8 أبريل، 2024 6:31 ص
Search
Close this search box.

حذف المركز وخبث الديموقراطية

Facebook
Twitter
LinkedIn

يبدو أن تذويب أو تغييب الدولة بصيغتها الرسمية والدستورية مهمة معقدة ومركبة أيضا، فمن جهة يجب أن تضحمل الدولة كوجود وفي المقابل يجب أن تبقى كشكل جامع للغدد السرطانية التي تموت دون جسد كبير يحتويها.

من المهام الأساسية للإنسان أن يحافظ على مصادر خاصة للتفكير وتكمن قيمة تلك المصادر في أن تصبح في ما بعد طاقة خلاقة للبحث عن جوهر الوجود وتكثيف حضور الإنسان ككائن يستمد طاقته من التفكير، وخلال تلك الرحلة وجد الإنسان العراقي في نظام صدام أنه كائن مهزوم، بكرامة قابلة للإنتهاك في أية لحظة، لذا وجد ضالته في الأنظمة التي تكرس وجوده بدلاً من الدولة، ومن هنا التحمت تلك العصابات الدينية والقومية في المجتمع، وبقي هذا الارتباط قائماً حتى الآن، والطرفان يجريان في انسجام يوفر لكل طرف الوجود المناسب، فالعصابات الدينية بيدها المال والإله والخطاب والقوة وبالمقابل توفر للافراد الذائبين داخلها فرصة لأن يصبحوا فوق النظام، النظام الذي تقابل صورته صورة صدام حسين المجرم البشع القاتل القاسي، فلا بد من دفع محاولات الدولة من أن تصبح قوية إلا بإضعافها وتمييع مصادر قوتها، ومن هنا بدأت عملية الإنفصال عن مفهوم الدولة، وما ساعد على ذلك هو الشكل المرتبك للعملية الديمقراطية التي تواطأت مع النظام وأصبح الحلم – الديمقراطية أنبوب طويل من الرعب الديني، فاصبح شكل النظام الحالي كما نراه اليوم، هيكل كبير فيه آبار نفط تعتاش داخله قبائل وعصابات دينية وقومية، وجرى تغييب مفهوم الدولة لأن العصابات ربطته بدلالة صدام، فأصبحت المعادلة “دولة = صدام= مركز” ، عندها سيكون خيار الفرد هو نظام سياسي هش يؤمّن للمنتمين حياة جادة و أصيلة، وعند الخوض في التفاصيل سوف نرى ان للمثقف دور في ذلك، كيف لا! فهو حارس المعنى الذي يوظف الهواجس والأفكار من أجل لعبة سيكون المنتصر فيها هو صاحب النفوذ والقوة والسلطة.

لقد تحطمت الديموقراطية عن طريق قابليتها على تحول التعددية الى محاصصة ونشأ بدل نظام القمع الصدامي نظام الأخطبوط الحالي.
جرى على إثر ذلك تغييب معنى الجيش ووظيفته، فقد أصبح مقروناً بالعصابات الصدامية التي هجمت على إيران والكويت، انحل الجيش الذي كانت مهمته سحق العراقيين وما كان منهم، أي -العراقيين-، إلا إيجاد جسد بديل يمكنه توفير الحماية والقوة. لذا، نشأ جيش يشتغل بسياق اخر غير المتعارف عليه من تلك الجيوش مترامية الأطراف هو: “الجيش الالكتروني”.

جرى تقريبا تذويب كل شيء في الدولة الكبيرة “العراق” من أجل دول تعمل على أساس عقائدي وقومي تعمل كل واحدة منها من أجل الانسلاخ من الهوية الكبيرة، وهذه الدول تتصارع فيما بينها رغم أنها تتقاسم الموارد بشكل سلس ومهني، لكن داخل كل واحد منها يتم تدريب الفرد على الكراهية بالاشتغال على نقاط تاريخية تمكن السلطات الجديدة من إيقاع الافراد في فخ العنصرية والكراهية.

اشتغل السياسيون “الكرد” على كسر الهوية العراقية عبر تأريخهم مع صدام وضرورة الاستقلال والانفصال و إيهام الشعب الكردي بكراهية العرب له وغيرها من عشرات النقاط التي يمكن عبرها الخروج بشكل تتلاشى عراقيته أمام كرديته.

بينما اشتغل السياسيون “السنة” على تحريض المجتمع السني ضد الشيعة بحكم أنهم فرس وضد العرب وسراق، وأن الكرد إنفصاليون الخ من التفصيلات التي يمكن عبرها اصطياد الشيعة والكرد متلبسين بالجرم المشهود.
فمن بقي؟ عمل سياسيو الشيعة على بث الأحزان الوطنية والتاريخية وحفلة شواء جسد العراق عبر عشرات النقاط التي يمكن عبرها إيجاد السنة والكرد وهم يبيعون العراق في سوق الأسهم الاقليمية.

ورغم أنهم شركاء في حكومة والسرقات والتحاصص، لكنهم بالمقابل أعداء لباقي الاطراف والشركاء عند أنصارهم، وكل ذلك من أجل تفريغ الدولة من محتوها وصبها في أجساد تكرس حياتها من أجل إلغاء الآخر وحذفه.

كل هذا يجري من أجل حذف المركز والسباحة في التشظي، لأنهم على يقين أن النظام اللامركزي أقوى من النظام المركزي، وتعدد مراكز القوى وتقسيم الأدوار هي فكرة معاكسة لفكرة نظام صدام، فسقوطه أو موته يعني سقوط كل شيء، لكننا شهدنا انسحاب العديد من عرابي النظام وموت آخرين لكن النظام بقي قائماً بفضل التوزيع العادل للادوار وهنا تكمن خباثة هذه الديموقراطية .

