يبدو إن الأمر يأخذ أكثر من مشاكسة عابرة في عنوان ما تقدم مثلما لم تكن مشاكسة إعلامية من القناة او صائغ التقارير.. فهو يترسخ كذاكرة ذهبية لشعب خًط على جبينه إما الرعب او الموت او الجوع قسرا..
فلاح الذهبي عراقي من قاع هذه الذاكرة.. الاسم الإعلامي اللامع في صياغته الشعرية المتجددة والحوارية السردية الحداثية مع كل تقرير مرسل الى قناة الحرة عراق وهو مدير مكتبها في بغداد..
يوم الخميس الدامي الأخير وبذات مساء التفجيرات، وكعادته مع الداميات من أيام الأسبوع الأخرى وتلك التي لاحقها (عزاء الذهبي) بتقاريره الأكثر أسى من شاعريته وبلاغته الأدبية، الأكثر غرابة حيث إنها كانت أكثر بلاغة أدبية من بلاغة الصورة وبعكس السائد من تقارير الصورة تتكلم في التقارير العالمية..
الذهبي يجمع صورا شتى عن أيام التفجيرات ومن بقايا رمادها او قلْ انه يشم من الصور الواردة توا رائحة اللحم الآدمي المحترق.. أجده بل أحسه يتنفس أنفاسا متقطعة لطفلة أضاعت حقيبتها واصطكت أسنانها رعبا من فداحة ما حصل في باب مدرستها.. او أرعبه عويل الأمهات الثكالى هنّ لم يكترثن الى ما كًشف من شعورهن او أجسادهن فالوعي غاب مع الروح الملتاعة، للبحث عن فلذات القلوب الضائعة بين ثنية الرصيف أم حفرة الانفجار أم ضاعت أعضائه بين أنقاض ما هًدم .. او الآباء ذوي النظارات السميكة يمسحون دموعهم في اليشاميغ.. وقفوا على أبواب الطب العدلي بانتظار توقيع شهادات الوفاة ولم تكتمل شهادة الميلاد بعد، أحسه يستنطق صمت عمال البلدية وهم يكنسون ما تساقط من أحلام من سقطوا على ارض محروقة تحتهم بصمت مرعب.. أجده يصور لي في لغة رشيقة رعب العصافير الفارة من رعب أصوات الانفجارات في صبيحة بغدادية حزينة.. كنت انتظره في مساءات إخبارية كهذه ننتظر الرجل وهو يعزي نفسه والشعب بما حدث.. تلك بلاغة يًحسد عليها وتلك لم تكن حرفية تقريرية فاقد لروح الحياة العراقية التي تربى هو عليها، وتلك مهنية أعلى من مكتبية المهنة التقريرية الباردة، أجد إن فلاح الذهبي وكأنه يقدم تعزية فردية لكل فقيد في مفخخة يوم الأسبوع الدامي من سبته الى خميسه، بل انه يقدم باقة ورد لكل الجرحى، انه يزرع خيطا من الأمل في نهاية تقريره وتشبثا بذلك الخيط حتى خروج شمس يوم خالِ من دخان ورماد وشظايا مفخخات العدوان المستتر في المجهول.. وعمال البلدية في الغد سيكنسون الزجاج المتشظي حتى تستمر الحياة محاولة في محو ما حدث..
فلاح أكثر من خيط ذهبي في صياغة قرص شمس ابيض للغد، أكثر عراقية من الكثيرين، زارعا لبراعم أمل بين الرصيف وحفرة الانفجار من اثر ملحوظ، نحسد فيه تلك الشعرية / الانزياح في صياغة التقارير المصورة.. فهي شعرية في بطن سرد مكثف للصورة المرعبة والتي اقتطع منها ما يخيف.. الصورة تتقدم في النهاية وهي لا تقوى على قول كل الحقيقة إلا على رخامة الصوت المستتر خلفها..
[email protected]