7 أبريل، 2024 4:18 ص
Search
Close this search box.

حداثة الرسامين

Facebook
Twitter
LinkedIn

كثيرا اثقلنا على الشعراء والكتاب وحاسبناهم وازعجنا ايامهم ، ذلك اننا اردنا ان نحمي حق المبدعين الاصلاء منهم ونبعد عنهم المتطفلين على هذا الفن الراقي والاكثر شعبية عند المتلقين، لكن امر الرسم او الفن التشكيلي اقل حظا في التناول عند النقاد و اقل عناية بمبدعيه و ربما صاروا بذلك اقل شهرة شعبيا ، وهذا و ان كان ليس عدلا ولكن له اسبابه ، فالرسم او التشكيل عموما هو فن نخبوي ، بمعنى ان نظارته ومتابعيه وعشاقه من طبقة واحدة او من فئات محددة لا تنزل جميعها عن مستوى الثقافة الذوقية والتميز الحسي وما الى ذلك من اعتبارات و مواصفات شخصية لمتلقي الفن التشكيلي لايشترط توافرها عند متلقي الشعر ، والمفارقة ان هذا هو السبب نفسه الذي يجعل الشعر متفوقا جماهيريا ، و قد ورد ذلك في مقالات لي باشارات مختلفة منها مقال (الغزل القديم والرومانسية الحديثة؛ونصوص معاصرة) فصلت فيه اسباب تفوق الشعر وهنا باقتضاب اعيد ملخصا ان أداة الشعر الكلمة ولأنها معروفة عند الجميع ومستخدمة لدى الكل فقد وصل الشعر الى الجميع وتذوقه الكل ، فمن برع أو درس وتخصص في معاييره وخصائصه وجماله وغثه وسمينه صار ناقدا ، ومن لم ينجح عاد متذوقا ، ومن لم يفلح صار من عوام الجمهور ، وهذا لايصدق مع الرسم وابعد منه النحت و ابعد منه
وأشكال الفنون البصرية المتعددة التي يضمها الفن التشكيلي تحت جناحيه، مثل فن الخط و الزجاج، والزخرفة، وفن الخزف، والفوتوغرافيا، والرسوم المتحركة، فيما سبق من العصور والقرون و اضاف لها مبدعو القرن العشرين أشكالا جديدة، منها الكولاج، وأعمال الحفر، والفيديو آرت، والتجميع والتركيب، ويحتوي هذا الفن علي أنواع متعددة منها الرسم والتصوير والنحت والفسيفساء والتصوير الضوئي والتصميم والوسائط المتعددة والطباعة والعمارة والتلصيق والتركيب وفي القرن الحالي دخلت فنون الكمبيوتر ، على خلاف بين المحافظين الذين لايعدونه فنا ، وبين المحدثين الذين يقبلونه.
ولا يزال المدى يحتمل الجديد، بفضل اتساع المعرفة، وانفتاح العالم تكنولوجيًا، فأثرت الثورة الرقمية على الفن التشكيلي العالمي، وفتحت مساحات أخرى للتجريب.
و لكن تبقى عملية التعبير “بالوسيط المرئي” ثنائي الابعاد يساعده المنظور كفن الرسم، أو الوسيط المرئي المجسد “ثلاثي الأبعاد” النحت، من أهم أشكال الفن التشكيلي عبر العصور ، لما تستثيره من للحواس، وتفعله من الخيال البشري، و ربما تغير القناعات الذوقية، وتفكك شيئا من تحجر الوعي نحو الفن.
والحقيقة انني بمتايعتي لمهرجان فني للمرة الاولى حزيران الماضي في مدينة سيدي بوسعيد التونسية الجميلة وهي ربوة مطلة على البحر الأبيض المتوسط شمال العاصمة تونس، وبدورته الأولى كما اظن والمسمى ”أرض الفن“ الذي عرضت فيه اعمال مبدعين من داخل تونس وخارجها، في مجالات إبداعية شتى. كنت حضرت مرة قبلها معرضا فنيا في كل من لبنان وتركيا ، لكني لم اكن الا زائرا عابرا ، لكن هذه المرة الامر كان اكثر جدية و اردت ان انظر بعين الناقد او ان اصدقائي ارادوا مني ذلك.
تفحصت هذا الفن “التشكيلي” الذي ساهم لاشك في تقدم العقل البشري الجمعي، عبر توالي القرون، و تاملت قدرته الفائقة على محاكاة الوعي عند المتلقي والانسان عموما، وتبديل نظريات مهمة حول الطبيعة و الكون، وفرضيات الوجود و ماوراءه وما امامه من مستقبل في بريشة رسام او ازميل نحات او مبرد مزخرف او إبرة خزاف فادركت ان القيمة الجمالية لما يصنعون ، تشرعض للحياة البشرية ابوابا وتزودها بمساحة الإمساك بصورة قد تختفي بعد حين او بصنعة قد تندثر بعد زمن ، فيحول هذا الفن دون ارتباك سير الأفكار.البشرية وتراكماتها وتسلسلها الابداعي ، كما يحول الشاعر دون ضياع معاني اللغة السامية ، ولولاهما لما زلنا لانرى من الطبيعة الا الجبال والبحر والسماء و لما علمنا من اللغة الا الام
والاوامر والمحاورات .
بعيدا عن التأثير الجمالي لما اضفاه مبدعو ومنظمو المهرجان من عروض فلكلورية لـ ”العيساوية“، وهي من الفرق الصوفية المنتشرة في الساحل التونسي، و”خرجة“ سيدي بوسعيد.وكلها طرق احتفالية مرتبطة بالأولياء الصالحين، توثّق لتقاليد تلك الجهة وتؤرّخ لسيرة ذلك الولي ومآثره،قرب (سيدي بوسعيد) شبيهة بما يفعله الاتراك في كونيا مع ضريح مولانا جلال الدين.
ففي صراع الإنسان مع قناعاته والتناقضات من حوله والتفاصيل من ورائها، يحاول الهرب إلى مشهد آخر دوما، مغاير لما هو في الواقع، يهديه فرصة أخرى لرؤية الحياة، ولان الفنانين يعتقدون ان الخيال لا يمكن فصله عن الواقع، و هو فعلا جزء من الواقع “فلسفيا” ،يرى بابلو بيكاسو مثلا ان: ”كل ما تستطيع أن تتخيله، هو حقيقي“ ولذلك اظنهم اغرقوا في الخيال فرسموه “سورياليا” و نحتوه “رمزيا” و خطوه و زخرفوه وصوروه ونقشوه و حاكوه واقعيا و كلاسيكيا.
دهشت من كمية الفن وحيوية الفنانين وعمق ايمانهم بما يفعلون وصدق مشاعرهم بما يبدعون و ان بدا لنا كثير من ذلك -نحن الغرباء عن ضمائرهم المبدعة- امرا عصيا على التذوق فضلا عن الفهم.
و انا وان اعجبت كثيرا بما عرض من فنون وما يعرض وابديت رايا ايجابيا وربما – وكما طلب مني- نقدا فنيا عابرا، و باعتذاري عن ان اخوض احترافيا بفن لا اتقن معاييره كما يظنونني مع الشعر والادب وفنون الكلمة والكلام. وحين الح علي بعض من دعوني وبعض من اصدقائي شرحت ترددي بما رايته من لوحات او اعمال اراها لامعنى لها ، قلت: أراني اما جاهل بما تصنعون- للبعض قصدت- او انكم اذخلتم على فنكم ما ادخله على فننا الشعراء الحداثويون ، فلست افهم منهم ولامنكم ، قال احدهم وكان من انصار المذهب الانطباعي او الوافعي وهما اكثر قدرة على الافهام : معاذ الله ان تكون جاهلا فقد رايناك مطلعا على كل الفنون وتفهم في تذوقها وتمييزها ، قلت : فلم؟ قال: نعم هي الحداثة عند بعض الرسامين والنحاتين والخزافين . قلت : فهل ياترى يعرفون ما يقصدون ؟ ضحكوا من سؤال يبدو بريئا ولكنه قاس.
قلت وكانوا مجموعة من نقاد وفنانين واقفين متحلقين: في أحد المعارض الفنية كمعرضكم الجميل هذا عرضت لوحات وقف اصحابها بجانبها ينتظرون المشاهدين والصحافيين والنقاد المتخصصين ، فتكلم النقاد عن الاولى والثانية تباعا على الجدران والقنوات تصور ، وفسروها جميعا للمتابعين ، الا لوحة واحدة توقفوا عندها طويلا وكان صاحبها يجلس بعيدا منزويا متفكرا كاعلى مايكون عليه المبدعون .
احتار بها النقاد والصحفيون في الانتظار وكانت لوحة بيضاء الخلفية مقسومة بخط افقيا الى نصفين رسم على اليمين ست نقاط وعلى الشمال نقطة واحدة مدورة بلون اسود .
قال ناقد: اظنه قصد عجائب الدنيا السبع بطريقة رمزية فست منها في شرق الدنيا وواحدة في غربها ، فاندهش الحضور و ايدوا ، قال الاخر معترضا: بل اراد قوى الشر والخير ففي العالم الشرقي كذا وفي الغربي كذا ، وقال الاخر بل هو الرسالات السماوية التي يفتقر الغرب اليها وتوزعت في الشرق ،، واحتدم الخلاف ،فذهب الجميع الى الرسام الكردي العراقي صاحب اللوحة ليسالوه،
قال الصحافيون : اختلف النقاد بلوحتك هل اردت بها ست عجائب في الشرق وواحدة في الغرب ام كذا ام كيت؟
قال: يا اخي لا ادري اين الغموض في لوحتي ،،انا رسمت (شَشّ ابو اليَكْ).

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب