23 ديسمبر، 2024 2:10 ص

حديث مع فيرا

حديث مع فيرا

التقينا ( فيرا وانا ) في ايلول / سبتمبر عام 1960 في شعبة رقم 6 في الصف الاول بالقسم الروسي في كلية الآداب بجامعة موسكو . درسنا سوية وافترقنا عام 1964 . كنا نظن انه فراق ابدي , ولكننا التقينا – على الرغم مما كنا نظن – مرة اخرى عام 5201 , اي بعد أكثر من نصف قرن من الزمان . تحدثنا وتحدثنا وتحدثنا وتحدثنا ….., وحاولنا ايجاز الاحداث التي عشناها طوال نصف القرن هذا وضغطها في ساعات ليس الا …و قلت لها في نهاية اللقاء ضاحكا – اريد ان اكتب مقالة عن احاديثنا هذه, فتعجبت فيرا من ذلك , وقالت – لكنني لا أتميز باي شئ عن الآخرين , فقلت لها نعم , هذا صحيح , و أنا ايضا لا أتميز عن الآخرين , ولهذا السبب اريد ان اكتب ذلك, لان التاريخ يصنعه هؤلاء الذين لا يتميزون بشئ عن الآخرين , اي الناس الاعتياديون , الذين يسجلون- بصدق- ما شاهدوه اثناء مسيرة حياتهم , وان ذلك بالذات هو الذي يجسٌد ويمثٌل حياة ( الناس الاعتياديين الآخرين كافة ) في كل مكان وزمان في عالمنا الواسع الكبير , و الضيق والصغير في آن , سواء كان في العراق أو روسيا أو في أي مكان آخر .

توقفنا طبعا في أحاديثا تلك اولا عند مصائر طلبة شعبتنا في جامعة موسكو آنذاك . كان معنا اربعة طلاب من فيتنام الاشتراكية ( كانت هناك دولة فيتنام الجنوبية ). اثنان منهما أكملا دراستهما , والاثنان الآخران سافرا الى فيتنام عندما كانا في المرحلة الاخيرة و لكنهما لم يعودا الى موسكو لاكمال الدراسة , وانقطعت أخبارهما نهائيا . قالت فيرا انها التقت (بعد اكثر من عشرين سنة تقريبا من انهاء الدراسة ) في موسكو بواحد من الخريجين بالصدفة , وانه أخبرها بان الفيتنامي الآخر( الذي أكمل دراسته ايضا ) قد كتب عنهما تقريرا الى السلطات الفيتنامية آنذاك في كونهما لم يكونا متعاونين مع سياسة الحزب الشيوعي الفيتنامي ومنظماته في موسكو, ولهذا تم عرقلة رجوعهما لاكمال الدراسة , وان مصيرهما لحد الآن لازال مجهولا ( اي بعد عشرين سنة من ذلك التقرير ) . تألمنا بشأن هذه الحادثة التراجيدية طبعا , وتذكرنا كيف انهما كانا من أبرز الطلبة الآخرين , بما فيهم الفيتناميين الاثنين الخريجين , ولم يمارسا اي نشاط سياسي ابدا , وكانا محبوبين ومحترمين جدا من قبل الاساتذة والطلبة جميعا , ويتقنان اللغة الروسية بشكل جيد جدا لا يمكن مقارنته ابدا مع مستوى الاثنين الآخرين , وكانا يتفاعلان بحيوية الشباب اليافع مع الحياة

الثقافية الروسية بشكل عام والحياة الجامعية بشكل خاص . قلت لها , انني أعرف بعض الحالات المأساوية المشابهة في بلداننا , حيث كتب البعض من خريجي المعاهد السوفيتية عن زملائهم , و ما الذي أدٌت اليه تلك التقارير المأساوية . سألتها عن مصير هذا الذي كتب التقرير , فقالت انه قد تم تعينه ملحقا ثقافيا للفيتنام في موسكو نهاية الستينات , وبقي بمنصبه عدة سنوات , ثم عاد الى الفيتنام في بداية السبعينات من القرن الماضي . سألتها عن الطالب الايطالي , الذي كان يدرس معنا ضمن زمالات الحزب الشيوعي الايطالي , فقالت انه أصبح بعد تخرجه معاديا للاتحاد السوفيتي والحركة الشيوعية بشكل عام في بلده , ولم يتميز بمعرفته العميقة للغة الروسية وآدابها , ولم يساهم بحركة الترجمة من الروسية الى الايطالية كما كان مفروضا و متوقعا , فقلت لها ان هناك الكثير من المشابهين له بين خريجينا في الجامعات والمعاهد السوفيتية , الذين كانوا ( يتاجرون بالافكار الاشتراكية !) وبشكل هائل اثناء دراستهم في الاتحاد السوفيتي , وان أحد أصدقائي المرحين كان يصف هذه الظاهرة بانها ( تحوٌل فكري جذري يحدث في الطائرة من موسكو الى بغداد ! ) . سألتني عن غازي العبادي وناشئة الكوتاني , اللذين كانا في شعبتنا , فقلت لها ان غازي العبادي قد توفى منذ فترة طويلة , وانه اصبح قاصا وروائيا معروفا في العراق وصحافيا مشهورا ومترجما عن اللغة الروسية , واصدر العديد من الكتب القصصية والروائية , وانني كتبت عنه عدة مقالات , أما ناشئة الكوتاني , فانها عادت مرة اخرى الى موسكو بعد تخرجها , و حصلت على شهادة الدكتوراة في اللغة الروسية من جامعة موسكو, وان استاذتنا المرحومة البروفيسورة فالنتينا بروخوروفا كانت مشرفتها العلمية اثناء دراستها في قسم الدراسات العليا , و هكذا اصبحت ناشئة الكوتاني استاذة لامعة ومتميزة في قسم اللغة الروسية في كلية الآداب بجامعة بغداد في السبعينات , بعد حصولها على شهادة الدكتوراه من جامعة موسكو , الا انها اضطرت ان تترك العراق مع عائلتها في بداية الثمانينات أثناء الحرب العراقية – الايرانية , والاوضاع العراقية الرهيبة والمتشابكة آنذاك , وسافرت الى لندن , وبقيت هناك لحد الآن واصبحت مواطنة انكليزية ولكنها احتفظت طبعا بصفاتها و روحيتها و شخصيتها العراقية الاصيلة والمتميزة, واحتفظت باختصاصها ايضا , اذ انها أخذت تعمل في مجال تدريس اللغة الروسية هناك.

سألت فيرا عن حبها المتوهج والعظيم للشعر الروسي في تلك الايام الخوالي , وخصوصا ليرمنتوف , وهل لازالت محافظة على هذا الحب ؟ قالت نعم , لكن

ليرمنتوف قد تراجع قليلا في روحها وقلبها , مقارنة مع أيام الدراسة في جامعة موسكو قبل نصف قرن , عندما كانت الرومانسية مسيطرة عليها , ولكنها لازالت مندهشة امام ابداعه العظيم , ولم تفهم لحد الان كيف استطاع هذا الضابط الروسي الشاب ان يصف الارض متوهجة باللون الازرق في بداية القرن التاسع عشر في احدى قصائده , وهو ما أكٌده رجال الفضاء في نهاية القرن العشرين , عندما شاهدوا كرتنا الارضية وهم يحلقون في أجواء الكون و الفضاء, ولا زالت لا تستوعب كيف وصف ليرمنتوف كل احاسيس الحب الانساني واعماقه وهو في ذلك العمر , اذ انه عاش 27 سنة لا غير . قلت لها باني لم انتبه فعلا الى تلك الكلمات , التي وصف ليرمنتوف فيها الارض وهي تتلألأ باللون الازرق , وانني سأشير حتما الى ملاحظتها الدقيقة والعميقة والجميلة هذه حول ذلك , واعتبرها اضافة نوعية و جديدة واصيلة الى الدراسات النقدية والتحليلية حول ابداع ليرمنتوف , واخبرتها بأني كتبت مقالة عنه ونشرتها , وأشرت في بدايتها الى اندهاشي ايضا من كونه قد استطاع انجاز كل تلك النتاجات الابداعية ضمن هذه السنوات القصار . قالت فيرا انها كانت تحلم ان تكتب بحثا بعنوان ( بوشكين و ليرمنتوف والحرب ) , وانها ارادت ان تقارن موقفهما من ظاهرة حياتية كبيرة في تاريخ روسيا , وانها لازالت تعتقد ولحد الآن , ان ليرمنتوف اكثر واقعية وعمقا في وصفه للحرب من بوشكين , فسألتها – ولماذا لم تكتبي هذا البحث ؟ فقالت مبتسمة , ان الحياة عرقلت كل تلك الاحلام الادبية يا ضياء , وانا الآن – في هذا العمر – لا استطيع تحقيق هذا الحلم , وضحكت فيرا وأضافت – ( لكني رجعت نهائيا الآن الى بوشكين – النبع الخالد والصافي للشعر الروسي , و لا زلت أقرأ بين فترة واخرى رواية بوشكين الشعرية (يفغيني انيغين) واتمتع بها, وقد قرأت مرة الفصل الاول من تلك الرواية عن ظهر قلب امام أصدقائي , وقد اندهشوا وهم يستمعون اليٌ وكذلك اندهشت انا ايضا , لأني لم اكن اعرف اصلا باني قد حفظتها عن ظهر قلب نتيجة تلك القراءة شبه الدائمة ! ). سألتها عن ماياكوفسكي , والذي أتذكر انها كانت تتغنى باشعاره بعض الاحيان وتستشهد بها فقالت – نعم , كنت معجبة به وبمواضيعه المتفردة والمدهشة والغريبة , ولكني ابتعدت عنه بالتدريج , وأعتقد انه انتحر فعلا (عندما وصل الى عمر بوشكين !) , وليس مثل يسينين الذي اظن انهم قتلوه ولم ينتحر , وسألتني فجأة – هل تعرف قصائد روبتسوف الذي قتلته خطيبته؟ لقد كان ايضا بذلك العمر . قلت لها لا اعرفه ولم اسمع به, فتعجبت من جوابي , ثم قالت متذكرة – (ها , لانك تركت روسيا في ذلك الوقت) .

حديث فيرا استمر طويلا, اذ تشعب الكلام عن مسيرة الادب الروسي , وربما يتطلب مني ان اكتب حلقة اخرى حول هذا الحديث الممتع والرشيق , لهذا اتوقف الان , واختتم هذه المقالة بشئ ما عن روبتسوف الذي أشارت اليه فيرا .

ولد نيقولاي ميخايلوفيتش روبتسوف عام 1936 وتوفي عام 1971 / أول ديوان له صدر عام 1962 بعنوان – ( امواج وصخور) بشكل سري / أصدر بعدئذ أربعة دواوين عن طريق دور نشر رسمية وهي – ليريكا 1965 / نجم الحقول 1967 / الروح تحتفظ 1969 / ضجيج الصنوبر 1970 / ,وصدرت بعد وفاته دواوين – الأزهار الخضراء والسفينة الاخيرة والثلج الاول والسنونو وغيرها … كتب عنه بلاتونوف ما يأتي –

… علاقة الاحترام والحب تجاه القرية , وتقبٌل الانسان للطبيعة بتناغم متكامل , والاخلاص للبيت والوطن والمٌثل الروحية للاجيال الروسية السابقة – كل ذلك جعل شعر روبتسوف استمرارا متوازيا لشعر يسينين , وقد امتزج هذا الشعر بقصائد توتشيف وفيت وبونين …