أكثر ما يسوءني في حربنا الدفاعية العادلة مع الخمينيين المجوس, هو إنه لا زالت هناك شريحة من العراقيين والعرب, بعد مرور أكثر من 40 سنة, تجادل بموضوع من بدأ الحرب؟, وهل يستحق الأمر كلَّ هذه التضحيات؟.
ولو حصلت مثل هذه التساؤلات سنة 1980, لالتمسنا لهم العذر أو بعضه, أما أن تُثار مثل هذه الأقاويل بعد كل الذي جرى, وظهور الأطماع الإيرانية في أرض العرب والدور التخريبي الذي قاموا به, وما زالوا, في العراق بعد احتلاله, ثم لاحقاً في سوريا ولبنان واليمن والخليج العربي, بل والوطن العربي كله. وبعد انكشاف الكثير من الحقائق, والتي أهمها الاعتراف الصريح من قبل ثلاثة من كبار المسؤولين الإيرانين والمقرّبين من الدجال خميني, وهم؛ نائبه منتظري, والرئيس بني صدر, ووزير الخارجية ابراهيم يزدي, هؤلاء الثلاثة أفادوا بأن خميني كان مصرّاً ومصمّماً على شنّ الحرب, وعلى استمرارها كل هذه المدة الطويلة. ورغم إن الشخصية الفارسية, ذات طبيعة مراوغة وباطنية وتميل الى الكذب, ولكن يأبى الله إلاّ ويجعلهم ينطقون بالحقيقة وبعظمة ألسنتهم. فبعد كل ذلك, تبدو تلك التساؤلات, مستهجنة للغاية.
أما موضوع؛ هل تلك الحرب كان يمكن تجنّبها عراقياً, باللجوء الى خيارات أخرى أخفّ وطأة, وأقلّ تكلفة ؟. هنا؛ لا يمكن لبشر أن يجزم بصواب ذلك من عدمه, ما دام هذا الأمر في رحِم الغيب. ولكنه يدخل في مجال التحليل والترجيح والاستنتاج, وفق ضوابطها. ولكنّي أرجّح كثيراً, بأن أي طريق آخر غير الطريق الذي اختارته القيادة العراقية في الرد الشامل على العدوان الايراني في 22-9-1980, ستكون نسبة نجاحه ضئيلة جداً, ولكان العراق تفتّت منذ ذلك الحين. وأنا هنا لا أنطلق في استنتاجي هذا من رأي شخصي, أو هوىً في نفسي, بل استنادا الى مطالعاتي منذ أكثر من أربعين عاما, لما يزيد على أربعة آلاف كتاب, نسبة لا بأس منها عن تاريخ الصراع العراقي – الإيراني. وهذا الأساس المعرفي؛ عزّزته بحصولي على أربع شهادات أكاديمية من كليات عراقية مرموقة, في العلوم الأمنيّة والعسكرية, وفي الصحافة والإعلام, وفي التاريخ الإسلامي, وفي الفكر السياسي. وكل ذلك قبل 2003, يوم كان للشهادة؛ قيمتها واعتبارها. وليس قولي هذا على سبيل الدعاية لشخصي المتواضع, ولكن لكي يعرف من يقرأ ما قلته, إن ما أكتبه, يستند الى خزين علمي وثقافي, هو حصيلة جهد واجتهاد, بذلتها في مسيرة الحياة.
للأسف؛ نحن العراقيون, لا نعرف قدر أبطالنا وقادتنا, إلاّ بعد فوات الأوان, فنبدأ بالحنين والبكاء عليهم وعلى تاريخ مضى. وما نجيده, هو؛ كلّما جاءت أمّة, لعنت التي قبلها!!, فكلُّ من يجلس على الكرسي, يشطب على تاريخ من سبقه, ويجيّر انجازاته له, ويقذفه بكل(عيوب الشرع)!!. وإلاّ؛ هل يجوز تفكيك الجيش الذي حقّق نصراً عظيماً على عدو غادر, وغاشم, ولئيم, وحقود. ويُقتّل قادته, شنقاً أو غدراً, أو يُزجّ بهم في غياهب المعتقلات, تلك المعتقلات التي تتوارى منها خجلاً, معتقلات ستالين والنازيّين, ويتم تشريد ما تبقى في أصقاع الأرض, ويُحرمون من لقمة عيشهم, ظلماً وعدواناً, ومن يحالفه الحظ وينجو من تلك المهالك, فإنه يعيش متخفيّاً داخل العراق, ولا يمكنه المجاهرة والافتخار بتاريخه المشرق والمشرّف, لأن رصاص (غلمان خميني), سيكون له بالمرصاد, إلاّ إذا تخلّى عن شرفه العسكري, و(بايع) الأحزاب الإيرانية الطائفية, وقبل لنفسه أن يكون بأمرة الجهلة المتخلّفين من ضباط(الدمج)!!, حينذاك ,يدخل(جنة خميني وخامنئي)!!!. فأي جحود ونكران للجميل هذا ؟!!.
أطول حرب في القرن العشرين, وأول انتصار مؤزّر لجيش عربي في العصر الحديث, ومع ذلك لم تأخذ تلك الحرب الضروس حقها في البحث والدراسة والتوثيق, ولا حتى بأقلِّ القليل, فالقادة الذين كتبوا مذكراتهم عنها, لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة, بعضها مكتوباً بلغة عسكرية جافة, وبلا لمسات أدبية أو انسانية, تشدّ القارئ. وما أُنتح عنها من (أفلام) أقل من عشرة, حصة القوة الجوية منها؛ اثنان, أحدهما,وهو؛(المهمة مستمرة), مفقود!!!. وفي ذلك التقصير, خسارة أخرى لجيل عراقي سيأتي, لم يعش هذا السفر الخالد, فيقرأ عنها في كتب كتبها غير أبطالها الحقيقيّين, بل كتبها المغرضون والأفّاكون والمزيِّفون.
ولكن مع كل هذا الظلام الدامس, والليل المدّلهم الذي يبدو وكأنه بلا آخِر, سينبثق فجر زاهٍ, وستُكنس حثالات إيران من أرض الرافدين الطاهرة.. نعم؛ سيُكنسون كالحشرات إلى المزابل التي جاءوا منها. ولكي نتحسّب مستقبلاً, ونسدّ الثغور التي يتسلّل لنا منها العدو الغادر الخبيث, وأن لا نكون غافلين مغفّلين.. وكل ذلك بقدر الله سبحانه. قال تعالى: ((وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا)).