كرخي بغدادي أكمل كلية الهندسة ليلتحق بخدمة العلم كضابط إحتياط في أحد الوحدات في البصرة ، صباح يوم التحاقه اتصل هاتفياً بالرقم المخصص للحجز للعسكريين في المحطة العالمية في بغداد حيث يقوم فصيل الأنضباط العسكري بالحجز وتثبيت اسم ورتبة العسكري في قوائم المسافرين .
نزل والده من غرفته في الطابق الثاني من دارهم الشرقي وبعد تحية الصباح سأل ابنه هل حجزت تذكرة القطار فأجاب الشاب نعم في قطار الساعة السابعة مساءً ، جهزت والدته طعاماً لسفرته ولابد ان يكون من الوجبات التي تعلم انه يفضلها فذهبت الى الفرن لتشتري منه الصمون وقبل ذهابه بقليل عملت له سندويچات من العروگ والرشاد وطماطه مملحه وكان من عادتها ان تعمل اربعة سندويچات وحينما يسألها تقول له ” يمه فرگهن على ربعك خاف واحد ناسي ما جايب عشه ” .
غادر الدار بعد توديع الأهل وذهب مبكراً الى المحطة مرتدياً بنطالاً وقميصاً وحاملاً حقيبته وكيس العشاء وحينما وصل المحطة جلس في كافتيريا المحطة العالمية في علاوي الحلة التي كانت حينها من اجمل الكافيهات منتظراً موعد انطلاق القطار .
قبل موعد القطار بنصف ساعه تحرك الى مقر فصيل الأنضباط ليستلم تذكرته بعد ان يقوم بتثبيت اسمه وهويته في سجل الحجز ، كانت التذاكر مجانية لمنتسبي وزارتي الدفاع والداخلية وللطلاب وبتخفيض كبير للمعلمين والاساتذة ، كان قطار المساء مقصورات مريحه وحينما حان الوقت صعد الشاب للقطار وذهب الى مقصورته التي يشترك فيها معه ضابط آخر من نفس وحدته .
تحرك القطار وغير الشاب ملابسه ليرتدي تراكسوت رياضي مع حذاء رياضي خفيف كالعادة وطرق الخادم باب المقصورة ليبادر بتحية الشاب الذي بات معروفاً لديه فهو زبون دائم وكان الخادم يحمل دفتراً صغيراً يكتب به أجوبةً لأسئلته وهي ” عمي ابدلك الفرش ؟ عندك كوي ؟ وين تنزل باي محطه ؟ تحب اگعدك عالصلاة ؟ وأخيراً تحب يجيك صباغ الأحذية ؟
كان الشاب معتاداً ان يطلب ابدال الفرش ويطلب منه كوي قيافته العسكرية ويدفع له ربع دينار ثمناً لذلك ومن ثم طلب ان ياتيه صباغ الأحذية لصبغ حذاؤه كونه سيتوجه مباشرة الى وحدته .
توجه الشاب نحو عربة كافتيريا القطار حاملاً كيس العشاء وجلس على احدى الطاولات ونادى المضيف طالباً قدحاً من الشاي وقدحاً من الماء حيث لم يكن شائعاً حينها استخدام قناني المياه المنقية بل نشرب من ماء الحنفية .
كانت تجلس في طاولة قريبة من طاولته ثلاث فتيات يبدو انهن من طالبات جامعة البصرة كانت احداهن ذات جمال بغدادي أخاذ بوجه ملائكي مشرق وخدود وردية وعينان سوداوتين كليل خليج البصرة وقوام ممشوق كل ذلك يزينه حياء وخجل زادها وقاراً وانوثةً .
جلب المضيف طلب الشاب وحينما باشر برشف قدح الشاي اعاد القدح للطاولة فقد كان من النوع الذي لايستسيغ تناوله لسماجة طعمه . واخرج سندويجاً من كيسه وبدأ يتناول عشاؤه واذا بتلك الفتاة تضع امامه قدحاً من الشاي الذي تفوح منه رائحة الهيل فقالت له ” چاي عمو عبود الچايچي بصراوي ثگيل ومحروگ وهذا الچاي احنه نسوي بالمطبخ مال الكافتريا فتفضل اشرب بالف عافية لانك دتتعشه ” اصر الشاب على شكرها بقبول سندويجات والدته الثلاث المتبقية وخاطبها انه لن يقبل الشاي ان لم تقبل سندويجات والدته مما أجبرها على القبول .
اكمل الشاب عشاؤه وإنسحب لمقصورته وفتح حقيبته ليستمع الى اغنية السهرة من صوت القاهرة ثم سرح بعيداً يفكر بتلك الفتاة وحلم بان تكون زوجته وشريكة حياته ثم خلد للنوم ليستيقظ على نداء الخادم ” المعقل بعد نص ساعه ” نهض واكمل غسل وجهه وتنظيف اسنانه وحلاقة ذقنه وتمشيط شعره ثم ارتدى قيافته العسكرية الشديدة التنسيق بنجمتان تعلوان كتفه وارتدى حذاؤه اللماع وتعطر بقلونيا ريف دور التي كانت هديةً من والده وحزم حقيبته وغادر مقصورته لينتظر في ممر القطار وهنا خرجت فتاته التي أسرت قلبه من أول نظرة وحينما ابتسم بوجهها ابتسامة حذرة وخجولة فهو يرتدي بزة عسكرية تمنعه من ان يتصرف بما يسئ لها . وقف القطار وترجل الشاب فسمع صديقتها تنادي ” هند اخذي جنطتي للقسم الداخلي لين عندي لاب ساعه سبعة ونص ” !
كانت فرحته لاتوصف بعد ان عرف اسم معشوقته وقبل ان يغادر الرصيف نحو الباص العسكري الذي ينتظرهم لملم شجاعته وحث الخطى وهمس ” هند بأي كلية ” ؟ فالتفتت اليه بحياء واخرجت الليفكس وادارته باتجاه يتمكن فيه من قراءة الاسم والكلية فعلم انها طالبة في كلية العلوم المرحلة الثالثه .
التحق الشاب لوحدته وضلت هند سفيرة احلامه الدائم وظل اختفاؤها لغزاً محيراً فلم يعد يصادفها في قطار المعقل النازل ولا في قطار بغداد الصاعد حتى علم بعد حين انها زفت شهيدة في قصف اهوج بالهاونات على جامعة البصرة من قبل الفرس الجيناء ، ان القصف لم يقتل هنداً فحسب بل قتل معها حباً وليداً كان من اجمل قصص العشق العذري ، وحسبنا ان نقول
” عذراً يا هند فمن قتلك بالأمس اليوم يحكمنا “