قبل أكثر من ربع قرن تعرفت إلى جاري الحاج ريسان وهو عراقي أصيل وينتمي إلى إحدى العشائر الكريمة , ورغم انه يكبرني سنا إلا إن ما كان يجمعنا معا هو الجيرة وحب القراءة ومتابعة أخبار السياسة والاقتصاد والثقافة وغالبا ما كان يستعير مني بعضا من كتبي ولا يعيدها في الوقت المحدد , وقبل سنوات كثيرة تولدت لديه الرغبة في إكمال دراسته الجامعية وكان يطمح لان يكون ضابطا في الجيش بعد أن يكمل دراسة التاريخ باعتباره متطوعا في الجيش برتبة نائب ضابط , ومن واجب الجيرة والصداقة والاحترام للطموح فقد شجعته كثيرا لإكمال دراسته التي أنهاها فعلا في الجامعة المستنصرية ضمن الدراسات المسائية .
وبعد أن أنهى دراسته هجر فكرة التحول إلى ضابط حيث أكمل خدمته وأحيل الى التقاعد واختار حياته في القطاع الخاص عندما امتلك كازينو ومطعم في إحدى المناطق الشعبية في المنطقة التي تعرفنا فيها على بعض , ورغم إنني تحولت من دار سكني السابق ولم اعد جارا للحاج ريسان الذي تحول إلى اسم يشار له بالبنان في الثقافة ورجاحة العقل إلا إن علاقتنا لم تنقطع , وعندما تطول غياباتي عن الذهاب للكازينو التي يمتلكها نتحادث هاتفيا وغالبا ما تطول محادثاته لأنه كمن يحمل هموم الوطن على كتفيه , وقد اتصل بي يوم الأربعاء الماضي طالبا أن نرتب للقاء سريع وأحسست بان هناك أمرا عاجلا قد دعاه لذلك اللقاء فوافقت على أن نلتقي في اليوم التالي وان يكون بضيافتي في البيت .
وحين التقينا وجدت في عينيه تحديا وحيرة فبادرته بالحديث قائلا اامرني حجي فقال لاتهزأ مني فانا أريد الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية , واعتقدت انه يمزح معي ولكن حديثنا معا اظهر إصرارا منه على الترشيح فعلا وطلب مني أن نراجع الدستور وقانون الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية للتأكد من توفر جميع الشروط اللازمة للترشيح , فقرانا المواد 67-75 من الدستور كما راجعنا شروط الترشيح فوجدناها مطابقة فهو عراقي أصيل وحسن السيرة والسمعة والسلوك وحاصل على شهادة البكالوريوس في التاريخ بدون تزوير وليس لديه قيدا جنائيا ولم ينتمي يوما إلى حزب البعث أو غيره من الأحزاب وصحته والحمد لله عال العال رغم انه في منتصف الستينيات من العمر.
وسألته من الذي ادخل هذه الفكرة إلى عقلك , فقال لقد أعلن الدكتور سليم الجبوري عند تسلمه منصب رئاسة مجلس النواب عن فتح باب الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية لأي عراقي وخلال ثلاثة أيام تبدأ من صباح يوم الخميس 17 / 7 / 2014 , فقلت له لكنك تعلم ياحجي إن هذا المنصب مخصص للأكراد وان الفوز فيه يتطلب الحصول على ثلثي أصوات أعضاء مجلس النواب وأنت لامنها ولاعليها فهل تريد أن تحرج نفسك ولا تحصل على أي صوت , فضحك وقال أولا لماذا ( يكذب ) رئيس مجلس النواب في أول يوم لاستلامه لهذا المنصب ويدعوا العراقيين جميعا للترشيح بغض النظر عن القومية والمذهب والجنس أو غيرها من الأمور إذا كان المنصب محجوزا للأكراد ولماذا يخالفون الدستور الذي لم يقول إن المنصب مخصص للأكراد أو لغيرهم ولماذا أنت خائف من عدم الحصول على أي صوت فربما البطاقات الباطلة تذهب لصالحي ويحصل ما لم يكن في الحسبان .
ورددت عليه مرة أخرى حجي تره المناصب كلها اتفاقات , فأجابني قائلا نحن الذين علمناهم على هذا وربما هذا سيسري في موضوع أو أكثر خلال السنة الحالية ولكن مجلس النواب الحالي سيكون صعبا في حصول الاتفاقات , فقلت له كيف فأجابني لقد أثبتت جلسة انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبيه ذلك , أليس الأمر كان في الاتفاق؟ , فقلت له نعم فقال ولكن سليم الجبوري لم يحصل سوى على 71% من الأصوات وحيدر ألعبادي لم يحصل في الجولة الأولى إلا على 55% من أصوات الحاضرين ولم يحصل على النصاب القانوني وكاد ألجلبي أن يطيح به لولا انسحابه والنائب الثاني حصل على 63% من الأصوات فأين التوافق إذن من هذه الأرقام ؟ فالتوافق معناه بان تكون النسبة 100% أو 98% إذا أردنا إعطاء احتمالية للأخطاء غير المقصودة .
