بعد أن نشرت الوثيقة الأولى عن ما حدث في شكوت ”هزارستون” تلقيت عدة رسائل من رفاق مروا بهذا الموقع ومن متابعين للشأن السياسي العراقي ومن مهتمين بشغف للاطلاع على حيثيات وتفاصيل التجربة التي خاضها الشيوعيين العراقيين في ظرف عصيب من تاريخ العراق السياسي الحديث وما أعترتها من تحديات جسيمة وطرق مواجهتها ، مما أخذت قسم على نفسي وعهد تاريخي وأخلاقي في العودة لها ثانية والوقوف على تفاصيل آخرى . في مقرنا كانا معنا حمارين يتقاسما معنا التعب والخوف من صدى صوت الصواريخ العراقية عبر أجواء موقعنا لتدك رواقم الجيش الإيراني ، وكانت شبه يومية ولا يحددها زمان ووقت . بطبيعة الظرف والوقت وعسر الحياة تآلفنا مع الحمارين وكانا جزء مهم من يومياتنا المملة ، ولقد أطلقنا عليهن إسمين نكاية برجالات الدولة العراقية ” فيطو وصبحة ” !. شخصية فيطو هو المسؤول عن نادي الصيد العراقي آنذاك . وشخصية صبحة هي أم الدكتاتور صدام حسين . في نهايات أيام الانسحاب الآخير من موقع هزارستون على أثر الهجوم الكاسح على المنطقة كانا معنا ” فيطو وصبحة ”. وبقى معنا الى اللحظات الآخيرة من أنسحابنا من جبل سورين وعبورنا عبر المدن الإيرانية الى مناطق شرباجيير .
كنت حريص جداً مع الرفيق الذي سوف يرافقني في قطع أشجار البلوط في عمق الوادي صعوداً بإتجاه الاراضي الإيرانية ودقة تقطيعها وشدها وحملها على ظهور ” فيطو وصبحة ”. ربما بتأثير غير مباشر في التراجيديا السياسية ، ذات يوم كنت حاضراً في أمسية بموقع كرجال ألقاه علينا الرفيق المرحوم أحمد باني خيلاني في خريف عام ١٩٨٣. وكان عائد تواً الى قيادة القاطع بدلاً عن الرفيق المرحوم بهاء الدين نوري الذي عزل وشهر به لأصراره بنشر وثيقة تقيمية لسياسة الحزب للفترة الممتدة من ١٩٦٨الى ١٩٧٩ . وتحمل ما تحمل بسببها .
كنت معتقد ومتلهف سوف أسمع من المسؤول الجديد حول مستجدات المفاهيم الماركسية الجديدة قانون نقض النقيض أو وحدة وصراع الاضداد ، أو ما كانت تمنيه النفس في الحديث عن ظروف أسره وفكه وبيانهم المشؤوم مع الرفيق المرحوم كريم أحمد من إذاعة صوت الإتحاد الوطني الكردستاني بعد أحداث بشتاشان الدامية . ختم حديثه حول مزايا الشيوعي الجيد وهو من يستطيع أن يقود حيوان ” البغل ” والرفقه في مداراة الحمل على ظهره .
في شتاء قارص عام ١٩٨٤ . شهدت المنطقة عواصف ثلجية غزيرة سدت الطرق والمنافذ والتي كانت متاحة لنا للتحرك لعدة أيام ، لم يعد أمامنا الا الحركة داخل الشكوت متأبطين الاغطية السميكة للوقاية من شدة البرد ، ولقد أستمرت لأيام ، ولقد أضنانه الجوع والملل ، وفي هذا الأثناء ألتجأ إلينا ” كلب ” هارباً من الثلج والبرد ليحتمي في الاشكوت ، فقام أحد الرفاق لا أتذكره من كان ، بإطلاق النار عليه ، وأنا قمت بسلخه وتقطيعه ووضعه في إناء كبير ولعدة ساعات تحت نار مشتعلة ، وعندما ناديت على الرفاق بالقدوم والنهوض من النوم لإنه الطبخ أصبح جاهز ، لكن لا أحد تجرأ على مضغه لقساوة لحمه الشديدة مع جملة من التعليقات المريحة .
