18 ديسمبر، 2024 11:42 م

حجارة تكتسي بالذهب وبشر يأكلون القمامة

حجارة تكتسي بالذهب وبشر يأكلون القمامة

سألت أحد سدنة مسجد الإمام الحسين في القاهرة عن الشبّاك الفضي المحيط بالمقام , فقال لي إنه هدية أتت بها من الهند  طائفة البهرة – وهم فرقة من المسلمين الشيعة – في مطلع ستينات القرن الماضي إثر صدور فتوى من شيخ الجامع الأزهر محمود شلتوت – رحمه الله – أجاز فيها للمسلمين التعبّد على مذهب الإمام جعفر الصادق باعتباره خامس مذاهب الفقه الإسلامي , وقد أسبغت تلك الهدية على المقام فخامة ميزته عن سائر المقامات العلوية التي تزخر بها مصر والتي تلقى من أهلها التعظيم والاحترام انسجاماً مع تعبّدهم على مذهب الإمام العربي الكوفي أبي حنيفة النعمان الذي يزوّر تجار الدين تاريخه السياسي الناصع ويضعونه كذباً كنقيض لأستاذه الإمام جعفر بن محمد ؛ وفي واقع الأمركانت رموز آل بيت النبوة في مصر مصدر خير وبركة لأهلها , فأطلقوا على أعظم جوامعهم وعلى إحدى كبرى  جامعاتهم اسم الأزهر تيمناً ببنت نبيهم فاطمة الزهراء , كما أنهم نزهوهم عن الصغائر فلم يزجّوهم في معاركهم السياسية , ولم يتخذوا من مآسيهم الدامية أبواباً للتربّح أو منفذاً للفتن , ولم يجعلوا منهم عبئاً روحياً أو دنيوياً على كاهل البسطاء ولهم في ذلك مثل يقول”ما يحتاجه البيت يُحرّم على الجامع ” , وكانت نذورهم وصدقاتهم وعطاياهم المبذولة تثوّباً لأرواح آل البيت , تذهب جميعها للفقراء و المحتاجين وليس لعصبة معممين من ذوي الرقاب الغليظة والكروش المتهدلة والذمم الواسعة كالذين ابتلي بهم العراق وتعج بهم مؤسسات السلطة و دوائر الوقف الشيعي وصحون العتبات المقدسة و أبوابها .
  كانت ديانات الهند الموغلة بالقدم هي أول من ابتدع كسوة الرموز الدينية بالفضة والذهب والزخارف , تشهد بذلك تماثيل بوذا المصنوعة من الذهب الخالص , ومعابد طائفة السيخ التي تنتصب تحت قباب مكسوة الذهب , ثم اقتبسها عنهم أتباع الديانات التالية كالمسيحية والاسلام لتنتقل من هناك إلى ايران وتصل إلى العراق سنة 1793 على يد آغا محمد خان سلطان الدولة القاجارية الذي كان أول من طلى قبّة الروضة الحسينية بالذهب , ومن بعده سرت تلك الظاهرة إلى قباب ومنائر وشبابيك مراقد آل البيت على يد خلفائه في الدولة القاجارية والبويهية والبهلوية وأخيراً الجمهورية الإسلامية التي استبدل ممثلوها بالأمس شبّاك المرقد الحسيني الذي كان هدية من مسلمي الهند , بشبّاك أضخم وأفخم جرى تصميمه في مدينة أصفهان الايرانية , وقد دخل في صناعته الذهب والفضة والنحاس والخشب والفولاذ بكلفة اجمالية بلغت حوالي خمس وعشرون مليون دولار , وهنا يجدر التوقف عند مسألتين :
الأولى – إن تجديد شبّاك المرقد الحسيني يتجاوز كونه مسألة دينية ليرتبط بالسياسة وبالتاريخ والفلسفة , فالإمام الحسين بالذات كان ومازال عنواناً اتخذ منه الشعوبيون عبر التاريخ حجة لتقسيم الأمة إلى طوائف متناحرة تعيش حبيسة الماضي غير ملتفتة للحاضر ولا عابئة بالمستقبل , واليوم تستغل دولة الولي الفقيه رمزيته الرفيعة  لدى العراقيين فتزايد عليهم وتستخدمه سياسياً كإحدى أدوات قوتها الناعمة لتقويض وحدتهم والتسلل إلى عمق نسيجهم الوطني , من جهة ثانية فإن التشيع العربي يرى في الإمام الحسين ثائراً انتفض انتصاراً لحقّ الأمة السياسي في اختيار قيادتها ونظام الحكم فيها , وطلباً للعدل الاجتماعي والمساواة بين الناس كما فرضهما الإسلام , وقد مضى إلى الشهادة في سبيل تلك المباديء عن وعي وإدراك ورضا , بينما هو في عقيدة التشيع الإيراني مسيح ثانٍ ضحى بروحه فداء لخطايا الناس , وتتحمّل الأجيال اللاحقة من عرب العراق وزر تخاذل أجدادهم عن نصرته بالضبط كما يحمّل بعض المسيحيين يهود اليوم وزر ما ارتكبه أسلافهم بحق المسيح قبل ألفي عام ! و قد نسخ التشيع الإيراني من حضارات فارس والهند القديمتين طقوساً ومواسم لإحياء سيرة الحسين أقل ما يقال فيها أنها جعلت من الدين الإسلامي شيئاً آخر غير الذي بشّر به النبي محمد ؛ ولقد كان غريباً ألا يبادر شيعة النظام في العراق إلى الاستباق لمثل هذا الثواب خاصة وأنهم ينهبون ويسرقون البلاد والعباد باسم الحسين وأبي الحسين وأخي الحسين , فضلا عن أن كلفة الشبّاك الجديد لا تعدو قطرة في بحر سرقات وعمولات رجالهم أمثال عبد الفلاح السوداني أو صفاء الدين الصافي أو ابراهيم الجعفري أو بهاء الأعرجي أو عادل محسن !
الثانية – لم يكن لهذه الزخارف ونفقاتها الباذخة أن تزيد شعرة من قدر الإمام الحسين , فالرجل بتاريخه البطولي وبنسبه الأشرف وبسيرته العطرة التي تحاكي سيرة الأنبياء قد احتفظ لنفسه موقعاً في سجلات الشرف الإنساني ليس بوسع عدو أن ينال منها بمثل ما أنه ليس بمقدور محبّ أن يزيد فيها , ناهيك عن أن الاسلام الذي عرفه الحسين متأسياً بسيرة جدّه النبيّ  وأبيه الإمام هو دين بساطة وأقرب للزهد و التقشف ويتعارض بشدة مع هذا الإسراف السفيه والباذخ الذي وصل حدّ كسوة أحجار قباب ومآذن وشبابيك الأضرحة بالذهب والفضة والزخارف في وقت يعاني فيه ملايين العراقيين ومسلمي العالم من الجوع والمرض والجهل والتخلف.
ماذا لو كان الحسين معنا واطّلع على المشهد اليومي لأطفال وعجائز وهم يبحثون عن قوتهم في أكوام القمامة في بلد تعوم الأضرحة فيه على ثروة هائلة تكفي لإعالة الملايين من الجوعى والمشردين ؟ ليس من شك أنه سيعاود امتشاق سيفه ليضعه هذه المرة في رقاب منتحلي الانتساب إليه و معممين دأبوا على الاتجار بدمه , وأنه سيجبر كسور ليس فقط من هم من شيعته أو من دينه , بل كسور كل نظير له في الانسانية .