ولذهولي من الأرقام التي عرضها سألته بتواضع التلميذ وماذا تعني لك هذه الأرقام ؟ فأجابني إن الظروف الأخيرة التي حصلت في العاشر من حزيران وما قبلها وبعدها كشفت المستور فالكتل غير منسجمة مع بعضها البعض وداخل الكتلة الواحدة لم تعد الطاعة عمياء , والأعضاء الحاليين اغلبهم من الدورات السابقة وتراكمت لديهم خبرات والأعضاء الجدد قد عرفوا لعبة البرلمان وإلا لما تسنى لهم الفوز وسط العدد الكبير جدا من المرشحين , وأضاف قائلا إن من كان يطالب بحكومة أغلبية وليست الشراكة قد أدرك هذا الأمر مبكرا لان حكومة الشراكة سيصعب عليها تمرير ما تريده من خلال مجلس النواب بينما الأغلبية تضمن لها سلاسة التمرير, ولان رئيس مجلس الوزراء القادم سيكون من الشراكة لصعوبة التوافق على الأغلبية فانه سيعمل في ظروف غاية في التعقيد لأنه لا يستطيع أن يضع مجلس النواب في ( جيبه ) ويمرر ما يشاء من تشريعات وقرارات وجلسة الانتخاب أثبتت ذلك بالملموس .
ونظرت إلى حجي ريسان وسألته معاتبا ( شنو حجي صاير سياسي من وراية ومتكلي ) فأجابني بقسم , لا والله ولكن شعبنا مهما كان بسيطا في تعلمه وثقافته ومستواه المعيشي لكنه بات يعرف كل شيء وإذا كان السياسي يعتقد بأنه يمكن أن يمرر على الشعب أي شيء فانه ( غشيم ) وواهم لان السنوات الماضية بما احتوته من فشل وانجازات وفساد وضحك على الذقون قد أبصرت الجميع بالحقيقة , ولكي أغير الموضوع سألته عن مدى جدية رغبته في الترشيح إلى رئاسة الجمهورية فقال نعم وعليك أن تساعدني في انجاز هذا الموضوع , واعلم إنني سوف لا أفوز وقد لا احصل على أي صوت سوى بعض الأصوات المتطايرة من البطاقات الباطلة ولكن يجب أن يتعلم شعبنا الغاية من ترشيحي , وهي التمتع بالحق الدستوري فالدستور رغم ملاحظات الجميع بشأنه لم يفصل على مقاسات الأكراد والسنة والشيعة وغيرهم ولكن السياسيين هم الذين اختلقوا هذه ( الحيل ) لكي يستفيدوا هم وليس الشعب , فالمحاصصة المقيتة لم توضع لخدمة الشعب بل لخدمة الطائفيين والشيفونيين ومن لا يمتلك القدرة على صيد سمكة يفرغ الماء من النهر لكي يمسك بالسمكة بدلا من صيدها .
وكان ألحجي يقصد من مثال صيد السمكة هو غياب الكفاءات عن بعض المناصب التي يجب إن تسهم في صناعة الحياة للناس فبعضهم ليسوا أهلا لتلك المناصب ولكنهم يمارسونها بطريقة المحاولة والخطأ واختيار اغلبهم قد تم على أساس الانتماءات , ولكي لا اسبب الإحباط لصاحبي فقد أقنعته بإرجاء اتخاذ القرار النهائي بخصوص ترشيحه إلى منصب رئيس الجمهورية لحين مناقشة الموضوع بشكل أوسع مع بقية الأصدقاء بلقاء يجمعنا يوم الجمعة أثناء الفطور مادام هناك متاحا من الوقت , وبصراحة إنني سأنصحه بالعدول عن رغبته لا لحجب الفرصة الدستورية عنه بل لترك المجال لمن هو أكثر جدارة , فالتأسيس للممارسات الصحيحة لايكون من خلال المشاكسة فحسب بل من خلال وضع الشخص المناسب في المكان المناسب على أساس الكفاءة والولاء والترفع عن الذات بعيدا عن المحاصصة والمزايدات , وعندما يكون الاختيار لأي منصب على الأسس الموضوعية سيكون موضع فخر للعراقيين جميعا من أينما يكون , رغم علمي ( شبه ) الأكيد بان رئيس الجمهورية القادم سيكون من أشقائنا الأكراد إذ سيتم اختياره من قبلهم حصرا وما على الآخرين سوى التصويت في جولة أو أكثر لغرض التزكية فحسب .