17 نوفمبر، 2024 5:45 م
Search
Close this search box.

حديث ما ولت أمة أمرها بين صعود الغرب ونزول العرب القسم الثاني

حديث ما ولت أمة أمرها بين صعود الغرب ونزول العرب القسم الثاني

لا ريب أن ما ذُكر في كتاب الله العزيز من بيان لقانون الحياة الدنيا لهو حاكم على كل المعارف والعلوم وتفسيراتها, وإن بيانه وإعجازه لكفيل بأن يعطي الصورة الواقعية لفلسفة الحياة الدنيا, غير أننا فقط نحتاج إلى أن نفهم وندرس هذا البيان بصورة واضحة وبعيدة عن التأثر المزاجي النفسي. ومن أستطاع أن يروض نفسه بالعلم والدليل فقد عرف الدستور الخلقي والقانون العام في مبدأ الحياة من النزول إلى الدنيا ومسيرتها إلى الآخرة.
ولقد ذكرنا في المقالة الأولى عن حديث ما ولت أمة أمرها.. ما يتناسب مع الرؤية العصرية لتقدم المجتمعات لكننا لم نلمح إلى الأساس العقائدي الذي يبين تلك السنّة الإلهية سوى ما ذكرنا من قوله تعالى {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة : 35]
وهنا قد يرى البعض أنه من الغرابة أن تكون للآية المباركة علاقة بين أكل آدم عليه السلام للشجرة والحديث الوارد عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أنه قال (ما ولت أمة أمرها رجلا قط وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا).
لكن في الواقع إن الغرابة لتزول وإن العقل لينفتح له أفق جديد واسع جداً يدرك من خلاله حقيقة بداية الحياة الدنيا ومحور الابتلاء فيها والقانون الإلهي الذي تأسس على هذا المقام تكونياً وتشريعاً منذ خُلق أولُ بشر إلى قيام الساعة, وما يندرج تحت هذا المعنى من مقام الإمامة وعظم خطرها, وهذا ليس غلواً في هذا المقام أو غلواً في الاعلمية ولكنه فهم لسنّة الحياة التي بدأت في جنة أسكن الله فيها آدم ـ عليه السلام ـ وحذّره من إن يقترب من شجرة جعلها مقاماً لخاصة من عباده, فأغواه الشيطان وهوى إلى أرض الفتن والمحن {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة : 36]
فالشجرة بما تمثل من مقام للحسد والإغراء والتملك وحب البقاء أرادها آدم ـ عليه السلام ـ لنفسه أملاً بذلك {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف : 20]
فمن هذا المقام يُعرف مركز ومحور التغرير, وهو أن يغوي الشيطان مِن أبناء البشر مَنْ ليس له حق أو أن يكون ليس بأهل لمقام أو ليس أعلمَ في حكم, فيستلب حق غيرة ويضع نفسه في مكان لا يدرك خطورته, فيهضم ويظلم تمسكاً وحباً بطول الأمل, فتتسافل الأمة برأيه وتنحط الإنسانية بجوره ويظهر الفساد بعمله.. فهو نفس الإغواء الذي هوى بآدم ـ عليه السلام ـ ويمكن أن نستدل على تلك السنّة التي بدأت بهبوط أبي البشر وتجسدها في مصاديق حديث ما ولت امة أمرها.. في الرواية الأتية:
ففي بحار الأنوار للعلامة المجلسي عن الهروي ((قال: قلت للرضا ـ عليه السلام: يا ابن رسول الله أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ما كانت؟ فقد اختلف الناس فيها: فمنهم من يروي أنها الحنطة، ومنهم من يروي أنها العنب، ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد، فقال: كل ذلك حق. قلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟ فقال: يا أبا الصلت إن شجر الجنة تحمل أنواعا ” فكانت شجرة الحنطة وفيها عنب، وليست كشجر الدنيا، وإن آدم عليه السلام لما أكرمه الله ـ تعالى ذكره ـ بإسجاد ملائكته له وبإدخاله الجنة قال في نفسه: هل خلق الله بشرا ” أفضل مني؟ فعلم الله عز وجل ما وقع في نفسه، فناداه: ارفع رأسك يا آدم فانظر إلى ساق عرشي، فرفع آدم رأسه فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وزوجه فاطمة سيدة نساء العالمين، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ” فقال آدم عليه السلام: يا رب من هؤلاء؟ فقال عز وجل: من ذريتك وهم خير منك ومن جميع خلقي، ولولاهم ما خلقتك ولا خلقت الجنة والنار ولا السماء والأرض، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري. فنظر إليهم بعيد الحسد وتمنى منزلتهم فتسلط الشيطان عليه حتى أكل من الشجرة التي نُهي عنها. وتسلط على حواء لنظرها إلى فاطمة عليها السلام بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم فأخرجهما الله عز وجل عن جنته، وأهبطهما عن جواره إلى الأرض)).
