23 ديسمبر، 2024 11:40 ص

حذو النعل بسلفه النعل

حذو النعل بسلفه النعل

قالوا قديما؛ (خير الكلام ماقل ودل)، فالقلة والدلالة -مجتمعتان- لو تمت بهما أقاويلنا لبلغنا مقاصدنا بأقل جهد ووقت، فهما تغنياننا عن متاعب الإطالة وعناء الإسهاب فيما نقول، وقطعا هذا لن يتحقق إلا إذا كنا نعي مانتفوه به، وندرك أبعاده وفحواه ومغزاه، وقبل هذي وتلك وذاك، علينا أن لانحيد عن الصدق والشفافية والوضوح فيه، لنضمن حسن الاستماع وسعة الإصغاء لدى السامع فيما نحن ذاهبون فيه. أما اللغط، فكما معلوم هو الصوت والجلبة والحديث الصاخب المختلط المبهم، وهو مذموم ومكروه في حالتي الإطالة والإيجاز على حد سواء، وقد قال الشافعي:
وصن الكلام إذا نطقت ولا تكن
عجلا بقولك قبلما تتفهم
لم تُعطَ مع أذنيك نطقا واحدا
إلا لتسمع ضعف ما تتكلم
مادعاني للذهاب الى فضل الكلام القليل والدال، هو الكم الهائل من التصريحات التي يدلي بها في كل محفل ونادٍ ساسة بلدنا، لاسيما وهم يعيشون موسم تبديل الريش والجلود والوجوه والمناصب، بعدما صدر حكم صناديق الافتراء. والحديث في سطوري هذي لا يتناول صدق تلك الصناديق من كذبها، ولا شفافية المفوضية من ضبابيتها في التحكم بالنتائج، فحديث في هذا المجال لا يأتي بحلول ناجعة، ولا يسهم في شفاء غليل ولا إطفاء سعير ولا جير ولا بسامير.
إن متصدري المشهد السياسي هذه الايام، لايتوانون عن البوح بكل ما يأتي على لسانهم من مفردات وعبارات، قبل ان يتدبروا ماتعنيه ومن دون أن يستقرئوا صداها، وما تعكسه من آراء وأفكار ووجهات نظر. وقد يظن الغريب عن الساحة العراقية وغير الملم بما يجري فيها من أحداث مأساوية، دارت رحاها على حساب المواطن في السنوات الخمسة عشر الأخيرة، أن مايسمعه من تصريحات دليل على أن هناك شخصيات وطنية نذرت نفسها لتقديم ما يخدم العملية السياسية في البلد، ولكن حين يعرج على ماوراء التصريحات وما تحقق منها على أرض الواقع المعاش فعلا، يتضح له جليا أنها تعكس ازدواجية او خلطا لأوراق، لا يبرّأ منها قائلها تحت ذريعة السهو او الغفلة او الهفوة، بل هو قاصدها بما يثبت للقاصي والداني، أنه منذور بالوقفات الضدية من العراق برمته، وليس من العملية السياسية او من حكومة بعينها او رئيس وزراء فحسب.
إن العبارات التي تتضمنها خطب المرشحين -الفائزين والخاسرين- من ساستنا المخضرمين وتصريحاتهم، لهي أقرب الى الطلسم والغموض منها الى الوضوح والبيان، حتى لكأنها ضرب من الوهم او السراب، يتمنطق بها قائلها لغايات في قلبه، ولغرض بعيد عن فحوى ماتحمله مفرداتها من رقي ثقافي ونضج عقلي ووعي اجتماعي، فضلا عن الشعور الوطني. وبذا يكون المواطن -الذي وضع يده على خده بانتظار حقه من لدن مسؤوليه المنتخبين- قد توصل الى يقين أن ليس كل مايقوله المرشح كان قد بلوره في عقله، وليس كل مايبلوره في عقله يكون صادقا في طرحه، وليس كل مايطرحه يكون جادا بتطبيقه، وليس كل مايتم تطبيقه عاجلا على أحسن وجه، سيتم تطبيقه آجلا بالمواصفات ذاتها، حتى باتت تصريحات المرشح كما يقول مثلنا: (…بسوگ الصفافير) إذ يضيع كثير من صدق مايصرح به بين زوابع الأكاذيب والأباطيل المسجلة في صفحات ماضيه، علاوة على التي يأتي به مستقبل الأيام عقب تصريحاته.
فهل علم المرشح -الجديد والمخضرم على حد سواء- أن “البيان رقم واحد” ما عاد يلفت الأنظار، وكذلك “الخطاب التاريخي” الذي يوجهه المسؤول، لم يعد حدثا جللا يسترعي الانتباه، فقد صارت ألاعيب القادة المتعاقبين على مسك زمام المسؤولية في مؤسسات العراق بكافة مستوياتها معروفة ومعلومة وبديهة، حفظها المواطن عن ظهر قلب، وباتت خططهم وتحركاتهم ونياتهم مكشوفة، بعد أن اتضحت الرؤية بعين المغلوب على أمره المواطن، وأمسى قادرا على قراءتها من آخر السطر رجوعا الى أوله، وماهذا طبعا إلا نتاج ماحصده من تصريحات السابقين، في التجارب الانتخابية الماضية، وما يؤسف له، أن اللاحقين أصابتهم العدوى، فحذوا خلف سلفهم حذو النعل بالنعل.. (حشاهم من طاري النعل)..!