يُعبّر مقال السياسي الامريكي المخضرم رون بول* المنشورة في المعهد رون بول للسلام والإزدهار، عن قلق مشروع إزاء تغوّل السلطة التنفيذية في تقرير مصير الحرب، وتُعيد التصريحات الإعلامية الأخيرة لشخصيات في الكونغرسالأمريكي تسليط الضوء على واحدة من أقدم الإشكاليات في بنية النظام السياسي الأمريكي خاصة بما يتعلق مركزية القرار التنفيذي في شن الحروب، على حساب ما ينص عليه الدستور من حصر هذه السلطة في يد الكونغرس. ورغم أهمية هذا التنبيه، فإن القراءة التي تقدمها ــــ هذه التصريحات ــــ تبقى قاصرة عن استيعاب التحولات الدولية والإقليمية الجارية، والتي باتت تُعيد تشكيل طبيعة القرار العسكري والسياسي الأمريكي خارج المنطق التقليدي للدستور. إذ إن التصريحات، من دون أدنى شكّ ، تقدم نقدًا دستوريًا وسياسيًا مباشرا لآلية صنع القرار الأمريكي في الشؤون الخارجية، مع التركيز على إشكالية تمركز سلطة الحرب في يد السلطة التنفيذية. هذا النقد يستند إلى أسس قانونية وتاريخية سليمة، خاصةً في ظل التوسع المستمر لصلاحيات الرئاسة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، والذي تجلى بوضوح في الصراعات الأخيرة (أفغانستان، العراق، اليمن).
يجدر الإشارة إلى أن الدستور الأمريكي صُمم لمنع تركيز سلطة الحرب في يد فرد واحد، لكن التفسيرات الواسعة لقرارات مثل “تفويض استخدام القوة العسكرية” (AUMF) و”حرب الرئيس” (مثل ضربات أوباما في سوريا أو ترامب في اليمن) أفرغت هذه الضوابط من مضمونها، لتعيد صياغة نفسها كمعضلة جديدة ابان التصعيد مع إيران، على الرغم من أنه ليس وليد اللحظة، بل نتاج تراكم سياسي منذ عقود، بدءًا من الثورة الإسلامية (1979)، مرورًا بالأزمة النووية، ووصولًا إلى الصراع بالوكالة في المنطقة.
إن إي تحرك عسكري أمريكي مباشر ضد إيران بالضرورة سيكون له تداعيات جيوسياسية كارثية، خاصةً مع وجود لاعبين دوليين (روسيا، الصين) وداعمين إقليميين (حزب الله، الحوثيون ). لذا فأن الصراع مع إيران، بوصفه تجليًا لعقود من التوتر والتنافس، لا يُمكن عزله عن مشهد إستراتيجي عالمي تتآكل فيه التعددية، وتتحول فيه المؤسسات السياسية إلى رهائن للزمن التنفيذي والقرار الفوري. وما يظهر على أنه تغوّل للسلطة التنفيذية، إنما هو انعكاس لتآكل قدرة المؤسسات التشريعية على صياغة استجابات استراتيجية مركبة في لحظة تتسم بالتقلب والسرعة.
بالمقابل، أن الناخب الأمريكي لم يصوت لحرب جديدة، لكن الاستراتيجية الحالية للبيت الأبيض ما هي إلا تتممة للنهج الذي تبنته حكومة ترامب السابقة والتي تقوم على ركائز “ الردع عبر التهديد العسكري“، مما يخلق تناقضًا بين الخطاب الانتخابي والممارسة الفعلية. ناهيك عن الثغرات الدستورية التي تتجاهل إغفال دور المؤسسة العسكرية /الصناعية ، وكذلك اللوبيات المؤثرة في دفع الصراعات، والتي تتجاوز الرئاسة إلى شبكة مصالح معقدة، و عدم تناول احتمالية أن يكون التصعيد مع إيران جزءًا من استراتيجية تفاوضية لفرض شروط أفضل في أي اتفاق نووي مستقبلي.
إنّ الدستور الأمريكي الذي صُمم في القرن الـ18 لضمان حكومة محدودة، لم يتوقع تعقيدات القرن الـ21 حيث تحولت القوة من المؤسسات المنتخبة إلى شبكات غير رسمية. ومنذ ذلك الحين، بقت هذه ” الثغرات” أو الفجوات الدستورية غير المباشرة كي تسمح للمؤسسة العسكرية-الصناعية واللوبيات (جماعات الضغط) بممارسة نفوذ كبير على صناعة القرار، بما يتجاوز السيطرة الرئاسية المباشرة أو الرقابة الديمقراطية الكافية. هذه الفجوات ليست عيوبًا صريحة في النص الدستوري، بل هي نتيجة لتراكم الممارسات السياسية والتفسيرات القانونية التي تفاقمت مع تطور النظام السياسي والاقتصادي الأمريكي. فيما يلي أبرز هذه الثغرات:
إن الخطاب الأمريكي حول “السلام بالقوة” لا يمكن اختزاله في ثنائية الانسحاب مقابل التدخل. فالاستراتيجية الأمريكية اليوم تتحرك ضمن فضاء جديد، يقوم على الردع الوقائي والتموضع المتعدد، لا على خوض حروب شاملة. لكنّ هذا التموضع، حين لا يكون مسنودًا برؤية سياسية شاملة، يُهدد بالتحول إلى نمط دائم من الاحتكاك المسلح ذي الأهداف المتحولة، كما في اليمن وسوريا، والعراق بشكل أكثر وضوحًا. في المقابل، تبدو أوروبا غائبة، مشدودة بين مصالح اقتصادية مربوطة بإيران، والتزامات أمنية متوارثة مع واشنطن. أما روسيا والصين، فهما تتبنيان استراتيجية “الكمون الحذر”، تراقبان تراكم التوترات دون أن تندفعا للمواجهة، بانتظار فرصة انهيار توازن القوى.
المفارقة الكبرى أن الكونغرس، الذي يُفترض أن يكون ضامنًا لمشروعية القرار، يبدو اليوم سجين الانقسام الحزبي وعدم القدرة على إنتاج رؤية خارج اللحظة الانتخابية. وهو ما يفتح الباب واسعًا أمام ارتجالات السلطة التنفيذية، والتي قد تتحول – تحت الضغط أو الخطأ الحسابي – إلى صراع واسع النطاق لا تُعرف نهاياته.
Standing at the Edge of the Iran War Cliff – The Ron Paul Institute for Peace & Prosperity *