إذن إن هناك مواقع ومقامات وموازين لقيادة البشرية لو اختلت كانت النتيجة التسافل {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه : 121] وهذه ليست بالقضية التشريعية الاعتبارية فقط إنما هو نظام تكويني كان النهي فيه بياناً شرعياً, وكان الأكل من تلك الشجرة لمن هو ليس له عزم وليس بمقدوره أن يكون من أهل ذلك المقام أن يؤدي إلى بدو السوءة والهبوط من الجنة والقرب إلا لهي إلى ارض البلاء, ففي جامع البيان للطبري عن ابن عباس، في قوله: {يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما} قال: كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نُزع عنهما، وتُركت الأظفار تذكرة وزينة.
وعلى هذا فأن ذلك القانون المُترتب على هبوط آدم ـ عليه السلام ـ بمعرفته تكون العودة إلى الله تعالى وإلى قربه وجواره وعلى مستوى طاعة الأمم ومسيرة البشرية من الدنيا إلى الآخرة, فهي مسيرة تكاملية ومسيرة عودة بعد نزول, أو صعود ورقي بعد هبوط, محور هذه المسيرة هذا المقام الذي كان في الجنة شجرة الخلد والذي تجسد في الأرض الدنيا بمقام يكون لمن هو أتم كمالاً وإمامة وأعلميه ترتقي بالبشر, فكان كمقام شجرة الإغراء والحسد في الجنة, ما إن يقترب ويتولاه من هو ليس بأهل إلا وهوى وتسافل بأمته, والصراع على الملك الدنيوي دون حق وعداوة إبليس وجنوده ومركز غوايته هي هذه القضية أيضاً, فنفس العمل الشيطاني الذي أغوي به آدم ـ عليه السلام ـ يمارسه أبيس مع أبناءه قال تعالى {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف : 27]
إذن إن إبليس عليه اللعنة أنما يمارس نفس الأسلوب مع أبناء البشر ويعمل بنفس الوتيرة التي أغوى بها آدم ـ عليه السلام ـ فخرج وهوى. إذن فالنتصور أن شجرة الحسد هي تمثل الملك أو المنصب والقيادة أو الإمامة بالمعنى العقائدي في هذا الدنيا فعند ذلك سيتضح أن الأمة التي تولي أمرها رجلا وفيهم من هو أعلم منه إنما توليه بغواية الشيطان طمعاً في الملك وجهلاً بالعاقبة والنتيجة التسافل لا محالة.
ولذا جعل الله تعالى الإيمان به وباليوم الأخر مقروناً بالعمل والمعرفة أعلى مرتبة وأسمى مكانة لأنه يهذب كل العلوم لخدمة الإنسان.
ولهذا كانت مهمة الأنبياء والأولياء قد اختزلت بعدين الأول هو الإيمان والعبودية لله والتسليم وطاعة الأولياء والرضا بما قدر والثاني هو إقامة العدل وعدم التعدي على حقوق الآخرين. بعد معرفة هذا يمكن أن ننطلق من مبدأ يمثل دستور العمل وذلك في فهم إن هذه الأمة بما أّخرجت للناس قد أوكل إليها حمل هذه الرسالة الإلهية العظيمة, فهي محلاً لنزول رسالات السماء وشرعة رب العالمين بشرط مبدأ الاعلمية الذي نص عليه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وهذا المبدأ في التكامل البشري قدر الله تعالى له أن يصل في نهاية المطاف وآخر عمر الدنيا إلى ظهور دولة الحق بقيادة قائم آل محمد ـ عليه السلام ـ التي نعتقد أن ما يحدث هو علاماتها وعلامات أشراط الساعة, وإنما مهمة العالم الحقيقي في هذه الأمة هي البيان والبلاغ والأخذ بيد الناس وانتشالهم من هذا الصراع والتسافل والضياع, ومن هنا يحق لنا أن نقول أن هذا الدور الأخلاقي قد تجلى بوضوح في منهج المحقق الأستاذ الصرخي الحسني في الارتقاء العلمي والمعرفي بمبادئ الدين الحنيف بالإنسان في الحياة وما نشاهده مثلاً في مهرجانات تقام في مساجد الأخيار يسموها لغة التسامح والاعتدال الذي يعتمد العلم والدليل منطقاً وسلوكاً يمثل التمهيد العملي الذي نعتقده باباً للارتقاء وللفرج.
وما نسمع من أخبار تشير إلى أن نهاية إبليس في اليوم الموعود, ذلك بعد رقي المجتمع وتسليم الأمم أمرها للإمام الأعلم فيصل عندئذ صاحب الحق إلى مقامه ويزول الحسد وينتهي أمر غواية إلشيطان فلا صراع على الملك ولا يبغي احد على الآخر {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر : 38,37]
ففي هذا اليوم لا مقام لإبليس لأن البشرية تكون قد انتقلت من مستوى الهبوط والتنافس والتسافل على ذلك المقام أو تلك الشجرة إلى مستوى القرب الإلهي فعادت إلى بارئها من جديد.
عند ذلك تقوم أمارات القيامة وتظهر علامات الساعة والرجعة وتشخص الآخرة {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد : 18] فلمن لم يفلح من أبناء آدم في هذا الخط ومن لم يجاهد نفسه عبر تاريخ البشرية وأخلد إلى الأرض واتبع الشهوات وأكل حق غيره أو ظلم وزاحم من هو أهل لمقام الإمامة والقيادة الحقه لم يرتقي في المسير والعودة إلى الله وإلى جنة الآخرة وكان مصيره الأرض التي ستبقى مرصادا للطاغين, وإما من سلك طريق الحق عاين الآخرة والطريق إليها وسلك سبيل المؤمنين وكانت له الجنة عودة ومآبا.

أحدث المقالات