ذات مرة أكتشفنا في قطع جبلي حاد خلية نحل ، والرواية تقول حسب بعض الرفاق من أبناء المنطقة عمرها عشرات السنيين ، وعندما أستطلعنا عبر الفتحة الضيقة رأينا كثافة العسل المتراكم داخل المغارة ، حيث بدأنا نضع الخطط تلو الخطط لاقتحامها ولصعوبة التمكن من السيطرة على المكان لابد من يحملك أو الاستعانة بسلم . قررنا أنا وعدنان اللبان ومناف الاعسم بتبني العملية ، فقمت بأنتزاع شبك المنخل الوحيد الذي نمتلكه في المقر ومن خلاله كنا نصفي الطحين من الديدان والحشرات قبل تحضيره للعجن والخبز . ووضعت شبك المنخل على وجهي وغطت كل أعضاء جسمي بالوصل ” خرك ” وذهبنا الى المكان وحملني عدنان اللبان على كتفه وبدأت أوسع من كبر الفتحة بآله حديدية ، وعندما تمكنت من أن أمد يدي داخل الفتحة لا أتخيل عدد الزنابير التي هاجمتني ولم يعد يحميني لا شبك المنخل ولا الغطاء الذي أحتميت به ، وبقيت أيام أعاني من الألم والوجع والورم .
كنت وما زلت من محبي الطيور المدجنة ، كان والدي المرحوم من مربيها ، وأنا فطنت على ذلك في بيتنا الهويدراوي العتيق ، حتى هنا في السويد جنيتها لأكثر من مرة ، وكانت تمنحني طاقة من التأمل والسكينة لولا الملعونة السويدية جيراننا سعت من أجل حرماني من هذا التأمل حسب القوانين السويدية . وفي شوكت هزارستون ذات مرة كنت قي قرية ”شير مر” وفي أحد بيوت القرية وكان رب البيت من مالكي طيور ، وتفاجأ عندما طلبت منه أن أشتري زوج وحملتهن معي الى المقر ”شكوت هزارستون”. ورتبت لهن واحدة من المغارات وأصبحن جزء من يومياتنا رغم الهمس من بعض الرفاق في الانتقاد وعدم الرضا ، وذات عصرية كنا نتأمل سحر السماء وجمالية الغروب هجم الهر الكبير ”العتوي” عليهن ولولا أحد الرفاق الذي بادر بقوة السلاح من إبعاد الخطر عنهن ، وبعد هذه الواقعة أختفن ولم نراهن ، لكن أثارن جدل وسجال بين الرفاق وصلت بعضها الى الزعل .
في واحدة من السوابق الخطيرة في الحياة الحزبية الشيوعية بهذه الجملة واجهني الرفيق محمد جاسم اللبان ” أبو فلاح ” بعد أن ألتقاني ، وأنا أروي له الحكاية . يبدو ومن خلال التجربة البسيطة وهذه ليس محصورة بالشيوعيين فقط إنها الشخصية العراقية بشكل عام ، عندما يستلم ويتبوأ مسؤولية مهما يكون موقعها وتأثيرها ، يبدأ شخصية آخرى غير الذي تعرفه وعشت معه سنوات وتجمعنا رفقة ومصير مشترك وموت مؤجل . كان في الموقع رفيقنا الشهيد أبو أحمد ” بختيار عرب ” من أهالي مدينة الشعب بالعاصمة بغداد رفيق مضحي وشجاع وكادر متمرس في العمل الحزبي ودمث الاخلاق ونكران ذات ومبادر في دعم ومساعدة الجميع وجليس ممتع ، منذ سنوات لا يعرف أخبار عن زوجته وأولاده ، أو ربما يتجنب الاتصال بهم خوفاً عليهم من بطش النظام . الشهيد أبو أحمد أستلم مسؤولية الموقع فتحول الى إنسان آخر تماماً غير الذي نعرفه وتعودنا عليه من التسلط وحشر أنفه في الصغيرة والكبيرة في يوميات الرفاق حتى وصلت الأمور الى لغة الأمر والخلافات اليومية مع الرفاق الى حد المقاطعة فتكون رأي عام ضده أو على أقل تقدير من أجل بقاء صورته الجميلة في قلوبنا ، فوصلت الأمور الى حدود الكلوسة بيننا بالمطالبة بعقد إجتماع إستثنائي وأتفقنا جميعاً وبقرار حزبي سوف نعزله عن مهامه رغم خطورة الخطوة وتبعاتها علينا لانه خرق تنظيمي وحزبي كبير ، وبعد سجال كبير نجحنا بمهمتنا وعزله عن مهامه من خلال التصويت وبالاجماع الحزبي وتعرضنا جميعا الى التوبيخ الحزبي الغير معلن من قيادة القاطع بأعتبارها سابقة خطيرة في الحياة الحزبية وطلبوا ببرقية عاجلة من الرفيق الشهيد أبو أحمد الالتحاق الى مقر القاطع في منطقة ”كرجال”. وكان وضعه النفسي منهار وبادر الرفاق بأرساله الى العاصمة طهران للراحة والاستجمام وللابتعاد عن حياة الجبل . وأنا كنت في عمر وتجربة بسيطة جداً مما تألمت كثيراً وأنتقدت نفسي وأعتذرت منه في ما بعد .
في فترة وجودي في كهف”هزارستون”وفترة عام كامل ، كانت مفعمة بالاحداث على المستوين الشخصي والسياسي ، في يوم ما من عام ١٩٨٥ أستلمنا برقية عاجلة من قيادة قاطع سليمانية وكركوك مفادها تقول ! أن النصيرين السابقين خضر عبد الرزاق ”سليم”وعبد الزهرة تيتو ”أكرم” في الطريق إليكما ونود أخباركم وهذا بمثابة قرار بعدم الترحاب بهما وأستقبالهم في المقر ، ومن المفيد جداً على الرفيق ”لطيف” هو أنا محمد السعدي أخذ الأمر بعين الاعتبار . النصيرين ”سليم”و”أكرم” كانا نصيرين ضمن قوات أنصار الحزب الشيوعي العراقي وتركا موقعهما النضالي وتوجها الى إيران ، وبعد أن عانوا من ضنك العيش وصعوبة الحياة عادا الى الجبل ، وعندما وصلا الى مقر القاطع في منطقة ”كرجال” لم يرحب بهما من الرفاق ، ومن خلال السؤال عني عرفوا موقع تواجدي وتوجهوا لي ، وهم أبناء قريتي ، ولقد ضربت بعرض الحائط برقية وقرار القاطع وأستقبلتهم في المقر بالاتفاق مع رفاقي في الموقع الا البعض من الرفاق كان متوجس . وقد أبلغنا قيادة القاطع مموهين على حقيقة الموقف إنهم مروا من هنا ، لكن الحقيقة قضوا يوماً معنا. وفي اليوم الثاني صباحاً توجهوا الى الحدود الإيرانية وسلموا نفسهم بأسماء آخرى باعتبارهم جنود هاربين من ويلات الحرب .
بادر الشهيد أبن السماوة أبو سالار المعلم السابق والمناضل المعروف أبو صلاح من عمل لنا مزرعة جميلة في سفح مدخل الموقع ونسقها بجمالية مدهشة ، رغم معاناته اليومية بشحة السقي وقلة الماء ، كان أعتمادنا الرئيسي من الماء عبر عين ماء موقعها تتوسط الحدود العراقية الإيرانية وسحبنا خرطوم طويل صوب موقعنا ، ولكن مرات عديدة تتعرض الى القطع والتلف بسبب القصف الصاروخي العراقي على المنطقة مما نستعين بالحمارين فيطو وصبحة لاحضار المياه . وكانت معاناة حقيقية لنا . وبعد أن أجتاحت المنطقة بالكامل في سلسلة جبل سورين وكان لنا خمسة مواقع مهمة ولم يبقى مقراً واحداً لنا الا بعض المفارز المختفية والمتنقلة بظروف غاية في الصعوبة . في عام ١٩٨٥ أجتمعنا مرة أخرى في منطقة ” زيوه ” الفصيل المستقل في بهدينان خلف مدينة العمادية وفي غرفة منام واحدة مع الرفاق أبو سالار وأبو بشرى وأبو أحمد وأبو سرمد ، والذين زجوا الى الداخل في بداية عام ١٩٨٦ لمهام تنظيمية في الفرات الاوسط وإعتقلوا بعد فترة قليلة من وصولهم وغيبوا الى يومنا هذا وكل الاتهامات كانت تشير الى وشاية الكادر المتقدم في الحزب عدنان الطالقاني ” أبو هيمن ” وعندما عاد أبو هيمن من الداخل الى مواقعنا ورغم اللغط الكبير حوله ، لكن لم يتخذ أي إجراء ضده بقى يمرح ويسرح في الفصيل ، وقام الرفيق حميد مجيد موسى البياتي ”أبو داود ” عضو المكتب السياسي بزجه مرة أخرى الى الداخل ولم يعد ثانية لنا ، وحاليا مقييم في مملكة السويد ولم نسمع الى يومنا هذا أي تحقيق تم جراء هذا الكارثة الكبيرة بفقدان كوكبة لامعة من الشيوعيين الحقيقيين ، إنها طمست كغيرها من القضايا المهمة في تاريخ الحزب .