بعد نهاية كل حرب تقوم مراكز البحوث والدراسات العسكرية والاستراتيجية والباحثين بتحليل كل الأحداث والمعارك بين الطرفين للكشف عن الثغرات ونقاط الضعف بالقدرات العسكرية واستخلاص الدروس منها .ولهذا اننا نسلط الضوء على ذلك بمهنية عسكرية بعيدا عن الانحياز او التعاطف مع اي طرف بقدر ما يهمنا الامر وتعتبر هذه الحرب التي حصلت بمنطقة الشرق الأوسط فريدة بنوعها.
ولم تعد الحروب الحديثة تقتصر على حسم المعركة بالنيران بل باتت مرآةً دقيقة تكشف عمق التوازنات الاستراتيجية والبُنى العقائدية للجيوش، ومدى جاهزية الدول لمواجهة وسيناريوهات حرب معقدة تتداخل فيها الأبعاد العسكرية والتقنية والاستخباراتية والسيبرانية والمجتمعية. ومن هذا المنطلق، فإن المواجهة التي اندلعت بين إيران وإسرائيل في ما بات يُعرف بـ”حرب الإثني عشر يوماً” تُعد محطةً فارقة في التاريخ العسكري للمنطقة، لكونها مثّلت أول تصادم مباشر بين قوتين إقليميتين اعتادتا الصراع عبر الوكلاء لتتحول هذه المرة إلى معارك صاروخي وجوي مفتوح يتقاطع في توقيته مع حروب موازية أخرى كحرب روسيا وأوكرانيا والنزاع في غزة، وتوترات الهند وباكستان ما يضفي على المشهد بعدًا عالميًا متشابكًا. على خلاف الحروب التقليدية البرية أو البحرية لم يلتقِ الجيشان الإيراني والإسرائيلي ميدانيًا بل انحصرت المواجهة في الجو وعبر الفضاء الصاروخي ما أضفى على المعركة طابعًا تقنيًا واستخباراتيًا أكثر من كونه معارك ذات طابع بري وبحري . أعلنت إسرائيل أهدافها صراحة، وهي تدمير المنشآت النووية الإيرانية، ووقف تقدم طهران نحو امتلاك القنبلة النووية، وتفكيك برنامجها الصاروخي، إلى جانب هدف ضمني أشد خطورة يتمثل في محاولة زعزعة النظام الإيراني أو إسقاطه في سياق المجريات الميدانية كشفت عن نقاط ضعف في البنية العسكرية الإيرانية، لاسيما في سلاح الجو الذي ظهر عاجزًا عن خوض معركة حديثة، حيث تعود معظم الطائرات الإيرانية إلى حقب سابقة، ولم تخضع لتحديث فعّال، ما جعل حضورها شبه غائب عن ساحة القتال. وعجزت القوات الجوية الإيرانية حتى عن فرض سيطرة دفاعية داخل أراضيها، مما أتاح لإسرائيل شنّ ضربات دقيقة في العمق دون مقاومة فعالة وتعني سيادة جوية لصالح اسرائيل في المقابل وظهرت القوة الجوية الإسرائيلية في حالة من التفوق مدعومة بطائرات الجيل الخامس من طراز F-35، وبمنظومة استطلاع وتنسيق غربية عالية المستوى، أتاحت لها تنفيذ عمليات جوية ناجحة نسبياً.ولكن هذا التفوق لم يكن كافيًا لمنع الصواريخ والمسيرات الإيرانية من اختراق العمق الإسرائيلي، ما كشف عن ثغرة واضحة في منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي رغم امتلاكها القبة الحديدية، التي طالما وُصفت بأنها إحدى أكثر أنظمة الاعتراض تطورًا في العالم. القصف الصاروخي الإيراني المكثف والمتعدد الاتجاهات أظهر محدودية القبة في التعامل مع موجات معقدة ومتزامنة، ما أدى إلى اختراق بعض الصواريخ لمنظومة الدفاع، وخلق حالة من القلق والارتباك داخل المجتمع الإسرائيلي. الردع الصاروخي الإيراني مثّل أبرز مظاهر القوة في هذه الحرب، فقد اعتمدت إيران على ترسانة باليستية ومسيّرات هجومية بعيدة المدى لتنفيذ ضربات دقيقة على مواقع استراتيجية داخل إسرائيل. وهذا الأداء الصاروخي ليس وليد لحظة، بل هو نتيجة استراتيجية طويلة اعتمدتها طهران لتعويض ضعفها الجوي، عبر بناء قدرة صاروخية تمتد من الردع إلى التأثير النفسي، وتستطيع التغلغل في عمق أراضي الخصم بكلفة أقل وفعالية أكبر. بالمقابل، بدت إسرائيل عاجزة عن منع هذا التهديد رغم تفوقها الجوي، ما يطرح تساؤلات حول فعالية عقيدة الدفاع المتكامل لديها.الاختراقات الاستخباراتية كانت أيضًا حاسمة، فقد نفّذت إسرائيل عمليات نوعية داخل العمق الإيراني، شملت اغتيال شخصيات محورية في المشروع النووي، وضرب منشآت حساسة بطائرات مسيّرة تسللت داخل الأراضي الإيرانية دون أن تُرصد، وهو ما يُظهر ضعفًا واضحًا في قدرات الاستخبارات والأمن الداخلي الإيراني، ويعكس هشاشة في التنسيق بين الأجهزة المختلفة المعنية بالأمن القومي. أما إسرائيل، فقد واجهت نوعًا مختلفًا من التحديات الأمنية تمثل في تفكك الجبهة الداخلية، حيث أدت الصواريخ الإيرانية إلى هروب المدنيين من مناطق واسعة، وظهور حالة من السخط الشعبي على الأداء الحكومي، وسط انقسامات سياسية داخلية زادت من هشاشة التماسك الاجتماعي في وقت الحرب.
