اليسار انتقل من فاعل أساسي في النقاش إلى موضوع أساسي للنقاش. تحل تلك النقاشات حول أزمة اليسار وسط مخاوف من انقراض النوع اليساري، وتبدد الأمل في الخلاص الدنيوي.
ليس من المبالغة في شيء أن نبدأ القول باستنتاج غير مطمئن: إذا ما بقي الحال على هذا النحو فإن مآل اليسار العالمي متجه لا محالة إلى الانقراض. على أن الأمر هنا لا يتعلق بخبر جيد، سواء بالنظر إلى مستلزمات التنمية السياسية، أو الحاجة إلى دعم الفضاء العمومي وتفعيل المجتمع المدني. ولا يبدو الخبر سارا حتى مع علمنا بأن الحياة ميتات، وأن الحياة السياسية نفسها لكذلك، ميتات سياسية، وبأن الأشياء القديمة لا تموت إلا لأن هناك أشياء جديدة تولد.
أليس اليسار نفسه من علمنا هذا؟ غير أننا نعلم أيضا بأن اليسار الذي نجح دوما في تجديد آلياته، وتدبير ميتاته، لا سيما داخل المجتمعات الغربية المتقدمة والمفتوحة، وتحديدا إبان حقبة “الثلاثين المجيدة” (1945- 1975)، كـان حقلا خصبا لإنتاج الأفكار الجديدة في كافة المجالات تقريبا: حقـوق الإنسان، المرأة، البيئة، الفضاء العمومي، الأقليات، الفلسفة، إلخ. وهذا ما يجعلنا نفترض بأن الخسارة قد تكون كبيرة هذه المرّة. من يدري؟
لعل الأمر يتعلق بتلك العدمية المقيتة التي بدأ يتوقعها ميشال أونفراي بحس دراماتيكي مثير للجدل. أو هذا ما نخشاه في كل الأحوال. والحال أن تاريخ اليسار يبدو كأنه ليس فقط تاريخ أفكـار كبرى، وإنما تاريخ خيبـات كبرى كذلك. فإن الملاحظ على الدوام أن اليسار ما أن يرسم أفقا بشريا جديدا حتى يكون هو أوّل من ينقضه ويقوضه، مثل ذلك الطفل الذي يشيد قصورا من الرّمل المبلل على الشاطئ، ثم سرعان ما يهدمها بنشوة التحرّر.
لقد انهارت تجربة حركات العولمة البديلة بسرعة قياسية بعد حياة حافلة وعمر قصير لم يتعد عشر سنوات، ولم تخلف في الحساب الأخير سوى بقايا آثار بلا أثر يذكر.
أما الأمل الكبير الذي فتحه ذات يوم الرئيس البـرازيلي الأسبق لـولا دا سيلفا، منذ صعوده إلى رئاسة البرازيل عام 2002، فقد تبدد بدوره حين أوشك الاقتصاد البرازيلي على الانهيار عقب نمو قصير الأمد، ووجد الرجل نفسه في قفص الاتهام بعد أن وجهت إليه المحكمة تهمة الفساد المالي.
حتى تجربة بوديموس في إسبانيا التي فتحت فجوة في أفق الانسداد، وشدت أنظار يساريي العالم، وأحيت آمالهم، فإنها توشك أن تسقط في أتون انشقاقات قاصمة للظهر. وكذلك القول عن تجربة ائتلاف اليسار الراديكالي في اليونان (سيريزا) التي فتحت لفترة آمالا عظيمة بعد صعودها إلى الحكم عقب انتخابات 2015، ثم دخلت في دوامة الانحسار بعد فشلها الذريع في إدارة معركة التقشف. في الأخير صارت كل الآمال تبدو كأنها مغـدورة. أما اليسار في أوطاننا، والذي كان قادرا على الصمود في وجه أشرس الضربات القمعية، فيبدو اليوم كأنه لا يقوى حتى على الوقوف على قدميه، وما عاد منتصب القامة يمشي. لكن المعضلة، حتى لا نحمل يسارنا أوزارا تتعداه، تبقى دائما في الأفق الكوني. وإلى ذلك الأفق يجب أن ننظر.
في مرحلة تتسم اليوم بالثورة العلمية الجذرية، والتي ستغير لا محالة من مفهوم الطبيعة البشرية، ومن خصائص النوع البشري، جراء الدمج بين ثلاثة علوم أساسية، الهندسة الوراثية، وعلوم النانو، والذكاء الاصطناعي المتطور، وفي الوقت الذي يبدو فيه القطاع الخاص وليس الدولة، هو الفاعل الأساسي في توجيه مسارات هذه الثورات العلمية التي ستغير مصير الإنسان بصفة قطعية ونهائية عبر التعديل الوراثي للنوع البشري، وإعمار الفضاء والذهاب إلى السكن خارج الأرض، والذكاء الاصطناعي الخارق، إلخ، فإن اليسار العالمي الذي كان يمثل فضاء النقاش حول مصائر الإنسان، ومستقبل الحياة، وسيرورة المجتمع المدني العالمي، يبدو لأول مرّة كأنه غائب عن الأفق الإنساني والكوني الذي نحن سائرون نحوه بنحو مذهل.
لقد اعتمد اليسار في نظرته إلى النوع البشري على رؤية منحدرة من الديانات الإبراهيمية وفلسفات الأنوار على حد السواء، وتقوم على أساس أن الإنسان قد خُلِق بالشكل الأنسب على الإطلاق، ووُضِع في المكان الأنسب على الإطلاق، سواء لأن اللـه خلقه على صـورته، أو لأنّ الطبيعة طيبـة وعادلة ومنصفة من تلقاء نفسها، أو لأن الإنسـان هو أرقى ما أنتجه تطـور الحياة.
غير أن المسلمة الأساسية التي تقوم عليها الثورات العلمية الجارية اليوم تستند إلى فكرة جديدة، مفادها أن الإنسان لا يجب أن يرضى بمـا منحته الطبيعة؛ فإنهـا ظالمة له شحيحـة عليه، تتركه هشا أمام الفيروسات والجراثيم والأمراض والشيخوخة والموت.
لكن لا ننس أيضا بأن الأديان نفسها تحمل، في آخر التحليل، بذور النظرة إلى المرض والشيخوخة والموت من حيث هي أعراض عقابية جراء الخطيئة الأصلية، أكثر ما هي حقائق متأصلة في الطبيعة الآدمية. عموما فقد باتت روح العلـم تنظر إلى “إنصاف” الإنسان باعتبـاره وظيفـة العلم أولا، والسياسة ثانيا، لا الطبيعة.
لكن، ليس السؤال هنا أن نكون مع أو ضد، فالواقع أن الثورات العلمية الجارية قضاء لا راد له، إنما المسألة أن اليسار يبقى لأول مرة غائبا، بل لعله الغائب الأكبر عن مجاله النظري: تأطير أفق التقدم الإنساني بأفكار ومفاهيم وقيم تمثل نوعا من الخلاص الدنيوي.
كل ما هناك نقاشات حول أزمة الأحزاب اليسارية نفسها، وعوامل تراجع قدراتها الإشعاعية والتثقيفية. بمعنى أن اليسار انتقل من فاعل أساسي في النقاش إلى موضوع أسـاسي للنقاش. تحل تلك النقاشات حول أزمة اليسار وسط مخاوف من انقراض النوع اليساري، وتبدّد الأمل في الخلاص الدنيوي، وفي مستقبل إنساني أفضل.
غير أن أزمة اليسار العالمي تبقى في إحدى أوجهها أزمة الفاعلية السياسية والدينامية التشريعية أمام الثورة العلمية الجارية والتي دخلت في مرحلة السرعة النهائية نحو حضارة إنسانية مختلفة.
إذا كان الأمر كذلك، فمن الملاحظ أن معظم ورشات النقاش حول أزمة اليسار لم تتجاوز الجوانب السياسية والتنظيمية والانتخابية، وما قد يشمل ذلك من مسائل تتعلق بالتحالفات والمواقف المعلنة من السلطة والدولة والمؤسسات الدولية، وما إلى ذلك، غير أنها لا تشمل الجوانب النظرية والأبعاد الفكرية التي من شأنها أن ترقى إلى مستوى تحديات الثورات العلمية الراهنة، وأن تساعد الإنسانية على التحكم في قدرها المشترك. أليست هذه هي القضية الكبرى لليسار العالمي؟ فهل نسي ذلك؟
نقلا عن العرب