مشاكل كبيرة وكثيرة تعصف بالواقع السياسي العراقي ، فالكل يبكي على ليلاه ، والكل ينادي بالاستحقاق ، والكل ينظر للامور من زاويته الخاصة ، والكل يشتم البعض والبعض يشتم الكل ! كتل سياسية واعضاء ، قادة وزعماء ، ناطقون ومستشارون ، رجال ونساء ، مزيج من الساسة الذين هم كما قلت في مقال سابق بلا سياسة ، تجمعهم ظاهرة واحدة هي التصريحات السياسية ، فمن خلال هذه الظاهرة يتشابهون ، وفيما عداها فهم مختلفون ، لايجتمعون على نصرة الحق والحقيقة ، ويقولون مالايعرفون ، وسرعان مايتراجعون عما قالوه ، امرغريب ، والاغرب منه ان تستمر هذه الظاهرة دون ان يدركوا حجم تأثيرها السلبي على الواقع السياسي وعلى الشارع العراقي ، بل تحولت هذه الظاهرة الى لعبة سياسية خادعة لحقيقة الموقف ، او انها لعبة تجهل اصول اللعب ومخططاته ، والكثير من اللاعبين في ساحة السياسة عندما لم تعجبهم اللعبة فأنهم يلجأون الى (خربطة) اللعبة والتفرج على نتائجها ايا كانت ، لقد طغت تصريحات الساسة على كل المشهد السياسي ، وبدل ان تساهم في حلحلة الامور ، فأنها ولسطحيتها وعدم اتزانها فقد عقدت المتناقضات واشبكت المشاكل ، وبقي الواقع السياسي يخطو الى الوراء دون نتيجة مرتقبة في الافق القريب وربما حتى البعيد .
ففي حيز العمل السياسي ، يعرف السياسي ويبرز ويلفت الانتباه من خلال تصريحاته ومواقفه التي تستند الى ايديولوجية معنية او فكر او عقيدة ، لان كل ذلك يكون بمثابة التحصين الذاتي لمعتقداته السياسية ، وعليه ان يدرك ايضا انه يتحدث الى قاعدة جماهيرية واسعة ومدركة للامور ومتفهمة لما يحيط بها من ظروف ، فأية كلمة تطلق لابد ان يكون لها فهما واستيعابا وقناعة من قبل الجماهير بأحد اتجاهين ، اما السلبي ، وهو الحاصل ، واما الايجابي وهو الذي لم يحصل ، فكل مفكري الساسة في العالم وأقصد الذين امتهنوا السياسة وتمرسوا عليها علما وعقيدة ومصيرا لايطلقوا التصريحات جزافا ، وانما تخضع تصريحاتهم الى اعداد وتحضير وتدقيق مسبق اما من قبلهم او من قبل مستشارين متخصصين في هذا المجال ادراكا وتفهما منهم بأن التصريح الواحد الخاطئ يمكن ان ينهي حياتهم السياسية ، لكن الذي يحصل عندنا هو استخفاف وجهل ولامبالاة بكل هذه المبادئ وتلك الاعراف ، وهو في واقع الحال يبدوا انه امرا طبيعيا ينسجم مع كل المتناقضات التي تكونت بفعل الظروف اللاطبيعية التي رافقت الاحتلال وفتحت الطريق واسعا بدون الضوابط والقوانين لكل المغامرين الذين وجدوا ان اسهل عمل واكثره ثراءا وشهرة هو العمل السياسي ، وهذا نتيجة لماوصل اليه الواقع السياسي متمثلا ببعض شخوصه المستجدة والطارئة وغير الكفوئة بل والجاهلة بهذا الواقع وغير المدركة لحقيقة جهلها مستقبلا .
في حديث مع احد هؤلاء البعض من اللذين يكثرون من التصريحات المتشنجة ويطرحون الاراء المتزمتة والمتحزبة ، سألته : هل تقرأ ردود فعل تصريحاتك في الصحف والمواقع الصحفية الالكترونية وباقي وسائل الاعلام ، اجاب : لست بحاجة لذلك فما اقوله هو الذي ينبغي ان يكون ، وأنا صاحب الرأي الحاسم في كل القضايا السياسية المتعلقة بي ، قلت له بك ام بحزبك الذي تنتمي اليه ، اجاب : لايهم ذلك المهم ان اقول ماأريد ، فأنا واثق من ان الحزب سوف يوافقني الرأي لأن القضية هي قضيتنا وانا اعرف متى واين اتحدث ولمن . !! هذا التصريح خطير وكارثي ، لأنه يمثل الدكتاتورية السياسية بحد ذاتها ، واستبداد بالرأي يفسد الامور اكثر مما يصلحها ، في حين يذهب البعض الآخر في تصريحاتهم الى اللجوء الى اساليب متناقضة ومتضاربة وغير واضحة المعنى ولاتدل الا على تصعيد المواقف وتعقيد الامور دون التفكير بالمخاطر والاشكالات المرتقبة ، ولانعرف مدى المسؤولية التي يتحملها هذا الطرف او ذاك امام حزبه او كيانه في تحديد الاتجاهات وتبني وجهات النظر ازاء القضايا والاشكالات السياسية المطروحة على الساحة ، فكل ماسمعناه من قبل الاحزاب لتجنب الاحراجات التي تحققها بعض التصريحات التي تتجاوز حدودها هو ان هذا الراي يعبر عن وجهة نظر المتحدث ! وكأن القضية عابرة وبسيطة تتجاوز بل ووتعالى على كل القيم الاعتبارية وحدود الاحترام للشعب ولوسائل الاعلام التي غالبا ماتتورط في نقل التصريحات لتجد في اليوم التالي ان هناك من ينقضها او يكذبها او ينفيها .
ان طبيعة الخطاب السياسي الذي تستند اليه التصريحات لايزال ينبع من اعتبارات تأريخية قديمة للاحزاب التي لم تتفهم بعد كيف يمكن ان تدخل في عصر التحولات الجديدة والمتغيرات الكبيرة التي طغت على المشهد الاجتماعي ، بل وحتى على طبيعة الممارسة السياسية ، فهي لاتزال متقوقعة في حدود الاطارات التقليدية ، وحبيسة الافكار التكوينية الاولى ، وهذا يعنى انها لاتنهج الفكر التنويري ولا الحداثة في التعامل لا على مستوى تغيير الايديولوجيات وانما على مستوى اعتماد الحوار البناء كمنهج للتقارب الانساني ، والتفكير المعمق والمتزن في التعامل مع الازمات والمشاكل وفق معايير اخلاقية ومبدئية تضع امامها الاستحقاقات الشعبية والارادة الوطنية التي لاتنفك الا وتكون الملازمة الوحيدة التي يجب ان تحترم وتقدس.
وعلى اساس ذلك فأن المشاركين في هذه الحرب لم يحققوا او يضيفوا اي شيئ يذكر يساهم في تحسين او تلميع العملية السياسية بقدر ما عكروا ولوثوا الصفاء الذي كنا نتمناه للواقع السياسي ، ومن المهم جدا ان تلتزم الشخصيات السياسية ببرامج كتلها ، وان تعبر عن خصوصية هذا البرامج من منطلق الحرص على عدم اساءة الفهم من قبل المواطنين ، وفسح المجال لتأويل الامور ودفعها بأتجاهات خاطئة تضر بالعملية السياسية وتسيئ الى مفهوم الوطنية بل وتشكك بهذا المفهوم لأن مجمل هذه التصريحات كانت تعبر عن ذاتية المتحدث ورؤيته السياسية التي لاتمت باية صلة للمصلحة الوطنية والارادة الشعبية ، على اساس ذلك فأن المرحلة الحالية تتطلب الاتزان والحكمة ومسك العصا من الوسط ونبذ الخلافات والتوجه للحوار الجدي النافع لكي يساهم الجميع بأنتاج مشروع وطني حقيقي يطرح افكارا وحلولا عاجلة لمعالجة كل ازمات الواقع السياسي الذي يدفع نحو بناء البلد واسعاد الشعب .
كاتب ومحلل سياسي – عمان