19 ديسمبر، 2024 1:23 م

حديث الثورات : ثرثرة فوق جثث الأموات !!

حديث الثورات : ثرثرة فوق جثث الأموات !!

لكم يحلو لزعماء الدكاكين الحزبية ، وقادة المليشيات الطائفية ، ومنظري المشاريع الانقسامية ، وتجار الحروب الأهلية ، الحديث عن الثورات وما يتوقع منها أن تحدثه من تغيير جذري في السياسات والاجتماعيات والاقتصاديات والثقافات ، وما يعول عليها أن تمارسه من تحولات عميقة في العلاقات والذهنيات والرمزيات والسلوكيات ، كما لو أنها مصباح علاء الدين السحري الذي بمجرد دعكه والطلب إليه ، حتى يخرج عفريته من القمم مستجيبا”للتضرعات وملبيا”للرغبات ومحققا”للأمنيات . ولهذا نجد إن كل الذين نظروا إلى الثورة – من الدينصورات المتحجرة – بهذا المنظار المشوش ، كان رصيدهم الفشل وحصادهم الخذلان ؛ ليس فقط على مستوى الفكر بل وعلى صعيد الواقع أيضا”. لماذا ؟ لأن الثورات – برغم ما يثار حولها من لغط وما يشاع عنها من ثرثرة – لا تحدث على أساس الرغبة ولا تحصل بناء على الطلب ، إنما هي ظاهرة استثنائية تحتاج لكي تتبلور وتتفجر إلى تضافر مجموعة من الشروط الذاتية (وعي + تنظيم) والعوامل الموضوعية (نضوج الظروف الاجتماعية + ملائمة الأوضاع السياسية) ، وبانعدام واحد أو أكثر من تلك الشروط والعوامل أو حتى غياب التوافق بين هذه أو تلك ، يغدو الحديث عن الثورة ضربا”من السفسطة الكلامية التي لا تصلح إلاّ للتندر والتهكم . وبضوء هذه المعطيات – التي أكدتها التجارب – فان ثرثرة البعض من الطارئين على السياسة ، والمتطفلين على الدين ، والمتسكعين على الثقافة ، بصدد حصول (ثورة شعبية) في المحافظات التي غزتها الجماعات المسلحة من كل شاكلة وطراز ، يشكل مغالطة سياسية بكل المقاييس والمعايير . فالثورة التي تتحدثون عنها أيها السادة لا يصنعها الرعاع وشذاذ للآفاق كما تتوهمون ، إنما يحدثون فوضى وينجزون خراب ، وان القتلة والسّراق لا يحمون وطن ولا يبنون مجتمع كما تزعمون ، إنما يعيثون في الأرض فسادا”ويقطعون الحرث والنسل . ولعل هناك من يحاجج فيقول ؛ إن في هذه الحشود الموتورة التي تنزع عنها صفة (الثورية) شخصيات سياسية ذات باع ، ونخب ثقافية ذات وزن ، ورموز دينية ذات سمعة ، وهذا يكفي لوصف هذه الأحداث (بالثورة الشعبية) ، طالما أنها تقاد بإمرتهم وتوجه بخبرتهم !! . حسنا”أيها الناطقون باسم الثورات السوداء والحمراء والخضراء ، الخ ، من قال لكم بان صفة (الرعاعية) لا توجد إلاّ في أوساط الحثالات البشرية الدنيا ولا تنطبق إلاّ على أسافل الناس وسقط المتع منهم ؟! . أن هذه الصفة يمكن لها أن توجد – بل هي موجودة بالفعل – بين السياسيين ورجال الدين وصناع الرأي ، لا بل إن رعاعية هؤلاء القوم تكون عواقبها أخطر بأشواط من رعاعية أقرانهم الأميين والجهة من عامة الناس . ذلك لأن الأخيرين يجتافون ويمارسون صفة الرعاعية دون أن يعوا ذلك أو يفطنوا له ، هذا في حين يتزعم الأولين حشودها عن وعي ويمتطون موجاتها عن دراية . وهنا مكمن الخطورة . كيف ؟ ليكن واضحا”إن الذين يجهلون طبيعة الثورات هم أول من يتنكر لمبادئها وأسبق من يتخلى عن مثلها ، وبالتالي فهم لا يجدون حرجا”في نعت الجماعات الإرهابية (بالثوار) ووصف الأعمال الهمجية التي يمارسونها (بالثورات) ، طالما أنهم يبحثون عن المكاسب المشبوهة ويتطلعون إلى الأمجاد الزائفة ، حتى ولو أفضى إلى ذلك لإبادة الآلاف من الناس الأبرياء وتسبب بخراب العديد من المدن والبلدات . ولهذا يطالعنا العديد من رجال الظل القابعين في العواصم العربية والغربية ، ممن لهم صلات وثيقة مع العصابات المسلحة ، بالحديث (الثورة الشعبية) التي تجتاح عموم العراق ، دون أن يخالجهم أدنى شعور بالذنب أو وخزة بالضمير ، حيال فداحة الثمن الذي ينبغي على العراق – أرضا”وشعبا”- تأديته لإرضاء نزعات ذوي العقول المريضة والنفوس الضعيفة ، التي لا يحلوا لها العيش إلاّ وسط مظاهر الخراب ، ولا يطيب لها مشهد سوى رعاف الدماء . والطامة الكبرى إن لهؤلاء الأمراء أنصار ومريدين ودعاة من الدهماء ، يتلقفون ما يقال لهم ويتردد على مسامعهم كما لو أنه الحقيقة المنزلة التي لا يأتها الباطل لا من خلفها ولا من بين يديها ، بحيث يسهمون بصورة مباشرة أو غير مباشرة بتعميق تداعيات الأزمة وإطالة أمد الصراع ، وجعلهم أنفسهم بالتالي أهداف شاخصة للقتل وأكباش مطيعة للذبح . في حين يجلس منظري الثورات عن بعد أمام شاشات التلفاز ، يحتسون أجود الشراب ويأكلون ما لذّ من الطعام وطاب ، غير عابئين ولا مكترثين بمصير هذا الشعب الذي تحول الآلاف منه إلى مشردين يجوبون الآفاق بحثا”عن مأوى يحتمون فيه يلوذون به ، بعد تركوا منازلهم وحاراتهم تعصف بها ريح الدمار والخراب ، هذا بالإضافة إلى المئات من القتلى الأبرياء حيث أزهق أرواحهم طيش وتهور الزعران ، من الذين باعوا أنفسهم للغرباء وجندوا مهاراتهم للسماسرة ، وتحولوا من ثم إلى مأجورين ومرتزقة لا يعرفون سوى لغة العنف والكراهية ولا يجيدون سوى مهنة القتل واستعراض مشاهد الموت . ولهذا نقول لكم أيها السادة ؛ اتقوا الله في هذا

الشعب وهذا الوطن ، ولا تكونوا سببا”في إراقة المزيد من دماء الأول ولا تتحولوا إلى معاول لإفناء الثاني . فالثورة التي تلوكها ألسنتكم بمناسبة وبغير مناسبة ، هي فعل وطني وتاريخي مسؤول لا ينبغي العبث بدلالاتها ، والتنطع لتشويه مضامينها وتحريف أهدافها وتزييف قيمها ، وجعها مجرد ثرثرات صبيانية تزجى فوق جثث الموتى ، ونعيق يتردد صداه فوق أطلال الحرائق !! .

*[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات