستند على (شرعية الامام)، يؤكد على علاقة وثيقة اكثر بين الدين والسلطة السياسية مما في المذهب السني على اساس مبادئ التشاور والرضا العام. بما ان العراق قد حكم منذ مدة طويلة من قبل زعماء السنة، فان تقاليد قبول الشعب والعناصر الدنيوية الاخرى هي اكثر رسوخا في البلاد مما في المجتمع الشيعي في ايران. ولا عجب ان النظام السياسي القائم في العراق يكشف انماطا سنية في الحكم، ولو ان اتباع المذهب الشيعي قد تحدوا باستمرار الزعامة السنية واكدوا المبادئ الشيعية في الحكم.
 ومع ان قادة الجمهورية الاسلامية في ايران يتكلمون باسم الاسلام عموما، فانهم سعوا عن علم بتشجيع نوع من الاسلام خاص بهم ووضعوه في مكانه اللائق. ان تشديد ايران على الحركة الشيعية قد وفر مادة كافية للصحافة ووسائل الاعلام الاخرى لكي تنهمك في حرب ايديولوجية عن طريق تحريض اتباع الشيعة في العراق لادانة نظام البعث لتحيزه ضد الشيعة الذين هم من اصل غير عربي. وعلى اسس تاريخية ودينية، فقد تمادى المتطرفون لحد انكار شرعية حكومة البعث. لهذا، فان المتعصبين الايرانيين لم يخونوا ميولهم الطائفية والدينية الضيقة فحسب، انما اساؤا فهم التقاليد والتاريخ.
 وحسب الدعاية الايرانية، ان حزب البعث قد تولى السلطة ليس بثورة اسلامية مشروعة، وانما من خلال عمليات عسكرية غير قانونية وعنيفة. وادعى القادة الايرانيون ان الحالة كما في حالة معاوية، مؤسس السلالة الاموية، قد اغتصب السلطة بالقوة من الامام علي (اول امام) وانتقلها الى ابنه يزيد في 680 ميلادية. كذلك بالنسبة للرئيس العراقي احمد حسن البكر الذي جاء للسلطة بالقوة من خلال انقلاب عسكري (1968) وسلم مقاليد الحكم الى نائبه صدام حسين (1979). ومع ان القادة الايرانيين لابد وانهم يعرفون ان الرئيس صدام حسين لم يخلف الرئيس البكر بتخطيط مسبق، طالما انه تولى السلطة بموجب التسلسل الهرمي لحزبه، فلربما رغبوا بتذكير العالم الشيعي بالحادث التأريخي لأغتصاب السلطة من الامام علي من قبل معاوية وحرمان سلالته من حق الخلافة. لهذا، ان الشيعة في العراق قد اخبروا بشكل ضمني ان السلطة قد اغتصبها زعماء السنة في البلاد التي اكثر سكانها شيعة، وانها تعود لهم. بما ان من الحقائق المسلم بها ان السلطة في العراق لا يمكن اكتسابها بطرق سلمية، فان اتباع الشيعة في العراق ينبغي ان يلجأوا الى الثورة كما فعل اخوانهم في الدين في ايران(2).
 لقد لاحظنا سابقا كيف ان الطائفة الشيعية لعبت دورا ذا مغزى في سياسة العراق قبل ثورة عام 1958 وكيف ان بعض قادتها قد ارتقوا اعلى المناصب في النظام، الا انهم، في الحقيقة، لم يأخذوا زمام السلطة من ايدي السنة. في عام 1958، عقب الاطاحة بالنظام القديم، فشل النظام الجديد في اقامة حكم يحتفظ بمقومات الحياة ومقبول لدى كل الجماعات الكبيرة بصرف النظر عن انقسامها الطائفي. ولمدة تزيد عن عقد، كان النظام السياسي خاضعا الى السلطة العسكرية التي لم توجه سوى اهتمام قليل الى الحساسيات الطائفية. لهذا، اصبح اتباع الشيعة قلقين وبدأ زعماء الدين يطالبون بالسلطة الدينية. ومنذ تولى حزب البعث السلطة عام 1968، سعى الى تخفيف حدة التوترات الطائفية عن طريق اقتراح انشاء نظام سياسي جديد قائم على مبادئ القومية والاشتراكية والديمقراطية البرلمانية وليس الانتماء الديني.
 وبالتأكيد على المسائل القومية، كانت قيادة البعث قادرة على جذب اعداد كبيرة من الشباب عن طريق التعهد لهم بفرص متساوية ولكي يلعبوا دورا مهما في تنظيمات الحزب والمناصب الحكومية العليا. وبالنتيجة، ان زعماء الشيعة، الذين زاد نفوذهم منذ ثورة تموز 1958، عارضوا نظام البعث. وعندما نجح العلماء في ايران باستلام السلطة، اصبح رجال الدين الفرس في العراق نشيطين جدا وحاولوا اقناع رجال الدين العرب الانضمام اليهم في المطالبة بتأسيس الحكومة الاسلامية. لهذا، ان شهوة زعماء الشيعة العراقيين للسلطة قد تحفزت عن طريق زملائهم في ايران الذين، تبعا لمذهب خميني (في تصدير الثورة) عرضوا مساعدتهم في محاولاتهم لتولي السلطة.
 وقبل ان يتمكن العلماء الايرانيون الاطاحة بنظام الشاه، كان رجال الدين الشيعة في العراق قلقين من افلات زمام السلطة من ايديهم، ولاسيما خلال حكم قاسم عندما انجرفت اعداد كبيرة من اتباع المذهب الشيعي الى الحزب الشيوعي. فعلى سبيل المثال، ان العالم الروحي لطائفة الشيعة السيد محسن الحكيم، الذي اصبح قلقا تماما من انتشار الشيوعية في البلاد، بدأ بانتقاد السلطة لمنح الشيوعيين حرية التعبير السياسي(3). اما شاه ايران، الذي استاء من الحكم العسكري في العراق، ناشد الحكيم واتباعه للانضمام اليه في حمله معاداة الشيوعية، مع ان الشاه لم يكن على وفاق مع العلماء في ايران الذين كانوا يعارضون نظامه المتعسف. وبالرغم من تقلب الشاه في تعامله مع زعماء الدين في العراق وايران، رأى الحكيم في تعاونه مع الشاه فرصة معارضة  الشيوعية كوسيلة لاستعادة الزعامة الدينية في كلا البلدين.
 ان وصول (اية الله) الخميني الى النجف سنة 1965 له تأثير بعيد المدى على تبدل موقف زعماء الشيعة العراقيين (اولا تجاه الشاه وفيما بعد تجاه نظام البعث). في البداية، اتخذ الخميني عن دراية مركزا متواضعا على نقيض الحكيم الذي تمتع بشهرة واسعة لدى الطائفة الشيعية، ولو انه والحكيم يحملان آراء مختلفة تماما حول دور الزعامة الدينية في السياسة. ولعل الاهم حقيقة هو ان الخميني، كضيف منفي، لم يكن من المتوقع ان يشرك في حملة دعائية ضد الشاه، طالما ان النظام العراقي، برئاسة عبد السلام عارف احتفظ بعلاقات حسنة مع ايران. ولم يتمتع الخميني آنذاك بمركز ديني رفيع، ولو انه اعترف به كعالم مرموق طالما ان المرجعية (سلطة دينية عليا) تعود الى رجال لامعين مثل محمد رضا قلبايكاني وشريعة مداري وحسن قمي في ايران والى الحكيم والخوئي واخرين في العراق. ولمدة ثلاث سنوات تقريبا، لحين الاحاطة بحكم عارف من قبل حزب البعث، اقتصرت نشاطات خميني على التعليم والاتصالات الشخصية مع عدد محدود نسبيا من اصداقائه ومؤيدية (توابعة).
 بدأ موقف الخميني في العراق يتحسن عقب مجيء حزب البعث الى السلطة في عام 1968. بما ان الشاه لم يكن على وفاق مع حكومة البعث، فقد اصبح منشغلا مع اعداء البعث (الذين جهزهم بالسلاح) في محاولة لقلب النظام الجديد عام 1969. ولارتياحهم الكبير، فقد تشجع الخميني واتباعه للتكلم بصراحة ضد الشاه وعرض عليهم الاستخدام غير المحدود لوسائل الاعلام للتحريض ضده من ملاذهم في البلاد. كان مع ابنه مصطفى، الذي توفي في ظروف غامضة (يعتقد ان الشاه كان مشتركا بقتله) على اتصال مستمر مع السياسيسن الكبار وقد زودوا بكل وسائل التحرك ضد الشاه. لقد حصل ذلك في وقت، بالاخص بعد وفاة الحكيم، عندما بدأ نجم خميني كزعيم ديني بالصعود ونما عدد اتباعه. في الحقيقة، اصبح العراق ملاذا للهاربين من ايران(5).
 حتى قبل بدء مغازلة خميني العرضية لنظام البعث، فان هناك عدة منظمات قد كرست لتحسين وضع الشيعة في البلاد. وكما لاحظنا سابقا، ان نشاطات هذه المنظمات قد تحفزت كأستجابة لثورة تموز 1958 التي منحت حرية تعبير لمختلف الجماعات الطائفية. في البداية، ان الجيل الجديد، بصرف النظر عن الهوية الدينية، تعاطف مع اهداف ثورة تموز متأملا ان النظام الجديد الذي يتعهد بالحرية والرخاء سوف يسر بوعوده. ولدهشتهم، عندما وجد الشباب ان قادتهم الكبار قد خانوا الثورة واصبحوا منشغلين في صراع السلطة، بدأ اكثر اتباع المذهب الشيعي الشباب بالرجوع التدريجي الى هويتهم الشيعية وطلب توجيه قادتهم الدينيين. واصبح استياءهم اكثر وضوحا في عهد عارف، المعروف بتعصبه للسنة، حيث قام بتقييد نشاطاتهم. وفي ظل نظام البعث، ان شعارات الوحدة العربية، ولو انها مقبولة من قبل الشباب الشيعي، قد ولدت لدى جميع اتباع الشيعة المسنين وساقتهم الى حضيرة الزعامة الشيعية التقليدية.
 بدأت المعركة الايديولوجية بين الجمهورية الاسلامية ونظام البعث عندما كان المجتهدون الايرانيون يضطهدون في ايران خلال حكم الشاه وان عددا منهم قد وجد حماية في المراكز المقدسة الشيعية حيث تسنى لهم جمع مؤيدين ضد حكم الشاه. بما ان الاتجاهات الثورية في العراق سارت بعكس تطلعات الشيعة، فان الهوة اخذت بالتوسع بين الطائفتين الشيعية والسنية. وعقب الثورة الايرانية، تطلع اتباع المذهب الشيعي في العراق الى ايران من اجل المساعدة.
ان هدف الحرب الايديولوجية الايرانية كان ولايزال يتمثل بتمكين الطائفة الشيعية في العراق من ان تلعب دورا ذا معنى في النظام السياسي للبلاد وبالتالي تولي زعامته. ولتحقيق هذا الهدف، فان احياء التعاليم الشيعية واعداد جيل جديد سيضطلع بتولي مسؤولية القيادة قد اعتبر ضروريا. وقبل الثورة الايرانية، كان التركيز على المنظمات غير السياسية، ولكن بعد تأسيس الجمهورية الاسلامية، بدأت المنظمات الاكثر نشاطا بالعمل واحيانا باللجوء الى العنف.
 في عام 1965، تم تشكيل حزب الدعوة الاسلامية. في البداية، لم تكن اهدافه سياسية، طالما ان نشاطاته تركزت على احياء التعاليم الشيعية وانحصر بالمناطق التي يزيد فيها اتباع المذهب الشيعي على اتباع المذهب السني كما في النجف وكربلاء وسامراء والكاظمية. مع ذلك، ان هدفه النهائي هو بلاشك سياسي، طالما ان التأكيد على تعاليم الشيعة اتجه نحو اثارة التوترات، بالاخص بين عامة الشعب. ان التوتر الطائفي، ولاسيما في المعاقل الشيعية، قاد دائما الى حوادث عنف في الشوارع. كان لابد للشرطة من التدخل لحفظ السلام، الا ان عمل الشرطة اثار جدلا بين زعماء الدين لكلا الطائفتين، وان الاحتكاك والمشاعر الجياشة التي بدأت في المستوى الادنى تحولت الى نقاش معقد في المستويات العليا وكشفت الشعور الطائفي الدفين في البلاد. وعليه، ان تعاليم حزب الدعوة كانت السبب غير المباشر في اثارة الصراع الطائفي.
 حاول حزب الدعوة جذب اتباع المذهب الشيعي للانخراط في صفوفه، طالما ان جيل الشباب الشيعي مازال منضويا الى الحركة الشيوعية وان موقفه كان متناقضا تجاه الحكيم، الذي كان على صلة طيبة مع الشاه ولحد ما مع نظام البعث، كما ان بعض اعضائه، الذين يشاركون الحكيم في قلقه من الشيعة، لم يوجهوا سوى اهتمام قليل الى علاقات الشاه مع العراق. اما الاخرون، لاسيما المجتهدون الذين هربوا من ايران، فقد حذروا اتباع الحكيم من مراءات الشاه ومحاولته لاستمالة زعماء الشيعة في العراق. وهناك اخرون من امثال (اية الله) الخوئي، ولو انهم يعارضون الشاه، اتخذوا موقفا محايدا مراعاة للحكيم. لم يبدأ حزب الدعوة بالوقوف ضد الشاه الا بعد وفاة الحكيم عام 1970 واستجابة الى شكاوى العدد المتزايد من المجتهدين الذين غادروا ايران.
 في عام 1970، انتقلت السلطة الدينية العليا من الحكيم الى محمد باقر الصدر. ان هذه الحادثة يمكن اعتبارها نقطة تحول في موقف الدعوة تجاه كل من الشاه ونظام البعث. وفي عام 1975، عندما اصبح نظام البعث على صلة طيبة مع الشاه، انفصل الخميني بالتالي عن البعث وشرع بتأييد حزب الدعوة. كما وأيد الزعامة الروحية الجديدة للصدر وشاركه في آرائه وان الزعيمين كسب كل منهما ثقة الاخر عندما كان الخميني مايزال في العراق. وعقب عودته الى ايران وتأسيس الجمهورية الاسلامية، اشيع بان الخميني قد دعا الى قيادة ثورة في العراق وذلك لاقامة حكم اسلامي(6).
 وقبل مناقشة علاقات الصدر مع الثورة الايرانية وتأثيرها على العراق، فان وصفا موجزا لافكار وخلفية الصدر ربما توضح ذلك. ولد في النجف عام 1930 من عائلة عربية. ان اخلاص عائلته للشؤون الشيعية منذ مجيء مؤسسها الى البلاد قبل قرن مضى هي معروفة للعالم الشيعي(7). هناك عدد من افراد الاسرة الذين انهمكوا في الشؤون العامة وبرزوا في النشاطات القومية. احدهم محمد الصدر الذي شارك بدور فعال في ثورة العراق عام 1920 واكتسب شهرة واسعة في الاوساط الوطنية. وعقب تشكيل الحكم الوطني في العراق عام 1921 اتجه الى العمل السياسي حيث اصبح في البداية نائبا في عام 1926 وفيما بعد رئيسا للوزراء عام 1948(8).
 ترعرع محمد باقر الصدر في محيط عائلي يسوده العلم والتقوى واظهر اهتمامه بالمعرفة عندما كان شابا. لقد نشر عدة كتب ومقالات حول الاسلام تناولت مواضيع شتى. ان اعماله الموجهة للقارئ العام ربما تكون غير اصيلة ونظرية للغاية، طالما انها تلخص بالاساس التعاليم الاسلامية التقليدية. وظاهريا، ان الهدف من كتاباته كان لاصلاح المجتمع الاسلامي بصرف النظر عن الخلافات الطائفية. ولكن، من البديهي، ان الهدف كان سياسيا وانتقادا للنظام وذلك من خلال توضيح كون ان البرامج البديلة للاصلاح المعروضة من قبل المذاهب الدنيوية الحديثة (الوحدة العربية والاشتراكية وغيرها) التي نادى بها حزب البعث ستقود عاجلا او آجلا الى احياء التوترات الطائفية والاشكال الاخرى للتعسف والتفرقة. لهذا، ان الصدر لم يكن مجرد كاتب يتناول مواضيع مجردة، وانما ثائرا تميّز كزعيم روحي مهتم بصالح المجتمع وتقدم المجتمعات الاسلامية في اقطار اخرى. واعترافا بمؤهلاته الشخصية مثل القدرة الخارقة على سحر الجماهير والعلم وسلاسة المنطق وشهرة عائلته في خدمة الدولة والمجتمع فان سلطته كرئيس مرجع للعمل نيابة عن الامام اثناء غيابه قد اقرت من قبل العلماء الاخرين وان حقه قد تأكد من قبل اتباع الشيعة. وباعتباره مرجعا دينيا، فهو مخول باصدار فتاوى شرعية حول المسائل اليومية التي ستكون ملزمة لعموم المجتمع(9). يتوقع من العلماء في مختلف المراتب نقل رسائل السلطة الدينية العليا الى مجتمع المؤمنين في جميع المستويات. ان السواد الاعظم، اغلبهم من الجهلة وفقراء الحال، سوف يستجيبون بكل طاعة الى نداء السلطة العليا ويعملون تبعا لذلك.
 وبموجب اعتقاد الشيعة في ايران والعراق، ان الامام الثاني عشر قد احتجب، الا انه سيعود في الاخر ليعيد السلطة والعدالة لاتباعه. فقد حذرت الطائفة الشيعية ان من الجائز انها قبل عودته ستعاني الظلم والاضطهاد تحت ايدي حكام مستبدين. وخلال غياب (الامام)، يقدم المجتهدون توجيها بكل القضايا ذات العلاقة بالطائفة. وبحكم هذا النظام، فان القرارات السياسية لا يتوقع ان تحددها الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية لوحدها، وانما يحددها العلماء بموجب احكام الدين والشريعة. لو كانت الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية تتعارض مع القرارات المتخذة من قبل الامام (المرجع الروحي الاعلى في غيابه) فأن هذه القرارات تعتبر ملزمة لجميع اتباع الطائفة الشيعية. مع ذلك، ان السلطة الروحية للمجتهدين تمارس غالبا ما من قبل اكثر من سلطة عليا معترف بها والذي يدعي كل واحداً منهم بتوجيه اتباع الشيعة في مدينته او منطقته. اما المجتهدون الاخرون (سواء المدن ام في مناطق اخرى) فيطلق عليهم اسم المقلدين (الذين يتبعون السلطة العليا) ويفترض ان ينفذوا تلك القرارات عن طريق الاتصالات مع افراد الطائفة.
 من احدى الوسائل الفعالة التي يمكن للمجتهدين من خلالها تنفيذ نداء السلطة الدينية العليا هي المعاهد الثقافية الدينية (الحوزة العلمية). في السنوات القليلة الماضية، حصلت زيادة ملحوظة في عدد هذه المعاهد وكذلك في عدد المعلمين القادمين من ايران الى العراق، على افتراض ان عدداً كبيراً من اتباع المذهب الشيعي قد وقعوا تحت تأثير الشيوعية والتعاليم العلمانية الاخرى التي لا تحط من قيمة السلطة الدينية العليا فحسب، وانما من مركز الطائفة الشيعية ككل. ومنذ العهد العثماني، بدأت الطائفة الشيعية بتأسيس هذه المعاهد الثقافية لان الباب العثماني كان متحيزا ضد طائفة الشيعة ويرفض قبول الشباب الشيعي في مدارسه او استخدامه في الوظائف الحكومية. لهذا، اضطر اتباع المذهب الشيعي من اللجوء الى مؤسساتهم الاجتماعية ومدارسهم الخاصة، التي يديرها المجتهدون وتوجه بالتالي من قبل السلطة الدينية العليا. ان التلامذة القادمين من ايران يذهبون دائما الى النجف، طالما ان مدارسها تتمتع بسمعة علمية عالية في جميع ارجاء العالم الشيعي وان المجتهدين الايرانيين الذين درسوا في النجف يمارسون التعليم في المدارس الشيعية في كل من العراق وايران(10). ومن خلال تلقيهم العلم في مدارس الطائفة، فان اواصر الاخوة والتقارب بين المعلمين الشيعة وتلامذتهم من كلا البلدين تتوثق وتشكل هوية عامة ليست قومية، قائمة على مبدأ الولاء للامام الذي يعني الولاء الى السلطة الدينية العليا بصرف النظر ان كان عربيا او فارسيا او كان مقيما في النجف (العراق) او في قم (ايران). وعندما اندلعت الحرب ونشرت وسائل الاعلام نداء المجتمهدون في ايران الى شركائهم في الدين للعراقيين للثورة ضد نظام البعث الملحد، فلا عجب ان كانت استجابتهم سريعة مما ادت بالتالي الى توتر عال ومحاولات انقلابية في المدن الشيعية الرئيسية(11).
 في الحرب  العقائدية/الايديولوجية، ان الرابطة الوثيقة الصلة بالطائفية هي القومية. اكد كل من نظام البعث في العراق ونظام الشاه في ايران على الخصائص القومية للهوية، طالما ان القومية تعتبر اساس نظامهم. لكن، حكومة الثورة في ايران، التي تؤكد على القيم الاسلامية، اعلنت معارضتها لنظام الشاه نظرا لاستناده على الخصائص القومية التي لا تتماشى مع الاسلام ولان القومية تفرق بين المسلمين (يعتبرون اخوة في الدين) بصرف النظر عن اصلهم وبلادهم. ان الاسلام يعارض كل اشكال الهوية القومية لان القيم القومية هي استتثنائية ويجب ان تسبقها قيم عالمية(12).
 ان الصحف ووسائل الاعلام الاخرى، التي تردد افكار خميني، نددت بنظام البعث مرارا لكونه علماني وعنصري ويفرق بين المسلمين على اساس الهويتين القومية والعنصرية. اصبحت المنظمات السرية، المدفوعة من قبل ايران، نشطة جدا في البلاد. وقامت بنشر دعايات تمجد بحسنات الحكومة الاسلامية ودعت المؤمنين للاطاحة بنظام البعث واقامة نظام اسلامي لا يعترف بالتفرقة بين المسلمين(13). كما قام حزب الدعوة وحزب امل الاسلامي بتوجيه حملة ضد قيادات البعث حيث تركز الهجوم بشكل خاص على الرئيس صدام حسين والنظام ( المعادي للدين ) الذي يقوده. في احدى نشرات حزب الدعوة، اعلن بان المجتهدين قد توصلوا الى اتفاق من ان نظام البعث يجب الاطاحة به وطلب من الشعب العراقي تبديله بحكومة اسلامية(14).
 لقد شن النظام الايراني حربا طائفية في الصحف وكذلك القيام بعمليات تخريبية ليس في العراق فحسب، وانما في الاقطار العربية الاخرى والغرب. في البداية، لم يكن العراق يمتلك وسائل اعلامية كافية لكي يتغلب على الدعاية الايرانية التي وصفت العراق بالمعتدي الذي يهدف الى الاطاحة بالجمهورية الاسلامية وقطع اوصالها. ومع ان العراق طلب تسوية خلافاته مع ايران بطرق سلمية، الا ان الصحافة الايرانية استمرت بوصف العراق بالمعتدي حتى بعد انسحاب قواته من ايران عام 1982. ولحد قيام القوات الايرانية بشن هجمات جبهوية داخل الاراضي العراقية وقصف المراكز المدنية (لاسيما في محافظة البصرة والمستوطنات الكردية في المحافظات الشمالية) بدأت الصحافة الغربية بالتركيز اكثر على البيانات العراقية والشكاوى،ولو ان النشرات الدعائية الايرانية استمرت بتمجيد مزايا الثورة الاسلامية واضعاف النظام العراقي(15).
 ولتبرير هجماتها على الاراضي العراقية، فقد ادعت القيادة الايرانية انها فرضت بالاوامر الالهية للامام الغائب الذي اصبح اية الله الخميني ناطقا باسمه. لقد اطلق على العمليات الايرانية اسماء رمزية. ومن اشهرها عمليات كربلاء 1 و 2 وهلم جرا (كربلاء هي الموقع الذي استشهد فيه الحسين نجل الامام علي في معركة اثناء كفاحه لأخذ السلطة من الغتصبين السنة) الهادفة بوضوح الى حث المؤمنين للسير على خطى الحسين لاستعادة الاراضي الشيعية المقدسة التي ماتزال بيد السنة (البعث). ان مثل هذه العمليات لم تشجع الشباب على الذهاب للقتال فحسب (اذا سقطوا في الحرب فسوف يكافأون في الجنة) وانما جذبت اتباع المذهب الشيعي في اقطار الخليج الاخرى للمشاركة في النشاطات التخريبية.
 لقد كان بامكان القادة الايرانيين حث المؤمنين خارج ايران وكذلك الدخول في تحالفات مع قادة الحركات القومية لاسناد قضيتهم. فضلا عن ذلك، ان تصريحاتهم العلنية ضد الاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية ومساندتهم لمنظمة التحرير الفلسطينية قد وفرت للرئيس اسد والعقيد القذافي الذرائع لمساندة ايران، طالما ان انشغال العراق بحربه مع ايران قد اضعف الوضع العربي العام تجاه اسرائيل بجعل قوات البلدين منهمكة في حرب بدلا من انضمامها الى الجيوش العربية ومواجهة اسرائيل. اضافة الى ذلك، قامت ايران بتأييد الاكراد في صراعهم مع العراق من اجل تحقيق اهدافهم القومية، في حين ان نشراتهم الدعائية، التي تركزت على القيم الاسلامية، واصلت انتقادها للعراق لتأكيده على الخصائص القومية. وفي لبنان، قام الزعماء الايرانيون باسناد النشاطات الهدّامة بصرف النظر عن الهوية القومية. اما في سعيهم وراء السلطة، فان اساليب الارهاب للرعايا الايرانيين قد تدنت الى مستوى لا يتعدى اكثر من الترخيص والاساءة الى القيم الاسلامية.
 مع ذلك، ان الامر لم ينتهي عند هذا الحد. ففي حربهم العقائدية مع العراق، حاول القادة الايرانيون اللعب بعواطف الشعب ودق الاسفين بين الحكام والرعية. واعلنوا في اكثر من مناسبة ان ايران والشعب الايراني لا يضمر شعورا عدائيا تجاه الشعب العراقي وانهما يطمحان للحفاظ على علاقات حسن الجوار فيما بينهم. مثل هذه العلاقة، كما علم بها العراقيون، لا يمكن ان تكون الا في حالة تبديل نظام البعث بآخر (حكومة قائمة على مبادئ الشريعة الاسلامية والعدل ومستعدة لتشجيع السلام والامن في المنطقة). من الواضح، ان التأكيد على المبادئ الاسلامية، بصرف النظر عن الخلافات الطائفية، يهدف الى نفي الاتهام من ان المذهب الشيعي في ايران، المطّعم بالتقاليد الفارسية والممارسات الخارجة عن السلام، يعتبر بمثابة عقيدة مخالفة. ولا حاجة للقول، ان القادة العراقيين قد اكدوا للشعب الايراني بانهم لايضمرون العداء لهم. لقد عرضوا على زعمائهم السلام والامن وطالبوهم بتسوية خلافاتهم مع العراق بطرق سلمية(16).
 ان القادة الايرانيين قد طلبوا تأييدا ليس فقط للمتعاطفين خارج ايران وانما للاجئين العراقيين في ايران. لقد غادر بعضهم العراق قبل بداية الحرب، الا ان العدد الكبير قد طرد من قبل الحكومة العراقية. هناك عدد اخر من العراقيين في سوريا ولبنان منحتهم السلطات هناك حق اللجوء. وفي البداية، سعى المنفيون في ايران وسوريا للتعاون مع اعضاء حزب الدعوة ومنظمة امل، الا ان زعماء هذه المنظمات ارتأوا انه طالما هدفهم هو اقامة حكومة اسلامية في العراق، لذا ينبغي ان تعهد هذه الحكومة الى رجال الدين وليس الى المدنيين. وبالتالي، انبثقت منظمتان، واحدة في ايران والاخرى في سوريا. كانت المنظمة الاخيرة، التي مقرها في دمشق، تدعم من قبل السلطات السورية. اطلق عليها اسم الجبهة القومية والاسلامية الثورية للعراق وكانت تضم اعضاء علمانيين ودينيين وقيادة يترأسها لواء عراقي منذ عام 1981 يدعى حسن النقيب. اما المنظمة الاخرى، فقد تأسست رسميا عام 1982 وان قيادتها انيطت بحجة الاسلام محمد باقر الحكيم الذي اصبح رئيسها عام 1986.
 وباعتباره عراقي من اصل فارسي، فان الحكيم يحتفظ بجنسيتين. لهذا، فهو في وطنه سواء في العراق او ايران. ولعدم تمتعه باي مؤهلات خاصة للزعامة، عدا انتسابه الى عائلة الحكيم المشهورة، فقد اصبح آلة طيعّة بيد السلطات الايرانية. ولا يحظى بتقدير اتباعه البالغ عددهم اكثر من ثمانين الذين يمثلون مختلف الاحزاب والجماعات والبيوتات. وبتعبير ادق، ان منظمة الحكيم هي ليست حكومة في منفى، كما يحلو لأعضائها تسميتها، الا انها مجلس شورى يسانده لجنة منفذة وامانة سر مع عدة وحدات ملحقة بها. ان المهمة الرئيسية للمنظمة هي رعاية مصالح اللاجئين والمنفيين الاخرين من العراق. مع ذلك، ان هدفها النهائي هو استبدال نظام البعث بجمهورية اسلامية تقيم تعاونا وثيقا بين البلدين. ولتحقيق هذا الهدف، فقد اصبحت معتمدة كليا على الحكومة الايرانية في سعيها لمؤيدين من خلال النشاطات السرية واصدار صحيفة ” الشاهد ” وصحيفة ” لواء الصدر ” ومجلة ” الجهاد ” والنشرات الدعائية الاخرى. لقد كان من المؤمل عندما تسقط مدينة البصرة على ايدي القوات الايرانية فان الحكيم واتباعه سوف ينقلون مقرهم الى تلك المدينة وذلك للقيام بحملة دعائية واسعة ضد النظام العراقي. مع ذلك، ان نشاطاتها قد فشلت في العراق، طالما انها لعبت دور الرتل الخامس للعدو.

 كيف استجاب نظام البعث الى الحرب العقائدية؟
 في البداية، اتخذ عدة خطوات عملية للتغلب على النشاطات التخريبية الداخلية التي سبق الاشارة اليها. ولعل اهمها هو انسحاب القوات العراقية من الاراضي الايرانية عام 1982 الذي اعطى دليلا على ان العراق ليس لديه اطماع اقليمية، عدا الدفاع وحماية البلاد. ان هذه الخطوة، التي نفذت بموجب قرارات الامم المتحدة منذ عام 1980، اكدت التزام العراق بتسوية خلافاته مع ايران بطرق سلمية. ونتيجة لذلك، تتحمل ايران مسؤولية استمرار الحرب، طالما انها رفضت قبول جميع نداءات وقف اطلاق النار بحجة ان العراق بدأ الحرب. ولكن، في الحقيقة ان ايران ترغب باطماع تتجاوز ذلك. ولقد طلبت مؤخرا باحلال نظام اخر محل نظام البعث، على افتراض تنصيب قادة يوافقون عليهم قبل اجراء التفاوض مع العراق. ان هذا الطلب، بصرف النظر عن اثارته لمسائل قانونية ودبلوماسية خطيرة، يعد اهانة الى الشعب العراقي الذي طلب منه القبول بنظام مفروض بنظام اجنبي. فضلا عن ذلك لو ان النظام العراقي استبدل باخر مشابه للنظام الاسلامي في ايران، لربما ازدادت حدة التوترات الطائفية.
 وقبل انسحاب القوات العراقية من ايران، كانت الطائفة الشيعية في العراق، ولاسيما الشيعة من اصل عربي، في موقف حرج. ولكونهم مواطنين عراقيين، فانهم ملزمون باسناد حكومتهم، الا ان انتسابهم للطائفة الشيعية، من المتوقع ان يجعلهم يتعاطفون مع اخوانهم في الدين الذين تعرضت بلادهم الى هجمات عراقية. مع ذلك، مادامت القوات العراقية قد انسحبت، فان اتباع الشيعة من اصل عربي غالبا ما دعوا القادة الايرانيين لتسوية خلافاتهم مع العراق بطرق سلمية.
 اما اتباع الشيعة من اصل فارسي الذين يحملون جنسيتين فقد انحازوا الى صنف مخالف تماما. حتى قبل بدأ القتال، يبدو ان معظمهم قد انهمكوا في حملة دعائية ضخمة ضد نظام البعث. لقد وجهوا نداءاً الى اخوانهم في الدين من العرب بالانضمام الى الحملة ضد النظام. ولعلم الحكومة العراقية بنشاطاتهم فقد حذرتهم في البداية من المشاركة في نشاطات تخريبية. وفيما بعد، عقب بدء القتال، قامت الحكومة العراقية بنفي ما يزيد عن (40000) شخص، حسب المصادر الايرانية(17). ومع ان عددا يحملون جنسيتين قد ولدوا في العراق واندمجوا عن طريق الاقامة والزواج فان نفيهم قد جرى كتدبير امني داخلي. ان الزعيم الروحي لهؤلاء المنشقين، محمد باقر الصدر، الذي يحمل جنسيتين، قدم للمحاكمة ونفذ حكم الاعدام بحقه فورا يوم 24 نيسان 1980، على اساس انه قد اصدر فتوى يبرر فيها النشاطات التخريبية ضد الدولة(18). وفي نهاية عام 1981، تم اخماد الحركة الثورية وان جميع المشتركين في نشاطات تخريبية تم القاء القبض عليهم تقريبا واودعوا السجن. ان معظم الذين هربوا من البلاد التحقوا بمنظمة الحكيم التي مارست اخيرا نشاطات تخريبية ضد العراق.
 ولمطاردة المنشقين وقهرهم، فقد اتبع النظام العراقي سياقا عمليا. لقد كشف بجلاء موقفه من مسألة الدين والسياسة. واكد لجميع الذين سيتنصلون عن المعارضة السياسية فليس هناك ما يخيفهم، فيما لو اولوا اهتمامهم بشؤونهم الدينية فقط، طالما ان ممارسة الواجبات الدينية هي قضية خاصة. مع ذلك، فقد حذرت من التدخل في السياسة تحت ستار الدين. ان هذه السياسة التي تسمى باللغة العربية (الترغيب والترهيب الثواب والعقاب او الوعيد والرشوة) اثبتت بانها اسلوبا بناءاً في مسألة حساسة جداً(19).
 الا ان المسألة لم تنته عند هذا الحد. فقد اعلنت حكومة البعث ان منهاجها في التطويروالبناء سوف يستمر رغم متطلبات الحرب. وعلى وجه الخصوص، ان المراكز الشيعية الرئيسية، بضمنها النجف وكربلاء، قد حظيت باهتمام خاص من قبل السلطة وان العلماء الذين كانوا مستعدين للتعاون مع النظام قد جرت مكافأتهم. ان استعداد النظام لتقديم كل الخدمات والتأكيد على الولاء القومي وليس الطائفي نال استحسان العديد من اتباع الطائفة الشيعية الذين ادركوا ان مصالحهم ستخدم بشكل افضل من خلال التعاون مع النظام وليس معارضته. وبعد انسحاب القوات العراقية من ايران، بدأ عدد كبير من زعماء الشيعة يدركون ان مصالحهم الخاصة تقتضي التعاون مع النظام، طالما انهم لم يجدوا سببا مقنعا لمواصلة ايران الحرب.
 ان الثورة الايرانية قد اثارت مسألة حساسة حول العلاقة بين الزعامات الروحية في العراق وايران. باعتبار النجف مركزا للعلم في العالم الشيعي فقد عانت هبوطا في الشهرة وعدد الطلاب الداخلين في معاهدها. لقد درس وتعلم في معاهدها في احد الاوقات عدد من المجتهدين البارزين في ايران من امثال: البروجردي والكالبيكاني والكاشاني والخميني. وفي السنوات الاخيرة، بدأت مدينة قم والمراكز الاخرى، التي اصبح فيها المجتهدون نشطين جدا، تتنافس مع مراكز التعليم الشيعية في العراق. لقد اصبح الموقف في النجف اكثر حساسية، ليس بسبب تضاءل مركزها تقريبا بسبب قم، وانما بسبب كون الزعامة الدينية العليا قد انتقلت من ايدي علمائها. وبما انه لا يوجد تسلسل رسمي في الطائفة الشيعية (كل مجتهد يكسب سلطته الروحية وشهرته من خلال جهوده الخاصة) فان بعض الزعماء الروحانيين الشيعة في العراق كانوا مستعدين لاعلان عدم موافقتهم للزعماء الروحانيين في ايران (كما في حالة بعض الزعماء الروحانيين البارزين في ايران مثل شريعة مداري) قد خالفوا الخميني في تفسيره للمعتقدات الدينية. وبما ان قادة البعث مطلعين على هذا الموقف الدقيق، فقد شجعوا عددا من الزعماء الشيعة من اصل عربي، بضمنهم كاشف الغطاء وعلي الصغير والاخوة من عائلة بحر العلوم (حسين،جعفر، عز الدين وحسن) لتحدي السلطة الروحية للخميني(20). ولا يقل اهمية استعداد العلماء الشباب المندفعين بطموح اقتفاء خطوات من سبقوهم في النشاطات القومية العربية للتحدث ضد ائمتهم في ايران في محاولة لتعزيز نفوذ وشهرة المراكز الشيعية في العراق. ان هذه الحساسيات المحلية والضيقة قد تم تبريرها بحجة انها خلافات عقائدية. فعلى سبيل المثال، لقد اكد المجتهدون الايرانيون على ممارسات وطقوس معينة ادخلوها في التعاليم الشيعية عن طريق السلالة الصفوية مثل ضرب الجسم بالسلاسل اثناء فترة الحداد في شهر عاشوراء ولعن الخلفاء الاوائل الذين جاؤا بعد الرسول والتشكيك بهم من قبل المجتهدين العراقيين. ودعما للزعامة الشيعية في العراق، فان نظام البعث شجع العلماء على مناقشة خلافاتهم مع المجتهدين الايرانيين واقناع اتباع المذهب الشيعي للتخلي عن تأييد النظام الايراني(21).
 وعليه، ان حرب الخليج لم تعد مجرد حرب بين قوات مسلحة لطرفين، وانما مواجهة ذات ابعاد متعددة بين اسلوبين للحياة. اولهما، ينشد استمداد وحيه من الدين والتأكيد على العقائد التي لا تتعارض مع العصر الحديث. ولكن لكي يكتب لها البقاء فلابد من اجراء تنازلات والتكيف تبعا لظروف الحياة الحديثة.
 اما الثاني، فينشد تحقيق تقدم وتطور عاجلين وتكييف المبتكرات والابداعات المادية والتقنية بالنسبة الى التراث الحضاري بحيث يتشرف لها الناس ليس فقط في العراق فحسب، وانما ايضا في جميع الاقطار العربية الاخرى.
الهوامش

1. في ايران وبقية الاقطار العربية الاسلامية الاخرى هناك اختلافات في الرأي حول العلاقة بين السلطات المدنية والدينية . فعلى سبيل المثال ، ادعى شريعتمدارى من ان المجتهدين الذين تقتصر واجباتهم على المشورة في القضايا القانونية والدينية ينبغي ان لا ينغمسوا بالسياسة ، الا ان الخميني وتلامذته اصروا على ان القضايا الدينية والسياسية لا يمكن فصلها وان المجتهدين لا يمكنهم ان يتغاضوا فيما لو ان الحكام انتهكوا الشريعة الاسلامية والقيم الاسلامية .
2. راجع بيان منظمة امل الاسلامية ( خيار العراق بين المنظمات القائمة والبدائل المقترحة )،العراق ، غير مؤرخ، هي 11-13 ، 50-54 .
3. بما ان علماء النجف ( العراق ) محترمون جداً في ايران ، فان التعاون بين الشاه ورجال الدين البارزين في العراق قد قلل بالنتيجة من منزلة المجتهدين الايرانيين الذين عارضوا الشاه ( موسى الموسوي ) ” الثورة البائسة ” – بيروت 1980 – ص84 .
4. حسب ما ابلغني احد المهجرين ان الخميني بعد وصوله لفترة قصيرة الى النجف قام بزيارة ودية الى الحكيم . وخلال الحديث ، سأل الخميني ، باعتباره متطرفاً باراءه ، الحكيم لماذا لا يهاجم الظلم والفساد في ايران . اجاب الحكيم الذي يتمسك بالرأي من ان واجب المجتهد هو محصور في القضايا الدينية فليس من واجبه انقاذ الحكومة الايرانية . وبعدم الاتفاق مع الحكيم ، قيل ان الخميني ابدى ملاحظة من ان رغم انهما احفاد الامام الاول ( علي ) ، الا ان الخلاف يكمن في الحقيقة من ان الحكيم هو الحفيد الاكبر للامام حسن ( اكبر ابناء علي ) وأنه الحفيد الاكبر للحسين ( ان المعنى الضمني هو ان الحسن ، الذي دعا الى الاستسلام ، خضع الى الخليفة السني بينما الحسين ، الذي تحدى السلطة ، اصبح الشهيد الذي وقف بوجه الطغيان والظلم ) .
5. راجع كتاب موسوي ( الثورة ) – ص57-61. وكذلك، حامد الغار ( الثورة الاسلامية ) – عام1981 – ص56 .
6. زعم ان الصدر قد عين نائباً للخميني في العراق . راجع كتاب سعدون حمادى (ملاحظات حول الحرب مع ايران ) – بغداد 1982 – ص30 . منشور حزب الدعوة ( نداء من حزب الدعوة الاسلامي الى الشعب العراقي – معلومات مركزية
رقم 8 ) .
7. فيما يخص حياة الصدر الاكبر ، راجع كتاب آغا بارزاك الطهراني ( علماء الشيعة ) – النجف 1954 – الجزء الاول من 445-449 .
8. بالنسبة لدور الصدر في السياسة ، راجع كتاب مجيد خدوري ( العراق المستقل ) – الطبعة الثانية – لندن 1960 – ص 270-272 .
9. فيما يتعلق بدور الصدر في حزب الدعوة واتباعه ، راجع كتاب فاضل البراك ( تحالفات الاضداد ) – بغداد 1985 – ص 85-101 .
10. للاطلاع على المعاهد الدينية الشيعية ( التعليمية ) ، راجع كتاب فاضل الجمالي ( الكليات الدينية في النجف ) . مجلة ( العالم الاسلامي ) – 1960 –  ص15-22 .
11. فيما يتعلق بدور المدارس الايرانية وتأثيرها في العلاقات الايرانية – العراقية راجع كتاب فاضل البراك ( المدارس اليهودية والايرانية في العراق ) – الطبعة الثانية – بغداد 1985 – ص93 .
12. راجع كتاب خميني ( الحكومة الاسلامية ) ، في الاسلام والثورة ترجمة حامد الغار – بيركلي 1981 –  ص47 . راجع ايضاً كراس وزارة الاعلام والثقافة العراقية ( العدوان الايراني تجاه العراق ) . تصريحات الخميني واعوانه – بغداد 1984 .
13. راجع منشور منظمة العمل الاسلامية ، منظمة اسلامية سرية في العراق .
14. راجع نشرة حزب الدعوة ( بيان تفاهم – بين العلماء – من حزب الدعوة الاسلامي الى الشعب العراقي رقم 8 – غير مؤرخ ) . البيان موجه الى عموم الشعب العراقي وكافة المنظمات والفئات السياسية – عربية ، كردية ، اسلامية ، وغير مسلمة – للاتحاد ضد النظام .
15. في البداية ، رددت جميع وسائل الاعلام الغربية تقريباً ان الادعاء الايراني من ان العراق هو المعتدى اشار المراسل الشرقي لصحيفة الايكونومست كود فري جنسن انه بسبب ( عدم براعة الدعاية العراقية فإن المعركة الاعلامية قد خسرها العراق منذ البداية ) – كودفري جنسن ( حرب الخليج : المناقشة مستمرة – مجلة العالم الثالث الفصلية – تشرين الاول 1984 .
16. راجع نصوص خطاب ( آية الله ) الخميني الى لجنة الوساطة الاسلامية – 1 آذار 1981 – ورسالة الرئيس صدام حسين الى الشعب الايراني – 14 حزيران 1985 – الملاحق 6 و 7 .
17. راجع تصريح على شامس اردخالي المندوب الايراني في الامم المتحدة امام الجمعية العامة
( السجلات الرسمية للجمعية العامة للامم المتحدة أس / 35 / بي في 33 ، 1980 ) .
18. حديث فاضل البراك رئيس جهاز المخابرات العراقية، بغداد بتاريخ 1 حزيران 1986 .
19. ان موقف البعث من علاقة الدين بالسياسة قد شرح بشكل كامل في خطاب الرئيس صدام حسين المعنون ( ملاحظات حول الدين والتراث ) – بغداد 1977. راجع كراس الرئيس صدام حسين (العراق والسياسة الدولية ) – بغداد 1981 – ص 277-278 .
20. يعتبر الشيخ علي كاشف الغطاء ( المولود في النجب عام 1904 ) اشهر عالم ديني شيعي في العراق. لقد دعا الى فصل الدين عن السلطة المدنية ورأى ان المجتهدين ينبغي ان يحصروا توجيهاتهم بالامور الدينية . نشر عدة كتب عن الدين والشريعة الاسلامية . من الكتب التي نشرت حديثاً هي الفقه الاسلامي المطبوع عام 1979 والاخر حول المنطق طبع في عام 1982 . بالنسبة لدور علماء الشيعة في النشاطات القومية العربية راجع كتاب وميض نظمي ( شيعة العراق والقومية العربية ) المستقبل العربي 42 (1982) 74-100 .
21. كمثال لمعارضة اراء الخميني المذهبية ( ولو ان ذلك ليس مثالاً نموذجياً ) قام اثنا عشر عالماً شيعياً من العراق يمثلون مختلف التنظيمات بتوقيع فتوى استنكروا فيها رأي الخميني من أن
( الرسول محمد لم يكن قادراً على تحقيق جميع الاهداف التي طمح اليها ) . وعارضوا بشدة استخدام الخميني لكلمة ( غير قادر ) التي طبقت بشكل غير لائق على الرسول . للاطلاع على نص الفتوى راجع جريدة الثورة – بغداد – 2 نيسان 1987 .

