18 ديسمبر، 2024 5:11 م

حديث عن صديق يسكن الوجدان

حديث عن صديق يسكن الوجدان

استميح القراء العذر ، كوني سأتناول موضوعا ربما يبدو شخصيا ، لكني أراه ذا طابع عام ، استخلصتهُ من تجربة شخصية ، امدها عقد من الزمن ، وباختصار اروي تجربتي ..

قبل نحو عشرة اعوام ، تعرفتً على انسان بموقع وظيفي متميز ، ومع مرور الوقت لاحظتُ انسانية هذا الانسان مع موظفيه ، وجهده في تطوير عمل محيط دائرته ، وبعده عن الشللية ، يميل الى قراءة المؤلفات  ذات الآفاق العلمية المتعلقة بعمله وتطوير ذاته ، غير متكبر ، جريء في طروحاته ، يكره السهر ، فبيته ملاذه الوحيد بعد الدوام ، رزقه الله بما يحب من الابناء ، وقد سعى الى تطوير مهاراته الوظيفية ، فحصل الى الماجستير ثم الدكتوراه ، ودائما كان يقول لي انه يبحث عن التميز ، فالإنسان المتميز معطاء دوما .. ولأن الرجل هذه سيرته ، احببته بشكل كبير بات يعرف به كل  الزملاء والاصدقاء .. لكني استغربتُ حين علمت انه تلقى طعنة  من اشخاص ، كانت يده الكريمة  دائما ممدودة لهم ، وازاء هذا الحال ، فقد عزم على ترك خبث الخبثاء ومؤامراتهم  ، فغادر الى خارج العراق ، وقد آلمني فراقه ، حيث كان لي بمثابة الاخ  الذي لم تلده امي ، فهو دائم الاحساس بي  ، قبل ان احس بنفسي ، ولم يخيب ظني ابدا .. ابدا في كل امر شخصي ، وفي كل لقاء معه ، اجد نفسي امام صدى يلف مشاعري .. الكلام الذي اسمعه منه  ، يسكن في صدري ووجداني  فورا.. وعندما  يتحدث ، اشعر ان مكملات الحديث تكاد تظهر على سطح شفتاي ..لم اجد تفسيرا  لتوارد الخواطر،  أو قراءة الخواطر التي تسري بيننا .. غادر صنوي ، وبقيت في حيرة .. فرغبتي بسماع صوته النقي ، كانت شاسعة المدى .. لقد غادر بسرعة ، لأنه استشعر ظلامية المؤامرة الكبيرة ضده ، المُحاكة بخيوط الخيانة ..

ولم تمض ايام ، حتى كنتُ في ضيافة الاخ الكريم فلاح كمونة ، طيب الله ثراه ، باحثا عن عنوان ورقم هاتف  صديقنا المشترك ، وحين لاحظ السيد كمونة الدمعة المنسابة من عيني ، ربت على كتفي ، ثم مد يده الى هاتفه متصلاً بشخص ما ، وبعد لحظات من كلمات التحية والسلام .. قال : خذ كلم صديقك الذي دمعت عيناك من اجله .. يا الهي انه الصديق الاعز ، والاخ الوفي  .. حديثه كان ارتواء لعطش الايام .. فحمدت الله .

لقد بقيت صورته معلقة في مكتبي ، اتأملها يوميا  ، ومع هذا التأمل اسمع واقرأ اخبارا عن الذين تسببوا في تشويه الصورة البيضاء لصديقي ، وبتُ ألاحظ غرور أولئك الصغار المنتفعين ، والمصدقين بلعبتهم الخسيسة واتهاماتهم الباطلة ، لكن حبلهم كان قصيرا ، فقد ظهر الحق ، وعاد الصديق على صهوة حصان الصدق .. عاد بهيا ، وبموقع وظيفي اعلى ، ورغم كل مشاغله لم ينسني .. وكان موقفه مني ، مثلما كان احساسي به .

ادركُ ان في الحياة تتباين الألوان، فيحتدم الصراع، وتتقارب فيحل السلام، الألوان الصديقة غير العدوة، لا تنخدع بالمظاهر، وبدون الظلام لن نعرف قيمة النور، وبدون ألوان لا معني للحياة، فلونك هو ذاتك، فلا تدع أحدا يغير لونك، هذا تحطيم للذات، عندما تدرك قيمتك، لن تصبح يوما بلا قيمة ، وهكذا هو صديقي الاحب ، فهو يعرف ان الصداقة الحقيقية حاجة من حاجات الفرد، فالإنسان لا يستطيع العيش بدون وجود أصدقاء يتقاسمون معه فرحه وحزنه ومشاكله، فالأصدقاء هم الملاذ الذي نلجأ إليه وقت الضيق والشدة. في مرحلة ما من العمر، تأتي لحظة ندرك فيها أن كل شيء انتهي، هذه بداية تجربة جديدة، لها قواعد جديدة، وأفكار جديدة، هذه لحظة الوعي، فلا قيمة لنجاح لا يحقق سعادة، ولا معنى لفشل لا يقدم خبرة، تنتهي مرحلة لتبدأ مرحلة جديدة، وتستمر الحياة..

الصداقة بحرٌ من بحور الحياة العميقة، هي كنزٌ من كنوز الدنيا إذا امتلكناها امتلكنا كل شيء، وهي علاقة بين شخصين أو أكثر تقوم على الحب والمودّة والاحترام، والصديق هو بمثابة الأخ الذي لم تلده أمك، بل ولدته لك الظروف والأيام، قيل قديمًا: “اختر الصديق قبل الطريق”.

واخيرا اقول ، عار على من لا يفهم سيرورة الحياة ، ولا يعرف ان الدنيا ترفض الاذلاء والمنافقين .. فتبا لكل من شهد زورا ، وكتب سطورا كاذبة بحق صديق عمري الذي يمتلك كبرياء النبلاء  ، وانني اعرف انه لا يرغب بذكر اسمه ، كما لا يحب الاشارة لمن خانوا عهد الصداقة .