ولو استعرضنا كل الحكومات منذ ٢٠٠٣ حتى الآن سنجد أنها متشابهة من حيث المحتوى والمضمون واليات الاشتغال، كما أنها تتشابه من حيث خارطة التقسم وما يختلف فقط أسماء اللاعبين كأنها فلسفة كروية يجب أن تبقى على النهج مهما اختلفت الأسماء وجودتها
لكن ما لم يكن بالحسبان هو انهيار تلك الفلسفة من الداخل كما ان جودة اللاعبين اصبحت مثيرة للسخرية فبرهم ليس طالباني وعبد المهدي الأشد سخفا من أسلافه والحلبوسي مجرد هاوٍ مقارنة بالآخرين.

فجاء إبليس الجنة العراقية، “حراك تشرين”، متوحداً ضده الجميع..
هذا الشيطان الذي يريد إعادة لملمة تلك الهوية المتشظية، لكن إبليس تشرين اصطدم بملائكة الأحزاب من جهة وبملائكة “حفظ النظام الديموقراطي” من جهة أخرى، وعوقب “الحراك” لأنه لم يبتلع كاملاً مثل حراك ٢٠١٥ لذا وقفت بوجهه صخرة المثقف الذي يكرس وقته الآن للكتابة عن إنجازات الكاظمي التي آخرها اللقاء بالسيد نوري كامل المالكي!

من جملة الاشياء التي تم تغييب معناها السياسي من أجل معنى فردي، هو مفهوم الزعامة. فخسر الزعيم السياسي الرهان في العراق الجديد أمام الزعيم الديني والقومي الذي دخل لاحقا بالسياسة من اجل ضمان حقوق مريديه، ثمة مثال قاس وقاتل يخرجه الزعيم الديني والقومي لحذف الزعيم السياسي ألا وهو ” صدام حسين”.

الأثمان التي سيدفعها العراقيون من أجل تفتيت جثة صدام، كبيرة، وربما تحتاج زمن طويل، فكلما فكر العراقي بغير هذا النظام يتم تخوينه بالعبارة الشهيرة ” يحن على صدام” كأنه لا بديل عن النظام الحالي إلا بالنظام الصدامي رغما أنهما ليسا ببعيدين عن بعض من ناحية النوايا لكنهما من حيث الاليات مختلفين.

“كل ملاك مرعب” هكذا يصرخ ريلكه في المرثية الثانية وهذا ما يردده العراقي حتى وإن لم يكن قد قرأ ريلكه، توحدت ملائكة الكرد والشيعة والسنة ضد شياطين العراق، الذين يرفضون النظام كما انهم يسخرون من تصحيح المسار الديمقراطي من الداخل لذا هم مطرودين من فضاء العقل والحكمة لأنهم أنصار الفوضى، وكأننا ازاء نظام بالمعنى المشبع للكلمة، فكيف جرى تغيبب المعنى لهذا الحد؟ .

تقطيع أوصال النظام وتقسيمه على مثلث الرعب “كرد، سنة، شيعة” يوفر حماية من أي حراك إجتماعي وتقسيم المجتمع يسهل من عملية تروضيه وحجره في المذاهب والعقائد، فتكرس كل فصيلة من تلك الفصائل النوعية جل الوقت من أجل الظهور بشكل أسطوري وغير قابل للمساس، وذلك خلق نوع من التنافس الذي سيعطي الديمومة للنظام، وهناك مهمة محدد لكل فريق، كما ان الطرق غير المشروعة قابلة للدخول في اللعبة و إن بدت شكلية.

تواطؤ المثقف مع النظام الديني من أجل خلق استقرار فكري من شأنه أن يبقي النظام ولا يتم التعرض له، وفي اقصى الحالات يتم رفض الفرد كفرد ويبقى النظام خارج منطقة الرف، وهذا ما يجعل المرء يفكر: لماذا رجالات النظام مصممين على تدوير الأخطاء واستثمار الخراب ببساطة يمكن أن يجيب باشلار عن ذلك فالحقيقة لا تدرك حسب تعبيره “إلا في جو من الندم الفكري” فهل المثقف بإمكانه أن يوفر هذا الندم للسياسي؟! بالتأكيد لا فهو، أي -المثقف شريك- بتلك الخرائط المعقدة من الأخطاء، نعرف أن المثقف متواطئ مع الدولة العميقة وعمل كناس معنى وبياع وهم في دكاكين السلطة.

في المائدة الموضوعة الآن أمام الفرد هناك مجموعة خيارات وعلى كل خيار تترتب جملة اشياء انها المتاهة التي وصل اليها النظام وإليك الخيارات المطروحة:
أما أن تكون مع النظام بكافة عيوبه وهزائمه وتنعم بالرفاهية والاطمئنان وتعيش مثل حبة الرز تعوم وسط المياه
أو تحاول إنقاذ النظام من الغرق عبر الوسائل المعروفة وتكتب عن سيناريو سوريا والخوف من القادم، وربما ستفكر بعد حين في إعطاء مهلة للكاظمي كما أعطيت للعبادي وللمالكي من قبله
أو تصبح شيطان تشريني رغم أن بعض الشياطين أصبحوا ملائكة بهيئة مستشارين للمستثمرين الجدد! .

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب