23 ديسمبر، 2024 2:41 ص

حديث مع فيرا (2)

حديث مع فيرا (2)

…وانتقلنا بالتدريج من الحديث عن الشعر الروسي واعلامه الى الحديث عن وصف الطبيعة عند تورغينيف واقتراب اسلوبه من الشعر, اذ ان تورغينيف هو الذي اطلق مصطلح – ( قصيدة بالنثر )( وهذه هي الترجمة الحرفية والدقيقة للمصطلح ) في الادب الروسي اواسط القرن التاسع عشر آنذاك وأصدر ديوانا كاملا يحتوي على تلك القصائد , فقالت فيرا ان وصف الطبيعة الروسية باسمى وارفع و أجمل صورها الفنية موجود عند شولوخوف في روايته العملاقة – ( الدون الهادئ ) وليس عند تورغينيف , على الرغم من ديوانه – ( قصائد بالنثر ) وكتابه الشهير – ( مذكرات صياد ) . تعجبت انا من هذا الرأي الجديد بكل معنى الكلمة بالنسبة لي , وحاولت ان اعرض وجهة نظري حول ذلك , وقلت لها ان وصف الطبيعة الآٌخٌاذ عند تورغينيف – على ما أظن – قضية معروفة جدا ومشهورة في تاريخ النقد الادبي الروسي ولكل القرٌاء بشكل عام , فقالت باصرار – لا توجد امور محسومة في هذا المجال , وهناك العديد من الآراء حول هذه المسائل . اتفقت معها طبعا بشأن عدم امكانية حسم الامور في العلوم الانسانية بشكل قاطع كما هو الحال في العلوم البحتة, لكني مع ذلك ذكٌرٌتها , ان اسم شولوخوف يرتبط في وعي القارئ ( الروسي والاجنبي) اولا وقبل كل شئ بمفهوم (حزبية الادب) في الاتحاد السوفيتي اكثر من اي شئ آخر , وهو مفهوم ايديولوجي سوفيتي بحت وقد مضى وانتهى تماما في الوقت الحاضر , فقالت ان المزج بين السياسة والادب في روسيا قد أدٌى الى نتائج سلبية و ضارٌة جدا في هذا المجال , وأشارت الى ان شولوخوف كتب روايته ( الدون الهادئ ) في بداية العشرينيات من القرن العشرين , عندما لم يكن للحزب الشيوعي السوفيتي السيطرة الايديولوجية الكاملة والمطلقة في روسيا , فقلت لها مقاطعا – و عندما كتب رواية – (الارض البكر حرثناها) ؟, فقالت نعم هذا صحيح ولكني أقول لك اني شعرت – وانا

أقرأ تلك الرواية – بسخرية الكاتب بين السطور, وان شولوخوف يبقى في كل الاحوال كاتبا روسيٌا كبيرا ومتميٌزا جدا, فقلت لها طبعا هو كذلك , وانا متفق معك كليٌا , وحكيت لها عن زيارتي لمتحفه الجديد الرشيق في الطابق الاول بمقر اتحاد ادباء روسيا بموسكو . الحديث عن ظاهرة مزج السياسة بالادب جرٌنا الى باسترناك وروايته – ( دكتور زيفاغو ) باعتباره خير مثل عن تلك الظاهرة, وكيف منحته أكاديمية السويد جائزة نوبل للآداب , وقالت فيرا ان منحه هذه الجائزة لم يكن موضوعيا ابدا , وانه عمل سياسي استفزازي ليس الا , وان ذلك قد تمٌ في عصر آخر تماما , واعلنت فيرا انها لا تتقبٌل أشعار باسترناك ولا تجد فيها تلك الجمالية التي يتحدثون عنها , عدا تلك القصائد الملحقة بروايته – ( دكتور زيفاغو ) , وانها بشكل عام لا تتصور ولا تفهم كيف منحت الاكاديمية تلك الجائزة له مستندة الى كتاب واحد هو رواية ( دكتور زيفاغو ) دون الأخذ بنظر الاعتبار مجمل مسيرته الابداعية ؟ . اتفقت معها حول كل تلك الاستنتاجات , وقلت لها انني نشرت مقالة حول ذلك في الذكرى ال (120) لميلاد باسترناك , وان بعض الكتٌاب الروس تحدثوا هناك حول هذا الموضوع وطرحوا نفس وجهة النظر تلك . وتحدثٌنا في هذا الخصوص طبعا عن جائزة نوبل التي تم منحها الى بعض الادباء الروس , وكان اولهم – كما هو معروف – بونين , وقالت فيرا – لقد كان من المفروض ان يمنحوا تلك الجائزة الى مكسيم غوركي باعتباره ابرز كاتب روسي في تلك المرحلة , وانه كان يستحقها بجدارة لمكانته في الادب الروسي منذ نهاية القرن التاسع عشر , او ان يمنحوها الى كوبرين , ولكنهم منحوها الى بونين متعمدين ( لمواقفه السياسية طبعا , وليس لابداعه الادبي) , قلت لها اني نشرت عدة مقالات حول هذا الموضوع , ولكن ليس بهذه الروحية المتطرفة التي تنطلقين منها , اذ ان بونين كان ايضا اديبا روسيٌا متميٌزا, وانه ( آخر العنقود ) في قائمة الادباء الروس الكبار , رغم مواقفه السياسية , قالت نعم ولكن لا يمكن مقارنته بغوركي ابدا لا من قريب ولا من بعيد , و لا بدوره في تاريخ الادب الروسي ومكانته المتميٌزة فيه . وجاء دور الكاتب

سولجينيتسن في حديثنا , باعتباره مثل آخر حول ربط السياسة بالادب . قالت فيرا انها لا تتقبله بتاتا , وانه صحفي سياسي وليس اديبا اذ ان اهم عمل قدٌمه لنا هو – ( أرخبيل الكولاك ) وهو كتاب وثائقي مهم عن السجناء السياسيين السوفيت , و لكن لا علاقة له بالادب , ولا تعتبر روايته – ( العجلة الحمراء ) ضمن روايات الادب الروسي اصلا , وسخرت فيرا جدا من اقوال سولجينيتسن حول مقارنة نفسه بتولستوي كما اعلن هو نفسه يوما , قلت لها ان موقفها هذا لا يتناسب ولا يتناغم مع الموقف العام تجاه هذا الكاتب العالمي الشهير , فقالت انها لا تهتم بذلك بتاتا , وان هناك الكثير من القرٌاء الروس يشاطرونها هذا الرأي . سألتني متحدٌية – هل قرأت نتاجاته ؟ قلت لها نعم , وانا معجب جدا بروايته – جناح السرطان , وحتى اني ترجمت فصلا من روايته – (في الدائرة الاولى ) ونشرتها آنذاك في مجلة ( الاقلام) العراقية, وان أجواء نتاجاته كانت تتناغم مع أجواء العراق السياسية والاجتماعية في تلك المرحلة من تاريخنا العراقي المعاصر, ولهذا حاولت التركيز على اسمه في العراق آنذاك , وترجمت الحوار الشهير, الذي اجرته معه مجلة (تايم ) الامريكية ونشرته في مجلة ( آفاق عربية ) العراقية المعروفة والمهمة في ذلك الزمن , وأعدت نشر هذا الحوار في عدة اصدارات عربية اخرى , وادخلت اسمه في عنوان كتاب لي – ( من بوشكين الى سولجينيتسن ) الذي أصدرته في بغداد عام 2000 , والذي أردت ان أقول عن طريق هذا العنوان ان سولجينيتسن يمثٌل مرحلة محددة في تاريخ الادب الروسي , وانني قمت بتعريف طلبتي في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد بنتاجاته ودوره اثناء تدريسي لمادتي الرواية الروسية وتاريخ الادب الروسي . سألتها – هل تعرفين مواقفه من شولوخوف ؟ وانه يتهمه بانه لم يكتب رواية – ( الدون الهادئ ) , وانما كتبها شخص آخر ؟ ضحكت فيرا وقالت – ان سولجينيتس شخص حقود جدا وكان يغار أشد الغيرة من شولوخوف ويحسده بشكل رهيب , واراد ان يطعن به ويقلل من شأنه , وان اتهامه هذا لا اساس له من الصحة بتاتا ولم يستطع اثباته ابدا , وان هذا الرأي الساذج قد نسيه الآن

القراء تماما, رغم التطبيل له في اصدارات الروس خارج روسيا في حينها, وان شولوخوف لم يرد على هذه التخرصات ابدا, وهو موقف اخلاقي وفكري يعني ما يعنيه , وذكرت فيرا ان سولجينيتسن تنكٌر لفضل الكثيرين من الادباء الروس الذين ساعدوه وساندوه في بداية مسيرته الادبية , وان هذا مؤٌشر لا يقبل النقاش حول نفسيته وطموحاته المريضة , وانه عندما عاد الى روسيا من امريكا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي , أخذ يتصرف وكأنه زعيم سياسي او رئيس حزب يتهيأ لخوض انتخابات قادمة , وتدخل في كثير من الامور البعيدة جدا عن مجالات معرفته وتجربته ومسيرته الحياتية , وتحدثت فيرا بعدئذ بأسى عن موقف أرملته الآن ودورها وتدخلها غير العلمي في شؤون التربية والتعليم في روسيا , وقالت ان هناك عدم رضى بين الاوساط الاجتماعية والثقافية الروسية تجاه ذلك الدور السلبي , والذي تقوم به بأسم سولجينيتسن مع الاسف .

حديثي مع فيرا لم ينته , اذ تناولنا تولستوي ودستويفسكي وتشيخوف باعتبارهم ( ادباء الدرجة الاولى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر) كما اسمتهم فيرا , والتي رفضت – وباصرار – اضافة تورغينيف اليهم , وتحدثنا عن تاريخ روسيا المتشابك و قياصرتها, وتوقفنا عند بطرس الاعظم ( وكيف لعنت فيرا سلف سلفاه ) و و و ..