 

تورط دول الخليج في الحرب العراقية –  الايرانية

ان الحرب العراقية – الايرانية ، التي بدأت كصراع بين بلدين جارين ، لم تعد تقتصر على البلدين فقط ففي يومنا هذا ، تعد جميع دول الخليج تقريباً متورطة بشكل مباشر أو غير مباشر وقد اثرت على علاقاتها بشكل عميق مع القوى المحلية والعالمية وبدرجات متفاوتة . صحيح ، ان الصراع بين العراق وايران
( وسابقاً بين فارس والامبراطورية العثمانية ) هو حصيلة قوى تاريخية التي ليس لها سوى علاقة محدودة مع دول الخليج الاخرى ، الا ان تأثيرها على الحرب الجارية في البر والبحر والجو لا يمكن عزله او تجاهله من قبل الدول الاخرى المجاورة للخليج . ولا تقل اهمية حقيقة كون معظم الخليج تقريباً قد اصبح مسرحاً للحرب، ولو ان المنطقة المحددة لا تتعدى عن (50) ميلاً حول جزيرة خرج التي اعلن العراق بأنها ( منطقة قتال ) وان معظم المياه الاقليمية جنوبي ايران اعلنت ايران بأنها ( ممنوعة ) وحرمت الملاحة فيها على السفن غير المتحاربة . لهذا ، فمن المناسب ان يطلق عليها اسم ( حرب الخليج ) .
ولكن ، قد يتساءل المرء الى أي مدى قد تورطت كل دولة خليجية في الحرب ؟ قبل ان نناقش بتورط كل دولة خليجية ، لعل اهداف البلدين الرئيسيين وموقفهما من اقطار الخليج الاخرى يمكن تلخيصها على الوجه التالي : ان نداء ايران الموجه للعراق وجيرانها ( الاقطار الاسلامية الاخرى ) قد اصبح واضحاً، اما اهدافها فهي اقامة دولة اسلامية في كل بلد وفرض الشريعة الاسلامية ومعالجة الامور المحلية والاجنبية طبقاً للمعايير الاسلامية . ولم يكشف النقاب فيما لو ان علاقات كل بلد سينضم رسمياً الى ايران ستكون متكافئة او تابعة ، الا ان من المحتمل ان ايران سوف تطمح الى موقف متميز ، ان لم يكن الاول والمسيطر في دار الاسلام  فضلاً عن ذلك ، لو ان ايران ، باعتبارها اكبر بلد خليجي ، ربحت الحرب فسوف تكون في موقع يخولها ان تلعب دوراً قيادياً في حفظ السلام والامن ، خاصة اذا تعرض الخليج الى تهديد او تدخل من قبل قوة اجنبية .
ان علاقات العراق مع الدول العربية الاخرى في الخليج لم تكن ودية وحسنة دائماً ، وان السبب يعود الى المنافسات الموروثة من جهة والاطماع الاقليمية للعراق من الجهة الاخرى وبالاخص الكويت التي حذرت اقطار الخليج الاخرى . وعقب سقوط الملكية عام 1958 ، فان قيام النظام الجمهوري في العراق والانقلابات العسكرية المتعاقبة لم تشكل بحد ذاتها تهديداً ، الا ان تبني الاشتراكية فيما بعد والمذاهب المتطرفة الاخرى من قبل حزب البعث ( ناهيك عن تحالفه مع الاتحاد السوفيتي ) قد اثار قلقاً في الدوائر الخليجية العليا . ان هذا القلق قد تعمق في السنين الاخيرة ، طالما ان نظام البعث ، الذي يركز على الاهداف القومية ، قد اظهر اهتماماً في الشؤون الخليجية اكبر من السابق .
في محاولة لتهدئة جيرانهم من عرب الخليج ، اكدت قيادة البعث لحكام الخليج مراراً انه ليست لديهم اية نوايا تدخل في الشؤون الداخلية ، وعلى اقل احتمال اضعاف السلالات الحاكمة . لقد حاولوا عبثاً اقناعهم بضرورة اتباع سياسة عربية خليجية هدفها الرئيسي تعزيز الانسجام والتعاون للوقوف بوجه التدخل الاجنبي وتحديد هجرة الرعايا من غير العرب الى السواحل العربية في الخليج التي لها تأثير في تغيير الطابع العربي للخليج. وفي الوقت الذي شاركت الدول العربية اهتمام العراق الرئيسي ، لكنها بقيت متشككة من طموح العراق خوفاً ان يلعب دوراٌ قيادياً في شؤون امن الخليج . لهذا السبب ، فقد اقترح بضرورة التفاهم بين العراق والمملكة العربية السعودية قبل الشروع باعداد سياسة عربية للخليج . يبدو ، ان القيادة العراقية كانت على ثقة من ان سياستها ستلاقي قبولاً في النهاية طالما انها ستشجع المصالح العربية العامة وليس مصالح العراق الخاصة فقط . ولا بد انها ادركت ايضاً ان مثل هذه السياسة يمكن ان تتطور تدريجياً وبحذر عن طريق المفاوضات المباشرة وينبغي ان لا تفرض ( كخطة كبيرة ) تنطوي على اهداف عقائدية .
بدأت المفاوضات بين المملكة العربية السعودية والعراق عندما قام ولي العهد انذاك الامير فهد بزيارة بغداد في عام 1974 . وبعد عام واحد ، قام نائب رئيس مجلس قيادة الثورة صدام حسين بزيارة الرياض . في كلتا الزيارتين ، تم اخبار القيادة العراقية بكل صراحة بأن المسائل المعلقة تنتظر حلاً قبل البت في المسألة السياسية الكبرى للخليج العربي . واوضح صدام حسين ، الذي يبدو انه قد انسجم مع الامير فهد، بان هدف السياسة العراقية هو تعزيز الاستقلال العربي والسيادة الاقليمية وليس تهديدها رغم تحالف العراق مع الاتحاد السوفيتي .
واضاف صدام حسين ان الظروف مهما كانت ، سوف لا يسمح باي ضغوط اجنبية او مذاهب متطرفة لا تتماشى مع القومية العربية ان تخرق الاراضي العراقية . واعقب هذه المحادثات التمهيدية تسوية عدد من المسائل المعلقة – النزاع حول منطقة الحياد وتحديد حدود المنطقة الشمالية بين البلدين
( 2 تموز 1975 ) ومسائل اخرى – ساعدت لحد كبير على تحسين العلاقات وازالة المخاوف .
     اعتبر قرار مصر من جانب واحد تحت زعامة السادات محاولة اخرى لفرض تسوية سلمية للنزاع العربي – الاسرائيلي من دون موافقة العرب ولتعزيز العلاقات بين المملكة العربية السعودية والعراق ، فان اجتماع مؤتمر القمة التاسع المنعقد في بغداد ( في شهر تشرين الثاني 1978 ) ، برئاسة الرئيس احمد حسن البكر والامير فهد رئيس الوفد السعودي وبالتعاون مع صدام حسين رئيس الوفد العراقي ، نجح في التأكيد ثانية على التضامن العربي. هناك حدثان جديدان ساعدا على تعزيز العلاقات بين البلدين هما : احتلال السوفييت لافغانستان والثورة الاسلامية في ايران . اعتبرت الاولى خطوة تمهيدية من قبل الدول الكبرى لتهديد منطقة الخليج والاخرى تهديداً مباشراً الى نظاميهما . وبعد ثلاثة اشهر من مؤتمر بغداد ، اعلن العراق بتاريخ 8 شباط 1980 البيان القومي العربي المؤلف من ثماني نقاط الذي تعهد فيه بعدم اللجوء الى القوة ، عدا الدفاع المشروع ، في علاقاته مع العرب واقطار الدول المجاورة . يمكن تلخيص النقاط الثمان على النحو
التالي :
1. رفض مرابطة الجيوش الاجنبية والقواعد العسكرية والتسهيلات المتعلقة بها او أي تسهيلات مهما كانت في الوطن العربي .
2. تحريم استخدام القوة من قبل أي بلد عربي ضد اخر . وان اية خلافات بين الاقطار العربية ينبغي تسويتها بطرق سلمية .
3. يطبق البند (2) على العلاقات بين قطر عربي واي قطر مجاور اخر . لا يسمح باستخدام القوة ، الا في حالة الدفاع عن النفس .
4. الحفاظ على التضامن بين الاقطار العربية في حالة وقوع هجوم ضد سيادة بلد عربي او اراضيه في أي قطر عربي .
5. تأكيد الالتزامات العربية لمراعاة جميع القوانين والاتفاقيات المتحكمة باستخدام الاراضي والمياه والاجواء في العلاقة مع أي قطر ليس في حرب مع قطر عربي .
6. تبني موقف الحياد وعدم الانحياز في أي صراع او حرب لا تؤثر على السيادة الاقليمية العربية .
7. تبني الخطط البناءة التي تقود الى التعاون الاقتصادي العربي المشترك والوحدة العربية .
8. سيدخل العراق في مناقشات مع أي قطر عربي مستعد لتحقيق الاهداف التي يجسدها البيان . ان هدف هذا البيان هو ليس الاحلال بمحل ميثاق التعاون العربي ومعاهدة التعاون العسكري والاقتصادي العربي المشترك وانما القيام بتعزيزها(1) .
ان دور العراق في محادثات مؤتمر بغداد واعلانه البيان القومي العربي الهادف الى تحقيق التضامن الواسع والتعاون بين الاقطار العربية عزز مكانته في الشؤون العربية الداخلية . لكن ( روح بيان بغداد ) التي انتهكت من قبل سوريا وليبيا لم تدم طويلاً . فوق كل ذلك ، ان قيام النظام الثوري الاسلامي في ايران الذي ركز على الهجمات المباشرة ضد العراق قبل أي قطر اخر ، قد حول انتباه العراق من الشؤون العربية الى الشؤون الايرانية .(2)
وما ان بدأ القتال بين العراق وايران في شهر ايلول 1980 ، الا واعلن العراق بانه ( لم يقاتل في هذه الحرب من اجله ، وانما يخوض حرباً عربية )، ولا يدافع عن سيادته الاقليمية فحسب ، وانما عن سيادة الاراضي العربية بكاملها من السيطرة الفارسية المرتقبة(3). مع ذلك، فان العراق لم يطلب مساندة الاقطار العربية الاخرى ولم تكن الاقطار العربية مستعدة للمشاركة في القتال(4). ففي البداية ، يبدو ان العراق كان عازماً على كسب المعركة الفاصلة ( يطلق عليها احياناً
– قادسية صدام – ) ضد ايران بمفرده . لكن ، توقع الانتصار العاجل للعراق ثبت فشله وان الصراع العنيف سار ببطء . على اية حال ، عندما بدأت ايران بهجمات مقابلة وتبين بانها تستولي على اراض عراقية ، لم تستبعد الاقطار العربية المجاورة خسارة العراق للحرب .
وبعد نشوب القتال ، لم تكن اقطار الخليج العربي مستعدة بشكل كاف للتغلب على مشاكلها الامنية الخاصة وتعرض منشآتها النفطية على الساحل الغربي للخليج لهجمات الطائرات الايرانية . وظاهرياً ، بدا ان معظم الاقطار العربية متعاطفة مع العراق الا ان بعضها تردد في توريط نفسه ، في حين ان بعضها الاخر اتخذ موقفاً حازماً ضدها . ولعل مواقفها الاولية لم تتضح بشكل اكثر من جلسات الجامعة العربية في تونس . ففي الاجتماعات التمهيدية حال اندلاع الحرب ( 22 أيلول 1980 ) لم يستطع اعضاء الجامعة العربية الوصول الى اتفاق او اجماع في الرأي . فاقطار الخليج العربي المدعومة من قبل الاردن ومراكش وموريتانيا واليمن الشمالية انحازت الى العراق . اما سوريا وليبيا ( لكل منها سببه الخاص ) فقد ساندتا ايران . وبالنسبة للجزائر، فكانت مستعدة ثانية لتقديم مساعيها الحميدة الى العراق وايران ( كما فعلت عام 1975 ) وحافظت على حيادها التام . وعلى الرغم من هذا الانقسام ، اعلن الشاذلي القليبي الامين العام للجامعة العربية ان مجلس الجامعة العربية دعا الى وقف اطلان النار وتطبيع العلاقات بين العراق وايران على اساس عدم التدخل في الشؤون الداخلية لكل منهما . مع ذلك ، فان ايران حذرت جيرانها العرب ، من خلال الطرق الرسمية وغير الرسمية ولمحت بقوة الى ضرورة الابتعاد عن الحرب .
لم يكن اول قطر عربي يعلن بحماس شديد وقوفه مع العراق قطراً خليجياً ، وانما كان قطراً بعيداً عن مسرح العمليات وهو الاردن . وحال سماعه اندلاع الحرب العراقية – الايرانية ، بدأ الملك حسين بالتفكير حول تأثيرها على العالم العربي وماذا ينبغي ان يكون رد فعل بلاده . ولم يمض وقتاً طويلاً حتى وادرك انه ليس مجرد صراع بين نظامين متنافسين ( احدهما ديني والاخر علماني ) كما اعلنت وسائل الاعلام الايرانية على المسلمين في الاقطار الاسلامية والعالم الخارجي ، وانما ادرك ايضاً ان الصراع خطير وربما له نتائج وخيمة على منطقة الخليج باسرها . في الحقيقة ، يعد مواجهة بين نظام ثوري تسلطي جديد يرفع راية الاسلام واستغلال المشاعر الدينية في البلاد الاسلامية ونظام قومي عربي يمثل بشكل او باخر النموذج العربي العام للسياسة التي بدأت بالتطور في الاقطار العربية الشمالية ووادي النيل بعد الحرب العالمية الاولى .
اعتبر الملك حسين الثورة العربية التي قادها جده الملك حسين بن علي شريف مكة اثناء الحرب العالمية الاولى المنبع الاصلي لحركة القومية العربية التي انتشرت اخيراً في العالم العربي . واعتقد ان الانظمة البعثية في كل من سوريا والعراق ، رغم صراعهما في الوقت الحاضر حول القيادة ونوع الوحدة التي ينشدون تحقيقها ، فهي مؤيدة لحركة القومية العربية المنتشرة هذا اليوم في الاردن والاقطار العربية الاخرى . وبتعبير آخر ، اعتقد بان الثورة الاسلامية هي تحد لحركة القومية العربية التي تطمح لاقامة دولة قومية عربية متحدة ومتقدمة . وبدأ يفكر ماذا سيحدث للحركة لو ان العراق خسر الحرب ؟ ان معظم قادة العرب وانظمتهم بما فيهم اقطار الخليج قد هاجمهم االنظام الايراني واتهمهم بانهم خونة ومعادين للاسلام . لو قدر للنظام الاسلامي في ايران كسب الحرب فان الثورة الايرانية سوف لا تقضي على النظام العربي في العراق فحسب ، وانما على جميع الانظمة العربية الاخرى سواء في الخليج او مناطق اخرى . وسوف تستبدل بحكومات مشابهة للجمهورية الاسلامية في ايران وحسب مبدأ الخميني في ( تصدير الثورة ) .
فضلاً عن ذلك ، ان الملك حسين لم يرد على التحدي الموجه لبلاده فحسب ، وانما لمهاجمته باعتباره كافراً وخائناً للاسلام . ان الملك حسين هو الحفيد الاصغر للنبي محمد (ص) من خلال سلالة اول اولاد الامام علي المسمى الحسن ( الامام علي هو اول امام بالنسبة للمذهب الشيعي ) رغم ان الخميني يدعي انه حفيد النبي (ص) من خلال ذرية الحسين ثاني ابناء علي . ويشعر الملك حسين بفخر في حقيقة ان الخلفاء العرب
( الذين خلفوا النبي ) هيأوا القيادة لتأسيس الامبراطورية الاسلامية وان جده الحسين بن علي شريف مكة هيأ القيادة لحركة القومية العربية وفق تقاليد الخلفاء الاوائل بعد الرسول .
واعتقد الملك حسين ان افكاره الخاصة حول القومية العربية قد استقيت ايضاً من الاسلام . وبعكس الخميني يرى انه ليس هناك تناقض بين الاسلام والقومية .(5)
ومقابل هذه الخلفية ، يمكن ان نفهم، لماذا استجاب الملك حسين بشكل سلبي للثورة الايرانية عندما علم بها لاول مرة . غادر الملك حسين ورئيس الوزراء مضر بدران عمان بالسيارة متوجهين الى بغداد . حتى قبل مغادرتهما لعمان ، يبدو ان الجيش الاردني قد وضع في حالة انذار وان المطارات الجوية الاردنية عرضت خدماتها للطائرات العراقية باعتبارها ملاجئ امينة لها . في بغداد ، قابل الملك حسين ورئيس الوزراء بدران الرئيس صدام حسين وعرضا اسناد شعبهما ليس سياسياً فحسب ، وانما عسكرياً ايضاً . وتقديراً لهذه المبادرة اشار الرئيس صدام حسين بأن العراق ليس بحاجة الى معونة عسكرية ، الا انه ناقش الامور الاخرى التي يمكن لكلا البلدان العمل بموجبها .
صحيح ، ان الملك حسين ربما شعر بالاطمئنان عندما عرض خدماته الى العراق دون تردد ، طالما ان الاردن بعيدة نسبياً عن مسرح العمليات . مع ذلك ففي البداية ، كان مستعداً لارسال قوة عسكرية ، ولو ان العراق لم يعرض مثل هذا الطلب . في عام 1982 ، عندما بدأت ايران بمهاجمة الاراضي العراقية ، توجهت عدة مئات من المتطوعين الى العراق اطلقت على نفسها اسم قوة اليرموك(6) . ولعل الاهم هو المساعدة الاردنية في تأمين السلاح للعراق بعد ان اعلن الاتحاد السوفيتي ، المجهز الرئيسي للعراق ، حياده في الحرب.
 وبالنيابة عن العراق ، استطاعت الاردن شراء الاسلحة من الصين واسبانيا والاقطار الاوربية الغربية وبكميات كبيرة عندما كان العراق بامس الحاجة الى الدبابات والعتاد والمواد الاحتياطية التي حصل عليها العراق قبل الحرب . كما ساعدت الاردن ايضاً في مفاوضات للحصول على القروض والاعتمادات من الاقطار الغربية لمشترياتها من المدخرات الحربية .
فوق ذلك ، قدمت الاردن معونة اقتصادية بفتح منفذها في البحر الاحمر من خلال ميناء العقبة لتجارة الاستيراد والتصدير العراقية وكذلك التسهيلات البرية والجوية . وقبل دخول العراق في مفاوضات مع تركيا والمملكة العربية السعودية لتصدير بتروله ، ربما كان الاردن البلد الوحيد المفتوح للعراق على اعتباره منفذاً الى العالم الخارجي . وقدمت الكويت تسهيلات محدوده لانها كانت مهددة بالاخطار . وقبل الحرب ، عقد العراق عدة اتفاقيات مع الاردن لتعزيز التعاون ، الاقتصادي والتجاري والثقافي . وان بعض هذه الاتفاقيات اعيد النظر فيها لتلبية متطلبات الحرب . ان المسألة موضع النظر هي الاتفاقية المبرمة في عام 1975 بخصوص استخدام العقبة كمنفذ لصادرات وواردات العراق . تقيدت هذه الاتفاقية في البداية باستيراد (1.5) مليون طن من البضائع سنوياً ، الا انها بلغت اكثر من (5) ملايين طن سنوياً بعد بدء الحرب . وقبل بدء الحرب بمدة قصيرة ، قامت حوالي (130) سفينة تجارية عراقية بنقل البضائع الاجنبية المستوردة عن طريق الخليج الى العراق . ولكي لا تتعرض هذه السفن للخطر في مياه الخليج ، صدرت تعليمات اليها بالعودة في الحال وتفريغ حمولتها في ميناء العقبة . لا زال ميناء العقبة المنفذ الوحيد للعراق الى البحار العميقة وان الاردن سعى الى الحفاظ على الملاحة الحرة في البحر الاحمر .
اضافة الى ذلك، قدمت الاردن خدمات لا تقدر بثمن في توسطها مع اقطار عربية اخرى كانت مترددة في مساندة العراق ، اما بسبب الخوف من انتقام ايران او بسبب المنافسة مع القيادة العراقية مثل سوريا وليبيا.
ولا تقل اهمية مساعي الملك حسين من خلال زياراته العديدة للعواصم العربية والاوربية لشرح موقف العراق في الحرب والدفاع عنه ضد اتهامات من انه قد بدأ الحرب . ففي البداية ، كان العراق فعلاً بحاجة الى صديق معروف من قبل الزعماء الاوربيين والغربيين الذي باستطاعته التشاور معهم حول نوايا العراق واستعداده لتسوية خلافاته مع ايران بطرق سلمية . ان هذه المساعي عززت من مكانة العراق ، لا سيما في السنتين الاوليتين او السنوات الثلاث الاولى من الحرب ، عندما لم تكن العلاقات العامة للعراق تحظى باهتمام كاف من قبل وسائل الاعلام الغربية والاوربية .
وفي جميع هذه المساعي ، اصبح الملك حسين الناطق البليغ للعراق في المشاورات العربية والغربية(7) . وظاهرياً ، بدا موقف جيران العراق في الخليج العربي متضارباً . لم يظهر أي تصريح عام حول موقفهم الرسمي، حتى ولو كانوا متعاطفين مع العراق ، ويعود السبب بالدرجة الاولى الى احتمال تعرض مدنهم الساحلية الشرقية وحقول النفظ الى خطر القصف والتدمير . من الجائز لم يتوقعوا ان استمرار الحرب لمدة طويلة ( في الحقيقة ، كان هناك توقع من ان تحقيق النصر سيكون سهلاً على العراق ) نظراً الى الاوضاع المتردية في ايران وفساد النظام في الجيش كما لاحظنا سابقاً . وعندما بدأت شدة الحرب تخف تدريجياً والمقاومة الايرانية تزداد صلابة ، شرعت اقطار الخليج بالتفكير ثانية حول نتيجة الحرب . وقبل تأسيس مجلس التعاون الخليجي في عام 1982 ، جرت مباحثات مستمرة بشكل فردي او جماعي بين زعماء دول الخليج العربي حول الاجراءات الامنية وكيفية انهاء الحرب . الا ان المحادثات لم تتمخض عن اتفاق صريح حول الستراتيجية ووسائل انهاء الحرب . وبصدد الاجراءات الامنية ، فان اقطار الخليج العربي يمكن تقسيمها الى ثلاثة اصناف :
1. يرتأى بعضها استخدام الدبلوماسية سواء من طرف واحد او عدة اطراف كوسيلة لاحتواء النزاع وتخفيف تأثير انتشاره الى منطقة الخليج باسرها . وتم مناقشة وجوب قيام كل قطر باتخاذ الاجراءات الضرورية حسب موارده ومتطلباته المحلية . اما اذا دعت الضرورة ، فيمكن لقطرين او اكثر التعاون بشكل محدود ، بقدر ما تتعلق متطلباتهم السوقية والجغرافية . ويذكر على سبيل المثال ، ثلاث دول صغيرة ( الكويت وقطر والامارات العربية ) يبدو انها اتخذت هذا الموقف ولو ان كلاً منها يتبع اجراءاته الدبلوماسية الخاصة . يمكن ان تدعى هذه بالاقطار المعتمدة على نفسها .
2. ترى الدول الاخرى ان الحرب منذ بدايتها تعد تهديداً حقيقاً لوجودها وتعتقد ان الدبلوماسية بحد ذاتها ستكون غير كافية لاحتواء الحرب وتقليل تأثيرها على المنطقة ، ناهيك عن السعي لانهائها ولجعل الدبلوماسية ذات مغزى اكبر ، فقد ساندوا الاعتماد الكبير على الاستعداد العسكري . واكتشفت عمان (التي تؤيد هذه الطريقة بحماس اكثر من بقية الاقطار ) ان في الثورة الايرانية تهديداً ليس على منطقة الخليج فحسب ، وانما كذريعة للتغلغل او التدخل السوفيتي في المنطقة ، وخصوصاً لو توصلت الثورة الاسلامية الى تفاهم مع الاتحاد السوفيتي او استبدلت بنظام شيوعي.
3. مع ذلك ، رأت معظم الاقطار ان النهجين السابقين غير متناقضين وايدت توحيد الاثنين باعتبارهما الطريقة الاكيدة لحماية سيادتها وامنها الاقليمي . فالمملكة العربية السعودية ، المؤلفة من جزء كبير من شبه الجزيرة ، تمتد من الخليج الى البحر الاحمر تبنت هذا الموقف ، طالما ان متطلبات الدفاع عنها وعن امنها يعتمدان بحكم الضرورة على الدبلوماسية والقوة العسكرية . في الحقيقة ان تجارب معظم الدول كشفت، ان القوة العسكرية ضرورية لتعزيز الاجراءات الدبلوماسية .
   وبينما يستمر الحوار حول الاجراءات الامنية ، كان هناك نقاشاً في الدوائر السياسية العليا ( في كل من المملكة العربية السعودية واقطار الخليج العربي الاخرى ) حول أي من القطرين ( العراق وايران ) سيشكل تهديداً خطيراً للمنطقة فيما لو ربح الحرب . اعتقد البعض ، ولا سيما في المملكة العربية السعودية بعد عكس اراء الجماعات الدينية التقليدية ، ان ايران لو ربحت الحرب ربما يعزز الموقف الاسترضائي تجاه الثورة الاسلامية سمعة النظام ويقلل التوتر الديني .
فعلى سبيل المثال ، ان اعمال الشغب الشيعية في البحرين وافريقيا ، التي جرت بتحريض من الثورة الايرانية ، شجعت المسؤولين الكبار على التفكير بكيفية الاستجابة الى التحدي الايراني . وبينما يؤيد البعض اللجوء الى الثورة ، فان الاخرين طالبوا بتنفيذ الاجراءات الاسترضائية . وسوف تناقش فيما بعد أي من هاتين الاستجابتين اثبتت بانها اكثر فعالية .
وبخلاف ذلك ، حرص عدد من القادة على الانبعاث الممكن للقومية العربية المتبقي من عهد ناصر ، فيما لو ربح العراق الحرب واكد على العقيدة البعثية . مع ذلك ، عندما بدأت شدة الحرب تخف تدريجياً واصرت ايران على مواصلة القتال حتى بعد ان قام العراق بسحب قواته من ايران ، اصبح زعماء الخليج العربي حذرين تماماً من نوايا حكام ايران ( فيما لو ان العراق خسر الحرب ) . وبما ان زعماء الخليج قد ادينوا من انهم علمائيون ومعادون للدين ( خونة بالنسبة للاسلام ) فبدأوا يتساءلون ماذا سيكون مصيرهم فيما لو ان رجال الدين استلموا السلطة في بلادهم وانقضوا عليهم بضراوة كما فعلوا بمعارضيهم في ايران وازاء هذا الخطر المحدق ، سواء كان حقيقياً ام كاذباً ، ما هي الاجراءات الامنية التي تقتضي اتخاذها من قبل اقطار الخليج ؟
ان المملكة العربية السعودية باعتبارها القطر الاول في الخليج العربي ، لم تعلن عن موقفها الرسمي ، الا ان الملك خالد ، في محادثة هاتفية مع الرئيس صدام حسين بتاريخ 25 أيلول 1980 تعهد بمساندة العراق. يمكن اعتبار الرسالة الشفوية للملك انعكاساً لشعور ووجهة نظر المملكة العربية السعودية ، وان الحكام الايرانيين لم يكونوا غافلين عن هذا الموقف .
على اية حال ، لم ينظر حكام السعودية الى الحرب من جانب النظرة العربية الصارمة ولا من النظرة الضيقة على انها نزاع بين جارتين . صحيح ، ان العراق قطر عربي ترتبط معه السعودية باواصر الهوية القومية والعروبة ، الا ان حكام السعودية ينظرون الى ايران كبلد مسلم مجاور ترتبط معه المملكة العربية السعودية بهوية الدين الاسلامي الشاملة . وبالنسبة لهذه الاعتبارات ولاعتبارات اخرى ، سواء اقليمية او عالمية ، فان حكام السعودية اخذوا ينظرون الى الحرب من خلال وجهتي نظر : عربي واسلامي ويحاولون انهاءها بكونها مسألة تهم جميع المسلمين في البلدان العربية والاسلامية .
من وجهة النظر الاسلامية ، ان المملكة العربية السعودية تعد مهد الاسلام ومحط الحرمين الشريفين مكة والمدينة اللذين يتوجه نحوها جميع المسلمين في العالم ولخمسة اوقات اثناء الصلاة وعندما يؤدون فريضة الحج السنوية . لهذا فان المملكة العربية السعودية ملزمة بتنمية علاقات الصداقة مع جميع الاقطار الاسلامية بضمنها ايران، وقد حاولت اثارة مسألة حرب الخليج في كل اجتماع اسلامي تقريباً باعتبارها تهم الجميع كما اعتقدوا ايضاً بضرورة الوقوف على الحياد فيما يخص علاقاتهم مع كافة الاقطار الاسلامية ، فيما لو ارادوا تحقيق نفوذ كبير في المجالس الاسلامية وانهاء الحرب باقرب فرصة ممكنة .
على اية حال ، باعتبارها قطراً عربياً ، فان المملكة العربية السعودية سعت الى ان تلعب دور الاخ الكبير في العائلة . لقد قامت مؤخراً باصلاح العلاقات المتردية بين سوريا والاردن وحاولت في مناسبات عديدة تسوية الخلافات بين الدول الاخرى وبالاخص بين العراق وسوريا . الا ان حرب الخليج ، كنزاع بين بلدين مسلمين احدهما عربي والاخر غير عربي ، اثبتت انه من الصعب السيطرة عليها . وبتأثير من الاقطار العربية ستتدنى بكاملها ، فيما لو تم القضاء على العراق . وباتخاذ مثل هذا الموقف المتضارب نحو الاسلام والعرب ، فان العائلة السعودية لم تتخلص من تقريع الناقدين . مع ذلك ، لقد رفضت السعودية التخلي عن سياسة التوازن والاعتدال وبالاخص علاقاتها مع الغرب رغم الانتقاد بين حين واخر . لهذا ، فقد استخدمت دبلوماسيتها ومواردها بتعقل لبناء قواتها العسكرية ودعت اقطاراً عربية خليجية للتعاون في السعي نحو السلام والامن(8) .
وبصدد سيادتها الاقليمية والامنية ، اقتنعت اكثرية اقطار الخليج العربي بالدرجة الرئيسية سياسة السعودية والاعتماد على الدبلوماسية المدعمة بالقوة العسكرية . وقبل تأسيس مجلس التعاون الخليجي ، سعى كل قطر ، ما عدا قطر واحد بالاعتماد على موارده الخاصة ، للتعاون مع المملكة العربية السعودية من خلال اتفاقيات ثنائية . ان المستثنى كان الكويت الذي سعى الى التعاون مع السعودية دون الدخول في اتفاقيات رسمية . من الواضح ، ان الكويت المحاطة بثلاث دول خليجية كبيرة ( ايران ، العراق والمملكة العربية السعودية ) هي الاضعف عسكرياً . لهذا ، شعرت بانها ملزمة من الدرجة الاولى في الاعتماد على الدبلوماسية والاستفادة من تجربة الماضي في هذا المجال . اما عمان ، فتعتقد ان الدبلوماسية هي وسيلة غير كافية للدفاع، واكدت على القوة العسكرية وناشدت معونة الدول الغربية ، من جهة بسبب النشاطات الهدامة لجارها المباشر  ( اليمن الجنوبية ) ومن جهة اخرى بسبب احتمال التدخل السوفيتي عن طريق المحيط الهندي . وبالنسبة لاقطار الخليج العربي الاخرى ( البحرين ، قطر والامارات العربية المتحدة ) الواقعة على اسفل الخليج بين الكويت وعمان فهي لحد ما بعيدة عن منطقة العمليات العسكرية وان درجة اعتمادها على الدبلوماسية والقوة العسكرية تختلف من قطر الى اخر . وقبل تأسيس مجلس التعاون الخليجي ، ناقشت هذه الاقطار الاجراءات الامنية فقط في حالة عمليات العنف المباشرة .
حتى قبل اندلاع الحرب العراقية – الايرانية ، كانت الاقطار المجاورة للعراق ، مثل الكويت ، المملكة العربية السعودية ، معرضة الى التهديدات الايرانية . ففي تاريخ 12 حزيران 1980 ، قبل ثلاثة اشهر من بدء الحرب ، حدثت انفجارات في مبنى الصحيفة اليومية الكويتية ( الرأي العام ) المعروفة بانتقاداتها للثورة الاسلامية . وبتاريخ 13 حزيران ، قامت ثلاث طائرات ايرانية بخرق حرمة الاجواء الكويتية ، الا ان مدفعية مقاومة الطائرات الكويتية اجبرتها على الفرار .
اما بالنسبة للبحرين ، التي تنشط فيها الطائفة الشيعية بفضل تنظيمها الجيد ، فان استجابتها كانت سريعة تجاه التحريضات الايرانية . ففي تاريخ 24 نيسان 1980 ، حوالي اسبوع تقريباً من اعدام زعيم الدين الشيعي محمد باقر الصدر في العراق ، بدأت الطائفة الشيعية بالتظاهر احتجاجاً على العمل العراقي . توفي احد المتظاهرين المحتجين من قبل السلطات عندما كان رهن الاعتقال يوم 10 أيار ( زعم بانه قد توفي نتيجة التعذيب ) . ان الحادثة شجعت على القيام بمظاهرات اكثر قادت اخيراً الى القاء القبض على المتظاهرين وزيادة التوتر في البلد .
وكشأن العراق ، اتبعت البحرين سياسة ( الترهيب والوعيد ) عاكسة بذلك الاراء المختلفة للقادة في المستويات العليا الذين يطالب بعضهم باللجوء الى الدبلوماسية ، في حين يطالب الاخرون باستخدام القوة . قام زعماء الدين للطائفتين الشيعية والسنية بتقديم عرائض الى السلطات في عام 1970 . طالبت الجماعات الدينية بالتطبيق الحرفي للشريعة الاسلامية ، بينما دعا الاخرون الى الديمقراطية البرلمانية والحرية الشخصية واطلاق حرية المحتجزين السياسيين وانهاء الوجود العسكري الامريكي . ان هذه الطلبات الطموحة لحد ما قد شاركتها العناصر الاخرى التي تعتقد ان التطورات السياسية ينبغي ان تتماشى مع التقدم الاقتصادي والاجتماعي للبلد . ونتيجة للضغط الشعبي ، جرت انتخابات عام 1972 لتأسيس مجلس وطني وتشريع دستور يضمن حرية الفرد واصلاحات اجتماعية .
وابتداءاً من عام 1973 ولحد عام 1975 ، تشكلت في البحرين حكومة برلمانية دامت فترة قصيرة بسبب قيام السلطات بايقاف نشاطاتها فجأة بحجة عدم الاستقرار الداخلي والامن القومي . امنع حاكم البحرين الشيخ عيسى الخليفة باعادة النظر في دعوة البرلمان . على اية حال ، بعد تشاوره مع المسؤولين تردد بقبول أي شيء خارج امكانية تأسيس مجلس بلدي محلي .
في اعقاب اندلاع الحرب ، ازدادت عمليات العنف والشغب في جميع اقطار الخليج العربي ، ولا سيما بين الجماعات الدينية . ففي الكويت ، افادت الانباء بان الغارات الجوية اصابت موقع العبدلي ( قاعدة على خط الحدود ) مرتين بتاريخ 12 تشرين الثاني و16 تشرين الثاني 1980 . احتجت الكويت ، الا انها لم تطور المسألة .
لاحظت الحكومة زيادة تهريب السلاح والمتفجرات الى داخل البلاد وكذلك زيادة توزيع النشرات التي تنتقد النظام . ان هذه القضايا والقضايا الاخرى اعتبرت دليلاً لوجود جماعة ( او جماعات ) تعمل ضد النظام . لهذا ، شرعت قوانين لغرض منح المسؤولين صلاحيات تقييد النشاطات السياسية . واصبح واضحاً ، ان الجماعة الشيعية كانت نشطة جداً ، وبالاخص الزعيم الشيعي عباس مهري الذي القي القبض عليه ونزعت عنه الجنسية ونفي مع ثمانية عشر فرداً من عائلته . وما عدا الاجتماعات الرسمية واداء الفرائض الدينية في الجوامع ، منعت السلطات اجتماع اكثر من عشرين شخصاً بدون تخويل رسمي ، كما لم يسمح بالاحاديث والخطب العلنية التي تستهدف اضعاف مركز الحكومة وكلفت الشرطة بتفريق جميع الاجتماعات الشعبية التي يشك بانها تمارس النشاطات الهدامة .
في غضون ذلك ، لم تكن الشرطة قد نظمت وطورت كوسيلة فعالة لتطبيق النظام العام . ان الصحافة ، التي تمتعت بحرية التعبير نوعاً ما وضعت تحت رقابة دقيقة .
بتاريخ 5 تشرين الاول 1980 ، عقب اندلاع الحرب ، شرع البرلمان الكويتي قانون التعبية العام . وما عدا القانون العراقي ، ان هذا هو اول قانون يشرع في اقطار الخليج العربي . ان الحكومة مخولة بتطبيق القانون ، فيما لو ان الكويت دخلت الحرب او هددت باخطار الحرب . كلف مجلس الدفاع الاعلى ، المخول باستدعاء جميع المواطنين الذكور بين سن (18-50) ، بتشريع القانون .(9)
علاوة على ذلك ، بدأت الحكومة بتحديد دخول الاجانب الى البلاد ونفي الاخرين الذين انتهكوا قوانين الاقامة والعمل . ومع ان الكويت قد اتخذت موقفاً محايداً من الحرب ، فان الحكومة بدأت بمناقشة الاجراءات المشتركة مع العراق .
وعلى امل ابعاد الكويت عن العراق ، قام وزير خارجية ايران صادق قطب زادة بزيارة الكويت في شهر نيسان 1980 ، الا انه على ما يبدو فشل في تغيير ميل الكويت نحو العراق(10) .
اقتصرت النشاطات الايرانية في المملكة العربية السعودية على تحريض اتباع الطائفة الشيعية ونشر الشائعات ضد النظام اثناء موسم الحج . وعقب الثورة الايرانية ، حصلت اضطرابات في المنطقة الشرقية لمدينة الحسا التي يقطنها عدد كبير من اتباع المذهب الشيعي لسبب يعود الى الاحداث في ايران . بتاريخ 28 تشرين الثاني ، أي يوم الحداد السنوي لاستشهاد الحسين المسمى عاشوراء ( 10 محرم 1400هـ ) تحول موكب الحزن الى مظاهرات ادت بالتالي الى حدوث اصطدامات مع الشرطة .
ان المظاهرات ، التي طالبت بتأييد الثورة الايرانية ، دعت السلطة الى وقف تجهيز النفط الى الولايات المتحدة . كما طالبوا ايضاً بتوزيع عادل للثروة وانهاء التمييز . وسرعان ما انتشرت الاضطرابات الى المدن الشرقية الاخرى ، الا ان السلطة ارسلت قطعات عسكرية لمعالجة الموقف . ولما تم تنفيذ بعض الاجراءات لتحسين الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية ، اصبح تصرف السكان في المدن الشرقية اكثر تعقلاً . كما صدرت تعليمات صارمة لمنع تكرار مثل هذه الاضطرابات . مع ذلك، فان التحريضات الايرانية استمرت دون توقف . ففي اوائل عام 1980 ، وزعت نشرات دعائية تمجد الثورة الاسلامية بافراط كما حثت اتباع المذهب الشيعي على انتقاد النظام السعودي وطالبت بمزيد من الاصلاحات في مجالات التعليم والثقافة .
نفذت التحريضات الايرانية في المنطقة الغربية للملكة العربية السعودية من قبل الحجاج . ففي 23 أيلول 1981 ، قامت السلطات السعودية بنفي جماعة مؤلفة من ثمانية حجاج ايرانيين من المدينة بحجة مخالفتهم للاوامر التي تحرم النشاطات السياسية خلال فترة الحج وتوزيعهم صور الخميني . وفي اليوم التالي ، اصيب عشرون ايرانياً بجروح نتيجة اصطدامهم مع الشرطة في مكة ، انفجرت اعمال العنف عندما منعوا من دخول البلاد ( بضمنهم عامل في التلفزيون الايراني ) .
بتاريخ 16 كانون الاول 1981، اعلنت كل من المملكة العربية السعودية والبحرين عن توقيف خمسة وستين عربياً ( اثنان وخمسون في البحرين وثلاثة عشر في المملكة العربية السعودية ) لمحاولتهم المزعومة باسقاط النظامين في كلا البلدين. واعلنت البحرين ان الاشخاص رهن الأعتقال اعترفوا بانهم تلقوا تدريباتهم على النشاطات الهدامة في ايران. على اية حال ، لم يكن واضحاً، ما اذا كان هؤلاء المحتجزين قد قدموا من العراق ، طالما ان بعضهم اعترفوا بانهم منتمون لحزب الدعوة، بينما اصر اخرون بانهم منتمون الى الجبهة الاسلامية لتحرير البحرين . وبتاريخ 18 تشرين الاول ، استدعت حكومة البحرين سفيرها في ايران للاحتجاج على الانقلاب المزعوم ضدها .
كما طالبت تبديل السفير الايراني في البحرين لاعتقادها انه كان على اتصال مع الجماعات المخربة . وفي 29 شباط 1982 ، اعلنت دائرة الادعاء في البحرين عن مشاركة ثلاثة وسبعين شخصاً في الانقلاب الفاشل في شهر كانون الاول الماضي . لهذا ، يبدو ، ان الطائفة الشيعية التي تعد بمثابة الرتل الخامس في البحرين قد تشجعت لانتزاع السلطة من الزعامة السنية في سبيل تأسيس جمهورية اسلامية على غرار الجمهورية الاسلامية في ايران .
ومع ان الاضطرابات التي كانت تثيرها ايران في السعودية قد خفت حدتها منذ عام 1981 ، الا انها لم تتوقف نهائياً . في الواقع ، منذ مجئ الثورة الاسلامية في عام 1979 ، استغلت ايران فترة الحج السنوية لنشر افكارها الثورة بطريق العنف او بطرق اخرى . وفي عام 1987 ، عندما بدأت عدة دول اجنبية بحراسة ناقلات النفط في الخليج ، اوقفت ايران نشاطاتها لاثارة الاضطرابات خلال موسم الحج على افتراض ان المملكة العربية السعودية واقطار الخليج العربي الاخرى رحبت بالمساعدة الغربية . في الحقيقة ان الكويت فقط طالبت باعادة رفع العلم على ناقلاتها النفطية . وافقت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ( الذي عقدت معه ايران اتفاقية تعاون اقتصادي ) لحراسة الناقلات الكويتية . اما الدول الاخرى مثل بريطانيا وفرنسا وايطاليا فارسلت سفناً حربية لحماية ناقلاتها وتطهير الالغام التي زرعتها ايران لعرقلة الملاحة الحرة في قنوات الخليج .
اتسع نطاق الاضطرابات في فترة حج عام 1987 . اصبح معلوماً على نطاق واسع من ان الحجاج الذين حرضوا على التظاهر كانوا مزودين بالمسدسات وصور الخميني وقد تم اختيارهم وتدريبهم لكي يلعبوا دوراً في قيادة المظاهرات . اسفر الصدام مع الشرطة عن قتل اكثر من (400) حاج . وعلم بان (275) كانوا ايرانيين و(85) سعودياً و(42) حاجاً من جنسيات اخرى . كما علم بان (649) شخصاً قد اصيبوا بجروح . ان محاولة اثارة المشاعر الدينية في العالم الاسلامي من جانب ايران وتصعيد التوتر في الخليج لم تؤد الى حصول ثورات او اطاحة بالانظمة العربية ، كما كانت تتوقعها القيادة الايرانية . وعلى العكس ، ان السلطات السعودية عالجت الموقف بسرعة واظهرت لجميع المؤمنين في البلدان الاسلامية وكذلك للعالم الخارجي حرصها على سلامة الحجاج وحماية الحرم الشريف في مكة . الا ان التحريض على الاضطرابات في الحرم الشريف من قبل النظام الايراني لم يكن بدافع الدين . وكما اشار المحلل السياسي السعودي مزهر حميد :
 ( ان اولئك الذين يعتبرون النظام الايراني ” ديناً ” يجب ان يستحدثوا منطقاً ملتوياً لتفسير كيف ان
” الحج المقدس ” يمكن تدنيسه بالمظاهرات السياسية . ان هذا ليس تطرفاً نيابة عن الدين . انه بالتأكيد
” غير اصولي ” انما سياسة قوة بلا شك . كما في حالة استخدام مجاميع الاطفال في القتال مع العراق ولجوئه الى الارهاب ، فان النظام الايراني يعد متطرفاً من حيث انه لا يقر بالحدود في العمل من اجل مصالحه السياسة الخاصة ) .(11)
ان هذه الاضطرابات والتي سبقتها ينبغي ان تذكرنا ، بان الثورة الاسلامية في ايران ، ولو انها تدعي تأكيد القيم الاسلامية ، الا انها لم تكن مخلصة دائماً لمبادئها الاساسية المعلنة . في الحقيقة ، ان الدين في البلدان الاسلامية ، كما في البلدان الاخرى ، كان دائماً تبرير الدافع من جانب بلد او اخر للسيطرة على منطقة يقطنها اناس ما زالوا يقدسون القيم الدينية .
ان البلدين العربيين خارج شبه الجزيرة العربية اللذين ساندا العراق ضد ايران هما الاردن ومصر . كانت الاردن ، التي اشرنا اليها سابقاً ، قدوة للاخرين من ناحية منح تأييدها للعراق . ولكن ، بسبب مواردها المحدودة ، فان اسناد الاردن كان في جوهره سياسياً واقتصادياً ولا يحتمل ان يغير موازين القوى لصالح العراق . في البداية ، كانت لمصر اسباب في عزل نفسها عن الحرب العراقية – الايرانية ان لم تقف ضد العراق. احتل الرئيس صدام حسين موقع الصدارة في اجتماع القمة العربي في بغداد عام 1978 في محاولة للتحرك ضد مصر التي ابتعدت عن الاسرة العربية . مع ذلك ، كانت هناك اسباباً ملحة دفعت انور السادات للسعي في انهاء عزلة مصر عن العراق .
اولاً : عند اندلاع الثورة الايرانية ، اعلن السادات في الحال معارضته للثورة وعرض مساندته الى الشاه ( حتى دعاه الى مصر ) لان الخميني شجب مبادرته السلمية مع اسرائيل ووصفه بخائن الاسلام .
ثانياً : ان مبادرة السادات السلمية ، التي جرت دون استشارة القادة العرب ، ادت الى عزل مصر عن جميع الاقطار العربية تقريباً . وبتقديم المواد الاحتياطية والاعتدة التي يحتاجها العراق ( حصل عليها من الاتحاد السوفيتي سابقاً ) ، استهدف السادات تسوية الخلافات مع العراق كخطوة لاصلاح علاقته مع الاقطار العربية الاخرى . ومن خلال حديثي معه في عام 1981 ، ذكر السادات سبباً اخر : اعتراف مصر بانها مدينة للعراق لمشاركته في الحرب ضد اسرائيل في شهر تشرين الاول 1973 . واضاف السادات لمكافأة العراق على معونته ، اصدر اوامره المستعجلة الى الجيش لاسناد العراق ، طالما ان شحنات الاسلحة السوفيتية قد توقفت ، عندما اعلن الاتحاد السوفيتي موقفه المحايد من الحرب العراقية – الايرانية وصرح السادات ايضاً بانه مستعد لزيارة بغداد والرياض والعواصم الاخرى من اجل تحشيد الطاقات واسناد العراق . وفيما بعد ، قامت مصر بتزويد خبراء عسكريين وايدي عاملة لاسناد الجهد الحربي العراقي . تشير الاحصائيات ان هناك ما يزيد عن مليوني عامل مصري في العراق ، ولو ان العدد قد تضاءل منذ عام 1984 . (12)
وكمثل مصر والاردن ، لم تكن سوريا وليبيا اقطاراً خليجية ، الا انها اعضاء في الاسرة العربية الكبيرة . ويتوقع ان تساند العراق . لهذا ، ان وقوفها مع ايران يستدعي التوضيح . لقد لاحظنا تواً من ان مبادرة السادات للصلح مع اسرائيل اثارت قلق العرب وان الاجراء الفردي لمصر سيضعف مكانة العرب تجاه اسرائيل . اتخذت سوريا موقع الصدارة في عام 1977 في تشكيل جبهة الصمود العربي باعتبارها البلد الاكثر تعرضاً للتهديد الاسرائيلي .
انضم الى الجبهة كل من العراق ، ليبيا ، الجزائر ، اليمن الجنوبية ومنظمة التحرير الفلسطينية التي استهدفت تعبية الرأي العام العربي ضد الاجراء المصري . في الحقيقة ، ان العراق وسوريا ذهبا لحد بعيد، فقد باشرا بتكوين اتحاد فدرالي وذلك لتوجيه المعارضة ضد اتفاقية كامب ديفيد . وفي بداية فشل تحقيق الوحدة بين سوريا والعراق ، انسحب العراق من جبهة الصمود والتحدي العربية مما سبب تثبيطاً في عزم كل من ليبيا وسوريا .(13)
لهذا السبب ، عندما بدأت الحرب بين العراق وايران ، اتخذت سوريا في البداية موقفاً محايداً مدعية ان الحرب هي مغامرة عراقية لتأكيد زعامة العراق في منطقة الخليج وهدر الموارد التي لا يحقق منها فائدة سوى اسرائيل . وارتأت ايضاً ان العراق قد اضعف الموقف العربي اعلانه الحرب ضد بلد يحتمل ان يتعاطف مع العرب ضد الكيان الصهيوني . ويرفض المزاعم السورية ، اصر العراق ان حربه مع ايران هي لحماية سيادته الاقليمية بعد تعرض اراضيه لهجمات حدودية ايرانية ورفضه لاعادة القواطع الارضية الوسطية الثلاث العائدة الى العراق . وجه العراق ايضاً لوماً الى سوريا لقيامها بتسليم اسلحة الى ايران مقابل تجهيزها بالنفط والسلع الاخرى ولعدم بقائها على الحياد .
ان سوريا سمحت للعراق في السنة الاولى للحرب بتصدير بترولها ، عن طريق خط انابيب عبر الصحراء ، الى الاسواق الاوربية ، وان اتفاقية جديدة لصالح الطرفين قد ابرمت في عام 1982 . لكن ، في فترة تقل عن ثلاثة اشهر ، توقف ضخ البترول نهائياً وشرعت سوريا بتسليم السلاح والعتاد الى
ايران .(14)
ان المشاكل الاقتصادية في سوريا قد تعزوا الى الموقف العدائي للاسد تجاه العراق . وبرغم المعونة المالية السعودية المقدرة بحوالي (540) مليون دولار امريكي في السنة ، فان سوريا مثقلة بالديون ، حيث بلغت ديونها من جراء شراء النفط الايراني اكثر من (2) مليار دولار امريكي . كما انها مدينة للبنك الدولي والاقطار الغربية بحوالي (3.5) مليار دولار امريكي وللاتحاد السوفيتي مقابل شراء اسلحة حوالي (15) مليار دولار امريكي .
ان الانفاق العسكري الكبير قد استنفذ معظم ايراداتها . ورغم زيادة انتاج النفط ( اكتشاف مهم في عام 1984 ادى الى زيادة في الانتاج بلغت الثلث او اكثر ) فإن عدم وجود تحسن في الاوضاع الاقتصادية المحلية قد جعل سوريا تعتمد لحد كبير على النفط الايراني .
ولابقاء سوريا حليفة ضد العراق ، يبدو ان ايران ، في اوائل عام 1987 ، قد ابرمت اتفاقية نفط جديدة بموجبها تجهز سوريا بمليون طن من النفط دون مقابل ومليوني طن بنسبة تقل عن (25%) عن اسعار منظمة الاوبك خلال عام واحد . وما لم يحصل خلاف كبير حول لبنان ، فليس من المحتمل ان تتجه سوريا لقطع علاقاتها مع ايران . وكما لاحظت نورا بستاني ، عند اقتباسها حديث دبلوماسي غربي ” ربما في نقطة ما ، ستكون التكاليف التي يفرضها الايرانيون على السوريين في لبنان اكثر اهمية في نظر السوريين عما يفعله الايرانيون تجاه العراقيين ، لكن عند ذلك فقط سيحدث التغيير في التحالف “(15) .
ان البديل المحتمل لتحالف سوريا مع ايران سيكون احياء مشروع الوحدة العراقية – السورية . وكما يبدو ان الاسد قد افترض ، انه سيجبر سوريا على قطع علاقاتها مع ايران . ان مثل هذه الاتفاقية ، التي تمنح الاسد حرية التصرف في الحد من النفوذ الايراني في لبنان ، سينهي انعزال سوريا عن العالم العربي وتعزيز الموقفين العراقي والسوري .
ان عدة اقطار عربية على علاقات حسنة مع النظامين السوري والعراقي حاولت دون جدوى في اكثر من مناسبة ، تسوية الخلافات بينهما . وبصرف النظر عن المساعي الرسمية ، حاولت كل من السعودية والكويت من خلال ارسال مبعوثين خاصين اقناع الاسد وصدام حسين لتسوية خلافاتهما(16) . وخلال السنتين او الثلاث الماضية ، عندما تم اصلاح العلاقة المتردية بين الاردن وسوريا ، انضم الملك حسين الى الزعامة السعودية في محالة لتسوية العلاقات . طلب من الاسد وقف الاسناد لايران ، طالما ان النظام الايراني قد شرع بالتعرض واحتل اراض عراقية . ادعى الاسد ان القيادة الايرانية قد اكدت له عن عدم رغبتها في الاستيلاء على اراض عراقية وقال ان الحرب كانت وستبقى ضد النظام العراقي وليس ضد العراق او اقطار الخليج العربي الاخرى .
 وفي حديث مع الملك حسين عام 1986 ، شارك الاسد قلق حسين مع ان الحرب العراقية – الايرانية قد اصبحت لا تقل خطراً عن التهديدات الاسرائيلية . مع ذلك ، عندما طلب منه وقف المساعدة العسكرية لايران  اكد ان سوريا والعراق ينبغي ان يتحدا اولاً تحت زعامة واحدة وذلك ليستطيع كلاهما مواجهة ايران كدولة واحدة . اجاب القادة العراقيون على ذلك من ان الوحدة ستعقد الموقف وينبغي مناقشتها بعد انتهاء الحرب .
وفي جلسة سرية ، رتبها الملك حسين وولي العهد السعودي عبد الله ، تقابل الرئيسان العراقي والسوري اخيراً لتسوية خلافاتهما في 26 نيسان و 27 نيسان 1987 في مثابة صحراوية تسمى ايج-4      ( احدى محطات ضخ النفط الواقعة على خط انابيب العراق – فلسطين القديم ) القريبة من الحدود العراقية . وفي محادثاتهم على انفراد ، جرت مناقشة جميع القضايا التي سببت الخلاف وتم التوصل الى اتفاق مدني حول معظم القضايا الخاصة عدا قضيتين رئيسيتين : الوحدة بين البلدين ووقوف سوريا الى جانب ايران . كما تم الاتفاق على وقف مساندة الاكراد المشاركين بنشاطات عسكرية ضد العراق . ولما كانت سوريا في احد الاوقات تجهز السلاح السوفيتي الى ايران ، فقد توقفت عن تجهيز أي مادة . ان الزعيمين المنشغلين بنشاطات تخريبية ضد نظام كل منهما اتفقا على انهاء هذه المغامرات . وجرت مناقشة استئناف ضخ النفط من خلال خط الانبوب العراقي – السوري الذي اغلق منذ عام 1982 . وبدلاً من النفط الايران ، عرضت المملكة العربية السعودية تجهيز سوريا بـ(50000) برميل يومياً دون مقابل ، على افتراض ان استئناف ضخ النفط العراقي سوف يلبي جزءاً او جميع متطلبات سوريا وتم الاتفاق على ان القضايا المتعلقة بالمسائل المشتركة سوف تعالج في الجلسات المقبلة بين رؤساء وزراء ووزراء الداخلية والنفط لكلا البلدين .
 ان تحفظ الاسد حول موقف بلاده من الحرب لا بد ان طرأ عليه بعض التغيير كما يبدو من موافقته على تأجيل مناقشة الوحدة المرتقبة بين العراق وسوريا لحين انتهاء الحرب . واخيراً ، تم الاتفاق بأنه حالما يتم بحث جميع التفاصيل من قبل رؤساء وزراء البلدين ، فسوف يصدر بيان حول تطبيع العلاقات بعد اجتماع الزعيمين ثانية في نهاية العام . وعندما التقى الاسد بصدام حسين ثانية اثناء جلسات مؤتمر القمة في عمان   ( تشرين الثاني 1987 ) ، وافق الاسد اخيراً على الوقوف مع الزعماء العرب في ادانة ايران لامتناعها وعدم قبولها بقرار مجلس الامن رقم 598 الذي يدعو الى وقف اطلاق النار وانسحاب القوات الى الحدود الدولية . ان هذه الخطوة قد تقود اخيراً الى انهاء العداء ، ان لم يتم التطبيع الكامل للعلاقات بين نظامي البعث السوري والعراقي .(17)
ان التناحر العراقي – السوري لم يقلل من مكانة العراق في الخليج فحسب ، وانما ساعد بشكل مباشر على اطالة امد الحرب ، طالما انه شجع ليبيا ، الحليف الموثوق لسوريا ، على ارسال صواريخ ومواد اخرى الى ايران . كما شجع اكراد سوريا على مساعدة المتمردين الاكراد في العراق وايران الذين شاركوا في عمليات عسكرية في المنطقة الشمالية للعراق . ان هذه النشاطات نظر اليها بشك وامتعاض من قبل الفئات القومية واعتبرها القوميون العراقيون خيانة للقومية العربية ، خلافاً لما ادعته سوريا من أنها تنشد تشجيع المصالح العربية والافكار القومية . ولهذه الاسباب واسباب اخرى ، تحفزت كل من المملكة العربية السعودية والاردن على تسوية الخلافات بين الزعيمين العراقي والسوري على امل انها قد تساهم في التسوية النهائية للحرب .(18)
ان موقف ليبيا تجاه حرب الخليج يتحدد بعدة عوامل – من ناحية بسبب التزاماتها مع سوريا التي ابرمت معها وحدة سياسية ومن ناحية اخرى بسبب خلافها مع الولايات المتحدة التي قادت بشكل غير مباشر الى نزاعات مع الدول العربية المعتدلة مثل السعودية والاردن . وبعد اندلاع الحرب العراقية – الايرانية وارسال طائرات الانذار المبكر الامريكية ( اواكس ) الى السعودية ، اشار العقيد القذافي في خطاب القاه يوم 19 تشرين الاول 1980 بمناسبة عيد الاضحى الى ان وجود طائرات الانذار المبكر في السعودية هو بمثابة ( احتلال ) ودعا الى الجهاد لغرض تحرير الاماكن المقدسة من هذا التلوث .
واخيراً وليس اخراً هو مشاركة القذافي في اختفاء الزعيم الديني الشيعي في لبنان موسى الصدر الذي زار ليبيا في شهر آب 1978 بدعوة من العقيد القذافي واختفى بشكل مفاجئ . وطالما ان الصدر مشغول برعاية ( آية الله ) خميني الذي شكك ان يكون القذافي هو المسؤول المباشر عن اختفاء الصدر . فأن علاقة ليبيا مع ايران لا بد وان تتأثر باختفاء الصدر .
وبصرف النظر عن السياسة القومية لليبيا ، التي يشجبها القادة الايرانيون باعتبارها علمانية ومعادية للدين ، فان القذافي كان قلقاً حول احتمال مطالبة الخميني باجراء تحقيق في ليبيا يخص اختفاء الصدر فيما لو وقف بجانب العراق في حربه مع ايران .
ولتحاشي احتمال شجب الخميني لسياسته ، اعلن القذافي تأييده للثورة الايرانية وعرض تعاون بلاده في مجال الاقتصاد وتزويد السلاح . في البداية ، رفض النظام الايراني عرض القذافي في اقامة علاقات دبلوماسية ، الا ان القادة الايرانيين كانوا بحاجة الى معونة عسكرية ليبية واقنعوا الخميني بوقف التحري عن مصير الصدر . مر عامان على الثورة الاسلامية قبل ان يوافق خميني اخيراً على ارسال سفير الى ليبيا . وعلى الرغم من تأييده لايران ، لم يكن باستطاعة القذافي لحد الان زيارة ايران ، طالما ان مثل هذه الزيارة قد تثير مشاعر الطائفة الشيعية في لبنان وكذلك اصدقاء ومعارف عائلة الصدر في ايران . وفي تبرير مساندته لايران ضد العراق اعلن القذافي ان ايران ، باعتبارها بلداً اسلامياً ، تستحق اسناداً اكثر من العراق رغم كونه عضواً في الاسـرة العربية .(19)
ان تذبذب القذافي بين القومية والاسلام واخضاع السياسة الخارجية الليبية الى رغباته الشخصية قد عزلت بلاده عن معظم الأقطار العربية . حتى ان وحدة سوريا مع ليبيا ( ترتيب مصطنع مع الاسد ) قد تنفصل في أي لحظة ، كما انفصلت ترتيبات الوحدة الاخرى بين تونس ومراكش . وعندما سئل من قبل قادة العراق عن اسباب وقوفه بجانب ايران ضد العراق ، اجاب بانه ليس ضد العراق وانما حاول الحفاظ على علاقات الصداقة مع ايران . مع ذلك ، فقد قام بتجهيز صواريخ واعتدة سوفيتية استخدمتها ايران ضد العراق . على اية حال ، طالما ان سوريا اوقفت ارسال معدات عسكرية الى ايران ، فان القذافي اوقف ايضاً مساندته العسكرية . وبخلاف سوريا ، ان مساندته الى ايران لم تكن بسبب حاجة ليبيا الى النفط . ولهذا السبب ، قام العراق مع عدد من الاقطار الاخرى مثل السعودية ( لكل واحد سببه الخاص ) بقطع العلاقات الدبلوماسية مع ليبيا في عام 1981 وان علاقات ليبيا قد تأزمت مع بقية الاقطار في آسيا وافريقيا . احتفظ القذافي بعلاقات صداقة مع الاقطار الاشتراكية فقط التي اشترى من بعضها السلاح .(20)

 

ومع ان تركيا ليست قطراً عربياً او خليجياً ولكنها جار لكل من العراق وايران ، فمن الصعب بقائها غير مبالية بالاحداث الجارية عبر حدودها منذ عام 1980 . ان علاقات تركيا مع الجارين راسخة في عمق التاريخ . ولفترة اربعة قرون تقريباً ، خاضت الجيوش العثمانية والفارسية على الاراضي العراقية معاركاً عديدة  حاولت فارس السيطرة على الاماكن الشيعية المقدسة ، وربما على الطائفة الشيعية بكاملها في العراق ، في حين كان السلاطين العثمانيون مصممون على ادامة سيطرتهم على جميع الاراضي العراقية .
وعقب الحرب العالمية الاولى ، فقدت تركيا الجديدة سيطرتها على العراق ( وكذلك على بقية الاقطار العربية الاخرى ) ولم تعد تساهم في المشاكل الطائفية والحدودية التي ورثها العراق عن الامبراطورية العثمانية قامت بمحاولة للاحتفاظ بسيطرتها على مدينة الموصل التي بضمنها منطقتي كركوك والسليمانية ( يسكنها على الاكثر الاكراد والتركمان ) ، الا انها فقدت ادعاءها بتلك المنطقة ، عندما عرض نزاعها مع العراق على عصبة الامم في عام 1926 .(21)
ولاهميته السوقية وثروته النفطية ، فان العراق لا يمكن ان يبقى كياناً مستمراً فيما لو تحدد بمنطقتي بغداد والبصرة . وبما ان نسبة كبيرة من الاكراد باقية في مدينة الموصل ضمن الاراضي العراقية ، وافقت تركيا والعراق على التباحث فيما لو ان نشاطات الاكراد في احد البلدين سببت اثارة الاكراد في البلد الاخر .
عندما اندلعت الحرب العراقية – الايرانية ، اعلنت تركيا عن حيادها التام . سواء في الامم المتحدة ام في المحافل الدولية الاخرى ، وقفت تركيا بجانب كل محاولات اعادة السلام بين البلدين الجارين . كما حضرت اجتماعات مؤتمر القمة الاسلامي الثالث المنعقد في مكة (1981) وشاركت في اللجنة المؤلفة للتوسط في انهاء الحرب(22) . مع ذلك ، فان تركيا لا يمكن ان تبقى بعيدة عن الحرب كلياً عندما يشارك الاكراد فيها . وبعد مرور عامين او ثلاثة على بدء الحرب ، لم يكن للنشاطات الكردية ، التي جاءت بتحريض من ايران ، أي بتأثير مباشر على اكراد تركيا . لكن في عام 1983 وعام 1984 ، قام القوميون الاكراد في تركيا ، المنظمون كجماعة ماركسية سرية تعرف بحزب العمال الكردي ، بتجاوزات عديدة عبر الحدود العراقية الى منطقة
( يتراوح عمقها ما بين 10-15 ميلاً ) تمتد من الحدود التركية الى الايرانية التي اعلنت الحكومة العراقية بانها منطقة محظورة ومنها نقلت السكان الاكراد الى مناطق قريبة داخل العراق والتعويض عن الحقول التي فقدوها في المنطقة المحظورة باراضي زراعية اخرى .(23)
وبعد تخلص المنطقة من القادة المتمردين الذين هربوا الى ايران ، بقيت المنطقة المحظورة هادئة حتى اندلاع الحرب عام 1980 . وبما ان ملا مصطفى قد توفي في ( 1 آذار 1979 ) قبل اكثر من عام على بدء الحرب ، الا ان ابنه مسعود وعدداً من اتباعه الذين دعموا من قبل سوريا وايران على اضعاف النظام العراقي ، شرعوا بعمليات تسلل داخل المنطقة لوقف التسلل الايراني ، فان العمليات العدائية استمرت من غير توقف وان الاشتباكات بين الزمر الكردية والجيش العراقي تجددت كلما ارسلت السلطات الايرانية تعزيزات .
ان هذه الاحداث تزامنت مع النشاطات المتجددة لحزب العمال الكردي في تركيا . ففي البداية ، كانت عمليات تسلل حزب العمال الكردي لا علاقة لها بالنشاطات الكردية في المنطقة المحظورة العراقية . وعندما هرب متمردو حزب العمال الكردي الى داخل المنطقة المحظورة ، حاولت الحكومة التركية مطاردتهم . وسعياً وراء الاسناد من الاكراد المتسللين في المنطقة المحظورة من ايران ، بدأ متمردو حزب العمال الكردي بالتعاون في نشاطات معادية في كل من تركيا والعراق . وبالطبع ، كانت من مصلحة العراق وتركيا التعاون في وقف عمليات التسلل في المنطقة المحظورة . ولتحقيق هذه الغاية ، ابرمت تركيا والعراق اتفاقية في اوائل عام 1984 ولمدة عام ( تعتبر ملغية في حالة عدم تجديدها كل عام ) نصت على السماح للقوات التركية باجتياز الحدود العراقية والقاء القبض على المتمردين الاكراد اثناء مطاردتهم بشرط اعلام السلطات العراقية، وان تنسحب القوات التركية حال انجازها للعملية . فضلاً عن ذلك ، سمح للاتراك بقصف ورمي المراكز الموجودة في المنطقة التي يعتقد بان المتمردين قد لجأوا اليها .
ان اهم عملية تسلل ، منذ سريان مفعول الاتفاقية ، حدثت في عام 1987 . ففي اوائل شهر آذار ، استطاعت قوة ايرانية التسلل لمسافة ابعد من المنطقة المحظورة والاستيلاء على جبل كردمند المطل على مدينة حاج عمران .
وبما ان المنطقة تبعد (60) ميلاً عن كركوك ، التي يبدأ منها خط النفط العراقي – التركي ، وحصل شك من ان القوة الايرانية ربما تتقدم بعيداً عن المنطقة وتوقف جريان النفط من كركوك الى تركيا ( ولو ان ذلك غير محتمل بسبب وعورة الاراضي ) . مع ذلك ، قامت تركيا بتحذير النظام الايراني ضد مثل هذا العمل ، طالما انه يعتبر تدخلاً في الشؤون الداخلية لتركيا . انتاب الشك تركيا عندما نشرت الصحافة الايرانية تصريحات غير محببة من قبل القادة الايرانيين حيث اتهموا النظام التركي بمعاداته للدين . وربما ان المتمردين الاتراك
( الاكراد ) كانوا يتسللون في المنطقة المحظورة ، فان الطائرات التركية قامت بقصف عدة مراكز هرب اليها المتمردون بحجة ان الاكراد الاتراك قد اشتبكوا مع الاكراد المحليين ( على افتراض اكراد عراقيين عائدين من ايران ) . احتج النظام الايراني ضد انتهاكات تركية للحدود الدولية ، ولو ان السلطات التركية اخبرت العراق بالعملية بموجب المعاهدة العراقية – التركية . في غضون ذلك ، ارسلت الحكومة العراقية قوة الى مدينة حاج عمران . استطاعت القوة طرد القوات الايرانية بعد معركة باهضة التكاليف لكلا الطرفين . مع ذلك ، ان عمليات الاغارة الايرانية – الكردية لم تتوقف ابداً ، لا سيما في المنطقة القريبة من اذربيجان الغربية ، وان السلطات الايرانية ، بالتعاون مع الزمر الكردية المعادية لنظام العراق ( مثلاً ، جماعات الطالباني ومسعود ) قد وجدتهم مفيدين لعمليات التضليل العسكرية في صراعها مع العراق(24) .
 فيما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية مع العراق وايران ، استطاعت تركيا الاستفادة من الحرب . ففي البداية ، اصيب خط النفط العراقي ( كركوك – الاسكندرونة ) باضرار وبقى مغلقاً حتى نهاية عام 1980 . وباتفاق مع البلدين ، جرى تصليح خط الانابيب . تعهدت تركيا ، التي تسيطر على سداد المياه ، بزيادة حجم مياه نهر الفرات لكي يلبي احتياجات الري لمدة ثمانية اعوام وتطوير المنطقة الجنوبية . ومع ان التزاماً كلياً حول زيادة المياه لم يمنح للعراق الا ان سعة انبوب النفظ ( 650000 برميل في اليوم الواحد ) قد زادت من
( 500000 ) برميل في اليوم الى اكثر من مليون برميل في اليوم ، طالما ان تركيا اصبحت المحطة النهائية الرئيسية لتصدير النفط العراقي . وفي اتفاقية موقعة في عام 1985 ، فان خط انابيب اخر ، سيتم اكماله في سنتين ، استطاعت كمية النفط المصدرة . وربما لا يقل اهمية ، ان تركيا اصبحت مصدراً مهماً للمواد الغذائية التي يحتاجها العراق . تبادل المبعوثون الاتراك والعراقيون الزيارات كل سنة تقريباً وذلك لتسهيل تصدير المنتجات التركية وكذلك الاتفاق على انشاء الجسور على الفرات وتحسين الطرق العامة لنقل البضائع بين البلدين . يمكن ملاحظة زيادة العلاقات التجارية بين البلدين بسهولة على الطرق العامة المنشأة حديثاً بين العراق وتركيا من خلال المدن الشمالية(25) .
فيما يخص ايران ، حاولت تركيا تحسين علاقاتها التجارية عن طريق عقد عدة اتفاقيات تجارية لاستيراد النفط وسد احتياجاتها المحلية وتصدير المواد الغذائية والمنتجات التركية الاخرى . عالجت احدى الاتفاقيات مسألة استيراد المواد الضرورية لتحسين السكك الحديدية والطرق العامة وخطوط النقل الاخرى. لهذا، ان الاتفاقيات التجارية الثنائية التركية مع العراق وايران اثبتت انها ذات قيمة لكلا البلدين ، ولو انه من الطبيعي ان المشاكل الفنية تعيق دائماً التطبيق التام لهذه الاتفاقيات .
يحتمل ان تجارب تركيا في الاتفاقيات التجارية الثنائية مع العراق وايران ستسمر بعد الحرب ، ما دامت تركيا بحاجة دائماً الى النفط والغاز لسد احتياجاتها الداخلية . من الجائز ، ان يستمر العراق وايران على استيراد المواد الغذائية . ومع انهما بلدان زراعيان ، فان احتياجاتهما للمواد الغذائية في زمن السلم ربما لا تكون ملحة كما في زمن الحرب . على اية حال ، ان حاجة العراق لمياه الري يحتمل ان تزيد بعد الحرب وان العلاقات التجارية الثنائية ربما تصبح اكثر اهمية للفائدة المشتركة لكلا البلدين .
ان السلام والامن في المنطقة ككل هو في صالح تركيا وان تحسن علاقاتها مع المملكة العربية السعودية واقطار الخليج الاخرى يحتمل ان تنمي العلاقات التجارية وبالاخص مع الاقطار التي هي بحاجة الى منتجات زراعية .

الهوامش

1. بالنسبة الى نص الاعلان القومي العربي ، راجع كتاب كولن لوكيوم ( نظرة عامة على الشرق المعاصر ) – نيويورك ولندن 1981 – الصفحات 224-225 ، نيقولا فرزلي ( الصراع العراقي – الايراني ) – باريس 1981 – الملحق 1 – الصفحات 167-170 .
2. فيما يتعلق بموقفه تجاه الخليج ، راجع كتاب ادموند غريب ( العراق والخليج ) . أف.ار.اكسل كارد
( العراق في انتقال ) .
3. بالنسبة للرأي من العراق يحارب حرباً عربية ويدافع عن حدود الاراضي العربية ، راجع كتاب عبد اللطيف الحديثي ( الحدود الشرقية للوطن العربي ) – بغداد 1981 .
4. عرضت السعودية والكويت والاردن استعدادها عن استخدام مطاراتها كملاجئ للطائرات العراقية كدليل لتأييد العراق حال اندلاع الحرب .
5. بالنسبة لرأي الملك حسين عن العلاقة بين الاسلام والقومية ، راجع مجلة لايف انترناشنال 23 آيار 1960 – ص30 – ( كيفية توحد العالم العربي ) .
6. ان اسم اليرموك هو ذكرى للمعركة التي قاتل فيها العرب الجيش البيزنطي عام 636 ميلادية وتغلب عليه في وادي اليرموك في الاردن . كان غرض المتطوعين هو رمزي لتقوية معنويات الجيش العراقي طالما ان الاردن لا تستطيع وضع جزء كبير من قواتها خارج بلادها لانها تحتاجه في الدفاع عن حدودها الغربية .
7. محادثات المؤلف مع رئيس الوزراء الاردني السابق مضر بدران والرئيس الحالي زيد الرفاعي ورئيس الديوان الملكي ووزير الخارجية السابق مروان القاسمي ووزير الاعلام والثقافة السابق عدنان ابو عودة وعدد من الشخصيات في مناصب عليا . جرت المحادثات في عمان ( الاردن ) في شهر حزيران 1987 .
8. في السعودية ، كانت هناك جماعات متطرفة دائماً تعارض التغيير الذي جاء بفعل المخترعات الفنية الغربية وتجلى في عدة احتجاجات وحوادث انتهت بالاستيلاء على مسجد الكعبة في تشرين الثاني 1979 بوحي من خميني ودعوته الى النشاطات الثورية .
9. بالنسبة الى نص قانون التعبية والقوانين الاخرى المتعلقة بالامن الداخلي ، راجع نشرة وزارة الاعلام الكويتية لعام 1980 والسنوات اللاحقة .
10. عند وصول قطب زادة الى الكويت ، كانت هناك محاولة لاغتياله وان العمل ينطوي على ان الكويت ، على المستوى الشعبي ، تعارض النشاطات العدوانية لايران .
11. مثال مزهر.اي.حميد في جريدة واشنطن بوست في 9 آب 1987 ( بعد مكة ، اصبحت المملكة العربية السعودية اكثر استقراراً مما تبدو ) .
12. اخبرني السادات ( في حديث معه في القاهرة في 14 آب 1981 ) انه قرر مساندة العراق عندما سأله عدد من قادة السعودية وعمان فيما لو ان مصر مستعدة لبيع سلاح وتزويده الى العراق . قال انه مستعد بنفسه لتقديم السلاح . لم يكن حديثي مع السادات لاجل هذا البحث ( ولو انه جرى خلال الحديث التطرق الى حرب الخليج ) ، ولكن لاجل مقالة حول زعامة السادات ، راجع كتاب مجيد خدوري – ( الشخصيات العربية في السياسة ) – واشنطن دي.سي 1981 ، الصفحات 125-180 .
13. فيما يتعلق بالتصدع بين العراق وجبهة الصمود والتحدي ، راجع كتاب السيد طارق عزيز – ( الصراع العراقي – الايراني ) – بيروت 1981 – الصفحات 85-98 . كذلك، التقرير المركزي للمؤتمر القطري التاسع – بغداد 1983 – الصفحات 311-319 .  
14. اعتبر قطع النفط العراقي من قبل سوريا انتهاكاً لاتفاقية 1982 . احيل النزاع الى منظمة الاقطار العربية المصدرة للنفط لاجل الرأي القانوني وان كلا البلدين وافقا على حكم المنظمة حول القضية . وفي حديث مع الدكتور عبد اللطيف الشواف ، احد اعضاء المحكمة ، طلبت منه ان يشرح لي طبيعة الصراع . قال ان سوريا في البداية اعتبرت النزاع سياسياً ( ليس قانونياً ) ، الا ان مستشارها القانوني وافق على مناقشة تفاصيل القضية . وباعتبار ان الاتفاقية لا زالت ملزمة ، وافق العراق على الرأي القانوني لمنظمة الاقطار المصدرة للنفط . من الواضح ، ان خط النفط هو خارج منطقة الحرب وانه اتفاق تجاري محض يمكن لسوريا على المدى البعيد ان تستفيد منه اكثر مما تستفيد من ايران . ومن البديهي ، ان الدافع السياسي السوري لوقف سريان النفط ليس له تأثير على سريان مفعول اتفاقية خط الانابيب لعام 1982 .
15. راجع مقال نورا بستاني في جريدة واشنطن بوست 17 تموز 1987 – ( الازمة الاقتصادية السورية اصبحت تهدد العلاقات مع ايران ) .
16. عرض الاتحاد السوفيتي ، حليف كل من العراق وسوريا ، مساعيه الحميدة عن طريق توجيه دعوة لسفيري العراق وسوريا بزيارة موسكو في اوائل عام 1981 . ان هذا العرض تكرر لاكثر من مرة دون جدوى .
17. مقابلة السيد طارق عزيز نائب رئيس الوزراء ووزير خارجية العراق مع المؤلف في بغداد 30 نيسان 1986 و 18 نيسان 1987 . مقابلة مضر بدران رئيس وزراء الاردن سابقاً وزيد الرفاعي رئيس وزراء الاردن الحالي مع المؤلف في عمان 17 حزيران و20 حزيران 1987 . فيما يخص اراء الرئيس الاسد حول حرب الخليج وعلاقاته مع حكام العراق ، راجع كتاب احمد قورنة ( حافظ الاسد – الموسوعة
الكاملة ) – ( اوراق مجمعة ) – حلب وبيروت 1985 – الجزء 4 – الصفحات 151-183 – الثاني 1987 .
18. فيما يخص الرأي من ان الدعم السوري لايران هو خيانة للقومية العربية ، راجع كراس سعدون حمادى – ( ملاحظات حول الحرب مع ايران ) – بغداد 1981 – الصفحات 85-98 .
19. بالنسبة لمشاركة القذافي في اختفاء الصدر ، راجع كتاب بيتر تيرسو – ( الاختفاء الغريب للامام موسى الصدر ) – لندن 1987 .
20. استأنفت العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وليبيا في عام 1986 ، الا ان الخلافات بين البلدين لم تحل لحد الان .
21. بالنسبة لخلفية وتسوية النزاع ، راجع مقال كونسي رايت ( النزاع حول الموصل ) في مجلة الشؤون الدولية الامريكية – العدد 20 – 1926 – الصفحات 453-463 . كتاب فاضل حسين ( قضية الموصل ) – بغداد 1955 .
22. كان حضور تركيا لمؤتمر القمة الاسلامي عام 1981 اول مشاركة لهذا في مؤتمر اسلامي منذ نبذ الخلافة وتشريع الدستور التركي عام 1924 الذي بموجبه تم تبني مبدأ فصل الدين عن الدولة . على اية حال ، اعلنت تركيا ان مشاركتها في المؤتمر الاسلامي لا تهدف ضمناً من ان الصفة العلمانية للدولة قد تغيرت .
23. عدد قليل فقط من جماعة الملا مصطفى ومؤيديه تم نفيهم الى الناصرية في جنوب العراق وتمت مصادرة ممتلكاتهم .
24. حديث عصمت كتاني رئيس البعثة العراقية في الامم المتحدة مع المؤلف في آذار 1987 . عصمت كتاني كردي عراقي يعتبر مرجعا في الشؤون الكردية .
25. ملاحظات المؤلف خلال زيارته لمحافظة الموصل في عام 1987 .
 
البحث عن السلام والأمن في الخليج

بحكم غنى الخليج بالنفط ، فقد اصبح مركز اهتمام العالم. وان السلام والأمن لم يعد يهم اقطاره فحسب، وانما جميع الدول الاخرى التي لها مصالح في المنطقة ككل . وكما كشفت الحرب العراقية – الايرانية، أن أي نزاع بين قطر خليجي وآخر ، سواء في الداخل او الخارج، ربما يضر بمصالح جميع المعنيين ويدعو للتدخل الاجنبي .
لماذا لم تكن اقطار الخليج قادرة على حفظ السلام والنظام من غير تدخل اجنبي ؟
لقد رد البعض على التساؤل بمنتهى البساطة بالتأكيد على الخلاف بين زعماء الخليج الذي حال دون اقامة نظام أمني جماعي مؤثر لمعالجة مشاكل الامن القطرية . ولم تكن الدول العظمى ، من جراء مصالحها المتضاربة قادرة او راغبة بممارسة السيطرة على حلفائها واصدقائها لمنع النزاعات الاقليمية . أن الموقف قد تفاقم نتيجة التقاليد المعقدة وميراث (تركة) التحكم الاستيطاني اللذين لم يستعض عنهما لحد الان باساليب حكم حديثة واجراءات دبلوماسية . ان جميع هذه القوى والمصالح المتضاربة قد ساهمت بقدر قليل بالتوتر السائد والاضطراب في الخليج .
ومنذ العصور الحديثة الماضية ، خضعت المنطقة لحكم قوتين اسلاميتين هما : العثمانية والفارسية. سيطرت الاولى على المنطقة الممتدة غربا من رأس الخليج الى البحر الابيض المتوسط ، بينما سيطرت الثانية على منطقة الخليج الشرقية بكاملها . ان النزاع والمنافسة بين هذين الخصمين المتعنتين لم يقتصرا على المنطقة الشمالية للخليج وانما امتدا جنوباً ، وان المنطقة بكاملها قد وقعت فريسة لاعمال التخريب والدمار . ومن الغريب ان يصبح الخليج مسرحاً للقرصنة النشطة، وتمزقه المنافسات الاقليمية الموروثة مما فسحت المجال للتدخل الاجنبي ولاسيما عندما ضعفت وانهكت الدولة العثمانية والامبراطورية الفارسية . ان دخول بريطانيا في الخليج في مطلع القرن التاسع عشر ، بحجة السعي وراء التجارة وحماية شبه القارة الهندية ، قد برر بحجة الاضطراب وانتشار القرصنة ، ولو ان الدافع الحقيقي للقرصنة هو الاستياء الداخلي من التدخل الاجنبي ، وليس بالضرورة رغبة في الكسب الفردي .(1)
ولفترة تزيد عن قرن ونصف ، لعبت بريطانيا العظمى دورا بارزاً في حفظ السلام والأمن وبكلفة صغيرة نسبياً بدعوة من حكام ومشايخ الخليج لوقف عمليات القرصنة والقتال بين الواحدة والاخرى وعقد اتفاقيات ثنائية تحرم بموجبها القرصنة والقتال . وتدريجياً ، خضعت جميع المشايخ العربية والاقاليم الساحلية الايرانية الى نوع من السيطرة البريطانية قبل أن تحصل على استقلالها اخيراً ( بعضها بعد الحرب العالمية الاولى والأخرى بعد الحرب العالمية الثانية ) .(2)
ان قرار بريطانيا عام 1969 بسحب قواتها العسكرية من الخليج نهاية عام 1971 قاد الى تفاهم ضمني بين القوى الكبرى ينص على ان مسؤولية حفظ السلام والامن في الخليج تقع على عاتق دول الخليج نفسها . ومن هذا المنطلق ، فإن هناك طريقتان محتملتان بالنسبة للواجب الذي انجزته بريطانيا سابقاً :  الاول، تتولى دولة خليجية كبرى او دولتان مثل المملكة العربية السعودية وايران مسؤولية الأمن اما بشكل فردي او جماعي. ان هذا الاجراء يتفق مع تقاليد الامبراطورية البريطانية ويمكن ان يسمى بواجب
الشرطي .(3)
الثاني ، تتولى جميع الدول على جانبي الخليج المسؤولية الجماعية من خلال تشكيل منظمة اقليمية يعهد اليها قضايا الامن . ان هذا الاجراء ، بمقارنته بمنظمة الدول الامريكية يمكن ان يسمى حسب ميثاق الامم المتحدة باجراء الامن الاقليمي .
وبما ان ساحل الخليج الشرقي بكامله يخضع للسيطرة الايرانية وان المملكة العربية السعودية لم تصبح مهيأة عسكرياً لتولي دور شرطي الخليج كانت ايران هي المرشح الطبيعي . ان شاه ايران ، الذي كان يلح على الولايات المتحدة بالحاجة الى الامن ، انتهز فرصة انسحاب بريطانيا وبدأ يطالب بزعامة الخليج كوسيلة لوقف احتمال تدخل السوفييت في الخليج ، ولو ان الولايات المتحدة قد تفضل دعامة مشتركة
( السعودية وايران اللتين يشير اليهما مخططوا السياسة الامريكية دائماً بالدعامتين التوأمتين ) . على اية حال، ان طموح الشاه للقيام بدور الشرطي قد اغاظ بعض دول الخليج وخصوصاً البحرين التي طالبت ايران بفرض سيطرتها عليها . ولتأكيده للدول العربية من انه ليس لديه اطماع اقليمية ، اعترف باستقلال البحرين عقب انتهاء الحماية البريطانية عام 1969 وبذلك تخلى ضمناً عن المطالبة الاقليمية لايران بهذه الجزر . مع ذلك، وخلافاً لهذه التأكيدات، ضم الشاه الجزر الثلاث ( ابو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى ) العائدة إلى الامارات العربية المتحدة التي من الطبيعي اثارت شكوك دول الخليج العربي في الجنوب .(4)
ان اعتماد الشاه على موافقة امريكا لبرنامجه التسليحي ، الذي يعزز من مركز بلاده في الخليج، صعد من المعارضة الداخلية لنظامه ، طالما انه ينطوي على الموافقة الامريكية لاسلوب حكمه . وبعد سقوط الشاه عمت الفوضى التامة تقريباً في الجيش ، فان من الصعب بالنسبة للنظام الجديد ان يكون قادراً على ممارسة مسؤولياته الامنية . كما أن الدول المجاورة لا تثق به بسبب تعصبه الديني الصريح ورغبته المعلنة في تصدير الثورة الى البلدان الاخرى .
في مثل هذه الظروف ، كان بامكان العراق الاستفادة من الفرصة وتولي مسؤولية امن الخليج العربي من جانب واحد او مشترك بموجب الاعلان القومي العربي لسنة 1979 . الا انه اختار تسوية حساباته مع ايران قبل ان يصبح متورطاً في شؤون الخليج . كما ان تحالفه مع الاتحاد السوفيتي عام 1972 ، ولو كان بالدرجة الرئيسية للحصول على السلاح ، لم يحقق فائدة عندما اراد التوجه نحو الغرب والاقطار الخليجية الاخرى . لقد تحسنت علاقات العراق مع الغرب واقطار الخليج العربي فقط بعد دخوله الحرب مع ايران.
إن الحرب العراقية – الايرانية شجعت اقطار الخليج العربي على الاضطلاع بمسؤوليات واسعة من خلال تدابير الامن الجماعي كبديل للمبادرة الفردية، وبما ان دور الشاه كشرطي الخليج يخفي موقفاً تسلطياً ايرانياً ، فقد قوبل بالاستياء من قبل اقطار الخليج ( ولو لم يكن احد مستعداً لتحديه ) وبدا ان نظام الامن الجماعي الذي لاقى تشجيعاً من قبل الدول الغربية هو البديل الطبيعي . ولم يكن نظام الامن الجماعي هو الوحيد من نوعه في العالم العربي . ان جامعة الدول العربية قد اعيد تنظيمها من قبل الولايات المتحدة كتدبير امني اقليمي ضم في عضويته دول الخليج العربي .
ان ميثاق الجامعة ، الذي الحق به معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي ، امن اسناداً لنظام الامن الجماعي . وربما يتساءل المرء ، لماذا لم تحاول دول الخليج العربي الرجوع الى جامعة الدول العربية بالنسبة لامن الخليج كشأن انظمة الامن الاقليمية؟
ان الجامعة العربية قد تأسست استجابة الى بعض المتطلبات الامنية بعد الحرب العالمية الثانية، انشغلت الاقطار العربية بقضيتين اساسيتين ، الاولى حماية المصالح العربية ضد المزاعم الصهيونية بانشاء وطن قومي في فلسطين . والثانية : تحقيق الوحدة وحماية المصالح العربية ، رغم ان شكل الوحدة العربية ووسائل تحقيقها لا تزال غامضة وغير محددة . ولكن ، بعد تأسيس اسرائيل عام 1948 ، لم تكن الجامعة العربية قادرة على تحمل مسؤولياتها .(5) وبصرف النظر عن تشجيع التعاون الثقافي والاقتصادي ، فان واجب الجامعة العربية على هذا الاساس قد انحصر بحماية الاقطار العربية من التجاوزات الاسرائيلية .(6)
ولهذا السبب فان ميثاق الجامعة العربية الذي هو بحاجة الى توضيح اكثر ، قد الحق به في عام 1950 معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي لتأمين تدابير امنية لاعضاء دول الجامعة العربية .. وبما ان هذه المعاهدة قد تمت صياغتها قبل ان تصبح معظم اقطار الخليج العربي مستقلة لذا فإن مسألة التدابير الامنية لم تؤخذ بنظر الاعتبار . لهذا ، عندما اجتمع رؤساء الخليج العربي لمناقشة امن الخليج والتعاون الاقتصادي ، فمن غير الطبيعي ان لا يبحثوا الوسائل الامنية ذات العلاقة بالتحدي الناشئ عن الاوضاع الخليجية.
على اية حال ، ان البحث في أمن الخليج ينبغي ان لا ينظر اليه من منظور امني اقليمي فقط ، وانما ينبغي ملاحظته بالنسبة للمتطلبات الامنية العالمية للدول الكبرى التي بسبب تضارب مصالحها والتنافس فيما بينها قد جذب اقطار الخليج . خلال الحرب العالمية الثانية ، يبدو ان الاتحاد السوفيتي قد طمح لتوسيع نفوذه والسيطرة على منطقة تمتد من القوقاز الى المحيط الهندي ( تراث سياسي تقليدي لروسيا القيصرية للوصول الى المياه الدافئة ) . ففي مفاوضاتهم مع المانيا النازية عام 1940 ، كشف القادة السوفييت طموحاتهم الدفينة لتوسيع نفوذهم على المنطقة ( حسب قول مولوتوف ) : ” في اتجاه الخليج الفارسي والبحر العربي.(7) ” لم يعبر الاتحاد السوفيتي عن طلباته في المحادثات الرسمية فحسب ، وانما حاول ايضا تحقيقها بالفعل عندما سيطرت قواته على شمال غربي ايران ( اذربيجان ) وشجعت المواطنين الاكراد في انشاء جمهورية مهاباد عام 1946 .
وبعد الحرب العالمية الثانية عندما اخفق الاتحاد السوفيتي بالانسحاب ، خلافاً لاعلان طهران ( 1943) الذي تعهدت بموجبه كل من بريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على سحب قواتهم العسكرية ، اجبر الاتحاد السوفيتي على الانسحاب من ايران بايعاز من الامم المتحدة .(8)
كان مبدأ ترومان ( 1946 ) ، الذي تعهد باسناد اليونان وتركيا ضد التغلغل الشيوعي ، الرد الامريكي تجاه التدخل السوفيتي الجديد في الشرق الاوسط . مع ذلك لم يتضمن مبدأ ترومان على وجه الخصوص منطقة الخليج التي بقي الدفاع عنها من مسؤولية بريطانيا لربع قرن آخر . ولما سحبت بريطانيا قواتها العسكرية من الخليج عام 1971 ، تولى شاه ايران مسؤولية أمن الخليج على عاتقه وبفضل الامريكان ، لعب الشاه دور الامبراطور القصير الامد لحين سقوطه عام 1979 .(9)
يبدو ، ان حدثين قد غيرا بشكل مفاجئ سياسة امريكا تجاه منطقة الخليج : الاول الاندلاع غير المتوقع للثورة الايرانية في شهر شباط 1979 . والثاني احتلال السوفييت لافغانستان في اواخر ذلك العام . يعد الحدثان مترابطين وقد اظهرا مجدداً ان امن الخليج لا يمكن عزله نهائياً عن الامن العالمي ، ولو ان تأثير الاحتلال السوفيتي يبدو اكثر عمقاً على صانعي السياسة الامريكية من الثورة الايرانية . هناك خلاف في الرأي بين مستشاري الرئيس جيمي كارتر حول تأثير الحدثين على امن الخليج قبل ان يعلن كارتر اخيراً سياسته تجاه الخليج .
رأى سايرس فانس وزير خارجية كارتر في احتلال السوفييت لافغانستان هدفاً ذو محدودية اكثر من الهدف السوفيتي النهائي في الوصول الى المحيط الهندي والخليج . واعلن فانس ان الهدف الاتي بالدرجة الاولى هو حماية المصالح السياسية السوفيتية في افغانستان التي اصبحت مهددة بالخطر … بانتشار ( الحمى الخمينية ) الى دول اخرى على امتداد الحدود الجنوبية لروسيا على الرغم من علمه بان التأثير العالمي ربما يقدم تهديداً للمصالح الامريكية في منطقة الخليج(10). اقترح فانس مراعاة الحذر ، الا ان كارتر ، الذي تشجع باعتبارات السياسة الدولية الطويلة الامد ( اكد عليها بشكل خاص وزير الدفاع هارولد براون ومستشار الامن القومي زبيكنيو برجنسكي ) استمر بالاعلان الذي اصبح ما يسمى بمبدأ كارتر ( بالاخص عند الاشارة الى امن الخليج ) الذي فرضه كانذار تجاه الضغوط الدولية للسوفييت . وبما ان ليونيد برجنيف نفسه اوعز باحتلال افغانستان، استجاب جيمي كارتر بسرعة لمجابهة التغلغل السوفيتي المحتمل في اوسع منطقة ممتدة بين افغانستان والخليج . وفي ضوء التطورات اللاحقة ، يبدو ان كلاً من كارتر وبرجنيف قد بالغا في ردود افعالهما، ولو ان كل واحد قد تحفز بمنظور مخالف تماماً .
يمكن اعتبار السوفييت ، في احتلالهم لافغانستان ، انه تجاهلوا دروس التاريخ بعد حروب طويلة الامد للسيطرة على افغانستان المعروفة بحروب افغان ( لا سيما في عام 1838 و 1878 ) توصلت كل من روسيا وبريطانيا الى نتيجة ان ليس من مصلحتها التدخل في شؤون افغانستان . وشعروا بانهم مجبرون على الاعتراف بحياد البلاد وابتعدوا عن الشؤون الداخلية حسب اتفاق الانكلو-روسي ( 1880 )(11) . قرر كارتر خلال فترة حكمه ترك واجب مقاومة الغزو السوفيتي لافغانستان الى سكانها ، المعروفين بشجاعتهم وقدرتهم على مجابهة الاحتلال الاجنبي، وقدم لهم اسناداً بالسلاح عن طريق الدول المجاورة . اما خلفاء برجنيف ، ولو انهم ادركوا عدم فائدة عملهم ، الا انهم لم يتمكنوا من اخراج انفسهم من المأزق . وبصدد الثورة الايرانية ، يبدو ان قلق كارتر حول مصير الرهائن الامريكان في طهران قد صرف اهتمامه عن الثورة واهمل تأثيرها البعيد الامد على امن الخليج . لهذا ، كان اكثر اهتماماً حول التأثير الاني للغزو السوفيتي لافغانستان على الخليج اكثر من التأثير البعيد الامد للثورة الايرانية .
كان تحذير كارتر للسوفييت بالابتعاد عن منطقة الخليج صريحاً تماماً في خطابه الموجه الى الجلسة المشتركة للكونغرس ( 23 كانون الثاني 1980 ) اعلن بما عرف فيما بعد بأسم مبدأ كارتر . وأوضح ” ان أي محاولة من قبل أي قوة خارجية للحصول على نفوذ في منطقة الخليج سوف تعتبر تهديداً للمصالح الحيوية للولايات المتحدة الامريكية وان مثل هذا التهديد سوف يرد عليه باي وسيلة ضرورية بما فيها القوة
العسكرية ” .
وكتب بريجسنكي ( ان مبدأ كارتر قد تمت صياغته وفق مبدأ ترومان الذي عبر موضوع استجابة اعلن للتهديد السوفيتي لكل من اليونان وتركيا ) .
ان انهيار ايران ( تحت حكم الشاه ) وزيادة وهن المملكة العربية السعودية استوجب ضرورة اتخاذ مثل هذه الاستجابة الاستراتيجية الواسعة(12) . ورأى بريجسنكي ان الامن الامريكي بمعناه الواسع قد اصبح
( يعتمد ) على امن المناطق الاخرى وبالاخص اوربا الغربية والشرق الاقصى والشرق الاوسط ومنطقة الخليج ولهذا السبب فإن اطاراً امنياً اقليمياً بدون تحالف رسمي سيكون ضرورياً كوسيلة لتأمين الاسناد العسكري المطلوب تجاه الضغوط السوفيتية والتدخل المحتمل . ولتحقيق الاسناد العسكري ، اقترح قيام بعض اقطار الخليج بتقديم تسهيلات بحرية وجوية لاقامة وجود عسكري امريكي في المنطقة .(13)     
وخلال عام 1980 ، حصلت الولايات المتحدة على موطئ قدم في مصيرة ( جزيرة قريبة من الخليج تعود الى عمان ) وقواعد تموين في بربرة ( الصومال ) وممباسا ( كينيا ) ورأس بناس ( مصر ) – بعيدة نوعاً ما عن الخليج – الا ان اقطار الخليج لم تقدم أي تسهيلات باستثناء عمان .
     ان مفهوم بريجنسكي الغامض حول ( الاطار الامني ) قد يعني ، اما ان تقبع مسؤولية الدفاع على اقطار الخليج نفسها وتساندها القوة العسكرية الامريكية التي اشار اليها كارتر في خطابه الموجه الى الكونغرس او ان المنشآت الاقليمية الواسعة سوف تصبح اخيراً قواعد عسكرية تحت السيطرة الامريكية .(14)
وبعد تركه الوظيفة ، اعلن بريجنسكي بانه كان يفضل البديل الاخير وليس مجرد ( اطار امني
تعاوني ) اشار اليه كارتر في خطابه ( بالانسحاب المبكر من شرق السويس – 1971 – ) واضاف بريجنسكي (وبانهيار المحور الاستراتيجي شمال الخليج الفارسي، ارى الحاجة الى استجابة اوسع من قبل الولايات المتحدة) .(15)
وبعد اندلاع الحرب العراقية – الايرانية ، ظهر ان بديل بريجنسكي للوجود العسكري الامريكي بالنسبة لكل من كارتر وهارولد براون ( وزير الدفاع في حكومة كارتر ) اكثر اهمية للظروف المتغيرة في الخليج . جرت مناقشات في مجلس الامن القومي حول تجهيز اسلحة الى عدد من اقطار الخليج ( لا سيما
السعودية ) ومرابطة قوات امريكية في المنطقة . وبينما رحبت السعودية بفكرة ( الامن المشترك ) فقد اعلنت عن قبولها ليس بشكل قاعدة امريكية على ارض سعودية وانما بكيان عسكري سعودي متنام مزود باسلحة وخبراء فنيين امريكيين تدفع السعودية نفقاتهم . وبصرف النظر عن عمان ، ليس هناك بلد عربي في الخليج مستعد للسماح بمرابطة قوات عسكرية امريكية على اراضيه في وقت السلم ، طالما ان مسألة وجود قوات اجنبية على اراض عربية عقب انسحاب القوات البريطانية اصبح قضية حساسة في السياسة الداخلية العربية .
وبعد فترة قصيرة من بدء الحرب العراقية – الايرانية ، وضعت اربع طائرات انذار مبكر امريكية
( اواكس ) وتجهيزات عسكرية اخرى في المملكة العربية السعودية بموجب اقتراح اقامة تدابير امنية مشتركة . لقد طلبت السعودية قبل فترة شراء الطائرات وان كارتر وافق على الطلب بتاريخ 28 أيلول 1980 . ان نشر طائرات الانذار المبكر ( الاواكس ) والاشخاص الفنيون يعتبر دليلاً لنوايا امريكا لمساندة اقطار الخليج العربي ضد التدخل الاجنبي المحتمل .
ان الستراتيجية الامريكية بالنسبة لامن الخليج ، ولو انها انتقدت في جلسات الكونغرس ، قد تمت المصادقة عليها من قبل ادارة ريغان عندما اعقب كارتر في كانون الثاني 1981 (16). في الحقيقة ، يبدو ان ادارة ريغان قد تصورت في البداية خطة اكثر طموحاً لامن الخليج . ان مفهوم قوة الانتشار السريع ، مع انه نوقش اثناء حكم كارتر ، لم يطبق بشكل كاف لحد الان . حاولت حكومة ريغان توسيعه . لقد اعتبرت غياب الوجود العسكري الامريكي بمثابة دعوة مقبولة للتدخل السوفيتي . ولوقف المبادرات السوفيتية ، قام الكسندر هيغ وزير الخارجية في حكومة ريغان بزيارة الشرق الاوسط في نيسان 1981 واقترح القيام بتدابير ثنائية مشتركة مع الخليج والاقطار المجاورة التي بموجبها ستسمح رسمياً بمرابطة قوات امريكية في اراضيها . اطلق على التدابير ( الاتفاق الستراتيجي ) هدفه المباشر منع التغلغل السوفيتي .(17)
وكرد مباشر على النشاطات المحلية السوفيتية ، ارسلت اسحلة الى الاقطار التي تجاور وتخضع للنفوذ او السيطرة السوفيتية مثل افغانستان ، اليمن الجنوبية والحبشة . وبتطبيق هذه السياسة ، حاولت الولايات المتحدة الاعتماد على قواتها العسكرية الخاصة كلما دعت الحاجة لوقف التغلغل السوفيتي ، الا ان الاجراء الملموس الوحيد الذي انبثق عن ذلك هو مرابطة قوة بحرية في مناطق قريبة من الخليج . لم تكن الاموال المخصصة للاحتفاظ بقوات كبيرة نسبياً كافية ( 5.5 مليار دولار امريكي في عامي 1981 و 1982 ) .(18)
وجهت دعوة لحلفاء امريكا في اوربا للمشاركة في ( قوة الانتشار ) الهندية ، الا ان بريطانيا وفرنسا استجابت بمساهمات متواضعة ( ارسلت بريطانيا ست سفن حربية وارسلت فرنسا خمس عندما هدد الخليج بالغلق امام السفن الغربية ) . علاوة على ذلك ، ان احجام اقطار الخليج بالسماح للقوات الامريكية على اراضيها اثبت بانه اكبر عقبة كاداء . ان الحساسية تجاه وجود قواعد اجنبية قد احبط الالتزامات العسكرية الرسمية حتى ان مصر ، التي تعهدت باستخدام تسهيلات رأس بناس في وقت الازمات وليس ( كقواعد ) قد انتقدت من قبل اقطار عربية اخرى ، على الرغم من ان الولايات المتحدة تعهدت بتجهيز طائرات واسلحة الى الجيش المصري .
ان قتل السادات يذكرنا ان الرأي العام لم يكن موافقاً على ترتيباته مع الولايات المتحدة.
 وبصدد السعودية باعتبارها اكبر بلد نفطي في الخليج ، حاولت ادارة كارتر اقناع الحكومة السعودية بالسماح على مرابطة قوات عسكرية على اراضيها ، ليس فقط للدفاع ضد تهديد ، وانما لمنع التدخل السوفيتي في الخليج . يبدو ان ادارة ريغان قد حاولت مجدداً اقناع قطر او عدة اقطار خليجية بقبول شكل من الوجود العسكري على اراضيها ، الا انه لم يشعر بالحاجة اليها سوى عمان ، مع ان جميعها مستعدة لقبول التعاون العسكري من ناحية المبدأ . ففي الشرق الاوسط ، ليس هناك دولة ذات سيادة تسمح اعتيادياً بمرابطة قوات اجنبية على اراضيها ، ما لم تشعر بوجود تهديد مرتقب لاعتداء اجنبي . لم تشعر السعودية او دول الخليج بانها واقعة تحت تهديد او اعتداء سوفيتي قد يبرر وجود قوات امريكية على اراضيها . وصرحوا بان لو كان هناك تهديد ، فسوف يكون مصدره اسرائيل وليس الاتحاد السوفيتي . في الحقيقة ، ان وجود قوات اجنبية او قواعد على اراض عربية قد اصبح رمزاً للاستعمار . ان المملكة العربية السعودية ، التي لم تجرب السيطرةالاجنبية.
( على اية حال ، ليس بمفهوم السيطرة الاوربية ) لا يتوقع منها ان تذعن لطلبات الامريكيين وتقلل من شأنها في نظر ابناء شعبها والعرب في الاقطار الاخرى .(19)
حاولت ادارة ريغان اقناع حكام السعودية ان القوات الامريكية سوف لا توقف التدخل السوفيتي فحسب وانما ستصبح حامية للنظام ضد الانقلابات الداخلية المحتملة . ان الصحف الناطقة بلسان المعارضة السعودية ، بدأت بنشر المقالات التي تصف النظام بانه غير مستقر وعرضة للسقوط في اية لحظة . وذهب بعض الكتاب الى القول انه في حالة قيام عصيان داخلي او تدخل اجنبي ، فينبغي على القوات الامريكية احتلال المناطق التي توجد فيها حقول النفط قبل وقوعها في ايدي القوات الاجنبية . اما الاخرون ، في دفاعهم عن النظام السعودي ، فقد اكدوا على الخلفية الدينية والتاريخية للسلالة السعودية وصداقتها التقليدية مع الغرب .(20)
ان اندلاع الحرب العراقية – الايرانية هيأ فرصة ( للتعاون العسكري ) بين السعودية والولايات المتحدة. ففي تاريخ 29 أيلول 1980 ، تم ارسال اربع طائرات انذار مبكر امريكية مع طوائفها الارضية والجوية الى السعودية كتحوط عسكري ضروري لوقف التدخل الاجنبي المحتمل . وفي شهر تشرين الثاني 1980 ، وافقت ادارة كارتر على بيع الطائرات والاسلحة التي طلبتها السعودية بضمنها طائرات الانذار المبكر
( الاواكس ) التي تم ارسالها مؤخراً . وفي فترة حكم ريغان جددت السعودية طلبها للاسلحة وطلبت اسلحة اضافية بـ( 8.5 مليار دولار امريكي ) لحماية نفسها ضد هجمات متوقعة من ايران . كانت الخطوة اللاحقة هي اشعار الكونغرس قبل ان يتم تسليم طائرات الانذار المبكر او تلبية الطلبات العسكرية الاخرى .
حتى قبل اشعار الكونغرس رسمياً ، وصف النظام السعودي في الحملة الصحفية على انه يعاني من عدم استقرار دائمي وادعت بان السلاح سيكون درعاً لبقائها . وناقشت ولو ان النظام غير قادر على
البقاء ، فان الاسلحة الامريكية ستقع بايدي حكم معاد كما وقع السلاح الامريكي في ايران بايدي نظام خميني . وحذرت الحكومة السعودية انه في حالة عدم قدرتها على شراء السلاح من الولايات المتحدة سوف تشتريها من انكلترا والمانيا . واصرت بان صفقة السلاح سوف تكون اختباراً للصداقة الامريكية .(21)
بتاريخ 9 أيلول 1981 ، بعث ريغان الى الكونغرس اشعاراً غير رسمياً حول عزمه لبيع السلاح الى السعودية مع اشعار رسمي تم ارساله بتاريخ 1 تشرين الاول . كان المتوقع ان يحدث التصويت خلال مدة ثلاثين يوماً . مناقشة الجانب الداخلي يعتبر خارج نطاق هذا البحث . يكفي ان نقول ان المعارضة المثارة داخل وخارج الكونغرس يمكن تلخيصها في اربع نقاط اساسية :
اولاً : ان بيع السلاح الى المملكة العربية السعودية يعتبر تهديداً كبيراً لأمن اسرائيل .
ثانياً : لم تكن المملكة العربية السعودية في الحقيقة مهددة من قبل جيرانها ولم تكن الاسلحة كافية لوقف التهديدات السوفيتية .
ثالثاً : ان البيع قد يضع بعض الطائرات الامريكية المطورة والمعدات في متناول القوات السوفيتية .
رابعاً : عارضت المملكة العربية السعودية الجهود الامريكية في مجال تقدم مفاوضات السلام بين العرب واسرائيل .
ان النقاش في صالح البيع اكد على المتطلبات الامنية السعودية ، ليس لحمايتها الخاصة فقط ، وانما لامن الخليج عموماً ضد الاعتداء الخارجي . واعتبر البيع ايضاً كاختبار للصداقة مع المملكة العربية السعودية . كما نوقش ايضاً ان معارضة الكونغرس سيكون لها ( تأثير سلبي عميق ) على مستقبل العلاقات السعودية – الامريكية (22).
وعندما بدت معارضة الكونغرس تكتسب قوة ، تولى ريغان القضية بنفسه . وقال في تعنيفه الموجه الى النقاد المؤيدين لاسرائيل ( ليس من شأن الدول الاخرى التدخل في صياغة السياسة الخارجية
الامريكية ) .(23)
في 29 تشرين الاول 1981 ، وافق مجلس الشيوخ على صفقة البيع باغلبية ( 52 ) صوتاً مقابل
( 48 ) . كانت بمثابة نصراً لسياسة التعاون مع السعودية بخصوص امن الخليج . وفي رد على النقاد الذين حذروا من عدم استقرار الوضع السعودي ، اعلن سوف لا نسمح بان تصبح ( السعودية ) ايران
ثانية .(24)
في عام 1986 ، عندما طلبت الحكومة السعودية شراء اسلحة اخرى وكانت محادثات ريغان مع اقطاب الكونغرس غير مشجعة ، قررت الحكومة السعودية تنويع سلاحها بشراء طائرات تورنادو من بريطانيا بدون تقييدات . وفي الوقت الذي انقذ هذا الاجراء ريغان من الاصطدامات مع الكونغرس ، الا انه لم يؤثر بشكل معاكس على العلاقات السعودية الخاصة مع الولايات المتحدة ، طالما ان صواريخ امريكية اخرى قد تم
تأمينها .(25)
وبالنسبة للاتحاد السوفيتي ، ان سياسة كارتر وريغان تجاه الخليج اصبحت واضحة اخيراً : الدخول في مجموعة من التحالفات المشتركة مع الدول العربية بصرف النظر عن الخلافات المحلية ، ضد التغلغل السوفيتي سواء كان حقيقياً ام كاذباً . وبنظر السوفييت ، ان هذه السياسة اعتبرت جزءاً من خطة امريكية واسعة لمعادلة النفوذ السوفيتي المتزايد في العالم الثالث . ان التغلغل الامريكي في منطقة الخليج يمكن اعتباره كامتداد للنفوذ الامريكي في المناطق التي قد تضاءل فيها النفوذ السوفيتي ولا حاجة لذكر المنطقة من البحر العربي الى المحيط الهندي التي انتشرت فيها قوات حلف شمال الاطلسي مؤخراً .
في محاولة لاستعادة نفوذه واعتباره في الشرق الاوسط ، دعا الاتحاد السوفيتي الى اتفاقية دولية لتحييد الخليج . ان هذا المقترح الذي اعلنه برجنيف لاول مرة في الهند في كانون الاول 1980 ، اعيد ثانية في عام 1981 كرد لمبدأ كارتر وريغان ( الاتفاق الستراتيجي ) الخاص بأمن الخليج . واعاد برجنيف ثانية نداءه الى وقف الحرب العراقية – الايرانية ، التي من اجلها اعلنت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي حيادهما ، وتسوية الصراع العربي – الاسرائيلي عن طريق المفاوضات تحت اشراف مؤتمر دولي تساهم به الدول العربية
( بضمنها منظمة التحرير الفلسطينية ) واسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبعض الدول الاوربية . ولكون هذه المقترحات تروق للاقطار العربية المعتدلة مثل المملكة العربية السعودية والكويت والاردن والتي عبرت عن وجهات نظر مماثلة ، فقد استهدفت لتعزيز سمعة السوفييت في الشرق الاوسط .
غير ان سياسة السوفييت تجاه الخليج لم يعبر عنها فقط بمجرد تصريحات جريئة وبيانات ورعة . وكما حاولت الولايات المتحدة من خلال المحادثات الخاصة والرسمية مناقشة قضايا معينة ، فان الاتحاد السوفيتي بدأ باقامة اتصالات مع كافة اقطار الخليج تقريباً والاطراف المعنية الاخرى في المنطقة. ففي محادثات السوفييت مع سوريا وليبيا والجزائر ( اعضاء في جبهة الصمود والتحدي العربية ) حصل اتفاق على المقترح السوفيتي الذي بموجبه يصبح الخليج والبحر الابيض المتوسط ( مناطق سلام ) وذات حصانة تجاه التدخل الاجنبي . وبما ان ليبيا والجزائر بعيدة عن الخليج وان السبب الرئيسي لقلق ليبيا هو الولايات المتحدة ، اصبحت سوريا الوسيلة الاكثر ملائمة لنقل السلاح السوفيتي ، بين حين واخر ، الى ايران . من الجائز ، ان سوريا قد شجعت او لم تشجع على القيام بهذا الدور ، الا ان صراعها المرير مع حكام العراق يبدو انه السبب الرئيسي لهذا التصرف . ومع ان الاتحاد السوفيتي الصديق والحليف الموثوق لسوريا وليبيا واليمن الجنوبية ، الا انه لا يتمتع بنفس درجة الاعتبار في اقطار الخليج العربي ، رغم انه اقام علاقات دبلوماسية مع بعضها .
ان اقطار الخليج العربي متحمسة حول استقلالها المتحقق اخيراً وانها تميل لتأكيد حرية تصرفها بالنسبة لكافة قضايا امن الخليج . فمثلاً، ان قرار الكويت لاقامة علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي في عام 1981 لم يكن تعبيراً عن رغبته لان يكون صديقاً او حليفاً للاتحاد السوفيتي ، الا انه دليل من انه يبغي اقتفاء سياسة مستقلة خاصة به في تعامله مع القوى العظمى . وشجعت سياسة الموازنة والاعتدال هذه على قيام الكويت بدعوة كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لحماية ناقلاتها في مياه الخليج عندما تعرضت لتهديدات ايرانية عام 1987 . ومع ان عمان والامارات العربية المتحدة هما من دون شك مع الغرب ، الا انهما اتبعا النهج الكويتي في اقامة علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي في عامي 1985 و 1986 . يحتمل ان اقطار الخليج الاخرى سوف تتبع نفس الخطوات وذلك لكي تظهر تضامنها في سعيها وراء السلام والامن في الخليج .
ان المحاولة الاكثر اهمية في معالجة امن الخليج من قبل دول الخليج تمثلت في تأسيس مجلس التعاون الخليجي في شباط 1981 . ليس هدفنا مناقشة الاحداث التي قادت الى تأسيس مجلس التعاون الخليجي او تنظيمه واعماله لان ذلك سوف يبعدنا عن الموضوع الذي نحاول مناقشته . ان القضايا المتشعبة للسلام والامن والقرارات المتخذة لاحتواء الحرب وانهائها فقط سوف نتناولها في هذا البحث .(26)
ان فكرة النظام الامني الاقليمي ليست جديدة في الشرق الاوسط . لقد وردت ضمن نظام الجامعة العربية وميثاق الامم المتحدة . ويبدو ان فشل الجامعة العربية في تأمين امن ملائم قد شجع اقطار الخليج على صياغة نظام امني حتى قبل قرار بريطانيا الانسحاب من الخليج . ان اقطار الخليج العربي شجعت من قبل جيرانها العرب لتشكيل اتحاد عربي بتعاون مع المملكة العربية السعودية يقف كدعامة في الخليج ويعالج القضايا الامنية. 
كما ان المفاوضات لاقامة اتحاد فدرالي بين سبعة اقطار عربية ( البحرين ، قطر والمحيطات الساحلية الخمس ) قادت الى انشاء الامارات العربية المتحدة في عام 1971 المؤلفة من المحميات الساحلية
الخمس .(27)
وفي غياب التهديد الاجنبي الحقيقي ، فليس جميع اقطار الخليج العربي مستعدة الان للاتحاد او التعاون على المستوى الاقليمي فيما يخص الامن الجماعي ، ولم تتغلب على خلافاتها المحلية ومنافستها الموروثة في تكوين منظمة امن للخليج العربي الا بعد ان شكلت الحرب العراقية – الايرانية تهديداً حقيقياً لوجودها . وعندما اجتمع وزراء خارجية اقطار الخليج الثمان ( ايران ، العراق ، السعودية ، الكويت ، البحرين ، قطر ، الامارات العربية المتحدة وعمان ) في مسقط عام 1976 بمبادأة من عمان لمناقشة امن الخليج والدفاع ضد التدخل الاجنبي ، لم يستطيعوا التوصل الى اتفاق تام . ولم توافق اقطار الخليج العربي على تعاون اقليمي عربي شامل عندما اجتمعت في الكويت في نهاية ذلك العام . كما لم تجمع دول الخليج العربي الست ( بدون العراق ولو ان الكويت اقترحت ضمه ) الا بعد مضي خمس سنوات من بدء الحرب العراقية – الايرانية وبمبادرة من الكويت لتكوين اتحاد خليجي يعالج الامن ضمن اطار منظمة واجبها تعزيز التعاون التجاري والاجتماعي والثقافي . وبعد اجتماعات تمهيدية لوزراء خارجية اقطار الخليج العربي الست في شباط 1981 ، اولاً في الرياض وفيما بعد في الكويت ، تم اعداد ميثاق مجلس التعاون الخليجي اخيراً . وبعد مضي ثلاثة اشهر ( 26 آيار 1981 ) اجتمع رؤساء الدول الست في أبو ظبي لتوقيع الميثاق واعلن قيام مجلس التعاون الخليجي بشكل رسمي .
وحسب ما جاء في الميثاق ، ان اعمال مجلس التعاون الخليجي تتجسد في مفاهيم ( التعاون )
و( التنسيق ) و ( التكامل ) في النشاطات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ( الديباجة والمادة 4 ) بين الدول والاعضاء التي تقود للتقدم والتطور وبالتالي الوحدة كما مبينة في ميثاق الجامعة العربية . لهذا ، ففي تنظيمه واهدافه ، يمكن اعتبار مجلس التعاون الخليجي ( كاجراء اقليمي ) حسب ميثاق الامم المتحدة ( المواد 52 – 54 ) المصمم خصيصاً الى الخليج ، ولو ان غرضه ليس التعويض عن اعمال الجامعة العربية وانما
تكاملها .(28)
وبما ان الامم المتحدة والجامعة العربية لم تستطيعا القيام باي عمل في البداية لوقف حرب الخليج ، رغم النداءات الداعية لوقف اطلاق النار والتسوية السلمية ، الا انها احالت مسؤوليتها ، اما الدول الكبرى او لمجلس التعاون الخليجي لاحتواء الحرب ومعالجة مشاكل امن الخليج .
ان الدول الكبرى ، المؤلفة من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ، اعلنت مؤخراً عن حيادها تجاه حرب الخليج . وبموجب مبدأ كارتر ، تعهدت الولايات المتحدة بالدفاع عن منطقة الخليج في حالة تعرضه الى تدخل اجنبي ( سوفيتي ) فقط وحتى دعوة دولة خليجية او عدة دول لتقديم الاسناد العسكري . وفي مثل هذه الظروف ، ان مجلس التعاون الخليجي ملزم بمعالجة ليس متطلبات الحماية لاعضائه فقط ، وانما مشاكل امن الخليج العامة .
ان ميثاق مجلس التعاون الخليجي يشير الى امن الخليج بتعابير عامة فقط مثل التعاون والتنسيق في
( كافة المجالات ) ” الديباجة والنزاعات ” اللازم معالجتها من قبل هيئة تدعى ( هيئة تسوية النزاعات )
– المادة 10 – . ان هذه الهيئة مرتبطة مباشرة مع المجلس الاعلى المؤلف من رؤساء الدول الذي يعد اعلى سلطة في مجلس التعاون الخليجي تحال اليها جميع التوصيات ووجهات النظر ( تعرض اتخاذ الاجراء المناسب عليها ) – المادة 10 الفصل 4 – . اما المجلس الوزاري المؤلف من وزراء خارجية الدول الخليجية الست فهو العضو الذي يصيغ السياسة ويدرس المقترحات والخطط ويتلقى التوصيات والعروض المقدمة من اعضاء مجلس التعاون الخليجي واحالتها الى المجلس الاعلى لغرض المصادقة عليها . انيطت بسكرتارية مجلس التعاون الخليجي ( العضو العامل ) التي يقع مقرها في الرياض ، بمسؤولية كافة الاعمال الادارية والتنسيقية والفنية للمنظمة .
بالرغم من عدم اعلان قضايا الامن بالتفصيل في الميثاق ، الا ان التعاون والتنسيق العسكري كان يناقش دائماً منذ البداية وان مجلس التعاون الخليجي اخذ يوجه اهتماماً كبيراً الى هذه المواضيع كلما طال امد الحرب . ان خطط الدفاع المشتركة والجماعية قد عرضت وتمت الموافقة عليها من حيث المبدأ ، الا ان تطبيقها كان بطيئاً او انها قد تركت جانباً لحين اقتضاء الحاجة اليها . ابرمت اتفاقيات الامن المشترك بين السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي ( عدا الكويت ) في اوائل عام 1982 ( تم التأكيد عليها ثانية وزادت مدتها فيما بعد ) التي تنص على تبادل المعلومات العسكرية والتدريب والمعدات واجراء التمارين العسكرية المشتركة اضافة الى اعادة المجرمين .
تم تنفيذ التمارين العسكرية المشتركة من قبل لجنة عسكرية تشكلت لغرض تنسيق الجهود العملياتية . في عام 1983 ، وضع مجلس التعاون الخليجي خطة لتشكيل قوة ضاربة مشتركة سميت فيما بعد
بـ( درع الجزيرة ) حيث اجرت تمارين مشتركة في المنطقة الغربية من ابو ظبي في اواخر تلك السنة غرضها اظهار امكانية الجهود العسكرية المشتركة لمجلس التعاون الخليجي . جرت ممارسة هذه التمارين على نطاق واسع في منطقة حفر الباطن الواقعة في شمال شرقي السعودية حيث شارك فيها اكثر من (10000) عسكري ينتمون الى ست دول خليجية في مظاهرات عسكرية من مختلف الاشكال . ان القوة الضاربة المشتركة ، المنظمة على غرار قوة الانتشار السريع التي عهدت مسؤولية قيادتها الى السعودية كانت في البداية تجريبية . على اية حال ، ان مرابطة قوات صغيرة في حفر الباطن ( قرب الحدود الكويتية ) قد تثبت فائدتها كقوة رادعة في حالة توسع نطاق العمليات العسكرية في جنوب العراق والاسناد الذي تتلقاه من مصادر رسمية وغير رسمية .(29)
فيما يخص جميع القضايا المتعلقة بالامن الداخلي ( تبادل المعلومات حول نشاطات المخربين ، سفر الاجانب ، جوازات المرور وما شابهها ) يبدو انه ليس هناك اختلافات اساسية في الرأي . فنشاطات التخريب المبلغة من قطر الى اخر ستكون دائماً ذات فائدة وذلك لتحاشي وقوع اضطرابات مفاجئة . اما المسألة المتعلقة بالموضوع فهي تبادل المعلومات التي لوحظت سابقاً بين السعودية والبحرين بشأن اولئك الذين شاركوا في محاولة الانقلاب الفاشلة في البحرين في كانون الاول 1981 .
وبصدد القضايا المتعلقة بالامن الاقليمي ، فأن هناك اختلافاً في وجهات النظر حتى قبل قيام مجلس التعاون الخليجي . فعلى سبيل المثال ، ان الكويت المحاطة باقطار اكبر منها ، ركزت على الدبلوماسية في حسم الخلافات ، في حين ان عمان ، الواقعة في الجانب المعاكس من الخليج ، فضلت الاعتماد بالدرجة الرئيسية على القوة العسكرية . اما السعودية ، باعتبارها اكبر قوة عربية في الخليج طالبت بدمج اسلوبين بعد تأسيس مجلس التعاون الخليجي ، يبدو ان الاسلوب السعودي في ( الموازنة والاعتدال ) قد اصبح مقبولاً من ناحية المبدأ لكافة اقطار مجلس التعاون الخليجي ، وكل حسب متطلباته وموارده .
الا ان التعاون الامني لم يكن محصوراً بالستراتيجية والجهود العسكرية المشتركة وتضمن ايضاً مفاوضات مع القوى الاجنبية للحصول على مساعدة عسكرية واسلحة . هناك ثلاثة مصادر رئيسية لتجهيز اعضاء مجلس التعاون الخليجي بالسلاح : الولايات المتحدة ، اوربا الغربية والاتحاد السوفيتي .
ولتنسيق احتياجاتهم وخططهم العسكرية حسب منظومات اسلحتهم ، فقد اقتضت الضرورة الحصول على اسلحة من المصدر الرئيسي . على اية حال ، ان الاعتماد على المصدر الرئيسي رغم كافة فوائده العسكرية قد يصبح عائقاً فيما لو نشأت خلافات سياسية بين المجهز والمشتري تؤدي بالتالي الى انقطاع غير متوقع في بيع السلاح . وكما اتفق ضمناً ، ان تنوع مناشئ السلاح سيكون ضرورياً وذلك لتجنب الاعتماد على مصدر واحد للتجهيز .
ان السعودية ، التي تواجه معارضة من الكونغرس بسبب تشريعات تخص سلامة اسرائيل ، قررت تنويع اسلحتها بشراء طائرات مقاتلة من بريطانيا وفرنسا ، ولو انها تفضل شراء جميع اسلحتها وتجهيزاتها من الولايات المتحدة . وبصرف النظر عن السعودية ، قامت الولايات المتحدة بتزويد تجهيزات محدودة من السلاح الى البحرين والامارات العربية المتحدة . اما عمان ، التي تتمتع بصداقة بريطانيا منذ القديم، فقد فضلت شراء الاسلحة البريطانية واستخدام الخبراء العسكريين البريطانيين في تدريب جيشها . وبصرف النظر عن العراق، ان الكويت هي القطر العربي الوحيد في الخليج الذي قام بشراء اسلحة من الاتحاد السوفيتي لعل المجال الاخر للتعاون العسكري سيكون تأسيس صناعة اسلحة مشتركة . ومع ان البدايات المتواضعة لكل من العراق ومصر اثبت بالاساس انها تجريبية، الا انهما البلدان اللذان يمتلكان هذا اليوم اكبر امكانية لتطوير صناعات اسلحة وطنية . يبدو ، ان مجلس التعاون الخليجي قد بحث بشكل جدي الحاجة الى صناعة اسلحة وطنية بالتعاون المحتمل مع الاقطار الاسلامية والعربية مثل مصر وتركيا والباكستان .
وبالرغم من تخصيص الاعتمادات المالية ، الا ان المدة ستكون طويلة قبل ان تكون صناعة الاسلحة جاهزة لتأمين اسلحة مطورة جداً تلبي المتطلبات العسكرية العربية .
     اما بشأن الحرب العراقية – الايرانية ، التي تعتبر المشكلة الكبرى لامن الخليج ، فقد حاول مجلس التعاون الخليجي معالجتها على مستويين :
1. احتواء الحرب عن طريق اجراءات دفاعية .
2. انهاء الحرب من خلال جلب كلا الطرفين الى طاولة المفاوضات .
وكما لاحظنا سابقاً ، ان الاول قد تمت معالجته ، اما بشكل فردي او جماعي . قبل عام 1982 ، عندما كانت القوات العراقية لا تزال تقاتل في الاراضي الايرانية ، بدت الحرب وكأنها صراع بين دولتين خليجيتين ساحليتين ، ولو ان الغارات الجوية كانت تخطئ اهدافها وتصيب المراكز المدنية وتعرقل عمل السفن في الخليج وعلى وجه التحديد ، ان موقف مجلس التعاون الخليجي يمكن وصفه بانه حيادي ، طالما اتخذ موقفاً دفاعياً وامتنع عن تجهيز السلاح الى احد الطرفين ، ولو ان تعاطفه كان من البديهي مع العراق بسبب العلاقة الايدلوجية . ان عدداً من دول مجلس التعاون الخليجي ، لا سيما السعودية والكويت ، قدمت مساعدات مالية وحتى اسناداً ميدانياً ، الا ان كل واحدة نفذت ذلك من تلقاء نفسها وليس نيابة عن مجلس التعاون الخليجي .
اما الهدف الاخر لمجلس التعاون الخليجي ( انهاء الحرب ) فهو حق مقصور على اي طرف ثالث بشرط ان يحاول تحقيقه عن طريق الدبلوماسية وليس اللجوء الى استخدام القوة . صحيح ، ان مجلس التعاون الخليجي وضع اجراءات دفاعية وليس غرضها مساعدة طرف او اخر . ان الدبلوماسية كانت وما تزال الوسيلة الوحيدة التي يوصي بها مجلس التعاون الخليجي ، اما بشكل فردي او التعاون والتشاور مع دول اخرى ، في اقناع الطرفين بقبول وقف اطلاق النار وتسوية خلافاتهما ، في الحقيقة ، وجه النقاد لوماً الى مجلس التعاون الخليجي من كون حتى مساعيه الدبلوماسية معتدلة ولم يستخدم الموارد المتاحة له بشكل كامل . مع ذلك ، ان المحاولات التي بدأت في اوائل عام 1982 لم يتم التخلي عنها لحد الان .
في حزيران 1982 ، عندما قرر العراق سحب قواته من الاراضي الايرانية ، رفضت ايران قرار مجلس الامن الداعي ثانية الى وقف اطلاق النار ونقل المعركة الى الاراضي العراقية بعد مضي شهر واحد . ان الاقطار العربية ، في جلسات القمة في فاس في شهر ايلول ، وصفت ايران بالمعتدي ، الا ان مجلس التعاون الخليجي لم يتخذ اي اجراء ، عدا التعبير بالقلق لبعض اعضائه . مع ذلك ، عندما فشلت الهجمات الايرانية واظهر العراق قابليته في ردها ، بدأ مجلس التعاون الخليجي يدرك بجواز اطالة امد الحرب . وناقش كون الطريقة الوحيدة لانهاء الحرب هي الدبلوماسية .
يبدو ، ان بعض الاعضاء قد اقترحوا ان اتفاقية اشبه بخطة مارشال ( تعويض الطرفين ) قد تذكر العراق وايران ، ان الوقت حان لتحويل جهودهما من التخريب الى الاعمار .
ان الفكرة ، من ان نوعاً من التعويض ربما يلعب دوراً في حل النزاع ، قد طرحت لاول مرة من قبل السفير الايراني في الامم المتحدة في اوائل ايار 1982 .
عقدت عدة اجتماعات بين وزراء مجلس التعاون الخليجي ، وان تصريحات استرضائية نشرت في الصحف . واعلن بشكل غير رسمي عن استعداد مجلس التعاون الخليجي لتقديم مقادير من الاموال تتراوح ما بين ( 10 – 25 ) مليار دولار امريكي الى ايران لغرض اعادة بناء المنشآت فيما لو حصل اتفاق لوقف اطلاق النار على الجبهة . وبالرغم من ان عرض المال قد نفي علناً ، الا ان طلب وقف اطلاق النار لم ينف ابداً ، كما لم ترفض ايران مباشرة اقتراح مجلس التعاون الخليجي .
في الحقيقة ، ان الاشخاص في المناصب العليا بضمنهم الرئيس خامنئي قد ادلوا بتصريحات اشاروا فيها الى ان خسائر ايران في الحرب قد بلغت اكثر من (150) مليار دولار امريكي . كما اشاروا من ان التعويضان ينبغي ان تدفع من قبل العراق وليس من قبل طرف آخر ، الا انه يبدو ان مجلس التعاون الخليجي لم يقدم طلبات اخرى ، ولو ان محاولات التوسط بقيت
مستمرة .(30)
خلال السنتين اللاحقتين من 1983 الى 1985 ، قام وزراء خارجية الكويت والسعودية والامارات العربية المتحدة بمهام وساطة وذلك للحد من ضراوة الحرب ( حرب الاستنزاف في البر والبحر بضمنها قصف محطات ومصافي النفط مثل جزيرة خرج والهجمات على الناقلات ) .(31)
ويبدو انهم قد احرزوا تقدماً لحد ما عقب زياراتهم لكل من بغداد وطهران والعواصم العربية الاخرى والتي ظهرت بشكل تصريحات رسمية كما في بلاغ المجلس الوزاري المنعقد في مسقط وعمان في
6 تشرين الثاني 1985 .(32)
مع ذلك ، لم يحصل اي تغير في الموقف الايراني . وبالعكس ، ان ايران حذرت اقطار مجلس التعاون الخليجي دائماً بالابتعاد عن العراق وعدم مساندته مالياً فضلاً عن ذلك ، حصلت عدة عمليات ارهابية في اقطار مجلس التعاون الخليجي ، لا سيما الكويت والمملكة العربية السعودية ، نتج من جرائها اصابات لعدد من الاشخاص . ففي 25 آيار 1985 ، نجا الشيخ جابر احمد الصباح امير الكويت من محاولة اغتيال اكيدة وادعت منظمة الجهاد الاسلامية مسؤوليتها عن الحادث . بالطبع ، ان هذه الاعمال التخريبية بقيت مستمرة .
ان الفشل في جلب الجارين الى طاولة المفاوضات شجع اعضاء مجلس التعاون الخليجي لمناشدة الدول العظمى ، اما بشكل فردي او جماعي من خلال الامم المتحدة ضغط على ايران لقبول وقف اطلاق النار . وبهذا العمل ، كشف مجلس التعاون الخليجي عن ان المساعي الاقليمية خلال فترة الازمات ، غير كافية لحفظ السلام والامن . ولكن ، قبل تناول مسألة تورط الدول العظمى في حرب الخليج ، ينبغي ان نناقش كيف انها اقحمت فيها .
ان اي دراسة حول حرب الخليج لا تعتبر متكاملة دون التطرق بايجاز عن دور النفط في الحرب . في الحقيقة ، ان تأثير النفط على الحرب لا يمكن المبالغة في التأكيد عليه – وبصرف النظر عن كونه مصدراً اساسياً للطاقة في الحرب الحديثة ، فهو بضاعة مهمة تحظى بطلبات كبيرة من قبل الدول الصناعية في العالم . ان اي محاولة لعرقلة جريان النفط الى الاسواق الغربية يحتمل ان يدعو الى تدخل اجنبي . وبما ان العراق وايران قطران مصدران للنفط ، فقد حاول كلاهما استخدام النفط كسلاح في مجابهتهما العسكرية . ان هذا الموقف قد اتجه الى اطالة الحرب وان القطرين لم يدركا ان نتيجة الحرب ستتوقف لا على الستراتيجية والامكانية العسكرية فحسب ، وانما على النفط كسلاح في الدبلوماسية . وفي المعادلة بين الاثنين ( الدبلوماسية والحرب ) ان الاخير لا يمكن كسبه من دون الاعتماد على الاول .
لقد ادعى بعض خبراء الجيوبولتك ( الجغرافية السياسية ) ان نتيجة حرب الخليج على المدى البيعد يحتمل ان تكون لصالح ايران وذلك بسبب تفوقها في الموارد البشرية وعمقها الجيوستراتيجي وعلى افتراض ان حكام ايران سوف لا يترددون باللجوء الى الدبلوماسية في علاقاتهم مع الدول العظمى . وفي التجارب البشرية ، فقد استخدمت الدبلوماسية في تحقيق السبب الجوهري ( المصالح القومية ، القيم والعقيدة ) ، الا ان في هذا اليوم يبدو ان خبراء الجيوبولتك قد قلصوا السبب الجوهري الى المتغيرات الجغرافية والسياسة الخارجية دون مراعاة الامور الاخرى كالدينية وما شابهها ، التي ما تزال مهمة للحكام الذين لا يحترمون المقاييس الايجابية والدنيوية . ولكي نفهم موقف الحكام الثوريين في ايران من القوى العالمية ، فان المتغيرات الذاتية ينبغي النظر اليها بصورة جدية .
عندما بدأت الحرب ، اعتقد المتفائلون ان الحرب سوف لا تدوم طويلاً وذلك بسبب التفوق العسكري للعراق والفوضى التي عمت في الجيش الايراني عقب الثورة . لو ان العراق سعى بجد لتحقيق انتصاراته الاولية وان الاقاليم الايرانية الساخطة على الوضع استجابت عن طريق العصيان ، فان العراق لربما كانت لديه فرصة لاحراز نصر سريع . مع ذلك ، ان ايران لم تكن بطيئة في مهاجمة العراق في جبهات اخرى . وحالما اجتازت القوات العراقية الحدود قامت ايران بتدمير موانئ النفط في رأس الخليج ( الفاو ، ميناء البكر وام قصر) واوقفت شحن النفط من خلال مياه الخليج . ومع ان خط النفط السوري عبر الصحراء بقي مفتوحاً في بداية الحرب الا انه اغلق بعد فترة وجيزة .
ان خط الانابيب الوحيد الذي ما زال مفتوحاً هو المار في تركيا . لهذا ، ان صادرات النفط العراقي انخفضت مباشرة من (3.5) مليون برميل يومياً قبل الحرب الى (650000) برميل في اليوم بعد اندلاع الحرب وقبل ان يكون العراق قادراً على اجراء ترتيبات بديلة لزيادة صادراته النفطية ، كان لا بد له من استيراد النفط لسد احتياجاته العسكرية والاقتصاد في العملات الصعبة في البنوك الاجنبية لتلاقي العجز في الميزانية – فضلاً عن ذلك ، ان العراق كان مسنداً من قبل اقطار الخليج العربي ، وبالاخص السعودية والكويت اللتين ساهمتا بما يزيد عن ( مليار دولار امريكي في الشهر ) قبل ان يكون العراق قادراً على زيادة صادراته النفطية بعد عامين . في حزيران 1982 ، قام العراق بسحب قواته من ايران على امل ان يكون وقف اطلاق النار وتسوية الخلافات بين البلدين بالطرق السلمية مقبولة من جانب ايران . وبعكس التوقعات ، بدأ النظام الايراني بشن هجماته التعرضيه. ان الحرب انتقلت من المرحلة الاولى التي كانت تقتصر على عمليات برية الى مرحلتها الثانية التي امتدت الى جبهة واسعة تورطت فيها في البداية دول الخليج ومن ثم الدول العظمى تدريجياً . وخلال المرحلة الاخيرة استخدم النفط بفعالية اكثر باعتباره وسيلة دبلوماسية .
وقبل ان يستطيع العراق ان يلعب ورقته النفطية ، كان لا بد عليه من اجراء ترتيبات بديلة بالنسبة لموانئ النفط التي فقدها في بداية الحرب. لقد حقق ذلك الهدف بمرحلتين :
1. انشاء خطوط انابيب جديدة وزيادة سعة الانابيب الموجودة الى الاقطار المجاورة الصديقة .
2. محاولة رفع حصة انتاج النفط المخصصة له من قبل الاقطار المصدرة للنفط .
ان الهدفين مرتبطان تماماً ، طالما ان تطبيق الاخير يتوقف على سعة خطوط الانابيب التي تدفع النفط الى الموانئ .
فيما يتعلق بالهدف الاولى ، بدأ العراق بزيادة صادراته النفطية عن طريق تركيا وسوريا . اقدمت سوريا على ان تسمح بتصدير النفط حسب اتفاقية آذار 1982 ، الا ان الترتيبات لم تدم طويلاً ، طالما ان خط الانابيب اغلق بعد ثلاثة اشهر . اثبتت تركيا بانها اكثر ثقة وان سعة خط الانابيب من كركوك الى ميناء سيحان على البحر الابيض المتوسط زادت من (650000) برميل في اليوم الواحد الى حوالي (1.3) مليون برميل في اليوم الواحد خلال عام 1983 . ابرمت اتفاقية اخرى في عام 1985 وقد نصت على انشاء خط انابيب يمتد بشكل مواز الى الاول على ان ينجز في عام 1987 ، الذي سيرفع سعة النفط المصدر الى مليون برميل آخر في اليوم . اما المشروع الثاني ، الذي تم الاتفاق عليه فكان مع السعودية في عام 1984 ، يتلخص بربط خط الانابيب الموجود في الجهة الشرقية الغربية مع حقول النفط العراقية الجنوبية في الزبير التي بدأت في عام 1985 بضخ (300000) برميل في اليوم كمعدل اولي ثم ازدادت الى (500000) برميل في اليوم في عام 1985 .
ان انشاء خط الانابيب الشرقي – الغربي الموازي للاول الذي اتفق على انجازه في نهاية عام 1987 سوف يسمح للعراق بتصدير (1.6) مليون برميل في اليوم عن طريق السعودية . يتوقع ان الناتج الكلي لخطوط الانابيب السعودية والتركية بعد اكمالها ستزيد طاقة النفط المصدر الى حوالي (4.5) ميلاً يمر بالاردن ويبدأ من حقول النفط في شمال العراق الى ميناء العقبة  على البحر الاحمر بسعة مليون برميل في اليوم الواحد.
ان هذا الخط الذي تم الاتفاق عليه مؤخراً بين العراق والاردن ( يقوم العراق بدفع كلفة انشاء خط الانابيب المار في اراضيه الذي طوله 200 ميل تقريباً ويدفع الاردن كلفة بقية خط الانابيب الذي طوله 350 تقريباً ) ، الا ان مفاوضات انشاء خط الانابيب مع الشركات الامريكية ( تحت اشراف شركة بكتل ) قد تأخرت بالشرط الذي يلغي التزامات اعادة الدفع في حالة تدخل اسرائيل بعملية الانشاء او تشغيل خط الانابيب لو قررت سوريا السماح بضخ النفط من العراق فإن (500000) برميل اخرى ستضاف الى طاقة تصدير النفط العراقية . ولو استخدمت جميع خطوط الانابيب ( التركية ، السورية ، الاردنية والسعودية ) واستثناء الموانئ العراقية في منطقة البصرة فإن سعة التصدير العراقية سوف تتجاوز احتياجات العراق وتكون اكبر مما طمحت لتصديره قبل الحرب .
اما الهدف الثاني هو زيادة الحصة المقررة لتصدير النفط العراقي من قبل منظمة الاقطار المصدرة للنفط ( أوبك ) . ففي بداية الحرب ، كانت امكانية العراق لتصدير النفط لم تتعد (650000) برميل في اليوم ، ولو انه من ناحية المبدأ مخول بحصة قدرها (1.2) مليون برميل في اليوم الواحد .
ان حصة العراق بقيت على حالها حتى عام 1985 عندما طالب بزيادتها ، الا ان اي قرار لم يتخذ بشأن ذلك . في عام 1986 ، طالب العراق ثانية بزيادتها ، طالما ان حصة ايران ارتفعت الى (2.5) مليون برميل في اليوم . وفي رسالة بعث بها صدام حسين الى ممثل منظمة الدول المصدرة للنفط طالب بالمساواة مع ايران وناقش ان متطلبات العراق ينبغي قياسها لا بالمعايير البشرية فحسب ، وانما بمتطلباته الدفاعية . وبما انه لم يتخذ قراراً بذلك لتلبية الطلب العراقي ، ابلغ العراق منظمة الدول المصدرة للنفط انه سوف لا يكون متقيداً بتخصيصات الاوبك . على اية حال ، افاد الممثل العراقي في الجلسة الختامية لمنظمة الدول المصدرة للنفط في عام 1987 ان صادرات النفط الايرانية لم تكن متماشية دائماً مع تخصيصات الاوبك . يبدو ، ان العراق قرر ان تكون حصته النفطية من ناحية المبدأ ، مساوية لايران .(33)
وبينما كان العراق ما يزال يصارع مشكلة زيادة حجم النفط المصدر ، لم يتوان عن محاولة توضيح نواياه وانهاء الحرب بالطرق السلمية حسب قرار الامم المتحدة . في الحقيقة ، حاول كسب تأييد الدول العظمى وكافة الدول التي لها مصلحة في منطقة الخليج ( لممارسة ضغط على ايران لاجل قبولها بوقف اطلاق النار ) .
على اية حال ، قبل ان يبدأ الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة بالتوجه نحو العراق ، كان لديهما علاقات ناجحة واحباطات مع ايران . ( ولو ان الاتحاد السوفيتي لم يقطع علاقاته مع ايران ) . انتهز العراق فرصة سوء العلاقات السوفيتية والامريكية مع ايران لتتمكن من الاستفادة منها في توجيه سياسته النفطية . وقام وزير خارجية العراق الجديد المعروف بمرونته ودهائه بزيارة موسكو في تموز 1982 بعد فترة قصيرة من توليه المنصب ونجح في الحصول على موافقة السوفييت لاستئناف شحن الاسحلة الى العراق . ووافق الاتحاد السوفيتي على منح العراق قرضاً بقيمة تزيد عن (2) مليار دولار في عام 1983 وآخر بـ(2) مليار دولار في عام 1985 على ان يدفع بالنفط الخام . كما زار طارق عزيز فرنسا واختتمت مفاوضاته بعقد اتفاقيات في عامي 1983 و 1985 وتمويل شراء طائرات ( الميراج وسوبر اتندارد ) وصواريخ جديدة
( اكزوسيت ) التي شرع العراق بشرائها في فترة مبكرة .
في شهر تشرين الثاني 1984 ، استأنف العراق علاقاته الدبلوماسية مع الولايات المتحدة . ان هذه الخطوة، التي سمحت للعراق بشراء التقنية الامريكية غير المحظورة على المقاتلين ، كانت اشارة لاستعداد امريكا للتعاون مع العراق . وبما ان السياسة الامريكية كانت دائماً متجاوبة مع نداءات مجلس الامن التابع للامم المتحدة الداعية لوقف اطلاق النار وتسوية الخلافات بالطرق السلمية ، فان استئناف العلاقات الدبلوماسية قد وصف في الصحف الامريكية على انه ( انحياز ) تجاه العراق.
مع ذلك ، بدأ الانحياز في البداية مجرد اشارة رمزية لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ، وليس وبالضرورة تغيير الحياد التام للولايات المتحدة في الحرب . ورغم محاولات تعزيز التعاون العراقي – الامريكي ، الا ان الجماعات المؤثرة والصديقة لايران عارضت الانحياز وناقشت من ان ايران من الناحية الجيوبوليتكية اهم من العراق مما جعلت صانعي السياسة مترددين حول تبديل الحياد الامريكي التام . في غضون ذلك ، قام الرأي العام بالتعبير عن قلقه الدائم في الصحف حول الرهائن الامريكان في لبنان . ان النشاطات الارهابية في لبنان والاقطار الاخرى هي ليست احداث جديدة في الشرق الاوسط ، الا انها نوقشت في علاقتها مع التأثير الايراني على الارهابيين الشيعة في لبنان ، ولو ان ايران كانت تشجع النشاطات التخريبية للشيعة في العراق واقطار الخليج الاخرى ، طالما ان الثورة الاسلامية بدأت عام 1979 . عرض على الرئيس ريغان اقتراح من ان مبادرة ودية ( تسليم اسلحة ومواد احتياطية ) ربما تدفع ( المعتدلين ) لاستئناف علاقات ايران مع الولايات المتحدة .
على اية حال ، ان الاتصال مع ايران جرى عن طريق سبل خفية وفشلت في تحقيق هدف صانعي السياسة الموالية لايران ، طالما ان ( المعتدلين ) الايرانيين الذين قبلوا باستلام الاسلحة
( ان هدفهم الوحيد هو صفقة السلاح ) امروا باطلاق سراح ثلاثة رهائن فقط وان موقفهم تجاه الامم المتحدة ، على ما يبدو ، لم يتغير عن موقف ( المتطرفين ) . ان المغامرة الايرانية الطائشة التي سميت من سخريات القدر ( بايران كيت ) لا تزال ناقصة وان القصة الكاملة لم تكشف لحد الان .
اصبحت اللحظة ملائمة بالنسبة للعراق لكي يقنع ادارة ريغان بتجسيد الانحياز نحو العراق وجعله ذا مغزى اكبر . يمكن القول ، ان حادثتين شجعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على اتخاذ اجراء اكثر صراحة في حرب الخليج .
في اوائل عام 1987 ، قامت الكويت ، التي اصبحت ناقلاتها النفطية هدف الهجمات المتزايدة ، بدعوة كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ( وربما دول اخرى ) لحماية ناقلاتها خلال مرورها في الخليج ولعل ومن غير المدهش ، ان الاتحاد السوفيتي ، المعروف برغبته في التواجد في الخليج ، قبل بالدعوة حتى قبل دراسة المسألة من قبل الولايات المتحدة . ومقابل هذا التحدي ، لم يكن بامكان الولايات المتحدة رفض الدعوة من قطر خليجي معروف باعتداله وتوازنه . وفي الوقت الذي وافقت ادراة ريغان من ناحية المبدأ على رفع الاعلام على احدى عشرة ناقلة كويتية وحمايتها في الخليج ، فقد حذرت من قبل الكونغرس بعدم التورط الشديد في شؤون الخليج . قرر ريغان ضمان سريان النفط وناشد حلفاءه الاوربيين بالمشاركة وذلك لكي يكون التنفيذ دولياً ولا ينحصر بالمنافسة بين الدول العظمى .
وافقت بريطانيا وفرنسا اللتان تتواجد سفنهما الحربية في الخليج لحماية ناقلاتهما ، على اجراء ريغان بشكل فردي وليس جماعي . ان الاجراء الجماعي المنفذ من قبل القوى العالمية عن طريق الامم المتحدة من المؤكد ان يكون له تأثير سياسي ومعنوي كبير على كافة اقطار الخليج ويحقق تعاوناً كبيراً لانهاء الحرب . الا ان القرار الملزم لمجلس الامن المتخذ في 20 تموز 1987 ، الذي سنعود اليه فيما بعد ، لا بد من تطبيقه بنفس روح التعاون السائدة بين الدول العظمى التي اخرجته الى حيز الوجود .
كانت الحادثة الثانية هي مهاجمة السفينة الامريكية ( ستارك ) التي نفذها طيار عراقي عن دون قصد في 17 آيار 1987 . لقد تم تحذير القيادة البحرية الامريكية من ان مجرد وجود سفينة حربية امريكية في الخليج قد تكون غير كافية لحماية الناقلات من دون حماية جوية وبحرية امريكية في حالة اشتباك مع قوة مهاجمة . ان وجود قوة عسكرية امريكية في الخليج ، مما تزيد من احتمال غلق مضيق هرمز والاجراءات الانتقامية مثل زرع الالغام البحرية والهجمات على الناقلات بالصواريخ ، ربما يجعل القوات الامريكية وجهاً لوجه مع ايران . وتتلخص السياسة الرسمية للولايات المتحدة باتباع ( عملية ستونج ) التي تضمن الملاحة الحرة في الخليج عن طريق حماية الناقلات الكويتية . على اية حال ، لو تعرضت لاخطار ، هل ان القوات الجوية والبحرية الامريكية سترد بمهاجمة المنشآت الايرانية ؟
ان التدخل في موقف كهذا قد يصبح محتوماً كاجراء دفاعي . اما بخصوص انهاء الحرب ، فان السياسة الامريكية تهدف الى البحث عن تعاون مع الدول الكبرى الاخرى عن طريق الامم المتحدة . في الحقيقة، انها اسلم طريقة ، ليس للحد من المنافسة بين الدول العظمى فحسب ، وانما للاستعانة بتعاون اقطار الخليج في جهود انهاء الحرب .
 
الهوامش

1. فيما يتعلق بمناقشة ظروف الخليج والقرصنة كمتغير للاستياء ضد التدخل الاجنبي ، راجع كتاب سلطان محمد القاسمي ( خرافة القرصنة في الخليج – لندن 1986 ) / ومحمد م. عبد الله ، الامارات العربية المتحدة ، لندن 1978 .
2. استعادت فارس سيطرتها الكاملة على منطقة الساحل بعد الحرب العالمية الاولى . اما العراق ، باعتباره خلفاً للامبراطورية العثمانية ، فقد خضع للانتداب البريطاني قبل ان يصبح مستقلاً عام 1932. وبالنسبة للمشايخ الخليجية الاخرى ( الكويت ، البحرين ، قطر والمحميات الساحلية
الامارات العربية المتحدة) اصبحت مستقلة بعد الحرب العالمية الثانية – فيما يخص السياسة البريطانية خلال الحقبة قبل ان تحقق دول الخليج استقلالها ، راجع كتاب ارنولد ولسون ( الخليج الفارسي ) اوكسفورد 1928 / وكتاب جون مارلو ( الخليج الفارسي في القرن العشرين ) اوكسفورد 1962 .
3. في اوائل عام 1970 ، ربما كان العراق شريكاً الا ان انشغاله بالامور الداخلية ، ولا سيما القضية الكردية ، حولت اهتمامه من شؤون الخليج الى السيطرة على شط العرب وتسوية مشاكل الحدود . ان مساهمته في امن الخليج بدأت تتجلى في اواخر عام 1970 عقب اتفاقية الجزائر (1975) .
بالنسبة لمناقشة اعتماد اقطار الخليج العربي الواحد على الاخر في جميع قضايا الامن والتعاون التجاري والاجتماعي والموارد المادية والبشرية ، راجع كتاب هاشم الابراهيم ( الخليج والوطن العربي – المستقبل العربي – بيروت 1984 – العدد 7 – الصفحات 4 – 9 ) .
4. بالنسبة لقيام ايران بضم الجزر الثلاث ، راجع كتاب جاسم م. عبد الغني ( سنوات الازمة ) لندن 1984 الصفحات 89 – 94 .
5. فيما يتعلق باهداف الجامعة العربية والاحداث المؤدية الى تأسيسها في عام 1945 ، راجع كتاب أي . ام . جمعة ( الاساس لدول الجامعة العربية ) لندن 1977 .
6. بالنسبة للمركز القانوني للجامعة العربية وعلاقتها بالامم المتحدة ، راجع مقال مجيد خدوري
( الجامعة العربية كاجراء اقليمي ) في مجلة القانون الدولي الامريكية العدد 40 – 1946 – الصفحات 756 – 777 .
7. فيما يخص نص الحديث الذي جرى بين مولوتوف رئيس مجلس المصالح الشعبية والشؤون الخارجية في الاتحاد السوفيتي وفون روبنتروب وزير الخارجية الالمانية في برلين بتاريخ
12 تشرين الثاني 1940 ، راجع كتاب ار . اس . سونتك و بي . اس بيدي ( العلاقات النازية – السوفيتية ) 1939 – 1941 – واشنطن 1948 – صفحة 222 .
8. بالنسبة لنص التصريح ، راجع سجل الوثائق الى بي . سي . هيورفتز ( الشرق الاوسط وشمال افريقيا في السياسة الدولة ) نيوهيفن كاناتيكا ولندن 1979 –  ص 222 .
9. راجع كتاب محمد رضا بهلوي ( جوابا ) الى التاريخ ( نيويورك 1980 ص 13 ) .
10. راجع كتاب سايرس فانس ( الخيارات الصعبة – سنوات حرجة في السياسة الخارجية الامريكية ) نيويورك 1983 – الصفحات 388 – 389 .
11. تسمى الحرب الافغانية في انكلترا ( اللعبة الكبرى ) التي حصل بنتيجتها ليس استقلال افغانستان فحسب ، وانما اصبحت دولة حاجزة ، راجع كتاب دبليو . كي . فريزر تايلر ( افغانستان ) دراسة التطور في آسيا الوسطى – لندن 1950 – الفصلين 7 ، 9 .
12. راجع كتاب بريجسنكي ( القوة والمبدأ ) نسخة منقحة – نيويورك 1985 – ص 444 .
13. المصدر نفسه – ص 446 .
14. قال كارتر في خطابه امام الاتحاد ( اننا مستعدون للعمل مع الاقطار الاخرى في المنطقة وصياغة اطار للتعاون الامني الذي يحترم القيم المختلفة والمعتقدات السياسية ويعزز استقلال وامن ورفاه الجميع ) .
15. بريجسنكي ( القوة والمبدأ ) ص 447 .
16. بالنسبة للتصريحات حول السياسة الامريكية تجاه الخليج ، راجع جلسات لجنة الشؤون الخارجية للكونغرس امام اللجنة الفرعية الاوربية ولجنة الشرق الاوسط للشؤون الخارجية ولجنة الاقتصاد المشترك ( جلسة الكونغرس 97 في 10 آيار 1982 واشنطن دي . سي 1983 ) .
17. راجع كتاب الكسندر هيغ ( الحذر ) ريغان والسياسة الخارجية – نيويورك 1984 – الفصل 9
18. قدرت كلفة تهيئة الخليج للعمليات العسكرية ضد التدخل الاجنبي عام 1982 بحوالي (163) مليار دولار امريكي . لهذا السبب ، ان مبدأ كارتر شرع مبدأ الدفاع بالمعنى الضيق مقابل التدخل السوفيتي وليس قطر خليجي ضد آخر ( الكونغرس الامريكي ، لجنة الكونغرس للشؤون الخارجية ” السياسة الامريكية تجاه الخليج الفارسي ” شهادات امام اللجنة الفرعية عن اوربا والشرق الاوسط ) الصفحات 21 – 28 .
19. فيما يتعلق بمثال نموذجي لانتقاد السياسة الامريكية – السعودية خلال فترة حكم كارتر ، راجع كتاب صادق جلال العظم ( سياسة كارتر ومؤيدو الموقف السعودي ) بيروت 1977 .
20. راجع كتاب عبد الكريم منصور ( اسم مستعار لمسؤول سابق في وزارة الخارجية ) ” الخطر الامريكي تجاه المملكة العربية السعودية ” مجلة القوات المسلحة الامريكية الدولية – ايلول 1980 – الصفحات 47 – 80 . مجلة الشؤون الخارجية مقال كريستوفر فان هولن ( لا تطوق الخليج ) صيف 1981 . روبرت دبليوتكر ( القوة والخليج الفارسي ) تشرين الثاني 1980 الصفحات 25 – 41 .
21. فيما يخص المقترحات من ان بعض فقرات الصفقة السعودية قد تحجب او يقيد استخدامها ، صرح الامير سلطان وزير الدفاع السعودي ( لا يمكن للسعودية القبول برفض اي مادة من هذه
الفقرات ) وقال هيغ ( اخبرتنا السعودية من انها لا يمكن ان تقبل ببعض التقييدات المقترحة حول استخدام طائرات الانذار المبكر ) ، ( الحذر ) الصفحات 168 – 188 .
22. بالنسبة للجدال حول بيع اسلحة للسعودية ، راجع محاضر جلسات اللجنة الخارجية للكونغرس
( شهادة امام اللجنة الفرعية للشؤون الخارجية واللجنة الفرعية للشؤون العلمية والامنية الخاصة باوربا والشرق الاوسط ) دورة 97 الجلسة 1 – واشنطن دي . سي 1981 .
23. راجع كتاب هيغ ( الحذر ) الصفحات 189 – 190 .
24. المصدر نفسه ، لشرح ان هذا التصريح لا يتضمن نوايا امريكية للتدخل في شؤون السعودية ، راجع الملاحظة (18) اعلاه .
25. بالنسبة لبيع الصواريخ ، راجع محاضر جلسات اللجنة الخارجية للكونغرس ( الدورة 99 –
الجلسة 2 ) 22 – 23 نيسان 1986 واشنطن دي . سي 1986 .
26. لدراسة تنظيم واعمال مجلس التعاون الخليجي ، راجع كتاب عبد الله فهد النفيسي ( مجلس التعاون الخليجي ) لندن 1982 . كذلك، اميل دخله ( مجلس تعاون الخليج العربي ) نيويورك 1986 .كذلك، جون اي . ساندوك ( مجلس التعاون الخليجي – الاعتدال والاستقرار في عالم الاعتماد المتبادل ) بولدر – كولورادو 1987 .
27. فيما يتعلق بالخطوات المتخذة لتأسيس الامارات العربية المتحدة ، راجع كتاب مجيد خدوري
( الشخصيات العربية في السياسة ) واشنطن . سي 1981 – الفصل 7 .
28. ان المثل الكلاسيكي لقيام الجامعة العربية بتسوية نزاع بين بلدين خليجيين حصل عام 1961 عندما هدد العراق بضم الكويت اليه على أساس تاريخي. ( لمناقشة طلب العراق بالسيادة على الكويت )، راجع كتاب مجيد خدوري ( العراق الجمهوري ) لندن 1969 – الصفحات 166 – 173 .
29. راجع كتاب جون كرستي ( تاريخ وتطور مجلس التعاون الخليجي ) نظرة موجزة / ساندويك
( مجلس التعاون الخليجي ) ص 18 – 19 / جون ئي . بيترسون ( مجلس التعاون الخليجي والامن الاقليمي ) المصدر نفسه ص 195 – 197 .
30. راجع مقال فريد . ايج . لوسن ( العقوبات الموجبة وادارة العقوبات الدولية ) المجلة الدولية 40 – خريف 1985 – ص 628 – 654 .
31. اصبحت الكويت منطقة للنشاطات التخريبية تقريباً منذ اندلاع الحرب بسبب دعمها ومساندتها المالية للعراق وبالنظر لقربها من مسرح العمليات . في السنوات ما بين 1983 و 1985 ، اصبحت السفارتان الامريكية والفرنسية اهدافاً للهجمات وان المواطنين الامريكيين والاجانب قتلوا بعد اختطاف الطائرات التي كانوا يسافرون بواسطتها . ان الهجمات العراقية على المصافي وميناء التحميل في جزيرة خرج شجعت الايرانيين على تصعيد هجماتهم على الناقلات الحاملة للنفط من اقطار الخليج العربي . فيما يخص الهجمات العراقية على جزيرة خرج ، راجع مجلة الدفاع 1 – 1986 – الصفحات 181 – 196 ( تأثير الحصار العراقي على جزيرة خرج ) بقلم قاسم احمد الربيعي .
32. بالنسبة لنص البيان ، راجع جريدة الوطن ( مسقط ) 2 و 7 تشرين الثاني 1985 والشرق الاوسط
( لندن ) 7 تشرين الثاني 1985 .
33. حديث وزير النفط العراقي عصام الجلبي مع المؤلف بغداد 21 نيسان و 27 نيسان 1987 . في اوائل عام 1987 ، صرح الدكتور الجلبي ان ( بامكان العراق تصدير اكثر من مليوني برميل في اليوم ولاول مرة منذ اندلاع الحرب مع ايران عام 1980 ) ، جريدة بغداد – اوبزرفر – 1 حزيران 1987