بعيدًا عن ساحة النار، شهدت هذه الحرب مواجهة موازية في الفضاء السيبراني، حيث تبادل الطرفان الهجمات الإلكترونية التي استهدفت منشآت طاقة، أنظمة اتصالات، وخدمات مدنية وعسكرية حساسة. ورغم أن أياً من الطرفين لم يحقق اختراقًا حاسمًا، إلا أن هذه المعركة الصامتة كشفت عن توازن سيبراني هش، وغياب منظومات دفاع رقمي متكاملة لدى كليهما. تأثير هذه الحرب غير المرئية كان عميقًا رغم خفوت صوتها، إذ ساهمت في إرباك شبكات القيادة والسيطرة، وشل بعض المنشآت الحيوية، ما يؤكد أن الحرب السيبرانية باتت مكوّنًا أساسيًا في أي صراع معاصر.جانب آخر بالغ الأهمية تمثل في حرب الإمداد. رغم خضوع إيران لعقوبات دولية خانقة، إلا أن الحرب أظهرت أيضًا أن إسرائيل تعتمد بشكل شبه كلي على الدعم الغربي في تأمين قطع الغيار والذخائر المتطورة، ما يثير تساؤلات حول قدرة تل أبيب على خوض حرب طويلة دون دعم خارجي مستمر. في المقابل، عانت إيران من محدودية تصنيع صواريخها المكلفة، وصعوبة تعويض ما يتم استهلاكه في ظل الحصار الاقتصادي، ما يؤشر إلى هشاشة محتملة في قدرتها على الاستمرار في حرب استنزاف.
ورغم الحديث الطويل عن التفوق الإسرائيلي، فإن المسافات الجغرافية بين إسرائيل وإيران شكّلت تحديًا مزدوجًا للطرفين. فبالنسبة لإيران، تطلّب الأمر امتلاك صواريخ باليستية بعيدة المدى ومسيّرات قادرة على قطع مئات الكيلومترات بدقة. أما إسرائيل، فواجهت صعوبة في تنفيذ ضربات جوية متكررة على أهداف إيرانية بعيدة ضمن بيئة معادية، رغم قدرات طائراتها المتقدمة، مما أعاد للجغرافيا دورًا حاسمًا في ميزان الردع، وسلط الضوء على المسيرات الإيرانية التي نجحت بكفاءة في كسر الحاجز الجغرافي بكلفة منخفضة نسبيًا.البرنامج النووي الإيراني ظل حاضراً كأرضية تحتية لكل ضربة وقرار، إذ استهدفت إسرائيل مواقع بعينها لتعطيل هذا المشروع، وهو ما يعكس أن طموحات إيران النووية هي السبب الاستراتيجي الأول في المواجهة. كما أن تقدم طهران في هذا المسار، وإن لم يبلغ مستوى التسليح، فرض ترددًا إسرائيليًا واضحًا في الذهاب إلى أقصى التصعيد، خشية دفع إيران إلى اتخاذ القرار النووي كخيار وجودي في حال تعرضت لخطر إسقاط النظام.
من جهة أخرى، مثّلت حرب المعلومات ساحةً لا تقل أهمية، إذ عمد الطرفان إلى استخدام الإعلام والفضاء الرقمي لتضخيم منجزاتهما العسكرية، وبث الرعب في صفوف العدو، وتوجيه الرأي العام الدولي. الحرب النفسية التي مورست عبر مقاطع الفيديو والدعاية والاختراقات الإلكترونية أظهرت أن السيطرة على الرواية الإعلامية باتت عنصرًا جوهريًا في أي حرب معاصرة، بل أحيانًا تفوق أثر الضربات الميدانية.
خلاصة القول، إن هذه الحرب كشفت أن التفوق التكنولوجي وحده لا يصنع النصر، كما أن امتلاك السلاح الحديث لا يُغني عن التكامل الاستخباراتي والقدرة على إدارة الجبهة الداخلية. فإيران، رغم قدراتها الصاروخية أثبتت أنها بحاجة إلى إصلاح جذري في سلاحها الجوي، وتحديث دفاعها الجوي وتحقيق تكامل فعّال بين مؤسسات الأمن المدني والعسكري. وإسرائيل رغم تفوقها الجوي أثبتت هشاشة دفاعاتها ضد الصواريخ والمسيّرات وتراجع قدرة جبهتها الداخلية على الصمود، ما يجعل من الضروري إعادة النظر في عقيدتها الدفاعية وفي تماسكها الاجتماعي.
لقد أبرزت حرب الإثني عشر يوماً حقيقة مقلقة أن موازين القوة الكلاسيكية لم تعد كافية لتفسير نتائج الحرب، وأن المستقبل العسكري في الشرق الأوسط سيتشكل من عناصر أكثر تعقيدًا تشمل القدرة على الصمود المجتمعي، والتفوق السيبراني والاستقلال اللوجستي وإدارة الفضاء المعلوماتي، وليس فقط عبر عدد الطائرات والدبابات. ومن يتمكن من تحويل الجغرافيا من حاجز إلى جسر ويستثمر في بنية ردع متعددة الأبعاد هو من سيمتلك مفاتيح القوة في الحروب القادمة .