التعددية في طرح الآراء وتبادل الأفكار، تنقل حزب البعث إلى مرحلة جديدة، الحرية سقفها والديمقراطية مسارها، والاثنتان افتقدهما الحزب في أغلب سنوات حكمه السابقة.
أنعشت رسالة زعيم حزب البعث عزة الدوري الأخيرة إلى الكاتب والمفكر حسن العلوي، ووزع الحزب مؤخرا نصها الكامل، حراكا واسعا بين البعثيين، تحول في بعض مساراته، إلى جدل صاخب على صفحات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، حتى وصل الأمر بعدد من البعثيين، إلى نشر بيانات شجب استنكرت النصائح التي حملتها الرسالة إلى إيران، ودعوتها إلى بناء علاقات متوازنة مع العراق والعرب، وما تناولته من نقد لعملية احتلال الكويت في صيف 1990، إضافة إلى ما تضمنته من تعهدات، بعزوف الحزب عن تسلم السلطة لا الآن ولا مستقبلا ولعشرات السنين.
ومن وجهة نظر موضوعية، فإن رسالة الدوري والنقاش الساخن حولها، يمثلان حالة صحية في مسيرة الحزب الراهنة، وهي تقترب من روح الديمقراطية التي تسود بين البعثيين لأول مرة، بغض النظر عن الآراء المختلفة التي قيلت فيها، والدليل على ذلك أنها مستمرة في إثارة أصداء وردود أفعال متباينة حولها، في داخل العراق وخارجه، بين مؤيد لهدوء لغتها، التي قد تفضي إلى تقييم مسيرة الحزب ومراجعة مرحلة قيادته للسلطة على مدى خمس وثلاثين سنة متصلة، ونقد إخفاقاتها وأخطائها، وبين معارض لمضمون الرسالة “غير الثوري” الجديد على أدبيات الحزب، في وقت مازال جمع من البعثيين يفكر وكأن البعث مازال في السلطة وإن لم يحكم، على طريقة “بعثيون وإن لم ينتموا” التي سادت سابقا.
وواضح أن زعيم الحزب، كان يدرك مسبقا أن رسالته، ستحدث دويا في أوساط البعثيين المنتظمين ونظرائهم المرتبطين فكريا أو عاطفيا بالحزب، وتهز الأجواء الرتيبة التي سادت صفوفهم عقب الاحتلال، حيث لا اجتماعات منتظمة ولا ندوات مفتوحة ولا مؤتمرات عامة، بسبب ظروف الاحتلال وتداعياته، فعمدت قيادة الحزب إلى تشجيع النقاش الفكري واستمرار السجال السياسي بين البعثيين الذين اشتبكوا في معارك حوارية في ما بينهم، وبين آخرين من خارج الحزب ساهموا فيها بحسن نوايا أو تشفّ، لم تقتصر على مضامين الرسالة، وإنما امتد الجدل إلى نقد سياسات اتخذتها حكومات الحزب في تصفية شخصيات وطنية وقومية وديمقراطية ودينية وعشائرية وعسكرية اتهمت بالمعارضة، واستذكار محطات مؤلمة مر بها البعث، فقد على أرصفتها قيادات وكوادر بعثية مخلصة، وأخرى مظلومة- كما وُصفت- دفعت ثمن مواقفها الجريئة، في رفض التسلط القيادي والسلوك الدكتاتوري، اللذين طغيا على مسيرة سلطة الحزب لفترات طويلة.
وليس دفاعا عن عزة الدوري، ونحن شخصيا هاجمناه كثيرا، قبل الاحتلال باعتباره الرجل الثاني في النظام السابق، ويتحمّل مع رفاقه مسؤولية أخطاء وقعت وإجراءات حدثت، ولكن من الظلم وصفه بعبارات لا تليق سياسيا أو تخوينه وطنيا، كما حصل من أعضاء سابقين، واضح أنهم محبطون، وأحدهم وزع خطابا صوتيا ضده، يشبه في نبرته “بيان رقم واحد”، مع علمنا بأن صاحب الخطاب أو البيان، بعثي حد النخاع، وكان لا يسمح بمسّ الحزب بسوء، وقد تعرّض الرجل إلى إجراءات عقابية بما فيها غرامات مالية وإقامة جبرية من السلطات البريطانية، لظهوره في برنامج تلفزيوني مع شخص آخر هاجم البعث وقادته بتحامل وقسوة، لم يتحملها صاحبنا الذي صعد الدم البعثي إلى رأسه واندفع يوجه إليه اللكمات بالصوت والصورة، خلافا للقانون المعمول به في المملكة المتحدة، وقد وجدته بعد إنهاء العقوبة المفروضة عليه، محبطا ليس من العقوبة ذاتها، وإنما لأنه لم يجد تعاطفا من الحزب أو استفسارا عن حالته الشخصية أو أوضاعه الحزبية، كما أبلغني.
لقد ورث الدوري تركة ثقيلة، هذه حقيقة يجب أن تقال. حزب مترهل بالملايين من الأعضاء والأنصار والمؤيدين، صدمتهم الحرب الأميركية العدوانية، وهم كانوا مخنوقين ومحتقنين، تتقاذفهم أوهام نصر، يعرفون تماما أنه لن يتحقق، ويتخوفون من انكسار زاحف بالقوة على حزبهم، وهذه حالة ليس من السهل التعاطي معها نفسيا على الأقل، ومع ذلك بادر عدد من قادة الحزب الذين نجوا من القتل والاعتقال إلى تشكيل قيادة مؤقتة نزل أعضاؤها تحت الأرض برئاسة صدام حسين المطارد وقتئذ، عملت على تجميع البعثيين وبث روح الصمود في نفوسهم اليائسة، وتأسيس فصيل مقاوم (جيش محمد) نجح في ضرب الغزاة في عدد من المناطق والمحافظات، ولكنه ضعف عقب اعتقال الرئيس الراحل، وتلاشى تقريبا بعد إعدامه، الأمر الذي وضع الدوري في موقف حرج، خصوصا وأن رفاقه في قيادة الحزب كانوا بين معتقل ومختف، مع اشتداد الملاحقات لاغتياله، ولكنه صمد وثابر، وهو المعروف بانضباطه الحزبي وحرصه الديني، وتمكّن من انتشال الحزب الجريح ورفع معنويات أعضائه، وتنشيط فعالياته التنظيمية والنضالية بمساعدة وجوه جديدة تحمّلت المسؤولية معه، حتى أن حضور الحزب كان مؤثرا في الكثير من مناطق بغداد وعدد من المحافظات، حتى صيف 2014 قبل أن يظهر تنظيم داعش ويفرض سطوته، ويتصدى للبعثيين والمقاومين النقشبنديين، ويعتقل ويصفي المئات منهم.
وصحيح أن رسالة الدوري بدت في بعض مقاطعها، غير مألوفة لقطاع واسع من البعثيين من حيث مرونتها وانفتاحها، لأنها أشارت لاختلالات في سياسات الحزب رافقت مسيرته، دون أن تخوض في تفاصيلها المتروكة لمراجعة نقدية شاملة تقودها المؤتمرات الحزبية مستقبلا، إلا أنها في المحصّلة حركت المزاج البعثي الكئيب، وأسقطت نظرية الحزب الفوقية القديمة “نفذ ثم ناقش” وحولتها إلى “ناقش ثم ناقش.. حتى تقتنع أو تعترض” وفي الحالتين ليس هناك، شكر وترفيع، أو مساءلة وتجميد، فالتعددية في طرح الآراء وتبادل الأفكار، تنقل البعث إلى مرحلة جديدة، الحرية سقفها والديمقراطية مسارها، والاثنتان افتقدهما الحزب في أغلب سنوات حكمه السابقة.
نقلا عن العرب