الخـلاصـة

قبل ان نختتم دراستنا باحتمالات اعادة توطيد السلام والامن في الخليج لعل موجزاً بالدوافع المتراكمة التي سببت الحرب والدمار في المنطقة قد يكون مفيدا .
     بالنسبة للمواجهة العسكرية بين بلدين خليجيين في رأس الخليج ، على الرغم من كون علاقاتهما وصلت نقطة الجمود ، الا ان الحرب قد تنتهي في اية لحظة . وما لم يتم حل المسائل التي قادت للحرب بشكل نهائي ، فان اللجوء الى العنف سيكون من الصعب تحاشيه بصرف النظر عن نظامي الحكم في كل من العراق وايران .
ان حرب الخليج بدأن كنزاع بين العراق وايران حول مزاعم وانتهاكات حدودية قبل ان تقحم اقطار الخليج الاخرى بشكل مباشر او غير مباشر فيها . على اية حال ان اصل النزاع كان وسيبقى كخلاف مذهبي بين طائفتي السنة والشيعة الذي قسم الاسلام الى مجموعتين دينيتين كبيرتين . وقبل نهوض فارس كدولة شيعية في مطلع القرن السادس عشر ، كان الانشقاق في الاسلام طائفياً او افقياً ولم يصاحبه فوارق اقليمية الا ان بعد انفصال فارس عن الوحدة الاسلامية وتبنيها المذهب الشيعي كدين رسمي للدولة اصبح الانشقاق اقليمياً او عمودياً وبدأ بالامركزية التي كانت جارية منذ قرون وادت الى انشقاق وتجزأة الاسلام الى عدة دول مستقلة.
ان تبني فارس للمذهب الشيعي قاد الى نزاع مع السلاطين العثمانيين ، ليس لان السلطان اصبح الناطق لاتباع المذهب السني ، وانما لان تصرف فارس خان الهوية العرفية الكامنة في الحقبة التي سبقت القومية وزاد الخلاف الطائفي . وبنزاعها مع الامبراطورية العثمانية ، حاولت فارس تحقيق هدفين اساسيين :
1. الحصول على وضع مستقل منفصل عن العالم السني .
2. توسيع هيمنتها على منطقة الخليج الشمالية بما فيها المنطقة الجنوبية للعراق حيث توجد الاضرحة المقدسة الشيعية وان غالبية سكانها كانوا وما زالوا من اتباع المذهب الشيعي .
ان طموح فارس ، الذي سار عكس اتجاه السياسة العثمانية المسندة من قبل السنة العرب ، استهدف اعادة بناء الوحدة الاسلامية . كما ان المنافسة العثمانية – الفارسية ، التي قادت الى توتر طائفي مستمر ومجابهات عسكرية استنفذت طاقة وموارد الامبراطوريتين المتنازعتين واضعفت نفوذهما في العالم الاسلامي . ان انهيارهما ، الذي تزامن مع تولي جيرانهم الاوربيين ومنافسيهم السلطة ، حفزهم بالتالي الى الاتفاق واعتراف كل واحد بوجود الاخر كدولة اسلامية ذات سيادة وحصر الخلافات الدينية في المجال الداخلي . كما ان الخارطة الجديدة للعالم الاسلامي ، التي تكشف وقائع الظروف السياسية ، قد ذكرت بشكل رسمي في معاهدة ارضروم لسنة 1847 .
كانت الخطون اللاحقة هي تخطيط الحدود السياسية وانشاء دعامات ثابتة كدليل من كل طرف مستعد لاحترام السيادة الاقليمية للطرف الاخر . وبعد محاولات طويلة ومملة ، تم تنفيذ تأشير الحدود عدا المرحلة النهائية على شط العرب في مدينة البصرة الى الخليج لاندلاع الحرب العالمية الاولى .
     في اعقاب هذه الحرب، عندما انهارت الامبراطورية العثمانية ، ورث العراق ، كونه خليفة لها، تركة التجزئة الاقليمية والطائفية والمسائل الاخرى المستعصية التي اثيرت بين فارس والامبراطورية العثمانية الا ان كونها دولاً عصرية حديثة ، فقد اعيد تسمية فارس في عام 1935 باسم ايران ، وان العراق انضم الى عصبة الامم وسعى الاثنان الى توطيد الصداقة وتسوية خلافاتهما بطرق سلمية وفق ميثاق عصبة الامم وقواعد وسلوك الدبلوماسية والقانون الدولي . اما مشاكل الحدود غير المحلولة والموروثة منذ العهد العثماني فقد تمت تسويتها نهائياً في عام 1937 وان كلاً من العراق وايران اصبحا موقعين على اتفاقية السلام للدول الاربع
( ميثاق سعد آباد ) التي تتعهد بحفظ النظام والسلام في الشرق الاوسط .
وفي نهاية سنوات ما بين الحربين العالميتين ، استطاعت ايران والعراق تسوية خلافاتهما الرئيسية وان تعاونهما في السعي للسلام والاستقرار في المنطقة بدا وكأنه عملية تاريخية متواصة لا يمكن ايقافها او حرفها .
على اية حال ، نجم عن الحرب العالمية الثانية ظهور قوى اجتماعية جديدة والتزمات وضعت العراق وايران على طرفي نقيض في جميع المسائل المتعلقة بالامن والعلاقات المتبادلة . ان النزاع اللاحق لم يقتصر على العراق وايران ، وانما في الحقيقة امتد الى عدة اقطار في الشرق الاوسط .
في حرب الخليج المتصاعدة هذا اليوم ، فان المنطقة بكاملها مشتركة في المزاعم والطلبات المتضاربة، ما هي الاسباب والدوافع التي قادت الى هذا الموقف ؟
بصرف النظر عن التنافس العقائدي بين القوتين العظميين ، الذي تورطت فيه اقطار عديدة من دول العالم الثالث ، بدأ كل من العراق وايران يسعيان نحو اهداف مختلفة تماماً ، عندما اصبح مدخولهما من النفط متوفراً لاعمار بلديهما . ومنذ اوائل سنوات ما بعد الحرب ، فان الطبقات الحاكمة الصغيرة في كلا البلدين والمتحمسة للسلطة الموضوعة تحت تصرفها ، كانت مترددة في مقاسمتها مع الشعب ، ولو ان النظام البرلماني في كلا البلدين ، الذي ينص على مشاركة الشعب ، قد اوصى بها في دساتيرهما المكتوبة . وعلى اعتبار الحكم التسلطي افضل نوع للحسم ، لم تعتمد الطبقات الحاكمة في آخر تحليل على التأييد الشعبي من خلال انتخابات البرلمان ، وانما على الجيش والشرطة في حماية نظامها . ففي ايران ، ان الجيش بموجب التقاليد يكن ولاءً عميقاً للملكية واستمر لحمايتها حتى ضد الاحتجاجات الشعبية لحين الاطاحة بها على يد الثورة الاسلامية في عام 1979 .
اما في العراق فان الجيش تأثر بقوى اجماعية مختلفة تماماً ، وكان دوماً في صراع مع الملكية . وبعد محاولات عديدية ، استطاع الجيش اخيراً تولي السلطة والتخلي عن الملكية في عام 1958 . ان الحكم العسكري في العراق لم ينشد التطوير المبني على مبادئ اقتصادية واجتماعية اساسية ، وانما دعا الى اهداف وطنية ادركها شاه ايران والدول الغربية بانها تضعف الامن الاقليمي والعالمي . وبالنتيجة ، ولفترة عقدين تقريباً ، من عام 1958 ولغاية عام 1975 ، كانت ايران في صراع مستمر مع العراق ، ذلك الصراع الذي ظهر اما في طلبها لتغيير خط الحدود في شط العرب واسنادها الفئات المضادة والمنشقة في صراعها ضد النظام.
في عام 1975 ، عندما قابل شاه ايران نائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي صدام حسين في الجزائر ، استطاع الاثنان التوصل بسرعة الى تفاهم . يبدو ، ان كلاً منهما اوضح ان اهدافه الاقليمية تتفق مع الاخر من ناحية حفظ النظام والسلام وعلاقات حسن الجوار . ولا يقل اهمية ، مما اشار اليه صدام حسين من ان نظام البعث في العراق ، كشأن النظام الايراني يدعو الى تحقيق الاهداف القومية
( وهي الاستقلال والسيادة الاقليمية والامن ) . وللاتفاق مع الشاه على حل وسطي ، عرض صدام حسين قرار العراق بطلب ايران الخاص بخط التالوك كحدود مائية بين البلدين شريطة ان تعيد ايران القواطع الارضية الوسطية الثلاثة . واخيراً اتفق الشاه وصدام حسين على اخماد النشاطات الهدامة الموجهة من بلد الى آخر ووضع حد للتدخل في الشؤون الداخلية .
ان التسوية الجزائرية التي لا تختلف عن اتفاقية عام 1937 لم تنقذ العراق من تهديدات ونشاطات مخربة ، وانما منحت الشاه حرية معالجة مشاكله الداخلية والامنية . على اية حال ، ان حكم الشاه اصبح تسلطياً بحيث شعرت الفئات اليمينية واليسارية بانها مجبرة على الاتفاق وذلك لتخليص البلاد من حكمه . ومما ادهشه ، ان الجيش ، باعتباره الدرع الحصين لنظامه ، فشل في انقاذه . ان عرش الشاه ، الذي فقد التأييد حتى من قبل حلفائه ، سقط من تلقاء نفسه . وبالتالي ، اثبتت التسوية الجزائرية بانها لا تختلف عن اتفاقية عام 1937 ، وانها في طريق الزوال ، طالما ان الثورة الايرانية لم تبد اي احترام للالتزامات الدولية .
ان العراق ، ما زال ينتظر عودة القواطع الارضية الوسطية الثلاثة ، عرض الاعتراف بالنظام الايراني الجديد بشرط احترام نصوص اتفاقية الجزائر . الا ان حكام الثورة الايرانية كانوا يفكرون في امور اخرى . اوضحوا في كل من تصريحاتهم الخاصة والعامة ، بانهم غير مهتمين في امور مثل الخلاف حول الحدود ، وانما في مسألة اكبر واهم هي اقامة دولة اسلامية وترسيخ القيم الاسلامية .
واعلن حكام ايران ، بما ان الحكام المسلمين في البلدان المجاورة قد وقعوا تحت تأثير النفوذ الاجنبي والفساد فان من واجب المؤمنين تحذيرهم وحتى الدعوة الى اسقاطهم وذلك لاقامة حكم الشريعة الاسلامية والعدالة . وكما اعلن الجهاد دائماً في الماضي ضد الحكام الذين انتهكوا الشريعة المقدسة ، دعا ( آية الله ) الخميني الى ( تصدير الثورة ) كوسيلة للجهاد ولتخليص المؤمنين من الحكام الفاسدين والمتعسفين .
لهذا ، تولى حكام ايران واجب توسيع مكاسب الثورة الاسلامية الى الاقطار الاسلامية الاخرى كلما شعروا من ان الانظمة المجاورة لهم اخذت تشذ عن القيم الاسلامية . كانت الاستجابة الاولية خارج ايران ليست في الجماعات الشيعية ، طالما ان تعاليم خميني عموماً لا تؤكد على خلافات مذهبية وبالاخص كتاباته التي سبقت الثورة الاسلامية . ومع ذلك ، ان اتباعه في ايران قد اكدوا عن وعي بالمذاهب والتقاليد الشيعية التي تكشف التحيز العرقي والحضاري للفرس ومعاداة اتباع المذهب السني المحافظين .
يبدو ، ان النظام الايراني الجديد يقتفي اثار الحكم السابق الذي اسسه الشاه اسماعيل الصفوي في القرن السادس عشر الداعي الى تقاليد وتعاليم الطائفة الشيعية ، وليس مبادئ ومفاهيم الحكم التي وضع قاعدتها النبي والمطبقة من قبل اتباعه الاولين . لهذا ، تخلى عن مبدأ فصل الدين عن ادارة الشؤون الخارجية للدولة الذي وافقت عليه الانظمة الايرانية السابقة والاقطار المسلمة الاخرى باعتبارها اعضاء في المجتمع الدولي الحديث . وباستحداث سلطة الامام ، فان القيادة الايرانية ناشدت المؤمنين ، ليس في ايران فحسب ، وانما في بلدان اخرى . وبالتأكيد بشكل خاص على الامامة الشيعية كسلطة عليا ، فقد طالبت كافة العناصر الشيعية ضمناً القيام بدور رتل خامس من خلال التقويض والاطاحة بالانظمة التي يتوقع ان يكونوا مدينين لها بالولاء . لقد حاولت ايران تحقيق اهدافها ، لا بالطرق السلمية فحسب ( بضمنها الجماهير والمؤسسات الشيعية خارج ايران والحج السنوي ) وانما بنشاطات تخريبية واعتداءات عسكرية على اراضي جيرانها . ولا عجب ، ان كثير من العلماء المسلمين خارج ايران ، بضمنهم علماء الشيعة في العراق ذوي الاصول العربية، رفضوا ادعاء علماء الشيعة في ايران بالتحدث نيابة عن المسلمين حول ما ينبغي ان تكون المعايير الاسلامية . وبخلاف ذلك، ان البنية السياسية في العراق قد تعرضت الى سيل من الافكار واتبعت مسلكاً مخالفاً في التطور السياسي منذ ان ظهر هذا البلد للوجود بعد الحرب العالمية الاولى .
وبعد فترة قصيرة من الوصاية البريطانية ، التي تم بموجبها تبني المفاهيم الغربية ، في القانون والسلطة ، برز العراق بالتالي كدولة علمانية حديثة . صحيح ، ان نظامه السياسي خضع للحكم العسكري بعد الاستقلال وان هذا الحكم لم يبدأ بالانحسار قريباً ، الا ان الصفة العامة للنظام السياسي بقيت علمانية . ولا يقل اهمية ، ان حكام العراق تبنوا المذاهب الاقتصادية والاجتماعية التي تؤكد على المعايير الدنيوية الحديثة المستقاة من ناحية ، من تجارب العراق الخاصة ومن ناحية اخرى ، من تجارب المجتمعات الاخرى وبما ان المؤسسات الاسلامية في العراق كانت وما تزال منقسمة ، بعضها تحت سيطرة رجال الدين السنة والبعض الاخر تحت سيطرة رجال الدين الشيعة ، فان المقاومة الدينية تجاه الاتجاه الدنيوية في العراق كانت اقل تأثيراً مما في ايران . فضلاً عن ذلك ، ان كافة المؤسسات الثقافية خاضعة للدولة ( رجال الدين السنة ) كالموظفين يتقاضون رواتبهم من الدولة . بينما ان معظم المؤسسات الثقافية الشيعية تفضل استلام رواتبها من مصادر خاصة وان رجال الدين الشيعة الذين يتقاضون رواتبهم من هذه المصادر يمارسون نفوذاً على اتباعهم اكثر من رجال الدين السنة . مع ذلك ، وبسبب خضوع اكثرية المنظمات الدينية الى الدولة ، فان الصفة العلمانية للنظام السياسي تبقى بعيدة عن تأثير رجال الدين .
وبسبب الصفة العلمانية للنظام العراقي ، الذي توصمه وسائل الاعلام الايرانية دائماً بالكفر والالحاد ، يحاول حكام ايران الحط من قيمته امام ابناء شعبه والدعوة الى اسقاطه . وبما ان حكام العراق يشعرون بالاطمئنان في الداخل ، فان اهتمامهم الوحيد هو التجاوزات والانتهاكات الايرانية للحدود العراقية من قبل القوات الايرانية . علاوة على ذلك ، ان النظام الايراني لم يتخل لحد الان عن القواطع الارضية الوسطية الثلاث التي تعهد الشاه باعادتها . وقبل قيامها بعمل انتقامي ، وجهت الحكومة العراقية عدة مذكرات الى ايران تدعوها للتفاوض وتسوية القضايا الحدودية المعلقة طبقاً لاتفاقية الجزائر ومعاهدة عام 1975 التي تم توقيعها وتصديقها في ذلك الحين . وبما ان العراق لم يتلق ردوداً واستمرار بقاء الانتهاكات الحدودية ، مما اضطر اخيراً الى الغاء اتفاقية الجزائر ومعاهدة 1975 على اساس عدم التزام ايران بشروط المعاهدتين ورفضت التفاوض حول خلافاتها بموجب السياق الموصوف في هاتين الاتفاقيتين . وطالما تشترط من ان انتهاك اي نص من قبل اي طرف يجعل شرطيهما ملغيان ، شعر العراق بانه محق في الاجراء الذي اتخذه .
صحيح ، ان ايران احتجت على عملية الالغاء على افتراض ضمني انه ما زال مقيداً بشروط المعاهدتين ، الا انها رفضت التعاون مع النظام العراقي .
ولعدم قدرته في اقناع الحكام الايرانيين على تسوية خلافاتهم مع العراق بطرق سلمية ، اقتضى على العراق عرض نزاعه مع ايران على مجلس الامن ( كما عرض نزاعه مع ايران على عصبة الامم في عام 1934 ) وان المادة (51) من ميثاق هيئة الامم اقتضت الاستعانة بها قبل قيامه بعمل من طرف واحد . وبما ان ايران لجأت للعنف ( بدأت بقصف المدن والقرى ضمن الاراضي العراقية قبل تاريخ 4 أيلول 1980 ) شعر العراق بانه مجبر للدفاع عن نفسه . حاول العراق تبرير عمله امام مجلس الامن على اساس اضطراره لاتخاذ اجراءات ( وقائية ) في الدفاع عن سيادة اراضيه دون اللجوء الى المادة (51) . ان العمل الوقائي هو مذهب حديث اوصى به بعض الحكام ، الا انه لم يلق قبولاً كمبدأ قانوني . لهذا السبب عندما اجتاحت القوات العراقية الحدود بتاريخ 21 و 22 أيلول 1980 ، وجهت ايران اتهاماً للعراق بالعدوان ، ولو ان ايران احتلت اراض عراقية فيما بعد ( بعد ان قام العراق بسحب قواته في عام 1982 ) بحجة انها طاردت القوات العراقية عندما كانت تدافع عن نفسها ، ورفضت ايران ايضاً الالتزام بقرارت مجلس الامن الداعية الى وقف اطلاق النار وتسوية الخلافات بالطرق السلمية ، لم يقبل العراق بجميع قرارات مجلس الامن الداعية الى وقف اطلاق النار فحسب ، وانما جميع المساعي الحميدة لاطراف ثالثة رفضتها ايران دون تردد .
جرت ثلاثة انواع من محاولات التوسط والمساعي الحميدة : اولاً منظمات دولية واقليمية مثل الامم المتحدة والجامعة العربية التي اصبحت منهمكة في عملية الوساطة والمساعي الحميدة . هناك منظمات اخرى مثل مجلس الامن التابع للامم المتحدة الذي اصدر عدة قرارات تدعو الجانبين على تسوية خلافاتهما بطرق سلمية . بتاريخ 20 تموز 1987 ، اصدر مجلس الامن قراراً بالاجماع يدعو العراق وايران الى القبول بوقف اطلاق النار . وبينما وفق العراق في الحال على القرار ، اثارت ايران عدة اعتراضات وطالبت بشروط معينة قبل قبولها بالقرار .
على اية حال ، كان لابد على مجلس الامن ان يفرض اجراءات تأديبية ، سواء اقتصادية او غيرها لتطبيق قراره الالزامي على الطرف الذي لا ينصاع ويرفض قبول وقف اطلاق النار .
     ثانياً ، شكلت لجان دائمية ومؤقتة للاستفسار عن افضل السبل الملائمة لوقف الحرب . ان لجنة
بالما ، المعينة من قبل السكرتير العام للامم المتحدة كورت فالدهايم في تشرين الثاني 1980 ، ولجنة
المساعي الحميدة المنبثقة عن منظمة المؤتمر الاسلامي ما هي الا شواهد بارزة . وعلى الرغم من توقف عمل هذه اللجان ، الا ان الامم المتحدة ولجان المؤتمر الاسلامي لا زالت فعالة (وقتئذ) وربما قد تنجح اخيراً في تحقيق وقف القتال .
     ثالثاً ، حاولت شخصيات في مناصب مرموقة ( بعضها بصفة شخصية ) التأثير على رؤساء الدول والحكومات ذات العلاقات الحسنة مع حكام ايران لانهاء الحرب . ومع ان الزيارات الخاصة للشخصيات لا تنشرها وسائل الاعلام ، الا ان تأثيرها على تغيير الاتجاه قد يكون اكثر اهمية من الزيارات الرسمية . مع ذلك ، ان محاولات الاشخاص الرسمية والخاصة لم تحقق نجاحاً، طالما انها تتطلب تنسيقاً مع بعضها من قبل مسؤولين كبار لكي تكن مؤثرة. ففي النطاق العملي ، ان محاولات احدى اللجان لتحقيق السلام قد تفشل بسبب محاولات لجنة اخرى تسعى لارضاء النظام الايراني .
لماذا فشلت جميع هذه المحاولات لانهاء الحرب ؟
ان عدداً من المنظمات الاقليمية ، التي قد تكون قادرة على معالجة حرب الخليج ، تعاني من بعض التقييدات المفروضة عليها . ان المسألة موضوعه البحث هي الجامعة العربية . بحكم طبيعتها ، فهي عربية وليس على وجه التحديد ( ترتيب اقليمي ) شامل وبينما باستطاعتها بحث النزاعات بين اعضاء دول الخليج العربي ، كما في مطالبة العراق بالسيادة على الكويت عام 1961 ، فقد اثبتت عجزها في حل القضايا خارج نطاق ميثاقها ، طالما ان احدى الدول الخليجية الرئيسية
( ايران ) لا تستطيع ان تكون ابداً عضواً في الجامعة . كما ان منظمة المؤتمر الاسلامي لم تثبت بانها الواسطة الملائمة ، ولو ان ايران عضو طبيعي ، طالما ان هذه المنظمة مؤلفة من اقطار تمتد من المحيط الاطلسي الى المحيط الهادي وتمثل اكثر من منطقة عرقية ذات مصالح متضاربة .
وبما انها منظمة اسلامية ، بامكانها نظرياً دعوة كل من العراق وايران لعرض ارائهما المتناقضة . ولكن ، عندما انعقد المؤتمر الاسلامي في كل من الطائف ( 1981 ) والكويت ( 1987 ) لمناقشة، الحرب العراقية – الايرانية رفضت ايران حضور المؤتمرين ( الاول لدعوة العراق في الوقت الذي كانت قواته تعتدي على الاراضي الايرانية ، والثاني بسبب انعقاده في الكويت الذي تعتبره ايران بلداً غير محايداً في الحرب .
ولعل مجلس التعاون الخليجي والمنظم خصيصاً لامن الخليج ، هو المنظمة الاقليمية الاكثر ملائمة لمعالجة حرب الخليج . الا انه ، بسبب تحديداتها التنظيمية والاجرائية ، فليس من المتوقع ان تتجاوز جميع المشاكل الاقليمية .
مع ذلك ، لقد ناقشت مؤخراً بعض الاجراءات الدفاعية الواجب تنفيذها بشكل فردي او جماعي . وكما اشارت الاخبار ، ان موضوع حرب الخليج قد نوقش في جميع الاجماعات تقريباً وتمت صياغة بعض المقترحات الخاصة بالوساطة وذلك لعرضها على الجانبين . ولكن ، بما ان العراق وايران غير عضوين في مجلس التعاون الخليجي فإنهما حرما من فرصة مناقشة المشاكل مباشرة المتعلقة بالاطراف المعنية . ولكي يصبح مجلس التعاون الخليجي مؤثراً في حفظ السلام والامن ، يجب فتح باب الانتساب لجميع اقطار الخليج.
وكنظام امني خليجي ، فمن حق العراق وايران باعتبارهما دولاً خليجية ان يصبحا اعضاء في مجلس التعاون الخليجي ، وقبل اندلاع الحرب ، كان من المسلم به ان تلك الدول ستكون اعضاء اصلية في اي مجلس اقليمي يبحث في شؤون الخليج . في الحقيقة ، ان العراق حضر مؤتمراً عربياً خليجياً انعقد في عمان عام 1979 . على اية حال ، ان امن الخليج لا يعتمد على عضوية دول الخليج بالنسبة لموقعها الجغرافي فحسب ، وانما ايضاً على الاسس الجيوبولتيكية لبعض الاقطار مثل دولتي اليمن . حتى ان بعض اقطار البحر الاحمر ، بصرف النظر عن السعودية ، قد تكون مهمة في حالة تعرض الخليج الى خطر من جانبها . وكما في حالة منظمة حلف شمال الاطلسي ، التي كان نظامها الامني في البداية مصمماً لاقطار الاطلسي ، فهي مؤلفة من اقطار ليست في الاطلسي فحسب ، وانما في البحر الابيض المتوسط ( مثل ايطاليا ، اليونان وتركيا ) . وبهذا ، ان مجلس التعاون الخليجي يمكن ان يدعو اعضاءً خارج دول الخليج مباشرة . بالاضافة الى اليمن الشمالية واليمن الجنوبية.
ان الاردن ، الذي يجاور العراق والسعودية ولديه منفذ الى البحر الاحمر ، قد يكون من الناحية السوقية ذا فائدة كبيرة لامن الخليج وان ضم الثلاثة قد يعزز مكانه ونفوذ مجلس التعاون الخليجي . لو تعرضت احدى دولتي اليمن او الاردن الى تهديد من جيرانها ، فان امن السعودية والكويت والعراق سوف يتعرض للخطر .
وكما هو وضع مجلس التعاون الخليجي هذا اليوم ، فهو مؤلف من اقطار وجهات نظرها وسياساتها متفقة اكثر من اقطار الخليج الاخرى مثل العراق وايران اللتين تركيبهما ونظامهما الاجتماعي والاقتصادي مزيجين من الانماط التقليدية والمعاصرة . ان دول مجلس التعاون الخليجي ، غير المتأثرة بالافكار المتطرفة ، تفضل اتباع سياسة معتدلة ومتزنة في علاقاتها مع جيرانها وكذلك الدول المنافسة خارج الخليج . فعلى سبيل المثال ، حذرت القيادة الايرانية مراراً اقطار الخليج العربي حول الابتعاد عن العراق وتوقف مساعدتها اقتصادياً والا فستعرض نفسها للخطر . الا ان اي قطر من مجلس التعاون الخليجي عدا الكويت ( اتهم من قبل ايران بانه منهمك لحد كبير في مساعدة العراق ) قد اصابه ضرر حقيقي او تعرض امنه للخطر ، ولو ان عدداً من الهجمات حدثت على الناقلات وتعرض الملاحة الحرة في الخليج . ولم يتحقق تهديد غلق مضيق هرمز امام السفن ، من ناحية بسبب الاجراءات الدفاعية المتخذة من قبل اقطار الخليج مثل تشكيل قوة دفاع جوي كافية ، ومن جهة اخرى تشجيع الدول الكبرى لتأمين حماية وحراسة ضد انتهاكات الملاحة الحرة في عمق البحار . الا ان مسؤولية حفظ السلام والامن يجب ان تعهد لدول الخليج نفسها في المستقبل . ولتحقيق هذا الهدف ، يجب على مجلس التعاون الخليجي ان يمهد الطريق امام ضم كافة الدول ذات العلاقة .
وبما ان اقطار الخليج لم تتمكن من انهاء الحرب عن طريق المساعي الاقليمية المشتركة يبدو ان سريان النفط قد تهدد بشكل اكثر جدياً ، فدعا العراق الدول الكبرى لاقناع ايران بقبول وقف اطلاق النار . في البداية ، حاولت القوتان العظيمتان كل من جانبها وحسب اسبابها الخاصة لتحقيق السلام ، الا ان مساعيها لم تكلل بالنجاح . ان رفض ايران في الانصياع لاحد الطرفين على اساس عقائدي ( اسلامي ) شجع الولايات المتحدة على تنشيط جهودها وجلب الطرفين المتحاربين الى طاولة المفاوضات .
هناك حدثان ، سواء بالصدفة او بتخطيط ، ساعدا المساعي الدبلوماسية العراقية . كان الاول هو الطلب الكويتي من ان تقوم الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي لحماية ناقلاته النفطية عند مرورها في الخليج. لقد تكهن البعض من ان العراق ربما قد اوحى الى الكويت بدعوة الاتحاد السوفيتي لحماية ناقلاته وذلك لاقحام الولايات المتحدة في شؤون الخليج وبالتالي ممارسة الضغط على ايران لانهاء الحرب . مع ذلك ، ليس هناك دليل من ان الهجوم على السفينة الامريكية ستارك ( الحدث الثاني ) كان عملاً مدبراً . ان الهجوم العراقي غير المقصود على السفينة ستارك نبه ادارة ريغان فوراً الى التهديد الايراني المحتمل للقوة العسكرية الامريكية غير المحمية في الخليج . هناك تكهنات من ان الهجوم على السفينة ستارك ربما كان مقصوداً من قبل العراق وذلك لاشعار الرأي العام الامريكي بجدية الخطر بالنسبة للمصالح الغربية في الخليج . على اية حال ، ان ادارة ريغان، في مواجهتها لرأي الكونغرس ان نفط الخليج هو ليس الاهتمام الرئيسي للولايات المتحدة ، قد حاولت عبثاً على الدوام بيان رأيها للشعب والمعارضين في الكونغرس حول الاخطار النهائية للتدخل السوفيتي . ان هذين الحدثين ، دعوة الكويت للاتحاد السوفيتي لحماية ناقلاته والهجوم العراقي غير المقصود على السفينة ستارك ، ربما اضافا وزناً للحجة العراقية في صالح مشاركة الدول الكبرى في عملية انهاء الحرب . حتى قبل موافقة الولايات المتحدة الرسمية على حماية الناقلات الكويتية ، قامت انكلترا وفرنسا ثم تبعتها كل من ايطاليا وبلجيكا وهولندا بارسال سفن حربية لحماية سفنها التجارية وان دولاً اخرى يمكن ان تنضم لاعادة استتباب الامن والملاحة الحرة في الخليج .
ان تسوية النزاعات في منطقة مثل الخليج ، الغنية بالنفط والمهمة بسبب موقعها الجغرافي والاستراتيجي، ينبغي ان لا تنحصر مسؤوليتها بالدول الكبرى لوحدها ، وانما جميع الدول الاخرى ذات العلاقة ، طالما ان النزاعات الاقليمية يحتمل ان تكون مصدراً للصراعات العالمية . وبسبب الاخطار الدولية المحتملة فإن نزاعات من هذا النوع ينبغي معالجتها من قبل الامم المتحدة .
في الحقيقة ، ان مجلس الامن اصدر مؤخراً عدة قرارات ، بضمنها عدد من قرارات الجمعية العامة ، تدعو كلا الطرفان لقبول وقف اطلاق النار وتسوية خلافاتهما بطرق سلمية . مع ذلك ، ان تلك القرارات لم تكن ملزمة وقد تقبل من قبل طرف واحد وترفض من الطرف الاخر . وبما ان جميع المحاولات بعد سبع سنوات لم تكن فعالة ، فان الاجراءات الملزمة ضرورية ، طالما ان التدخل من قبل دول متنافسة قد يعقد ويطيل امد الحرب في الحقيقة ، ان بعض الاقطار تنبهت مؤخراً الى اخطار تدخل القوى العظمى . في مثل هذه الظروف ، ان الامم المتحدة ، التي تعمل بالنيابة عن المجتمع الدولي ، هي ربما الطريق الامين للسلام .
ان مقترح تنشيط العمل من قبل الامم المتحدة بدأ على صعيد اقليمي . في جلسة مجلس الجامعة العربية في اوائل شباط 1987 ، تم تعيين وفد من سبعة اشخاص من الاعضاء الدائمين لمجلس الامن وذلك لتحذيرهم من خطورة الازمة المتطورة في الخليج ( زيادة الهجمات على الناقلات وانتهاك حرية الملاحة وقصف المنشآت النفطية في الكويت ) واحتمال تحولها الى نزاعات حادة خارج الخليج . وعقب مشاورات بين اعضاء مجلس الامن ، بضمنهم الاعضاء الخمسة الدائمين ، تم تبني قرار بالاجماع في 20 تموز يلزم كلاً من العراق وايران بوقف جميع العمليات العسكرية في البر والبحر والجو حالاً . ان القرار 598 تحت المواد 39 و 40 من ميثاق هيئة الامم يشترط من مجلس الامن ان ( يطالب ايران والعراق ، كخطوة اولية نحو السلام ، الالتزام بوقف اطلاق النار حالاً ووقف كافة العمليات العسكرية في البر والبحر والجو وسحب جميع قواتهما الى الحدود الدولية المعترف بها من دون تأخير ) .(1)
ومنذ الحرب الكورية ، لم يتخذ اي اجراء موحد من قبل الامم المتحدة ( كما هي الحالة في هذا القرار لانهاء حرب دامت اكثر من اي من الحربين العالميتين ) . ان القرار ، كما اشار اليه جورج شولتز وزير الخارجية الامريكي عقب تبني القرار ( منصف ودقيق ) . لقد بحث على ضوء مصالح جميع الاطراف المعنية ويعكس رغبة اكثرية الناس في المنطقة لانهاء الحرب التي بلغت فيها الخسائر البشرية حداً استثنائياً . ويعبر عن اهداف ميثاق الامم المتحدة في حفظ السلام والامن طبقاً للقانون الدولي والسعي لتسوية النزاعات حالاً بطرق سلمية . وفي نفس الوقت تقريباً ، رد العراق وايران مؤشرين استجابتهم لقرار مجلس الامن . وفي الوقت الذي كان العراق مستعداً لقبول القرار ، انتقدت ايران محتوياته ( لم تقبله ولم ترفضه ) . في رسالة بعث بها طارق عزيز يوم 23 تموز 1987 الى السكرتير العام للامم المتحدة بيريز دكويلار جاء فيها ( ان الحكومة العراقية ترحب بالقرار ومستعدة للتعاون معكم ومع مجلس الامن وذلك لتطبيقه بحسن نية وبهدف تسوية عادلة وشاملة ودائمة للنزاع مع ايران ) .(2)
وقد اوضح العراق ان موافقته على وقف اطلاق النار ستعتمد على استعداد ايران لقبوله بصدق واخلاص ( وكجزء متكامل وشامل ) دون قيد او شرط . وصرح عزيز ايضاً ان اشارة مجلس الامن الى سحب جميع القوات ( من دون تأخير ) قد اتخذ من قبل الحكومة العراقية ليعني ان ( الانسحاب سيكمل ضمن مدة لا تزيد عن عشرة ايام من تاريخ وقف اطلاق النار العام ) . ان هذه المدة حسب رأي العراق ، اعتمدت على سابقة محددة لسحب القوات العراقية من الاراضي الايرانية في 20 حزيران 1982 . وعبرت الحكومة العراقية عند قبولها قرار مجلس الامن عن استعدادها للتعاون مع ( جهود الوساطة ) للامين العام لتحقيق تسوية النزاع مع ايران بموجب مبادئ ميثاق الامم المتحدة .
وقبل جوابها المفصل على قرار مجلس الامن المرقم 598 ، بعثت ايران برسالتين تمهيديتين موقعتين من قبل الوزير علي اكبر ولايتي .
في الرسالة الاولى ( 22 تموز 1987 ) الموجه الى السكرتير العام والتي سلمت من قبل الممثل الايراني الدائم في الامم المتحدة في 24 تموز 1987 ، جاء فيها ان ( القرار ) … سوف يدرس بدقة وان موقف الجمهورية الاسلامية في ايران سوف يوضح بالتفصيل . ( في تلك الرسالة ، حذرت ايران مجلس الامن من ان قرار 598 الذي صدر بضغط امريكي ، ينبغي ان لا يستخدم كاجراء استفزازي من قبل اعضاء اخرين ضد ايران ) . واضافت الرسالة ، ان مجلس الامن ينبغي ان يدعو الولايات المتحدة لانهاء
( وجودها العسكري ) في الخليج ووقف اسنادها للكويت التي تصدر النفط لفائدة العراق .(3)
اما في الرسالة الثانية ( 10 آب 1987 ) ، اشتكى ولايتي من مرور اثنين واربعين يوماً على معركة مدينة سردشت التي قصفت بالاسلحة الكيمياوية العراقية. وافادت الرسالة ان الهجوم تم تبليغه حالاً الى مجلس الامن ، الا ان المجلس لم يتخذ اي اجراء ضد العراق . وسأل ولايتي ، على اي اساس يمكن تبرير ( سكوت وعجز ) الامم المتحدة ؟ واضافت رسالته ، ان الجواب على هذا والامور الاخرى سوف يساعد على ( تقديرنا لدور مجلس الامن تجاه الحرب وابعادها المختلفة ) .(4)
في الرسالة الاخرى المؤرخة في ( 11 آب 1987 ) ، شرح ولايتي بشكل واف تحفظاته تجاه قرار مجلس الامن ( والشروط اللازم اتخاذها بنظر الاعتبار ) في حالة قبول القرار . وذكرت الرسالة ، ان قرار 598 قد تمت صياغته قبل التشاور مع الحكومة الايرانية وبعكس ( الصيغة العراقية لقرار النزاع ) . علاوة على ذلك، لقد تم اقراره بضغط امريكي لصالح العراق ومؤيدوه في الحرب. لهذا، لا يمكن اعتباره
( موازناً ومحايداً وشاملاً وعملياً ) . واضافت الرسالة ، حتى ان مجلس الامن لم يحاول تحديد اي بلد هو
( معتدٍ ) قبل الانتقال الى انهاء الحرب ( كخرق للسلام ) وبذلك اقتضى اللجوء الى المادة 39 من الميثاق
وحسب ادعاء ايران ان مجلس الامن فشل في بحث ( شروع العراق بالحرب ) في 22 أيلول 1980 باعتباره خرقاً للسلام . وبعمله هذا ، فقد تحول الى طرف في النزاع … وسوف لا يكون بامكانه ان يلعب دوراً ايجابياً وبناءً . ولم يكن هذا كل ما حدث . ففي رسالته ، حذر ولايتي من ان تبني القرار سيزيد التوتر في الخليج . واضاف ، ان الاجراءات الامريكية ( تشكل انتهاكاً واضحاً للفقرة (5) من القرار ) الذي يدعو لتجنب اي عمل يؤدي الى تصعيد اضافي للصراع . وحسب قول ولايتي ، ان العراق انتهك القرار عن طريق شن عدة هجمات حال تبنيه القرار . لهذا السبب ، وصف العراق ( بالمعتدي ) وحسب زعم ايران ينبغي اعتباره مسؤولاً عن الحرب وان يدفع تعويضات كعنصر اساسي لحل النزاع بشكل نهائي . وكرر ولايتي ( ان التأكيد الصريح لمسؤولية العراق عن النزاع يشكل اهم عنصر في قرار النزاع ) . ان خطة النقاط الثمان التي اعلنها بيريز دي كويلار في آذار 1985 قد اشير اليها على انها الخطة العملية الوحيدة التي تعالج الحرب وانها ( ما تزال تشكل الارضية الملائمة لجهود الامين العام في المستقبل ) .
ومع ان ولايتي لم يرفض القرار بشكل قاطع ، الا انه اوضح ان شروط ايران يجب تلبيتها قبل الموافقة على القرار . وذكر في رسالته ان ايران باعتبارها ضحية العدوان هي الطرف الرئيسي الذي يقرر كيف يمكن انهاء الحرب ولا يمكن القيام بتغيير في مسار الحرب طالما لم تلب شروط الجمهورية الاسلامية الايرانية .(6)
وبما ان العراق وحده وافق على القرار ، وان ايران لم ترفضه رسمياً فإنه شجع بعض اعضاء مجلس الامن على النقاش ضد اتخاذ الاجراءات وفرض حظر على ايران آملين امكانية اقناع ايران بقبول وقف اطلاق النار من دون ضغط . ولاحظ اعضاء آخرون ان خلو الرد الايراني من المطالبة بتغيير النظام العراقي يعد علامة للمرونة والتسويات اللاحقة . ان مثل هذه الافكار شجعت وزير خارجية العراق طارق عزيز بتقديم خطاب الى بيريز دي كويلار في 17 آب 1987 رافضاً اي اقتراح ربما يغير من نص قرار مجلس الامن ومؤكداً ثانية على التزام بلاده به . وذهب الى القول ان استجابة ايران ( 11 آب 1987 ) الى القرار ( تشكل رفضاً ) . واضاف بانها تمثل ( نوعاً من الحل الانتقائي الى نصها بهدف واضح هو استمرار الحرب واحباط اي مساع مشتركة لتوقيفها ) . واستشهد بالفقرة الاخيرة لخطاب علي خامئني رئيس دولة ايران ورئيس مجلس الدفاع الاعلى بتاريخ 14 آب الذي كشف فيه رغبة بلاده باستمرار الحرب عن طريق حث الشعب بان يكون ( مستعداً ومتهيئاً) في ساحة المعركة واي مكان عندما يدعى للتعبئة من قبل المسؤولين والمشاركة في القتال . ( لهذا ، ناشد مجلس الامن برفض الحل الانتقائي لايران وتنفيذ القرار نصاً وروحاً ) .(7)
لا يتوقع من ايران قبول قرار مجلس الامن من دون مماطلة ومناورة وذلك لتأخير اتخاذ اي اجراء . في الحقيقة ، ان النظام الايراني ادعى بانه يربح الحرب وانه يتساءل لماذا اصدر مجلس الامن قراره ( في الوقت الذي تقترب الحرب من مرحلتها النهائية ) . ولفت الانتباه الى ( خرق السلام ) ووجوب اللجوء الى المادة 39 من الميثاق . ان رغبة ايران الصريحة بعدم وقف الحرب شجعت العراق على استئناف الهجوم على الناقلات بعد ستة اسابيع من اصدار قرار 598 . وفي عمله هذا ، حاول العراق الضغط على النظام الايراني لقبول قرار 598 . في غضون ذلك ، زار بيريز دي كويلار طهران وبغداد في شهر ايلول ( للتشاور مع ايران والعراق والدول الاخرى في المنطقة ) ، وذلك لابلاغ مجلس الامن ( ووضع خطوات لاحقة لضمان التسوية ) . في الحقيقة ، بسبب الارهاق الذي اصاب البلدان من جراء الخسائر في الارواح والممتلكات لم يستطيعا رفض عرض مجلس الامن بزيارة بلديهما . ولم يكن ممثليهم في الامم المتحدة عاجزين عن الاتصال المباشر بمجلس الامن . على اية حال ، قام بيريز دي كويلار لدى عودته باخبار مجلس الامن ان الحكام الايرانيين قد اتخذوا موقفاً موحداً مما يشير الى ان ايران تقبل وقف اطلاق النار ، الا انها قد تعلن قبولها فقط ( بعد ان تنهي اللجنة عملها ) وتحدد اي بلد هو المعتدي . من الواضح ، ان مثل هذا الموقف سيعكس الخيار لايران باستئناف القتال ورفض نتائج تحقيق اللجنة على اعتبارها خاطئة . ان العراق قد اعلن عن موقفه بوضوح من ان ايران ما لم تقبل بقرار 598 دون قيد او شرط فسوف ترفضه ، وطالما اعلن ان خميني سيوجه خطاباً الى الجمعية العامة في 22 أيلول 1987 ، فأن مجلس الامن ، الذي يتوقع ان ذلك سيلقي ضوءاً اكثر على موقف ايران تجاه قرار 598 ، ارجاء مناقشته حول تطبيق القرار .
على اية حال ، ان خطاب خميني اثبت انه مخيب للامال ، طالما انه تحول في النهاية الى محاضرة حول مبادئ الثورة الاسلامية واستنكار ( السيطرة العالمية ) للدول العظمى . كما لم يحتوِ على اي شكل بناء تقريباً يخص قرار 598 . شجب الخميني بشكل خاص سياسة الولايات المتحدة في التدخل التي لم تؤدى الى تفاقم التوتر في الخليج فحسب ، وانما مالت الى تصعيد واطالة امد الحرب من خلال مساندتها للعراق . كما وجه انتقاداً الى مجلس الامن لعدم شجبه العدوان العراقي على ايران، وعندما اصدر اول قرار في 22 أيلول 1980 يدعو لوقف اطلاق النار والانسحاب الى الحدود الدولية . وطالبه ( هل ان تبني قرار 598 هو لمجرد ممارسة الضغط على الثورة الاسلامية ؟ ) وناقش ، من ان الامم المتحدة ، لديها التزام حسب المادة الاولى للميثاق ، بضمان العدالة من خلال تدابير خاصة واتخاذ اجراءات ضد الاعمال العدوانية وتبعاً لذلك ، اقترح اتباع وقائع مماثلة حدثت في محاكمة نوريمبرغ بحجة انها حققت سلاماً في اوربا بما يزيد عن اربعين عاماً . الا انه لم يلمح ان ايران على استعداد لقبول وقف اطلاق النار او سحب قواتها الى حدودها قبل ان تقرر اللجنة ان العراق قد بدأ الحرب ومن اجلها ينبغي ان يدفع تعويضات .(8)
في المحادثات التي اجراها المسؤولون الايرانيون مع الامين العام دي كويلار ، لمحوا فقط على انهم سيوافقون على وقف اطلاق النار غير الرسمي عندما تبين اللجنة اعمالها . ولم يعطوا التزماً بقبول قرار 598 اذا كانت تحريات اللجنة غير مقبولة لايران . ان مسألة اي بلد شرع بالحرب اصبحت اساساً بموجبه ترى ايران معاقبة الحكام العراقيين ومحاسبة النظام الذي يتزعمونه .
استنكر العراق اتهام ايران مع انه اشعل نار الحرب ، ولو انه وافق على تشكيل لجنة لتحديد الطرف المعتدي . في الحقيقة ، اقترح مؤخراً عرض القضية على محكمة العدل الدولية وذلك لبيان رأيها القانوني وبما ان ايران لم تعط جواباً في نهاية شهر تموز من انها وافقت بدون قيد او شرط على قرار 598 ، اضطر العراق الى استئناف قصف الناقلات . وبالمثل ، شرعت ايران بقصف المنشآت العراقية ومهاجمة الناقلات الكويتية المحمية بالسفن الحربية الامريكية .
وفي الحال ، تصاعدت حرب الناقلات وقامت ايران بمهاجمة المنشآت والناقلات الكويتية والسعودية بحجة الرد على مهاجمة العراق للناقلات الايرانية الحاملة للنفط .
وبموجب القانون الدولي ، ان القوات الامريكية ، التي واجبها الرئيسي ضمان الملاحة الحرة في الخليج ، لم تستطع الافلات من الهجمات الايرانية . وقبل يوم من قيام خميني بتوجيه خطابه الى الجمعية العامة، قامت سفينة بحرية ايرانية ( ايران آجر ) في يوم 21 أيلول بزرع الالغام في الخليج . اضطرت القوات الامريكية للاستيلاء على السفينة لانها كانت ضمن مدى رصد القيادة ولان عملها كان بمثابة اعتداء على الملاحة الحرة في مياه دولية . وعليه ، تم تدمير السفينة وان البحارة الذين نجوا من الموت اعيدوا الى ايران.
 في 19 تشرين الاول ، قامت ثلاثة او اربعة زوارق حربية بفتح النار على طائرة سمتية امريكية كانت تقوم بواجب دورية قرب جزيرة فارسي . واستجابة الى نداء الطيار ، قامت عدة طائرات سمتية مسلحة بمهاجمة الزوارق الايرانية واغراق ثلاثة منها . جرى انقاذ ستة بحارة ايرانيين ، الا ان اثنين منهما فارقا الحياة فيما بعد . ولا يقل اهمية قيام المدمرات الامريكية بقصف المنصات النفطية الثلاث الواقعة على مسافة (120) ميلاً شرق البحرين والمستخدمة في العمليات العسكرية من قبل ايران في الخليج . وصفت عملية التدميرعلى انها ( مدروسة ومحددة ) وكرد انتقامي على الصاروخ الايراني ( سيلك وورم ) الذي هاجم الناقلة الامريكية قبل اسبوع في المياه الكويتية .
وجه انذار لايران قبل عشرين دقيقة من بدء الهجوم باخلاء المنصة . كان هذا العمل الانتقامي دليلاً اخراً للمسؤولين الايرانيين لبيان عدم جدوى استخدام القوة ، وان القبول بالوسائل السلمية لفض النزاع هو في مصلحة جميع الاطراف المعنية .
ان مفاوضات قبول قرار 598 ستكون طويلة ومملة ، طالما ليس هناك نظام يعلن عن مثل هذه المبادئ المتطرفة وان ايران مستعدة لقبول التسوية بدون ضغط . وبعد مضي سبع سنوات على حرب الخليج ، ثبت استحالة تحقيق الانتصار من قبل احد الطرفين . لم يكن بمقدور اي طرف تحقيق انتصار حاسم على الطرف الاخر . كما لم تكن دول المنطقة والعالم مستعدة لان تسمح لاحد الاطراف باجتياح اراض الطرف الاخر. ومع ذلك ، ادعت ايران ان الوقت في جانبها . فمن خلال مناورتها لتأخير تطبيق القرار 598 ، سيكون لدى ايران امكانية شن سلسلة من الهجمات على الاراضي العراقية وخاصة في منطقة البصرة وذلك للاطاحة بنظام البعث قبل قبولها بالقرار 598 والمشاركة في مفاوضات التسوية السلمية مع العراق . ولكن ، لو قدر لايران كسب الحرب، فان انتصارها سيكون معاكساً للسياسة الغربية القاضية بعدم ربح الحرب ، طالما ان ذلك سيعرض الانظمة القريبة للخطر . في الحقيقة، ان نفوذ الدول في المنطقة ككل سوف يتضاءل وان سياسة مجلس الامن المعتدلة والمتوازنة في تسوية النزاع سوف تصاب بالخيبة . ان الضغط على ايران سيكون في حظر السلاح . ولا حاجة لذكر العقوبات الاقتصادية التي ستكون ضرورية جداً لكلا الطرفين لبيان ان ليس هناك طرف رابح في الحرب وان التسوية السلمية هي الطريق الوحيد لانهاء الحرب .
ولكن ، لو توقفت الحرب ، فهل بالامكان اعادة علاقات حسن الجوار بين العراق وايران ؟ وان رسالة هذا البحث هي ان الحرب قد تنتهي في اي لحظة ، وما لم يتم حل القضايا التي سببت الحرب فان الرجوع اليها ربما يحدث في اي وقت . سوف تنتهي حرب الخليج فقط عندما تكون هناك تسوية مقبولة لجميع الاطراف ذات العلاقة . وبدون موافقة جميع الاطراف ، فان النصر من جانب طرف واحد سيكون مجحفاً ولا معنى له ، طالما ان السلام يمكن انتهاكه من قبل الطرف الاخر ولاي اسباب واهية .
الهوامش

1. بالنسبة للنص الكامل ، راجع الملحق 4 .
2. السجلات الرسمية لمجلس الامن الامم المتحدة اس / 19045 في 14 آب 1987 .
3. السجلات الرسمية لمجلس الامن اس / 19883 في 24 تموز 1987 .
4. المصدر نفسه .
5. السجلات الرسمية لمجلس الامن اس / 19031 في 11 آب 1987 .
6. المصدر نفسه .
7. السجلات الرسمية لمجلس الامن اس / 19049 في 1987 .
8. السجلات الرسمية لمجلس الامن اي / 42 / بي في 6 في 22 أيلول 1987 .

 

 

 

 

 

 

الملاحق
 
ملحق رقم (1)
معاهدة الحدود بين مملكة العراق وامبراطورية ايران

         صاحب الجلالة ملك العراق
                  من جهة
وصاحب الجلالة الامبراطورية شاهنشاه ايران
              من جهة اخرى

بناء على رغبتهما في توثيق عرى الصداقة الاخوية وحسن التفاهم بين الدولتين وبغية وضع حد بصورة نهائية لقضية الحدود بين دولتيهما قد قررا عقد هذه المعاهدة وعينا عنهما مندوبين مفوضين لهذا الغرض :
صاحب الجلالة ملك العراق :
صاحب المعالي الدكتور ناجي الاصيل وزير خارجية الدولة العراقية الملكية .
وصاحب الجلالة الامبراطورية شاهنشاه ايران :
صاحب المعالي عناية الله سميعي وزير خارجية الدولة الايرانية الامبراطورية .
اللذين بعد ان تبادلا وثائق تفويضهما فوجداها صحيحة اتفقا على ما يلي :
 
المادة الاولى
يوافق الفريقان الساميان المتعاقدان على اعتبار الوثائق التالية باستثناء التعديل الوارد في المادة الثانية من هذه المعاهدة وثائق مشروعة وعلى انهما ملزمات بمراعاتها :
أ‌. البروتوكول المتعلق بتحديد الحدود التركية الايرانية والموقع عليه في الاستانة بتاريخ 4 تشرين الثاني 1913.
ب‌. محاضر جلسات لجنة تحديد الحدود لسنة 1914 .
ونظراً الى احكام هذه المادة وما عدا ما هو ورد في المادة الثانية يكون خط الحدود بين الدولتين عين الخط الذي تم تعيينه وتخطيطه من قبل اللجنة المذكورة اعلاه .

المادة الثانية
ان خط الحدود عند ملتقاه بمنتهى النقطة الكائنة في جزيرة شطيط ( في الدرجة 30 والدقيقة 17 والثانية 25 من العرض الشمالي والدرجة 48 والدقيقة 19 والثانية 28 من الطول الشرقي على وجه
التقريب ) يعود فيتصل على خط ممتد عمودياً من خط انخفاض المياه بتالوك شط العرب ويتبعه حتى نقطة كائنة امام الاسئلة الحالية رقم 1 في عبادان ( في الدرجة 30 والدقيقة 20 والثانية 8.4 من العرض الشمالي والدرجة 48 والدقيقة 16 والثانية 13 من الطول الشرقي على وجه التقريب ) .
ومن هذه النقطة يعود قط الحدود فيسير مع مستوى المياه المنخفضة متبعاً خط الحدود الموصوف في محاضر جلسات السنة 1914 .
المادة الثالثة
يقوم الفريقان الساميان المتعاقدان تواً بعد التوقيع على هذه المعاهدة بتأليف لجنة نصب دعائم الحدود التي كانت قد عينت اماكنها اللجنة المذكورة في الفقرة (ب) من المادة الاولى من المعاهدة وتعين دعائم جديدة مما ترى فائدة في نصبه .
     وتعيين تشكيلات اللجنة ومنهاج اعمالها بترتيب خاص يجري بين الفريقين المتعاقدين .

المادة الرابعة
تطبق الاحكام التالية على شط العرب ابتداءً من النقطة التي تلتقي فيها الحدود البرية بين الدولتين الى النهر المذكور حتى عرض البحر :
أ‌. يبقى شط العرب مفتوحاً بالمساواة للسفن التجارية العائدة لجميع البلدان وتكون جميع العوائد المجباة من قبيل اجور للخدمات المؤداة وتخصص فقط بصورة عادلة ، من اجل كلفة صيانة او تحسين طريق الملاحة ومدخل شط العرب من جهة البحر ولتدارك النفقات المتكبدة لصالح الملاحة وتقدر العوائد المذكورة على اساس الحمولة الرسمية للسفن او مقدار انغطاسها او على كليهما معاً .
ب‌. يكون شط العرب مفتوحاً لمرور السفن الحربية والسفن الاخرى المستخدمة في مصالح حكومية غير تجارية والعائدة للفريقين الساميين المتعاقدين .
ت‌. ان هذه الحالة اي اتباع خط الحدود في شط العرب مرة المياه المنخفضة وتارة التالوك او وسط المياه مما لا يؤثر على حق استفادة الطرفين المتعاقدين بوجه ما في الشط كله .

المادة الخامسة
لما كان للفريقين الساميين المتعاقدين مصلحة مشتركة في الملاحة في شط العرب كما هو معروف في المادة الرابعة من هذه المعاهدة فانهما يتعهدان بعقد اتفاقية بشأن صيانة وتحسين طريق الملاحة وبشأن اعمال الحفر ودلالة السفن واستيفاء الاجور والعوائد والتدابير الصحية والتدابير اللازمة الاخرى في سبيل منع التهريب وكذلك بشأن كافة الامور المعلقة بالملاحة في شط العرب كما ذكر في المادة الرابعة من هذه المعاهدة .
 
المادة السادسة
تبرم هذه المعاهدة ويتم تبادل وثائق الابرام في بغداد باسرع ما يمكن وتصبح نافذة من تاريخ تبادل الوثائق المذكورة . 
واقرارً بما تقدم فقد وقع المندوبان المفوضان المذكوران اعلاه على هذه المعاهدة .
كتب في طهران باللغات العربية والفارسية والفرنسية . وعند وجود اختلاف يكون النص الفرنسي هو المعول عليه .
في 4 تموز 1937 .
التوقيع : ناجي الاصيل
التوقيع : سميعي
( بروتوكول )

ان الفريقين الساميين المتعاقدين حين قيامهما بالتوقيع على معاهدة الحدود بين العراق وايران اتفقا على ما يلي :
1. لاجل تثبيت المقاييس الجغرافية المذكورة على وجه التقريب في المادة الثانية من المعاهدة الانفة الذكر بصورة نهائية تؤلف لجنة خاصة من خبراء يعين كل من الفريقين الساميين المتعاقدين عدداً متساوياً منهم وتقوم اللجنة المشار اليها بتثبيت المقاييس المذكورة ضمن الحدود المعينة في تلك المادة وتدون نتائج التثبيت بمحضر يكون بعد ان يوقع عليه اعضاء اللجنة المشار اليها جزءً لا يتجزأ من المعاهدة. 
2. يتعهد الفريقان الساميان المتعاقدان بعقد الاتفاقية المنصوص عليها في المادة الخامسة من المعاهدة في مدة سنة واحدة من تاريخ تنفيذ المعاهدة . فاذا لم يكن بالامكان عقد هذه الاتفاقية في خلال السنة وذلك بالرغم من الجهود المبذولة من قبلها يجوز عندئذ تمديد المدة المذكورة باتفاق مشترك بين الفريقين الساميين المتعاقدين .
توافق الحكومة الايرانية الامبراطورية على انه في خلال مدة السنة المنصوص عليها في الفقرة الاولى من هذه المادة وفي خلال تمديد هذه المدة – في حالة ما اذا جرى التمديد المذكور – تأخذ الحكومة العراقية على عاتقها وفق الاسس الحالية المرعية امر القيام بكافة الامور التي ستعالجها الاتفاقية المذكورة . وتقوم الحكومة الملكية العراقية باطلاع الحكومة الايرانية الامبراطورية مرة في كل ستة اشهر على الاعمال المنجزة والعوائد المجباة والنفقات المتكبدة وعلى جميع التدابير الاخرى المتخذة .
3. ان الاجازة التي يمنحها احد الفريقين الساميين المتعاقدين لاحدى السفن الحربية او لاحدى السفن الاخرى الحكومية غير المستخدمة في مقاصد تجارية العائدة لدولة ثالثة لاجل الدخول في احد الموانئ العائدة الى ذلك الفريق السامي المتعاقد والواقعة في شط العرب تعتبر اجازة منحت من قبل الفريق السامي المتعاقد الاخر وذلك لكي تتمكن السفينة المذكورة من استعمال المياه العائدة له في شط العرب عند مرورها منه. مع ذلك عندما يمنح احد الفريقين الساميين المتعاقدين اجازة من هذا القبيل عليه ان يخبر بذلك الفريق السامي الاخر فوراً .
4. مع الاحتفاظ بما لايران من حقوق في شط العرب فمن المفهوم انه ليس في المعاهدة المبحوث فيها ما يخل بحقوق العراق وواجباته وفق التعهدات التي قطعها للحكومة البريطانية فيما يخص شط العرب عملاً بالمادة الرابعة من المعاهدة المؤرخة في 30 حزيران سنة 1930 وبالفقرة السابعة من ملحقها الموقع عليه بنفس التاريخ .
5. يبرم هذا البروتوكول في نفس الوقت الذي تبرم فيه معاهدة الحدود ويكون ملحقاً بها وجزءً لا يتجزأ منها ويدخل في حيز التنفيذ مع المعاهدة في وقت واحد .
     كتب هذا البروتوكول باللغات العربية والفارسية والفرنسية وعند وجود اختلاف يكون النص الفرنسي هو النص المعول عليه .
كتب في طهران بنسختين في اليوم الرابع من شهر تموز سنة ألف وتسعمائة وسبع وثلاثين ميلادية .

ناجي الاصيل
سميعي
ملحق رقم (2)
اتفاقيــــة الجزائــــر
6 آذار 1975

خلال انعقاد مؤتمر القمة للاقطار المصدرة للنفط في الجمهورية الجزائرية وعلى اثر مبادرة الرئيس هواري بومدين ، اجتمع شاه ايران مع صدام حسين ( نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ) مرتين وجرى حوار مطول حول العلاقات بين العراق وايران . اتسمت هذه المحادثات التي حضرها الرئيس هواري بومدين بالصراحة التامة والرغبة المخلصة لكلا الطرفين للوصول الى حل نهائي ودائم لجميع المشاكل القائمة بين بلديهما حسب مبادئ السيادة الكاملة وصيانة الحدود وعدم التدخل في الشؤون الداخلية .
قرر الفريقان الساميان المتعاقدان على مايلي :
اولاً : اجراء تخطيط نهائي للحدود البرية بين العراق وايران بناءً على بروتوكول استنابول لسنة 1913 ومحاضر لجنة تحديد الحدود لسنة 1914 المنشأة على اساس البروتوكول ذاته .
ثانياً : تحديد الحدود النهرية حسب خط التالوك .
ثالثاً : بناء على هذا سيعيد الطرفان الامن والثقة المتبادلة على طول حدودهما المشتركة ويلتزمان من ثم على اجراء رقابة مشددة وفعالة على حدودهما المشتركة وذلك من اجل وضع حد نهائي لكل التسللات ذات الطابع التخريبي من حيث اتت .
رابعاً : كما اتفق الطرفان على اعتبار هذه الترتيبات المشار اليها اعلاه كعناصر لا تتجزأ لحل شامل ، وبالتالي فان اي مساس باحدى مقوماتها يتنافى بطبيعة الحال مع روح اتفاق الجزائر . يبقى الطرفان على اتصال دائم مع الرئيس هواري بومدين الذي سوف يقدم ، اذا اقتضت الضرورة ، مساعدة اخوية في سبيل تطبيق هذه القرارات .
وقرر الطرفان اعادة الروابط التقليدية لحسن الجوار والصداقة ، وذلك بازالة العوامل السلبية لعلاقاتهما وتبادل وجهات النظر بشكل مستمر حول المسائل ذات المصلحة المشتركة وتنمية التعاون المتبادل . ويعلن الطرفان رسمياً ان المنطقة يجب ان تكون في مأمن من اي تدخل اجنبي .
سيتقابل وزير خارجية العراق مع وزير خارجية ايران بحضور وزير الخارجية الجزائرية في 15 آذار 1975 في طهران وذلك لاجراء ترتيبات بشأن اللجنة العراقية – الايرانية المشتركة التي تشكلت لغرض تطبيق القرارات بالاتفاق المشترك كما محدد اعلاه . وحسب رغبة الطرفين ، يتم توجيه دعوة للجزائر لحضور محادثات اللجنة العراقية – الايرانية المشتركة . ستقوم اللجنة بتحديد جدول الاعمال واجراءات العمل وتعقد اجتماعات اذا اقتضت الضرورة . وستعقد الاجتماعات بالتناوب في كل من بغداد وطهران .
وافق صاحب الجلالة شاه ايران بكل اغتباط على الدعوة الموجهة اليه من قبل فخامة الرئيس احمد حسن البكر لزيارة العراق بشكل رسمي . وان موعد الزيارة سيتم تثبيته باتفاق مشترك .
من جهة اخرى ، وافق السيد صدام حسين على زيارة ايران رسمياً في موعد يحدده الطرفان . عبر صاحب الجلالة شاه ايران والسيد صدام حسين عن امتنانهما العميق للرئيس هواري بومدين ( الذي اثارته المشاعر الاخوية وروح نكران الذات ) لمساعيه في اقامة اتصال مباشر بين زعيمي البلدين وبالتالي مساهمته في احياء عهد جديد للعلاقات العراقية – الايرانية الذي هدفه تحقيق اعلى اهتمام مستقبلي في المنطقة التي نحن بصددها .

ملحق رقم (3)
معاهدة تخص الحدود وعلاقات الجوار
بين العراق وايران
صاحب الجلالة الامبراطورية شاهنشاه ايران
فخامة رئيس جمهورية العراق

بناء على الرغبة الصادقة لكلا الطرفين ، كما عبرت عنه اتفاقية الجزائر في 6 آذار 1975 وفي تحقيق حل نهائي ودائم لجميع المشاكل المعلقة بين البلدين ، وعلى اعتبار ان الطرفين قد نفذا اعادة تأشير حدودهما البرية بموجب بروتوكول الاستانة لسنة 1913 ومحاضر جلسات لجنة تحديد الحدود لسنة 1914 وعينا حدودهما النهرية على طول خط التالوك ، ونظراً لرغبتهما لاستعادة الامن والثقة المتبادلة على طول حدودهما المشتركة .
ونظراً لعلاقات التقارب الجغرافي والتاريخ والدين والثقافة والحضارة التي تربط شعبي العراق
وايران ، وبناء على رغبتهما في تعزيز اواصر الصداقة وحسن الجوار وتطوير علاقاتهما الاقتصادية والثقافية وتشجيع التبادل والعلاقات الانسانية بين شعبيهما على اساس مبادئ السيادة الاقليمية وحرمة الحدود وعدم التدخل في الشؤون الداخلية .
قررا السعي نحو تحقيق عهد جديد لعلاقات الصداقة بين العراق وايران قائمة على الاحترام الكامل للاستقلال الوطي وسيادة البلدين ، اقتنعتا من انهما على هذا الاساس يساعدان في تطبيق المبادئ وتحقيق مقاصد واهداف ميثاق الامم المتحدة ، قررا ابرام هذه المعاهدة وعينا عنهما مندوبين مفوضين :
صاحب الجلالة الامبراطورية شاهنشاه ايران
صاحب المعالي عباس خلعتبري وزير خارجية ايران
سيادة رئيس الجمهورية العراقية
صاحب المعالي سعدون حمادي وزير خارجية العراق
اللذين بعد ان تبادلا وثائق تفويضهما فوجداها صحيحة اتفقا على ما يلي :
المادة الاولى
     يؤكد الفريقان الساميان المتعاقدان ان حالة الحدود البرية بين العراق وايران ستبقى كما اعيد تخطيطها على اساس وبموجب نصوص البروتوكول الخاص واعادة تخطيط الحدود البرية والملاحق المرفقة بالمعاهدة .

المادة الثانية
     يؤكد الفريقان الساميان المتعاقدان من ان حالة الحدود في شط العرب تبقى كما حددت على اساس وبموجب نصوص البروتوكول الخاص باعادة تخطيط الحدود النهرية والملاحق المرفقة بالمعاهدة .

 

 

المادة الثالثة
يتولى الفريقان الساميان المتعاقدان مسؤولية ممارسة سيطرة دقيقة ودائمية على الحدود وذلك لوضع حد لاي تسلل ذي طابع تخريبي من اي مصدر ، على اساس وبموجب البروتوكول الخاص بأمن الحدود والملاحق المرفقة بالمعاهدة .
 
المادة الرابعة
يؤكد الفريقان الساميان المتعاقدان ان نصوص البروتوكولات الثلاثة والملحقات المرفقة بها ، المشار اليها في المواد (1) و (2) و (3) اعلاه والملحقة بهذه المعاهدة كجزء متكامل ستكون نهائية وثابتة . لا يجوز مخالفتها تحت اي ظروف وستشكل عناصر لا تتجزأ من تسوية شاملة . وتبعاً لذلك ، فان اي انتهاك لاحد عناصر التسوية الشاملة سوف يتعارض مع روح اتفاقية الجزائر .
 
المادة الخامسة
انسجاماً مع حرمة حدود الدولتين واحترام سيادتهما الاقليمية ، يؤكد الفريقان الساميان المتعاقدان ان خط حدودهما البرية والنهرية سيكون نهائياً وثابتاً واميناً .
 
المادة السادسة
1. في حالة وجود خلاف بِشأن تفسير او تطبيق هذه المعاهدة او البروتوكولات الثلاثة او الملاحق الخاصة بها فإن اي حل لمثل هذا الخلاف ينبغي ان يلتزم بدقة مسار الحدود العراقية – الايرانية المشار اليه في المادتين (1) و (2) اعلاه ويأخذ بنظر الاعتبار الحاجة الى حفظ السلام على الحدود العراقية – الايرانية تبعاً للمادة (3) اعلاه .
2. ان مثل هذه الخلافات سوف تحل للوهلة الاولى من قبل الفريقين الساميين المتعاقدين عن طريق المفاوضات المشتركة المباشرة التي ستعقد ضمن شهرين بعد تاريخ طلب احد الفريقين .
3. في حالة عدم التوصل الى اتفاق ، سوف يلجأ الفريقان الساميان المتعاقدان خلال مدة ثلاثة اشهر الى المساعي الحميدة لدولة ثالثة .
4. في حالة رفض احد الفريقين اللجوء الى المساعي الحميدة او في حالة فشل المساعي الحميدة فإن الخلاف سوف تتم تسويته عن طريق التحكيم في مدة لا تتعدى شهراً واحداً من تاريخ مثل هذا الرفض او الفشل .
5. اذا لم يتفق الفريقان الساميان المتعاقدان على اسلوب التحكيم ، يجوز لاحد الفريقين المتعاقدين خلال مدة (15) يوم بعد تسجيل هذا الخلاف ، اللجوء الى محكمة تحكيم .
وبغية تشكيل محكمة تحكيم من هذا النوع ، يجوز لكل من الفريقين الساميين المتعاقدين
( بخصوص كل خلاف يقتضي علاج ) تعيين احد المواطنين حكماً وان المحكمين سوف يختاران محكماً اذا اخفق الفريقان الساميان المتعاقدان في تعيين محكمين خلال شهر من تاريخ استلام احد الفريقين طلب التحكيم من الفريق الاخر ، او اذا اخفق المحكمون في الوصول الى اتفاق حول اختيار الحكم قبل نفاذ المدة المقررة ، فان الفريق المتعاقد السامي الذي طلب التحكيم مخول بالتماس رئيس محكمة العدل الدولية لتعيين المحكمين او الحكم بموجب السياقات الثابتة لمحكمة التحكيم .
6. يعتبر قرار المحكمة ملزماً وسارياً على الطرفين الساميين المتعاقدين .
7. يتحمل الفريقان الساميان المتعاقدان كل على حدة اتعاب التحكيم .
 
المادة السابعة
     تسجل هذه المعاهدة والبروتوكولات الثلاثة والملاحق حسب المادة (102) من ميثاق الامم المتحدة .
 
المادة الثامنة
يصادق على هذه المعاهدة والبروتوكولات الثلاثة والملاحق الخاصة بها من قبل الفريقين الساميين المتعاقدين حسب القانون المحلي.
تعتبر هذه المعاهدة والبروتوكولات الثلاثة والملاحق الخاصة بها سارية المفعول من تاريخ تبادل وثائق الابرام في طهران .
واقراراً بما تقدم فقد وقع المندوبان المفوضان المذكوران اعلاه على هذه المعاهدة والبروتوكولات الثلاثة والملاحق الخاصة بها .
كتب في بغداد بتاريخ 13 حزيران 1975 .
التوقيع         التوقيع
عباس خلعتبري        سعدون حمادي
وزير خارجية ايران       وزير خارجية العراق

تم التوقيع على هذه المعاهدة والبروتوكولات الثلاثة والملاحق الخاصة بها بحضور صاحب السعادة عبد العزيز بو تفليقة عضو مجلس الثورة ووزير خارجية الجزائر .

 
بروتوكول خاص بتعيين الحدود النهرية
بين العراق وايران

الحاقاً بالقرارات المتخذة في اتفاقية الجزائر 6 آذار 1975 ، وافق الفريقان الساميان المتعاقدان على ما يأتي :
المادة الاولى
يعلن الفريقان الساميان المتعاقدان هنا ويقران ان حالة الحدود النهرية بين العراق وايران في شط العرب قد حددت بموجب خط التالوك من قبل اللجنة العراقية – الايرانية – الجزائرية المشتركة وعلى اساس ما يلي :
1. بروتوكول طهران في 17 آذار 1975 .
2. سجل اجتماع وزراء الخارجية الموقع في بغداد بتاريخ 20 نيسان 1975 الذي صادق على ( من جملة الامور ) سجل اللجنة لتخطيط الحدود النهرية الموقع عليه في 16 نيسان 1975 على ظهر الباخرة العراقية ( الثورة ) في شط العرب .
3. خرائط مناسيب المياه المشتركة التي ثبتت على الفور وصححت وعليها تم تأشير الاحداثيات الجغرافية لنقاط تقاطع حدود عام 1975 . تم التوقيع على الخرائط من قبل اختصاصين في مناسيب المياه للجنة الفنية المشتركة وصادق عليها الرؤساء المفوضون للعراق وايران والجزائر في اللجنة . ان الخرائط المذكورة المدرجة ادناه قد الحقت بهذا البروتوكول وتشكل جزءً متكاملاً على هذا الاساس .
الخارطة رقم (1) : مدخل شط العرب رقم 3842 نشرت من قبل وزارة البحرية البريطانية .
الخارطة رقم (2) : الحيـد الداخلــي الـى نقطـة كبـدة رقم 3843 نشرت من قبل وزارة البحرية البريطانية .
الخارطة رقم (3) : نقطة كبدة الى عبادان رقم 3844 نشرت من قبل وزارة البحرية البريطانية .
الخارطة رقم (4) : عبـادان الى جزرة ام طويلـة رقم 3845 نشـرت من قبل وزارة البحريـة البريطانية .
 
المادة الثانية
1. سيكون خط الحدود في شط العرب ( الثالوك ) اي الخط الوسطي لمجرى الملاحة الرئيسي في اوطأ مستوى قابل للملاحة يبدأ من النقطة التي تدخل فيها الحدود البرية بين العراق وايران شط العرب وتستمر الى البحر .
2. وكما محدد في الفقرة (1) اعلاه ، ان خط الحدود سوف يتبدل بالتغييرات التي تسببها الظروف الطبيعية في قناة الملاحة الرئيسية . ان خط الحدود سوف يتأثر بتغييرات اخرى ما لم يبرم الفريقان الساميان المتعاقدان اتفاقية خاصة بصدد ذلك .
3. ان حصول اي تغييرات مشار اليها في الفقرة (2) اعلاه سوف تثبت بصورة مشتركة من قبل فنيين اكفاء للفريقين الساميين المتعاقدين .
4. ان اي تغيير في قاع شط العرب حصل نتيجة اسباب طبيعية تنطوي على تغيير في السمة الوطنية للدولتين فإن ملكية الارض والانشاءات والمنشآت الفنية وغيرها سوف لا تغير مسار خط الحدود الذي سوف يقتفي خط التالوك بموجب نصوص الفقرة (1) اعلاه .
5. ما لم يتم التوصل الى اتفاق بين الفريقين الساميين المتعاقدين بشأن تحويل خط الحدود الى القعر الجديد ، ان المياه سوف يعاد توجيهها على حساب الطرفين الى القعر الموجود في سنة 1975 – كما مؤشر في الخرائط الاربع في المادة (1) الفقرة (3) اعلاه – في حالة طلب احد الفريقين خلال فترة عامين بعد تثبيت حول التغيير من قبل احد الفريقين ولحين ذلك الوقت ، يحتفظ كلا الفريقين بحقوقهما السابقة في الملاحة واستخدام مياه القعر الجديد .

المادة الثالثة
1. كما محدد في المادة (2) اعلاه ، ان الحدود النهرية بين العراق وايران في شط العرب تمثل بخط المناسيب المؤشر على الخرائط المشتركة والمشار اليه في المادة (1) الفقرة (3) اعلاه .
2. اتفق الفريقان الساميان المتعاقدان على اعتبار ان الحدود النهرية تنتهي على الخط المستقيم الذي يربط ضفتي شط العرب في مصبه ( اوطأ نقطة تأشير ارتفاع المياه ) . لقد تم تأشير هذا الخط المستقيم على خرائط تقسيم المياه المشار اليها في المادة (1) الفقرة (3) اعلاه .
 
المادة الرابعة
ان خط الحدود كما محدد في الفقرات (1) و (2) و (3) من هذا البروتوكول سوف يقسم المجال الجوي والتربة التحتانية بشكل عمودي .
 
المادة الخامسة
     بهدف القضاء على اي مصدر للجدل ، يؤلف الفريقان المتعاقدان لجنة عراقية – ايرانية مشتركة لتسوية ، خلال شهرين ، اي مسائل تتعلق بالوضع الشرعي للممتلكات الارضية والمنشآت الفنية والابنية التي قد يتأثر طابعها القومي بتخطيط الحدود النهرية بين العراق وايران اما من خلال شراء او تعويض او ترتيب مناسب آخر. 
 
المادة السادسة
بما ان عملية مسح شط العرب قد انجزت وان خارطة تقسم المياه العامة في المادة (1) الفقرة (3) قد رسمت ، فقد اتفق الفريقان المتعاقدان على اجراء مسح جديد لشط العرب بشكل مشترك ومرة واحدة كل عشر سنوات اعتباراً من تاريخ توقيع هذا البروتوكول . مع ذلك ، يحق لكل فريق طلب مسوحات جديدة لكي تنفذ بشكل مشترك قبل انتهاء مدة السنوات العشر .
يتحمل كل طرف من الفريقين المتعاقدين نصف تكاليف مثل هذه المسوحات .

 
المادة السابعة
1. تتمتع السفن التجارية والحكومية والحربية للفريقين المتعاقدين بحرية الملاحة في شط العرب وفي اي جزء من قنوات الملاحة في البحر الاقليمي الذي يقود الى مصب شط العرب بصرف النظر عن الخط المحدد الى البحر الاقليمي لكل من البلدين .
2. تتمتع سفن اقطار الدول الثالثة المستخدمة لاغراض التجارة بحرية الملاحة على اساس متساو وغير متحيز ، في شط العرب او اي جزء في قنوات الملاحة في البحر الاقليمي الذي يقوم الى مصب شط العرب بصرف النظر عن الخط  المحدد الى البحر الاقليمي لكل من البلدين .
3. يحق لكل فريق متعاقد تخويل السفن الحربية الحدودية بزيارة موانئه والدخول في شط العرب بشرط ان هذه السفن لا تنتمي الى دولة معادية او في حالة نزاع مسلح او حرب مع اي من الفريقين المتعاقدين وبشرط اشعار الفريق الاخر مسبقاً في مدة لا تقل عن (72) ساعة .
4. على الفريقين المتعاقدين الامتناع باي حال من الاحوال تخويل السفن التجارية بالدخول الى شط العرب والعائدة الى بلد في حالة عداء او نزاع مسلح او حرب مع اي من الفريقين .

المادة الثامنة
1. ان القواعد المتحكمة في الملاحة في شط العرب سوف تصاغ من قبل لجنة عراقية – ايرانية مشتركة طبقاً لمبدأ الحقوق المتكافئة للملاحة لكلا البلدين .
2. يقوم الفريقان المتعاقدان بتشكيل لجنة لوضع قواعد تتحكم بمنع التلوث في شط العرب .
3. يتعهد الفريقان المتعاقدان بابرام اتفاقيات لاحقة حول المسائل المشار اليها في الفقرات (1) و (2) من هذه المادة .
 
المادة التاسعة
يعترف الفريقان المتعاقدان ان شط العرب بالدرجة الاولى هو ممر مائي دولي ويتعهد كلاهما بالامتناع عن اي عمل من شأنه ان يعرقل الملاحة في شط العرب او في اي جزء من تلك القنوات الصالحة للملاحة في المياه الاقليمية لاي من البلدين الذي يؤدي الى مصب شط العرب .

كتب في بغداد بتاريخ 13 حزيران 1975 .
التوقيع         التوقيع
سعدون حمادي        عباس خلعتبري
وزير خارجية العراق       وزير خارجية ايران
وقعت بحضور سيادة عبد العزيز بو تفليقة عضو مجلس الثورة ووزير خارجية الجزائر .
( التوقيع )
 
ملحق رقم (4)
قرارات الامم المتحدة حول الحرب العراقية – الايرانية
الموقف بين العراق وايران

القرارات

بتاريخ 23 أيلول 1980 ، اصدر رئيس المجلس البيان التالي :
قام اعضاء مجلس الامن هذا اليوم بتبادل وجهات النظر في مشاورات غير رسمية حول الموقف المتأزم جداً بين العراق وايران . لقد اخذوا علماً بالتردي الحاصل بخصوص تصاعد العمليات العسكرية التي ادت الى خسارة في الارواح واضرار مادية جسيمة .
ان اعضاء المجلس قلقون جداً من ان هذا الصراع يمكن ان يكون خطيراً ويشكل تهديداً الى الامن والسلام العالمي .
يرحب اعضاء المجلس ويدعمون كلياً نداء السكرتير العام الموجه الى كلا الفريقين في 22 أيلول 1980 وكذلك طلبه من انه بذل مساع حميدة لحل النزاع القائم .
لقد طلب مني اعضاء المجلس ان اوجه نداءً نيابة عنهم الى حكومتي العراق وايران كخطوة اولية حول حل النزاع والابتعاد عن جميع الفعاليات العسكرية وكل عمليات قد تؤدي الى تردي الموقف الخطير الراهن وتسوية خلافهم بوسائل سلمية .
وفي الجلسة 2247 بتاريخ 26 أيلول 1980 ، قرر المجلس دعوة ممثل العراق للمشاركة ( بدون تصويت ) في مناقشة الفقرة المعنونة ( الموقف بين العراق وايران ) .
وفي الجلسة 2248 بتاريخ 28 أيلول 1980 ، قرر المجلس دعوة ممثل ايران للمشاركة ( بدون تصويت ) في مناقشة المسألة .
(1) قرار 479 في 28 أيلول 1980 :
مجلس الامن
     بعد الشروع ببحث الفقرة المعنونة ( الموقف بين العراق وايران ) مراعاة الى ان جميع الدول الاعضاء قد تعهدت ، بموجب ميثاق الامم المتحدة ، الالتزام بتسوية خلافاتها الدولية بوسائل سلمية وبطريقة بحيث لا تعرض للخطر السلام والامن العالمي .
     مراعاة ايضاً الى ان جميع الدول الاعضاء ملزمة بالاحتفاظ بعلاقاتها الدولية ومنعها من اي تهديد او استخدام قوة ضد السيادة الاقليمية او الاستقلال السياسي لاي دولة .
     واستذكاراً من ان بموجب المادة (24) من الميثاق يتولى مجلس الامن مسؤولية رئيسية لحفظ السلام والامن العالمي .
ومن جراء القلق الشديد بشأن تطور الموقف بين العراق وايران :
1. الطلب من العراق وايران بالكف حالاً عن استخدام اي قوة اخرى وتسوية خلافاتهم بوسائل سلمية وتمشياً مع مبادئ العدالة والقانون الدولي .
2. حثهم على قبول اي عرض مناسب للوساطة والتسوية او الرجوع الى الوكالات الاقليمية او ترتيبات او وسائل سلمية اخرى من اختيارهم الخاص التي قد تسهل تنفيذ الالتزامات بموجب ميثاق الامم المتحدة .
3. دعوة كافة الدول الاخرى لممارسة اقصى الانضباط والكف عن اي عمل قد يؤدي الى تصعيد اخر وتوسيع الصراع .
4. اسناد جهود الامين العام وعرضه للمساعي الحميدة لحل هذا الموقف .
5. الالتماس من السكرتير العام لابلاغ مجلس الامن ضمن 48 ساعة .
اقر بالاجماع في الجلسة 2248 .
(2) قرار 514 ( 1982 ) اقره مجلس الامن في جلسته 2383 بتاريخ 12 تموز 1982 :
مجلس الامن
     بعد النظر ثانية في المسألة المعنونة ( الموقف بين العراق وايران ) والقلق الشديد حول اطالة الصراع بين البلدين الذي نجم عنه خسائر جسيمة في الارواح واضرار مادية كبيرة وتعريض السلام والامن للخطر .
     واستعادة للاذهان احكام المادة (2) من ميثاق الامم المتحدة من ان اقامة السلام والامن في المنطقة يتطلب التمسك الشديد بهذه الاحكام .
     واستعادة للاذهان المادة (24) من الميثاق من ان مجلس الامن يضطلع بالمسؤولية الرئيسية لحفظ السلام والامن العالمي .
     واستعادة للاذهان 479 (1980) ، المصادق عليه بالاجماع في 28 أيلول 1980 وكذلك بيان رئيسه في 5 أيلول 1980 ( اس / 14244 ) ، واخذ بنظر الاعتبار جهود التوسط المبذولة بالدرجة الاولى من قبل السكرتير العام للامم المتحدة وممثله وكذلك حركة اقطار عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر الاسلامي .
1. يدعو الى وقف اطلاق النار وانهاء فوري لجميع العمليات العسكرية .
2. يدعو الى سحب القوات الى الحدود المعترف بها دولياً .
3. يقرر ارسال زمرة من مراقبي الامم المتحدة للتحقق والتأكيد والاشراف على وقف اطلاق النار والانسحاب والطلب من السكرتير العام بتقديم تقرير الى المجلس حول الترتيبات المطلوبة لذلك الغرض .
4. الحث على استمرار جهود الوساطة بطريقة منسقة من خلال الامين العام بهدف التوصل الى تسوية مشرفة وشاملة مقبولة لكلا الفريقين ولجميع المسائل المعلقة على اساس مبادئ ميثاق الامم المتحدة المتضمنة احترام السيادة والاستقلال وعدم التدخل في الشؤون الداخلية .
5. الطلب من جميع الدول الاخرى بالكف عن كافة الاعمال التي قد تساهم باستمرار الصراع وتسهيل تطبيق القرار الحالي .
6. التماس السكرتير العام بتبليغ مجلس الامن خلال مدة ثلاثة اشهر بتطبيق هذا القرار .
(3) نتائج اطالة الصراع المسلح بين العراق وايران :
الجمعية العامة
     بعد الاطلاع على الفقرة المعنونة ( نتائج اطالة الصراع المسلح بين العراق وايران ) . وبملاحظة ديباجة ميثاق الامم المتحدة ، الذي عبرت فيه جميع الدول عن تصميمها للعيش سوية في سلام مع بعضها الاخر كجيران طيبين ، وتأكيداً للمبادئ من ان لا يحق لدولة اكتساب او احتلال ارض من خلال استخدام القوة وان اي اراض تم الحصول عليها بهذه الطريقة ينبغي اعادتها وان اي عمل عدائي ينبغي عدم القيام به ضد دولة اخرى وان تحترم السيادة الوطنية والاقليمية لجميع الدول وان لا تتدخل في الشؤون الداخلية للاخرى وان جميع الخلافات والطلبات التي قد توجد بين الدول ينبغي تسويتها بوسائل سلمية وذلك لكي تعم علاقات السلام بين الدول الاعضاء .
     وبالرجوع الى القرارات 479 (1980) في 28 أيلول 1980 ، 514 (1982) في
12 تموز 1982 و 522 في 4 تشرين الاول 1982 حول المسألة المعنوية ( الموقف بين العراق وايران ) التي اقرت بالاجماع من قبل مجلس الامن ، ورجوعاً الى البيانات التي القاها رئيس مجلس الامن في 5 تشرين الثاني 1980 و 15 تموز 1982 ، يؤخذ بنظر الاعتبار تقرير الامين العام في 7 تشرين الاول 1982 ، وعلى اعتبار ان مجلس الامن قد دعا تواً الى وقف اطلاق نيران طويل وانهاء العمليات العسكرية ، وعلى اعتبار ايضاً اطالة الصراع يشكل انتهاكاً بالتزامات الدول الاعضاء بموجب الميثاق :
1. اعتبار ان الصراع بين العراق وايران واطالته والتصعيد الاخير الذي تسبب من جرائه خسائر جسيمة في الارواح واضرار كبيرة في الممتلكات في المنطقة السوقية الاقتصادية والسياسة سوف يعرض الامن والسلام الى الخطر .
2. تأكيد الحاجة لوقف اطلاق النيران الفوري وسحب القوات الى الحدود الدولية المعترف بها كخطوة اولية نحو تسوية النزاع بوسائل سلمية وانسجاماً مع مبادئ العدالة والقانون الدولي
3. دعوة جميع الدول الاخرى للامتناع عن كافة الاعمال التي قد تساعد على استمرار الصراع وتسهيل تطبيق القرار الحالي .
4. الطلب من السكرتير العام مواصلة جهوده بالتشاور مع الاطراف المعنية بقصد تحقيق التسوية السلمية .
5. الطلب من السكرتير العام ان يجعل الدول الاعضاء على علم حول تطبيق القرار الحالي .

الجلسة المكتملة الاعضاء 41
22 تشرين الاول 1982

 

(4) التعاون بين الامم المتحدة ومنظمة المؤتمر الاسلامي :
الجمعية العامة
     بعد الاطلاع على تقرير السكرتير العام حول التعاون بين الامم المتحدة ومنظمة المؤتمر الاسلامي، والعودة الى قراره 3369 ( 30 ) في 10 تشرين الاول 1975 الذي بموجبه منح المراقبون مركزاً في منظمة المؤتمر الاسلامي .
     والعودة الى قراره 35/36 في 14 تشرين الثاني 1980 و 36/23 في 9 تشرين الثاني 1981، وبملاحظة – برضا – التطور المستمر للتعاون بين الامم المتحدة ومنظمة المؤتمر الاسلامي، وبملاحظة تعزيز التعاون بين الوكالات المختصة والمنظمات الاخرى لهيئة الامم المتحدة ومنظمة المؤتمر الاسلامي، واخذ بنظر الاعتبار رغبة كلا المنظمتين في التعاون اكثر في سعيها المشترك لحل المشاكل الدولية مثل المسائل المتعلقة بالامن والسلام العالمي ونزع السلاح وتقرير المصير والتحرر من الاستعمار والحقوق الانسانية الاساسية واقامة نظام اقتصادي دولي جديد ،
     وملاحظة ايضاً توقيع اتفاقيات تعاون بين عدد من الوكالات المتخصصة ومنظمة المؤتمر الاسلامي.
     واقتناعاً بالحاجة لتعزيز تعاون اكثر بين الامم المتحدة ومنظمة المؤتمر الاسلامي ، وملاحظة ايضاً مقترحات الامين العام :
1. اخذ ملاحظات عن تقرير الامين العام والمصادقة على المقترحات المتضمنة فيه .
2. مناشدة الامم المتحدة ومنظمة المؤتمر الاسلامي لتعزيز التعاون في سعيهما المشترك لايجاد حل للمشاكل الدولية كالمسائل المتعلقة بالسلام والامن العالمي ونزع السلاح وتقرير المصير والتحرر من الاستعمار والحقوق الانسانية الاساسية واقامة نظام اقتصادي دولي جديد .
3. مناشدة السكرتير العام لاعداد توجيهات قائمة على قرارات الجمعية العامة لتشجيع التعاون مع منظمة المؤتمر الاسلامي .
4. دعوة السكرتير العام ، بالتشاور مع الامين العام لمنظمة المؤتمر الاسلامي ، لتنظيم جلسة سنوية تبدأ في عام 1983 بين امانة سر منظمة المؤتمر الاسلامي وامانة سر الامم المتحدة والمنظمات الاخرى المسؤولة ضمن هيئة الامم المتحدة بدراسة المرحلة التي تم التوصل اليها في تطوير التعاون وتقديم مقترحات لتعزيز التعاون مع منظمة المؤتمر الاسلامي .
5. تشجيع الوكالات المتخصصة والمنظمات الاخرى المكلفة ضمن نطاق هيئة الامم المتحدة بتوسيع التعاون مع منظمة المؤتمر الاسلامي مثل التفاوض لعقد اتفاقيات تعاون .
6. مناشدة السكرتير العام على الاستمرار باتخاذ الخطوات لتعزيز التعاون ونشاطات هيئة الامم المتحدة في هذا المجال بقصد تقوية التعاون بين الامم المتحدة وهيئة الامم المتحدة ومنظمة المؤتمر الاسلامي .
7. مناشدة السكرتير العام لتبليغ الجمعية العامة في جلستها 38 حول وضع التعاون بين الامم المتحدة ومنظمة المؤتمر الاسلامي .
8. قرار بتضمين جدول اعمال الجلسة 38 بالفقرة المعنونة ( التعاون بين الامم المتحدة ومنظمة المؤتمر الاسلامي ) .

الجلسة المكتملة الاعضاء 41
22 تشرين الاول 1982

(5) قرار 522 (1982) اقره مجلس الامن في جلسته 2399 بتاريخ 4 تشرين الثاني 1982 :
     بعد اطلاع مجلس الامن مجدداً على القضية المعنونة ( الموقف بين العراق وايران ) . وآسفة لاطالة وتصعيد الصراع بين البلدين ، الذي نجم عنه خسائر جسيمة في الارواح واضرار مادية كبيرة وتعريض السلام والامن للخطر ، والتأكيد مجدداً من ان اعادة السلم والامن للمنطقة يتطلب من جميع الدول الاعضاء الايفاء بدقة بالتزاماتهم بموجب ميثاق الامم المتحدة .
     ورجوعاً الى قراره 479 (1980) الذي اقر بالاجماع في 28 أيلول 1980 وكذلك بيان رئيس المجلس في 5 تشرين الثاني 1980 ( اس / 14244 ) ، ورجوعاً الى قراره 514 (1982) الذي اقر بالاجماع في 12 تموز 1982 وبيان رئيس المجلس في 15 تموز 1982
( اس / 15295 ) ، ويؤخذ بنظر الاعتبار تقرير السكرتير العام ( اس / 15293 ) في
15 تموز 1982 :
1. يدعو فوراً الى وقف اطلاق النار او انهاء كافة العمليات العسكرية .
2. يؤكد مجدداً على سحب القوات الى الحدود الدولية المعترف بها .
3. يرحب في الحقيقة من ان احد الفريقين قد عبر تواً عن استعداده للتعاون وتطبيق قرار 514 (1982) ويدعو الفريق الاخر لعمل نفس الشيء .
4. يؤكد ضرورة تطبيق قراره من دون تأخير والقاضي بارسال مراقبين من الامم المتحدة للتحقق وتأكيد الاشراف على وقف اطلاق النار والانسحاب .
5. يؤكد اهمية استمرار جهود الوساطة الحالية .
6. يؤكد طلبه بامتناع جميع الدول الاخرى عن كافة الاعمال التي قد تساعد على استمرار الصراع وتسهيل تطبيق القرار الحالي .
7. يناشد السكرتير العام تبليغ المجلس حول تطبيق هذا القرار ضمن 72 ساعة .

(6) قرار 540 (1983) اقره مجلس الامن في جلسته 2493 بتاريخ 31 تشرين الاول 1983 :
     بعد نظر مجلس الامن في القضية ( الموقف بين العراق وايران ) ، ورجوعاً الى قراراته وبياناته الصادرة بهذا الشأن التي تدعو الى وقف اطلاق النار الكامل وانهاء العمليات العسكرية بين الفريقين ، وتذكر قرار مجلس الامن الصادر في 20 حزيران 1983 ( اس / 5834 ) حول البعثة المعنية من قبله لتحري المناطق المدنية في ايران والعراق التي تعرضت الى هجمات عسكرية ، وتعبيراً عن تقديره الى السكرتير العام لتقديمه صورة حقيقة متوازنة وموضوعية ، وملاحظة ايضاً بكل تقدير وتشجيع المساعدة والتعاون الممنوح الى بعثة السكرتير العام من قبل حكومتي العراق وايران ، وتأسف مرة ثانية على الصراع بين البلدين الذي نجم عنه خسائر في الارواح واضرار جسيمة الحقت بالمدن والممتلكات والمرتكزات الاقتصادية ، وتأكيداً لرغبة النظر الموضوعي في اسباب الحرب :
1. مناشدة السكرتير العام على مواصلة جهود الوساطة مع الاطراف المعنية بهدف الوصول الى تسوية عادلة ومشرفة وكاملة ومقبولة للطرفين .
2. استنكار جميع انتهاكات القانون الدولي بالاخص احكام اتفاقية جنيف لسنة 1949 في كل جوانبها والدعوة الى وقف اطلاق النار الفوري لجميع العمليات العسكرية ضد الاهداف المدنية بضمنها المدن والمناطق السكنية .
3. تأكيد حق الملاحة الحرة والتجارة في المياه الدولية ودعوة جميع الدول لاحترام هذا الحق والطلب من المتحاربين وقف العمليات العداوانية فوراً في منطقة الخليج بضمنها جميع الممرات المائية والمسالك المائية القابلة للملاحة واعمال الموانئ ومحطات الشحن والتفريغ والمنشآت الساحلية وجميع الموانئ المؤدية بشكل مباشر او غير مباشر الى البحر ، واحترام سيادة الدول الساحلية الاخرى .
4. مناشدة السكرتير العام للتشاور مع الاطراف بخصوص طرق التحقق من وقف القتال وبضمنها ارسال مراقبين من الامم المتحدة وتقديم تقرير الى المجلس حول نتائج هذه المشاورات .
5. الطلب من كلا الفريقين الامتناع عن اي عمل ربما يعرض السلام والامن للخطر وكذلك حياة البحارة في الخليج .
6. دعوة جميع الدول الاخرى ثانية الى ممارسة اقصى انضباط والامتناع عن اي عمل قد يؤدي الى تصعيد اكثر وتوسيع نطاق الصراع وبذلك يسهل تطبيق القرار الحالي .
7. التماس السكرتير العام للتشاور مع الاطراف بخصوص التطبيق الفوري والفعال لهذا القرار .

(7) قرار 552 (1984) اقره مجلس الامن في جلسته 2546 بتاريخ 1 حزيران 1984 :
     بعد نظر مجلس الامن في الرسالة المؤرخة في 21 آيار 1984 من ممثلي البحرين والكويت وعمان وقطر والسعودية والامارات العربية المتحدة ( اس / 16574 ) التي تشكو من الهجمات الايرانية على السفن التجارية اثناء رحلاتها من والى الكويت والسعودية .
     ملاحظة ان الدول الاعضاء قد تعهدت بالعيش سوية في سلام مع بعضها الاخر طبقاً لميثاق الامم المتحدة .
     وتأكيداً لالتزامات الدول الاعضاء بمبادئ واهداف ميثاق الامم المتحدة ، وتأكيداً ايضاً من ان جميع الدول الاعضاء ملزمة بالامتناع عن التهديد في علاقاتها او استخدام القوة ضد السيادة الوطنية والاقليمية او الاستقلال السياسي لاي دولة ، ومراعاة اهمية منطقة الخليج في الامن والسلام العالمي ودورها الحيوي في استقرار الاقتصاد العالمي ، والقلق العميق حول الهجمات الاخيرة على السفن التجارية في طريقها من والى موانئ الكويت والمملكة العربية السعودية ، والاقتناع بان هذه الهجمات تشكل تهديداً لامن واستقرار المنطقة ولها مضامين خطيرة على السلام والامن الدولي :
1. مطالبة الدول باحترام حق الملاحة الحرة طبقاً للقانون الدولي .
2. التأكيد على الملاحة الحرة في المياه والممرات الدولية للسفن المتوجهة والمغادرة لموانئ الدول الساحلية التي هي ليس طرفاً في القتال .
3. مناشدة جميع الدول باحترام السيادة الاقليمية للدول التي هي ليس طرفاً في النزاع وممارسة اقصى ضبط النفس والامتناع عن اي عمل ربما يؤدي الى تصعيد الصراع .
4. استنكار الهجمات الاخيرة على السفن التجارية في طريقها من والى موانئ الكويت والمملكة العربية السعودية
5. المطالبة بايقاف مثل الهجمات فوراً وعدم التدخل بشؤون السفن في طريقها من والى الدول التي هي ليس اطرافاً في القتال .
6. في حالة عدم الاذعان للقرار الحالي ، تقرر الاجتماع ثانية للنظر في الاجراءات الفعالة التي تعادل جسامة الموقف وذلك لضمان حرية الملاحة في المنطقة .
7. التماس السكرتير العام بالتبليغ عن تقدم تنفيذ القرار الحالي .
8. القرار بمتابعة القضية .
قرار 598 ( 20 تموز 1987 )
     ان مجلس الامن بتأكيده على قراره 582 (1986) ، وحرصه الشديد وبالرغم من نداءاته لوقف اطلاق النار فإن الصراع بين العراق وايران ما زال مستعراً وبخسائر جسيمة في الارواح والممتلكات .
     وتأسفه لاندلاع واستمرار القتال ، واستنكاره لقصف المدن والمراكز السكنية المدنية وانتهاك حرمة القانون الدولي والقوانين الاخرى المتعلقة بالنزاع المسلح وبالاخص الاسلحة الكيمياوية خلافاً لالتزامات بروتوكول جنيف لسنة 1925 .
     وقلقه الشديد من تصعيد واتساع رقعة الصراع ، وتصميمه على انهاء العمليات العسكرية بين العراق وايران واقتناعه بان التسوية العادلة والمشرفة والدائمية ينبغي تحقيقها بين العراق وايران .
     واستعادة للذهن احكام ميثاق الامم المتحدة وبالاخص التزامات الدول الاعضاء وتسوية خلافاتها الدولية بوسائل سلمية وبطريقة لا تفرض السلام والامن والعدل للخطر ، وتأكده من ان هناك خرقاً للامن فيما يخص الصراع العراقي – الايراني ، وعملاً باحكام المادتين 39 و 40 من ميثاق الامم المتحدة :

 

1. يطالب العراق وايران ، كخطوة اولية نحو التسوية ، الالتزام بوقف اطلاق النار فوراً وانهاء العمليات العسكرية في البر والبحر والجو وسحب جميع القوات حالاً الى الحدود المعترف بها دولياً .
2. يلتمس السكرتير العام ارسال فريق من المراقبين للتحقق والتأكد والاشراف على وقف اطلاق النار والانسحاب ، ويطالب السكرتير العام ايضاً لاتخاذ الترتيبات الضرورية بالتشاور مع الطرفين وتقديم تقرير الى مجلس الامن .
3. يحث على اطلاق سراح اسرى الحرب واعادتهم الى اوطانهم فوراً حال وقف القتال الحقيقي وبموجب اتفاقية جنيف الثالثة في 12 آب 1949 .
4. يطالب العراق وايران بالتعاون مع السكرتير العام في تنفيذ هذا القرار وكذلك جهود الوساطة لتحقيق تسوية عادلة ومشرفة وشاملة ومقبولة للطرفين ولكافة المسائل المعلقة حسب مبادئ ميثاق الامم المتحدة .
5. يطالب جميع الدول الاخرى بممارسة اقصى انضباط والامتناع عن اي عمل ربما يقود الى تصعيد اكثر وتوسيع رقعة الصراع وبذلك يسهل تنفيذ القرار الحالي .
6. يلتمس السكرتير العام ، بعد التشاور مع العراق وايران ، النظر في مسألة تعيين هيئة محايدة للتحقق عن الجهة المسؤولة عن شن الصراع وتبليغ مجلس الامن باقرب فرصة ممكنة .
7. تقدير حجم الاضرار الحاصلة اثناء الصراع وضرورة تقديم جهود بناءة ومساعدات دولية مناسبة حال انتهاء الصراع . وبهذا الخصوص يلتمس السكرتير العام بتعيين فريق من الخبراء لبحث مسألة اعادة بناء المنشآت وتبليغ مجلس الامن بذلك .
8. يلتمس السكرتير العام بالتشاور مع العراق وايران والدول الاخرى في المنطقة ، النظر في اجراءات تعزيز السلام والامن في المنطقة .
9. يلتمس السكرتير العام بان يطلع مجلس الامن على تنفيذ هذا القرار .
10. يقرر اجراء مقابلات خرى وكلما اقتضت الضرورة لبحث الخطوات اللاحقة لتنفيذ هذا القرار .

 

 

 

 

ملحق رقم (5)
ردود العراق وايران على قرار مجلس الامن المرقم 598 ( 1987 )

الرد العراقي على قرار 598
رسالة مؤرخة في 23 تموز 1987 من نائب رئيس الوزراء وزير خارجية موجه الى السكرتير
العام .
يشرفني ان اشير الى رسالتكم المؤرخة في 20 تموز 1987 واخباركم من ان الحكومة العراقية قد درست نص قرار مجلس الامن المرقم 598 (1987) الذي اقره المجلس بالاجماع في 20 تموز 1987 . لقد كلفني رئيس الجمهورية العراقية بأن انقل لكم موقف الحكومة العراقية وعلى الوجه التالي :
1. ان الحكومة العراقية ترحب بالقرار ومستعدة للتعاون معكم ومجلس الامن وذلك لتنفيذه بحسن نية وبهدف ايجاد تسوية عادلة ومشرفة ودائمية للصراع مع ايران .
2. على اساس محتويات القرار وطبيعته الملزمة بموجب الفصل (7) للميثاق ، فمن البديهي ان قبول ايران الصريح للقرار والمؤكد لكم واستعدادها الواضح للايفاء بالتزماتها من دون قيد او شرط وبحسن نية وقصد جدي عوامل جوهرية لتحقيق الالتزامات ذات العلاقة التي تقع في نطاق صلاحياتكم . وبهذا الخصوص ، فقد اوضحت في الفقرة (1) اعلاه استعدادنا التام للتعاون معكم في تحقيق هذه الالتزامات بحسن نية بقصد تحقيق تسوية عادلة ومشرفة ودائمية للصراع .
3. وبترحيب الحكومة العراقية بالقرار ، فانها تنطلق من الافتراض من النص لذلك المصدر هو متكامل وغير قابل للتجزئة فيما يخص محتوياته والتحديدات الزمنية والاجراءات لتنفيذ جميع فقراته وبالاخص الفائدة المشتركة والانية من تطبقيه لكافة الاطراف المعنية .
4. ان الحكومة العراقية ترى ان التعبير ( بدون تأخير ) الذي يظهر في الفقرة (1) من القرار ليعني ان الانسحاب سوف يتم خلال مدة لا تتجاوز (10) أيام من تاريخ وقف اطلاق النار العام . استنبط تحديد هذه المدة من سابقة انسحاب القوات العراقية من الاراضي الايرانية الذي تم خلال (10) أيام في الفترة ما بين (10-20) حزيران 1982 ، ولو ان ذلك الانسحاب كان من جانب واحد حصل في غياب وقف اطلاق النار من الجانب الاخر .
5. ترى الحكومة العراقية ان التعبير ( بدون تأخير ) الذي يظهر في الفقرة (3) من القرار ويتعلق باطلاق سراح الاسرى واعادتهم الى مواطنهم ليعني ان اسرى الحرب سوف يطلق سراحهم ويعادوا الى اوطانهم خلال مدة لا تتجاوز (8) أسابيع من تاريخ وقف اطلاق النار . بالاضافة لذلك ان الحكومة العراقية تفهم ان هذه العملية سوف تنفذ طبقاً لمقررات مؤتمر جنيف الثالث المنعقد في 12 آب 1949 وبالتعاون مع منظمة الصليب الاحمر ومن ان هذه هي مسألة اخلاقية وانسانية ليس لها علاقة باي مفاوضات حول مسائل معلقة بين الطرفين .
6. ان الحكومة العراقية مستعدة للتعاون معكم باخلاص في مساعي الوساطة المعهودة لكم وذلك لتحقيق تسوية عادلة ومشرفة وشاملة بموجب المبادئ المعلنة في ميثاق الامم المتحدة .
     ان الحكومة العراقية ستقدم مقترحاتها وتحدد موقفها بالنسبة للقضايا المعلقة الاخرى عندما تبدأ مفاوضات التسوية الكاملة كما موصوفة في قرار مجلس الامن .
7. ان العراق على علم من ان حال الشروع بوقف اطلاق النار سيكون قادراً على الاستفادة من موانئه وسواحله ومياهه الداخلية والاقليمية وسكون قادراً على التمتع بحرية الملاحة في المياه الدولية للخليج العربي اسوة بايران .
8. بخصوص احكام الفقرة (6) للقرار ، تود الحكومة العراقية التأكيد من انها مستعدة للدخول في مفاوضات معكم فيما يتعلق بالتحقيق في مسؤولية الطرف الذي شرع بالقتال واطالته والهيئة التي ستكلف بهذا الواجب .
9. ان الحكومة العراقية ترحب بمحتويات الفقرة (8) المتعلقة باجراءات تعزيز السلام والامن في المنطقة وتقترح ، في المرحلة التي تلي التسوية السلمية بين العراق وايران ، عقد اجتماع لوزراء خارجية دول الخليج العربي برعايتكم لبحث طرق ووسائل ضمان السلم والامن وحرية الملاحة الدولية في منطقة الخليج العربي على اساس الاحترام الكامل لسيادة الدول المعنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية الاخرى والالتزام باحكام القانون الدولي .
10. واخيراً ، ان الحكومة العراقية ، باتفاقها مع طبيعة القرار المتبنى من قبل مجلس الامن وعلى ضوء الرغبة الملحة لمجتمع دولي يحقق السلام العاجل تأمل ان الفترة الزمنية المطلوبة لتقديم تقريركم الى مجلس الامن حول تنفيذ القرار طبقاً للفقرة (9) سيكون قصيراً وذلك لمنع اي مماطلة او تأخير من اي جانب مهما كان .

توقيع
طارق عزيز
نائب رئيس الوزراء
ووزير خارجية الجمهورية العراقية

 

 

 

 

ملحق رقم (6)
الرد الايراني على قرار 598
الموقف الرسمي والتفصيلي للجمهورية الاسلامية في ايران
من قرار مجلس الامن المرقم 598 (1987)

1. تمت صياغة وتبني القرار 598 (1987) من قبل الولايات المتحدة بهدف التدخل السافر في الخليج
الفارسي والمنطقة وتقديم الاسناد للعراق وتأييده في الحرب وحرف انتباه الرأي العام عن الجبهة الداخلية .
ان اي من هذه الاهداف لا يتعلق بالهدف المشروع لايجاد حل عادل للصراع.
2. لقد تمت صياغة القرار 598 (1987) دون استشارة الجمهورية الاسلامية الايرانية . وبما انه يعكس الصيغة العراقية لحل النزاع فانه على هذا الاساس لا يمكن اعتباره حلاً متوازناً ومتجرداً وشاملاً وعملياً .
3. اذا كانت الولايات المتحدة والاقطار المساندة للعراق تتصور ان بامكانها انهاء الحرب لصالح العراق عن طريق قرار غير عادل ومتحيز ، فمن الافضل ان تعيد النظر بتجربة المجلس خلال السنوات القليلة الماضية عند تحرير خرمشهر وطرد قوات الاحتلال العراقية من معظم الاراضي المحتلة داخل الجمهورية الاسلامية الايرانية . وكضحية للعدوان ، ان الجمهورية الاسلامية الايرانية هي الجهة الرئيسية المقررة لكيفية انهاء الحرب ولا يمكن احداث اي تغيير في مسار الحرب طالما ان شروط الجمهورية الاسلامية الايرانية لم يجر تلبيتها .
4. ان مجلس الامن ملزم بتوضيح لماذا الحرب العراقية – الايرانية قد تحولت ، في الوقت الذي وصلت مراحلها النهائية ، الى خرق للسلام وبذلك اوجب الرجوع الى المادة 39 من الميثاق . ومن سخريات الاقدار ، ان شروع العراق بالحرب يوم 22 أيلول 1980 واحتلال قسم كبير من اراضي الجمهورية الاسلامية الايرانية بمثابة انتهاك للسلام العالمي . على اية حال ان مجلس الامن اثر البقاء صامتاً . ومن الغريب ، ان الولايات المتحدة ، في عرض صريح لمساندة العراق وحتى اجبرت مجلس الامن لمعارضة تعديل بعض الاعضاء الدائميين للمجلس على اعتبار ان الحرب كانت منذ البداية انتهاكاً للسلام .
5. ان المادة الاولى من ميثاق الامم المتحدة تنص على اسبقية ( قمع العدوان ) اكثر من الاهداف الاخرى .. مع ذلك ، ان مجلس الامن في قراره الاول بصدد الصراع ( قرار 479 في 28 أيلول 1980 ) وصف ايران باعتبارها عضواً في الامم المتحدة بالرضوخ عملياً الى العدوان ، من جهة اخرى ، ان السكرتير العام حاول ، من خلال مبادراته الحاذقة ، التعويض تدريجياً عن الخطأ المتعمد للمجلس . ان المناورة السياسية المرائية الاخيرة للولايات المتحدة اجبرت المجلس لمساندة المعتدي مرة اخرى وبذلك انتهكت بشكل صريح اول واهم هدف للميثاق .
6. بحكم خضوعه الى القرار المعروض ومتابعته بشكل فعال من قبل الامم المتحدة ، فان مجلس الامن ، في المفهوم العملي ، قد تحول الى طرف في النزاع . وعليه ، ان مجلس الامن سوف لا يكون قادراً على اداء دور ايجابي وبناء بشأن الحرب وسوف يجد من غير الملائم في المستقبل تبديل هذا الموقف.
7. لقد حذرت الجمهورية الاسلامية الايرانية في وقت مبكر ان تبني هذا القرار هو فاتحة لتوسيع التوتر وتردي اكثر للموقف . ان كل ما تمخض عنه منذ اقراره يشير الى نفس الاتجاه . وسرعان ما قامت الولايات المتحدة بجلب اسطولها في الخليج الفارسي وبهدف زيادة وجودها العسكري في المنطقة . ان الاحداث التي حصلت في المملكة العربية السعودية بتحريض امريكي والدعم العسكري الامريكي لتصدير النفط العراقي عن طريق الكويت قد افسدت العلاقات بين الجمهورية الاسلامية الايرانية وهذه الاقطار . كما ان العمليات العسكرية العراقية استمرت من دون توقف .
8. ازداد التواجد الامريكي والاستفزازات العسكرية في الخليج الفارسي التي قادت الى تصعيد اكثر للتوتر في المنطقة وشكلت انتهاكاً صريحاً للفقرة (5) من قرار 598 (1987) . ولهذا فان الولايات المتحدة هي اول من انتهك القرار الذي كان صياغته واقراره قد تم بتدبير امريكي . اذا كان مجلس الامن ملتزماً باخلاص بقراره ، فمن الواجب عليه ان يتخذ موقفاً صريحاً من انتهاك القرار من قبل الولايات المتحدة .
9. تحاول الولايات المتحدة ، من خلال ممارستها الضغط على مجلس الامن لتبني قرار اخر ، اتخاذ اجراءات ضد الجمهورية الاسلامية الايرانية وتهيئة الارضية للمواجهة مع ايران . ان مثل هذه المحاولات قد تقود فقط الى توسيع نطاق التوتر وانعزال مجلس الامن اكثر عن ميدان الصراع السياسي . بالاضافة لذلك ان الجمهورية الاسلامية الايرانية لا تبالي بمواجهة اي اجراء استفزازي من جانب الولايات المتحدة . على اية حال ، ان مجلس الامن يعلم كيف ينظم قراراته لتلائم المبادئ الواردة في الميثاق . في غضون ذلك ، ان افضل اسلوب للعمل يكمن في تقوية الجوانب الايجابية للقرار الحالي وذلك لكي يمهد الطريق للتعاون المستقبلي وتبني قرارت بناءة .
10. ان الازمة في الخليج الفارسي ليست منفصلة عن مسألة الحرب العراقية – الايرانية – مع ذلك بسبب اهميتها وحساسيتها ، فانها تتطلب الى مراعاة خاصة . ان الفشل في حل ازمة الخليج
الفارسي سوف تزيد مع توسيع الصراع الى ابعاد يتعذر التنبؤ بها – لهذا ، ان اي محاولات لاعادة السلام والامن في الخليج الفارسي يجب اعطاؤها اسبقية اولية . وبهذا الخصوص ، ان الفقرات (5 و 8) تشكل الاقسام المهمة من القرار .
11. ان الجمهورية الاسلامية الايرانية والاقطار الاخرى في المنطقة مهتمة بحفظ السلام والامن في الخليج الفارسي وحرية الملاحة وجريان النفط من دون انقطاع . بدأت الازمة في الخليج
الفارسي واستمرت وتوسعت بتحريض العراق وبلغت ذروتها عندما دعت الكويت الدول العظمى والتدخل العسكري اللاحق من قبل الولايات المتحدة . ان جميع هذه التطورات وبالاخص انتهاك الفقرة (5) من القرار بسبب التواجد العسكري الامريكي المكثف في المنطقة ، قد اثرت بشكل سلبي على عمل السكرتير العام ، حسب الفقرة (8) وارتباطها بقضية السلام والامن في المنطقة .
12. ان حل الازمة في الخليج الفارسي يكمن في التزام الطرفين بعدم مهاجمة السفن التجارية سحب القوات الاجنبية عن المنطقة والالتزام الدقيق بالحياد من قبل جميع اقطار الخليج وبالاخص الكويت . ولهذا فان استعادة الاستقرار في الخليج الفارسي فقط هي الضمان لاي عمل سياسي بناء بشأن الجوانب الاخرى للصراع .
13. لقد انتهك العراق شروط قرار 598 (1987) بشنه عدة عمليات تعرضية حال اقراره . ان عدداً من هذه الانتهاكات قد تم تبليغها الى الامم المتحدة من قبل الممثل الدائم للجمهورية الاسلامية الايرانية وتضمنتها الوثائق اس/8997 و اس/19002 . ان الهجوم الجوي العراقي ضد تبريز هو مثال واضح وصريح لانتهاك العراق لقرار 598 (1987) وسياسته المتذبذبة التي ، من سخريات القدر ، نظمت من قبل مؤيدي العراق وعلى احسن ما يرضيه . وما دام توقع ادنى اتفاق بين تصريحات واعمال العراق هو معقول على الاكثر ، فلا يعرف اية اسباب التي جعلت مجلس الامن بغض النظر عن هذه الانتهاكات السافرة لقراره من قبل العراق .
14. بيان صريح ان العراق هو المعتدي والطرف المسؤول عن الصراع وكذلك تحديد الاضرار التي يعتبر جوهرياً لبحث الصراع بدقة وصياغة الحل النهائي . ان الجمهورية الاسلامية الايرانية مستعدة للتعاون مع السكرتير العام في هذا المجال .
15. ان قرار 598 (1987) قد استنكر للمرة الثانية استخدام الاسلحة الكيمياوية وقصف الاحياء المدنية ومهاجمة السفن والطائرات المدنية وانتهاك حرمة القانون الدولي ولا سيما بروتوكول جنيف لسنة 1925 الخاص بتحريم استخدام الغازات الخانقة والسامة والاخرى . مع ذلك ، لم يتخذ اي اجراء عملي لمنع تكرار هذه الجرائم . ان الجمهورية الاسلامية الايرانية تنتظر رد السكرتير العام على رسالة وزير خارجية الجمهورية الاسلامية الايرانية المؤرخة في 10 آب 1987 ( اس / 19029 ) بشأن المسألة المهمة لاستخدام الاسلحة الكيمياوية وبالاخص بعد الهجوم الكيمياوي العراقي على مدينة سردشت . كما ان الجمهورية الاسلامية الايرانية مستعدة للنظر في اي مقترحات حول الجوانب الاخرى للحرب ذات العلاقة بقانون العلاقات الدولية .
16. لقد قدمت الجمهورية الاسلامية الايرانية الى السكرتير العام ولهيئة الصليب الاحمر الدولية مقترحات متنوعة لتبادل اسرى الحرب، وفي بعض الحالات ، تصرف من جانب واحد . ان الجمهورية الاسلامية الايرانية مستعدة للتعاون مع السكرتير العام وهيئة الصليب الاحمر الدولية لتنفيذ هذه المقترحات او اي مقترحات اخرى بموجب اتفاقية جنيف المؤرخة في 12 آب 1949 .
17. ان خطة النقاط الثماني لشهر آذار 1985 للسكرتير العام كانت الخطة العملية الوحيدة التي اخذت بنظر الاعتبار الجوانب المختلفة للحرب ، الا انها لم تدخل حيز التطبيق بسبب معارضة العراق . ما تزال هذه الخطة تشكل الارضية الملائمة لاي محاولات مستقبلية من قبل السكرتير العام .
18. لهذا ، ان الجمهورية الاسلامية الايرانية تؤكد ثقتها من جديد بالسكرتير العام ومستعدة للتعاون معه في اطار مساعيه ومبادراته المستقلة .
19. ان المساعي البناءة والجديرة بالثناء لعدد من اعضاء مجلس الامن غير المتحيزين في سبيل الوصول الى قرار متوازن وايجابي لم يحقق النتيجة المتوخاة . مع ذلك ، ان الاسس قد وضعت لكي تواصل الجمهورية الاسلامية الايرانية تعاونها وبطريقة قد تقود مجلس الامن الى موقف عادل . وبلا ريب ، ان اعلان بعض الدول بشكل صريح من ان مسؤولية الحرب تقع على العراق يشكل اهم عنصر في القرار العادل للصراع . ان الجمهورية الاسلامية الايرانية تنظر بعين الاعتبار لجميع المحاولات الايجابية وتعبر عن تقديرها .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ملحق رقم (7)
خطاب ( آية الله ) الخميني الى لجنة الوساطة الاسلامية
( 1 آذار 1981 )

التقى ( الامام ) الخميني في 1 آذار 1981 مع الوفد المكلف بالتحري عن الحرب المفروضة على ايران من قبل النظام العراقي . وفي المقابلة ، بعد التصريحات التي اعلنها حبيب الشطي ، السكرتير العام للمؤتمر الاسلامي والناطق باسم الوفد ، قام الخميني بتوجيه الخطاب التالي :

بسم الله الرحمن الرحيم
في الوقت الذي اشكر السادة الذين حضروا هنا للاطلاع على ايران عن كثب وما يحدث لها هنا وكشف من هو الظالم ومن الذي وقع فريسة للظلم ومن هو المعتدي ومن الذي تم الاعتداء عليه ان كان لديكم متسع من الوقت والرغبة في عمل ذلك . لا انوي وصف الاحداث التي حصلت وستجري في الوقت الحاضر في ايران حتى بشكل مقتضب لانها تسبب توعكاً في صحتي وبنفس الوقت ليس لديكم الوقت لسماع ذلك . لهذا ، سوف اتحدث لكم عن جملة من القضايا .
آمل من المسلمين ، وبالاخص قادة المسلمين ، ان يتوقفوا عن استخدام شعار الاسلام كغطاء في عدم اتباع مبادئ وقواعد الاسلام . ينبغي عليهم ان يفكروا ويمارسوا الاسلام على حقيقته . ولحد الان ، ان مشكلة المسلمين والامم الاسلامية المظلومة قد نشأت من هذه الحقيقة من ان قادتهم قد حصروا انفسهم بشعارات الاسلام وتحت هذا الغطاء ، فقد حققوا مآربهم الاخرى . وآمل ان الدول الاسلامية ، وبالاخص حكوماتها ، سوف تحول هذه الكلمات الى احاسيس وفي مارسة طقوس الاسلام والقرآن الكريم .
لقد حضرتم الى بلد وقع فريسة للبطش والاضطهاد لفترة 2500 عام وقد تمرغت كرامته تحت اقدام مختلف الدكتاتوريات بحجة العدالة والحضارة والانسانية وان جماهيره كانت تحاول التحرر من العبودية وتحقيق الاستقلال والحرية بعد ان تعرض للضغط لعدة سنوات طويلة وحرم من التمتع بالحرية . وبحجة الاسلام والمبادئ فقد وقع تحت وطأة اقدام وكلاء الدول الشرقية والغربية . ان جشع وحب الذات لاولئك الذين انضموا للقوى العظمى لم يمنحوا شعبنا فرصة لاستنشاق هواء الحرية .
لقد جئتم الى بلد بلغت خسائره (60000) شهيد تقريباً وما يزيد عن (100000) مشوه ومعوق وكذلك تشريد (50000) عائلة تقريباً . انكم الان في بلد شهد جميع هذه المآسي ويحتمل ان عدد اللاجئين فيه يلغ (1.5) مليون شخص . لقد طردوا من مدنهم ومنازلهم وعانوا مختلف انواع الاضطهاد . انكم جئتم الى بلد استطاع الطغاة وعناصر الظلم المرتبطين بالدول الكبرى مهاجتمه . واستطاعت قطعات العدو في الحال اجتياز الحدود واغتصاب عدد من المدن بالعنف . لقد قتلوا جميع اولئك الشباب الذين كانوا متواجدين في تلك المناطق واخذهم كأسرى حرب .
لقد جئتم الى بلد تعرض فيه شعبنا المضطهد الى هجمات من مختلف الجوانب كالهجوم العسكري
( التدخل العسكري الامريكي في القسم الشرقي من ايران ) ومؤامرة الانقلاب الفاشل والهجوم العسكري الاخير من قبل ( دمية اسمها صدام حسين ) . لقد نفذت جميع الهجمات لمجرد ان شعبنا المضطهد مصمم على خدمة الاسلام والعودة للاسلام وقص ايادي الدول الكبرى التي كانت فعالة في هذه البلاد ووضع حد للحكم الدكتاتوري وتأسيس حكومة تلبي طموحاته والعيش تحت راية الاسلام . ان الدول العظمى لا يروق لها ان ترى الدول الاسلامية والحكومات الاسلامية متحدة . انها تخشى توحيد مليار مسلم تحت راية الاسلام .
لقد جئتم الى بلد يواجه فيه المضطهدون عناصر الاضطهاد والعدوان واولئك الذين يرتكبون اعمالاً تعسفية . ينبغي عدم الرجوع الى شعب العراق وايران . ان الشعبين هم اخوان ومتحدين ضد الحكومة العراقية اذا كنتم تعولون على الاسلام اكثر من مجرد كلام ، فعليكم زيارة ومشاهدة ما حدث للمدن والشباب والنساء والاطفال . ان بقايا مدننا المدمرة لبرهان ساطع على مثل هذه الجرائم .
اذا كنتم عازمين على تحويل كلمات الاسلام الى مشاعر اسلامية ، واذا نشدت الحكومات الاسلامية تحويل الكلمات الى عمل وادراك فعليها الامتناع من اتباع الرغبات الانانية . يجب عليها ان توقف ارتكاب الظلم وان ترتبط بالشعب .
لو مكثتم هنا لفترة زمنية لا بأس بها وافرغتم اذانكم من الدعاية المضادة لايران واستقيتم المعلومات من مصادرها الاصلية حول الاحداث التي تحصل هنا ، فسوف تقفون على اهداف الشعب والحكومة الايرانية .
ان كليهما ينشد الحماية في ظل الاسلام . وسوف تلمسون انهما لا يبغيان المساس بمصالح الجماعة او القومية . ولا يحاولان رفع شأن الايرانيين والحط من قيمة العرب .
لابد وان اقول لاولئك الافراد الذين حضروا مؤتمر الطائف انهم انصتوا (80) دقيقة لما قاله صدام حسين وانه لم يتكلم لأرضاء الله حتى لدقيقة واحدة . ولو شاء ان ذكر الاسلام ، فهو الاسلام الذي جلبه من امريكا واوربا وليس ذلك الاسلام الذي نشأ في المدينة والحجاز . لقد اصغيتم الى كلامه الفارغ لمدة (80) دقيقة الذي ادعى فيه ان ايران هي المعتدية في الوقت الذي كانت جيوشه تذبح الناس داخل ايران . ولا زال يدعي ان ايران هي المعتدي ولم يسأل احد منكم كيف كانت ايران معتدية . هل اننا نقاتل الان داخل الاراضي العراقية او هل اننا نكافح داخل اراضينا ؟ اذا كنا نقاتل داخل اراضينا ، فعليه ان النظام العراقي هو المعتدي ، ولو هاجمنا العراق في احد الايام ، فسوف نكون على هذا الاساس معتدين . وعندما ندافع عن امتنا ، فاننا ندافع عن الاسلام وحقوق الشعب العراقي والمسلمين .
ان مؤتمر الطائف ينبغي ان لا يتوانى عن اداء واجباته ولا يفعل اي شيء . ولا ينبغي التفكير من ان الشعبين يقاتل الواحد الاخر . ان تطلعات الشعب العراقي هي اكثر من تطلعات الشعب الايراني لان الشعب العراقي قد فقد زعماءه الدينيين ورجاله المسنين وشبابه واولاده على يد هذا النظام .
واذا كنتم تفكرون بالاسلام ، فعليكم ان تأخذوا بنظر الاعتبار آيات القرآن . ان احدى الايات تقول لو ان جماعة مسلمة مؤمنة عن صدق بالاسلام هاجمت جماعة اخرى فان جميع المسلمين ملزمين بمقاتلة المعتدي لو طبقتم هذه الاية ، فسوف لا نطمح اكثر من ذلك .
تحروا عن العدوان واذا لم يتيسر لديكم الوقت ، فعينوا بعض الممثلين لكي يذهبوا الى المناطق الحدودية التي تعرضت للعدوان . ارسلوهم الى المقابر التي تكونت نتيجة اعتدءات قطعات العدو . ابعثوهم لزيارة قبور شهدائنا وعوائلهم المشردة والمحرومة من جنوب وغرب البلاد .
بامكانهم ان يذهبوا ويتحروا القضية ومن هو الطرف المعتدي . لو اكتشفوا باننا اول من بدأ العدوان ، فيمكنكم انذاك من شن حرب ضدنا . ولو اكتشفتم بان القوات العراقية هي المعتدية ، فينبغي عليكم شن حرب ضدها ( حسب القرآن ) . ان السلام بين المسلمين والملحدين لا معنى له . وينبغي ان لا يفكر المرء من ان السلام يمكن تحقيقه بين الاسلام والمسلمين من جهة وبين غير المسلمين من جهة اخرى . ان النظام الالهي ينبغي ان يسود ويتبع . ويتوجب علينا جميعاً ان نسير على هدى القرآن الكريم .
لا تفكروا ان حكومة دكتاتورية تحكم ايران هذا اليوم وان بامكانها الوصول الى اتفاق سلام مع شخص يقف الشعب ضده . ولا تتصوروا من وجود رئيس دكتاتوري هنا يتحدث مع الاخرين ضد رغبة الامة . ان اصوات وايمان الامة هي الحاكمة كما ان الشعب هنا يمتلك زمام السلطة . لقد تم تعيين جميع المنظمات من قبل الشعب . ان انتهاك واهمال نظام الشعب ليس ممكناً بالنسبة لاي واحد منا وربما مستحيل .
لو كان واجبكم وضع حد لهذه الحرب ، التي هي الهدف النهائي لكافة المسلمين ، فينبغي تقديم المعتدي الى محكمة علنية ومعاقبته . ينبغي ان تطلبوا من اولئك الذين احتلوا المدن الايرانية ان يغادروا البلاد ويجبروا صدام على سحب قواته وجيشه من بلادنا ووقف توغله . وبعد ايقاف المعتدي يمكن عقد مؤتمر دولي في مكان ما للتحري في الجرائم المرتكبة، ان هذه طريقة الاسلام . لقد علمنا الاسلام الطرق الصحيحة كما علمنا كيف نتحد سوية ونمتنع عن اي نوع من انقسام وخلاف حقيقي وليس بالكلام وينبغي ان لا نكتفي بعقد الاجتماعات والندوات ونقول ان الحقيقة يقتضي تجسيدها .
انظروا الى هذا المؤتمر الذي عقد في الطائف . ما هي الاجراءات التي اتخذت بشأن الاضطهاد والطغيان الذي ارتكب في فلسطين ولبنان ؟ ما الذي نفذ من اجل المسلمين ؟ ينبغي ان لا نجتمع لمجرد ان نصبح باننا مسلمون ونطالب بالاسلام . ان صيحات محمد رضا بما كانت اعلى صوتاً . وفي الوقت الحاضر ان ( صدام ) وكذلك معظم الطغاة وحكمهم المتعسف في الدول الاسلامية يستخدمون نفس الشعارات . ان صيحاتهم قد نادى بها الجميع . ولكن ، لو انكم مصممون عن التحري عن القضية ولو كانت رغباتكم صادقة هنا في اطفاء النار ، فيتعين عليكم زيارة الحدود ودراسة مشاكل الطرفين ومشاهدة الشعبين ومن ثم الجلوس والحكم . عليكم مشاهدة الشعب العراقي للوقوف على حقيقة فيما لو انه كان قابلاً بحكومته ام لا ومن ثم توجيه نفس السؤال الى الشعب الايراني .
اذا كان الشعب يوافق على حكومته ، فانها بموجب هذا الاساس شرعية وان كانت بخلاف ذلك غير شرعية . في تلك الحالة ، يتعين على العالم اتخاذ اجراءات ولو كان صادقاً ( الشعب العالمي ) في ادعائهم من ان الشعب ينبغي ان يحكم وان الحقوق الانسانية ينبغي احترامها . عليكم الرجوع الى الشعب واننا مستعدون لعقد استفتاء عام هنا . لا مانع من تعيين مراقبين من بينكم لهذا الاستفتاء واسألوا الشعب فيما لو يوافق على حكومته ام لا . ونفذوا نفس الشيء في العراق بشرط رفع الحراب اولاً وازالة الظلم . واعقدا استفتاء ايضاً .
سوف ترون فيما لو يوافق الشعب ام لا . اذا كان الشعب الايراني لا يقر بشرعية حكومته ، بعدئذ يمكن ان تخبروا الحكومة بالتنحي جانباً والسماح للشعب باستلام السلطة . واذا كان الامر بعكس ذلك ، فيمكنكم الذهاب الى العراق واجراء نفس الاستفتاء هناك والطلب من الشعب فيما لو يقبلوا هذا الحزب حزب البعث وهذا الاجتماع للحزب و ( صدام ) او ما يسمى هذا الرئيس ام لا .
اذا وافق الشعب على ذلك ، عندئذ يمكننا الجلوس على طاولة المفاوضات والوصول الى تسوية . ولكن ، لو ان الشعب لا يوافق على ذلك ، فاننا لا نقبل اي منهما . لا يقبل بها اي احد عدا جماعة حوله والاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة . اذا كانت المسألة نفسها ، عندئذ فان اجتماعاتنا سوف لا يكون لها فائدة ولا نحقق اي شيء من محادثاتنا . يتحتم علينا الانضواء جميعاً تحت راية الاسلام ، ليس بالكلام ، انما بالعمل والممارسة لو انضوينا فعلاً تحت راية الاسلام بعد ذلك سنكون قادرين على العمل وبخلاف ذلك لو كانت هناك رسميات كأن يكون هناك اجتماع رسمي في احد الايام في الطائف ويوم اخر في ايران ويوم اخر في مكان ما فان المسألة تبقى على حالها الى النهاية وان المسلمين سيقون تحت نفوذ الاجانب الى الابد . بعدئذ ، سنبقى مندحرين ومضطهدين الى النهاية . ولكن ، لو اعتمدنا على الف مليون مسلم والموارد الهائلة للعالم الاسلامي ونكتشف حقيقتنا والسير على هدى الاسلام ، بعدئذ يمكننا التخلص والتحرر من اضطهاد الاجانب . ولو اقتفينا اوامر الله فان العلي القدير سيكون عوناً لنا . ولو اطعتم الله فسوف يعينكم ويقوي عزائمكم .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتــــه …

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ملحق رقم (8)
نص الرسالة المفتوحة الرابعة
من الرئيس صدام حسين
الى شعوب ايران ( 14 / 6 / 1985 )

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد السلام على من يؤمن بالسلام . فقد وجهت اليكم في مناسبات سابقة رسائل تنظلق من ذات النوايا والاتجاهات التي انطلق منها الان في توجيه رسالتي هذه ، وهي التعبير عن رغبة شعب العراق وقيادته في تحقيق السلام وحسن الجوار مع ايران وبدون شروط من شأنها المساس بسيادة وامن او كرامة ايران ، شعوباً او قوات مسلحة . فليس لقيادة العراق ولا لشعب العراق العظيم ولا لقواته المسلحة البطلة اي اهداف على حساب كرامة شعوب ايران او سيادتها على ارضها او حقها في تقرير مصير حياتها . لقد كنا وما نزال ومنذ بداية الحرب وحتى الان وفي سباق مستمر ودونما انقطاع ندعو الى السلام ونؤكد القول بان السلام الذي نريده هو السلام الذي تقوم عليه العلاقات بين شعوب العالم ودوله والذي ترعاه وتستند اليه القوانين والمنظمات الدولية .. السلام القائم على مبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية ، للشعوب واحترام سيادتها ، واحترام اختياراتها ، واننا نتحدى حكامكم ان جاءكم بتصريح او قول منسوب الى اي مسؤول عراقي يخالف هذه المبادئ والاسس منذ بداية الحرب والى يومنا هذا وحتى قبل ذلك . ولكنكم تعرفون وتسمعون كل يوم ، مثل ما يعرف شعب العراق ويسمع ، ما يقوله الذين ابتليتم بهم من حكام وهو يتناقض مع كل هذه المبادئ فحكامكم هم الذين يريدون احتلال العراقوتغيير نظام الحكم فيه وتحويل شعبه الحر الابي الى عبيد مسيرين . وان هذه النوايا التوسعية هي البداية في فخ نصبوه لانفسهم وحرضتهم عليه الصهيونية في المياه الاسنة فاندفعوا بنظرة غريزية بدائية مغترين بالقوة وتصوروا ان نصر شعوب ايران على حاكمها الشاه يمكن تحويله الى وسيلة اعتداء على شعوب المنطقة بل على شعوب العالم . وبدلاً من ان يحمدوا الله الذي نصر شعوب ايران على حاكمها يتدبروا بعمق الاسباب التي ادت الى ذلك النصر ويتواضعوا في علاقتهم مع العالم ومع جيرانهم ومع شعوبهم ، ركبهم الطيش والغرور حتى اعمى بصرهم وبصيرتهم فتصوروا ان بامكانهم اسقاط انظمة المنطقة من خارجها والحاق دولها بايران . هكذا كانت البداية العدوانية التي اشعلت فتيل الحرب بين ايران والعراق منذ خمس سنوات وطحنت الالاف المؤلفة من الضحايا وبددت الكثير من الاماني والامال وحققت الكثير من غايات اعداء الامة العربية واعداء الامة الاسلامية .
ان ابسط مقومات الوصف للعاقل هو ان يعالج امراً عجز عن علاجه بطريق ثبت خطأه بالتحول الى طريق جديد يتلاءم مع الظروف والاحوال ، لذلك فلا يكفي ان نبحث في الماضي عما مر من الحرب ، وانما المطلوب هو ان نهتدي الى ايقافها .. ولا يكفي ان نتذكر خسائرها وتضحياتها وانما ان نضع حداً لهذه
الخسائر ..
ان واجب القادة في ابسط معانيه هو ( تصريف المبادئ ) ومن مستلزمات تصريف المبادئ ان يدخل القائمون على تطبقها في اعتبارهم الظروف والامكانات ومن لا يفعل ذلك تسقط عنه هذه الصفة ويفقد ركناً اساسياً من اركان القيادة .
ان العالم باجمعه وشعوب ايران ، والامة العربية والمسلمين في كل ارجاء المعمورة يقولون لحكام ايران بان النوايا والتقديرات التي دفعتهم الى اشعال نار الحرب والى الاصرار على استمرارها هي نوايا غير مشروعة وهي تقديرات غير واقعية وغير ممكنة بل انها مستحيلة .. ومع ذلك ، يصر حكام ايران على المكابرة مقامرين بدماء شعوب ايران واقتصاد ايران وامن ايران وفرضها في الحياة بسلام .
اني اعاود مخاطبتكم من شعور عال بالمسؤولية ورغبة في توفير السلام لشعوب ايران والعراق ولكي تتبينوا ما في هذه الرسالة من نوايا وما فيها من دقة ادعوكم الى قراءة رسائلي السابقة اليكم لتحكموا عقولكم بكل ما جاء فيها من مبادئ وحقائق وتوقعات لتزدادوا يقيناً بان المخادعة ليست شرعيتنا ولا وسيلتنا في تحقيق اهدافنا وان شرعنا الاساسي هو الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه للمبادئ الصادقة التي غايتها خدمة شعبنا وخدمة السلام العالمي ومراعاة الاماني المشروعة لشعوب العالم .
ان كل ما قلته في رسائلي السابقة قد بانت حقيقته الناصعة والشريفة وبخاصة ما يتعلق منه بشرح نوايا حكامكم من وراء اصرارهم على استمرار الحرب وفي مقدمة ذلك ما قلناه عن مراهنتهم على اطالة امد الحرب فلقد قلنا انها مراهنة غبية وخاسرة ، وان الاستنزاف سيكون باهظ الثمن على ايران من دون ان يتمكن حكامها من تحقيق اهدافهم الشريرة ضد العراق . واكرر القول في هذه الرسالة ايضاً بأن الحرب وان كانت تلحق الضرر بارواح العراقيين واقتصاد العراق الا ان الحياة هنا في كل روافدها واتجاهاتها ومواقعها تزدهر وتتقدم . واستمرار حمل البندقية بالنسبة للعراقيين قدر مشرف لانه المجال الوحيد المتاح امامهم .
اما ايران فانها تدفع ثمناً باهظاً جداً جراء استمرار الحرب فهي تخسر عدداً اكبر من مواطنيها في طاحونة الحرب وهي تخسر فرصتها التأريخية في الحياة وهي تتحكم اكثر فأكثر في ميدان الاقتصاد والسياسة وتهوي سمعتها الى الحضيض على مستوى الرأي العام العالمي وفي المنطقة ، لذلك فاذا كان ايقاف الحرب بالنسبة للعراق هو ايقاف النزيف في روافد معنية من الحياة فان في ايقافها انقاذاً للحياة في ايران . وهكذا تغدو الوطنية الصحيحة بالنسبة للايرانيين هي معارضة الحرب لان الايرانيين يحققون من ايقاف الحرب كل هذه الاهداف ولا يخسرون من ارضهم او كرامتهم او امنهم شيئاً .
اما احلام حكام ايران الشريرة في احتلال العراق واقامة نظام خائن تابع لهم فيه .. فلن يكتب لها سوى الخيبة بعون الله تعالى .. فشعب العراق منتصر لان الله معه ولان الله لا يحب العدوان والمعتدين .
ولكي نؤكد لكم ان غايتنا من القصف في عمق اراضي ايران ليست ايذاء شعوب ايران في الانفس او الكرامة او السيادة وانما هي وسيلة من وسائل الحرب لايقافها وتوفيراً لظرف مناسب في ايام العيد المبارك فاننا سنتوقف عن القصف لاهداف منتخبة داخل المدن الايرانية في العمق .. خلال مدة معينة واعتباراً من الساعة (800) من صباح غد السبت المصادف 15/6/1985 وحتى 30/6/1985م .
ان توقفنا عن القصف هو من اجل اتاحة فرصة جديدة لحكامكم للتفكير بالسلام واتاحة فرصة جديدة لكم كي تضغطوا عليهم من اجل ايقاف الحرب واحلال السلام وهو استجابة لنداءات المعارضة الايرانية المؤمنة بالسلام بين البلدين والتي طلبت منا ايقاف القصف لهذه الفترة من اجل اتاحة الفرصة الملائمة لها لتعزيز الدعوة الى الاسلام .
اما الاسس العملية التي نتصورها لانهاء الحرب فهي :
1. ايقاف اطلاق النار ايقافاً شاملاً في البر والبحر والجو .
2. الانسحاب الى الحدود الدولية .
3. التبادل الشامل للاسرى .
4. اجراء مفاوضات مباشرة لعقد اتفاقية سلام وحسن جوار بين العراق وايران تقوم على اساس احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية .
ولا مانع في هذا المجان من ان تسبق المفاوضات المباشرة اتصالات تمهيدية يقوم بها طرف ثالث محايد .
5. ان الاسس المذكورة اعلاه مترابطة فيما بينها وان خرق اي منها يعتبر خرقاً لها جميعاً ويجب ان يجري تطبيقها وفق خطوات عملية وتزامن دقيق لا يسمح بالتلاعب بالالتزامات او التنصل منها .
6. ومن الطبيعي القول بان كلا من العراق وايران مطلوب منهما ان يكونا عنصرين ايجابيين في امن واستقرار المنطقة لكي يكون السلام نهائياً وليس مرحلة مؤقتة تمليها الظروف .
فهل ترون في اي من هذه الاسس التي نضعها لايقاف الحرب وانهائها بصورة كاملة ما يمس بسيادة او امن او كرامة ايران ؟
من الواضح انها اسس عادلة وتضمن السيادة والامن والكرامة لكل من شعب العراق وشعوب ايران وهي مستقاة من القانون الدولي ومبادئ الامم المتحدة وحق الشعوب في الحياة والاستقلال والحرية .
هذا ما نقترح عليكم .. وعلى هذا الاساس سنوقف عمليات القصف كما قلنا .. فلعل في ذلك فرصة جديدة يمكنكم استثمارها للضغط بقوة علىحكامكم من اجل القبول بانهاء الحرب واللجوء الى السلام .. ولعله يوفر مناسبة لحكامكم لاحياء بقايا العقل للجنوح الى السلم .
غير اننا نود ان نوضح لكم بان الظروف العملية للحرب التي يصر حكامكم على فرضها علينا وعليكم توجب علينا وضع قواعد معينة للالتزام بايقاف القصف لذلك فاننا سنضطر الى معاودة القصف قبل انهاء المهلة المشار اليها في الحالات التالية :
1. اذا ما استمر حكام طهران في قصف مدننا وقراناً .
2. اذا ما قام حكامكم بهجوم على ارضنا .
3. اذا ما صدرت عنهم بيانات او تصريحات ترفض هذه وتحرض على الحرب والقتل والتهديد .
4. اذا ما حشدوا قوات معادية داخل المدن بقصد الهجوم على اراضينا وقواتنا المسلحة .
فعند ذلك سنضطر الى معاودة القصف والضرب بقوة وقبل انتهاء المهلة التي اشرنا اليها لكي نعطي لدعاة الحرب والدمار ما يستحقون من دروس .. وكي نقول للجميع ان احتلال العراق وفرض شروط مهينة عليه بقوة السلاح هو من قبيل الخيال وان الطريق الوحيد المفتوح هو طريق السلام .
اؤكد لكم .. ومن موقع الاقتدار .. رغبتنا الصادقة في السلام القائم على اسس عادلة ومشرفة وفي العيش على اسس حسن الجوار .. كما اؤكد لكم بان استمرار حكامكم في الحرب لن يجلب لكم سوى الدمار والخراب ولن يجلب لحكامكم غير الخيبة والخذلان .. واننا نأمل ان تنجحوا في الضغط على هؤلاء الحكام للتخلي عن نهجهم المنحرف والشرير .. وان تجدوا لايران طريقاً جديداً يوفر لها ولشعوب المنطقة السلام والامن والاستقرار .. اما اذا اصر حكامكم على الحرب .. وعلى مواصلة القتل والتهديد ولم يتعاملوا مع مبادرتنا هذه تعاملاً ايجابياً فاننا ودفاعاً عن شعبنا وسيادتنا سنضطر الى مواصلة الضرب بكل الوسائل ومن ذلك القصف على الاهداف المنتخبة حيثما تكون وقد اعذر من انذر ..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

صدام حسين
رئيس الجمهورية العراقية
بغداد في 25/رمضان/1405 هـ

[email protected]

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات