18 ديسمبر، 2024 7:03 م

أعلم تماما مدى صعوبة الحيادية في أجواء الازمات و الحروب و أعلم يقينا أنه توجد بعض المهن، تصبح الحيادية فيها جوهر المهنة ، لصلتها المباشرة بشرف المهنة و شرف الممارس للمهنة شخصيا و أمانته. مثل الطبيب و الصحفي و المترجم و بعض المهن الاخرى.
المهنة التي أنا بصددها هي مهنتي، الترجمة الشفهية و الفورية و التي درستها على ايدي اساتذة من النرويج و الدانمارك بالاضافة الى خبرتي الشخصية بالخطاب السياسي.
مقارنة لفهم خطورة الكلمة، الخطأ الطبي قد يؤدي بحياة انسان أما الخطأ اللغوي قد يؤدي الى أزمة أو حرب.
أذكر أن كثير من اساتذتني في علم الترجمة ابتدئوا محاضراتهم بهذه الجملة
(( انسى الكلمات و تمسك بالمعانى )). هذه النقطة تتعلق بالحيادية و التي نسميها في علم الترجمة الحيادية المطلقة ، و هي جزء لا يتجزأ من واجب سرية العمل في مهنة لا يستطيع الاطراف التأكد من مواصفات المنتج. فهم يعتمدون على خبرة المترجم و أمانته في نقل النص.
في محاضرة للاستاذة هاننا سكودن قالت فيها ” يجب أن يكون المترجم منحازا لكلا الطرفين، بمعنى آخر أن المترجم سيكون منحازا لكلا الطرفين بنسبة 100%.
في زيارة للعراق قبل عدة سنوات، قمت خلالها ببحث عن السلطة الرابعة و تأكدت أنها سلطة للبيع و الشراء حالها حال السلطة التنفيذية في البلد. معظم السياسيين يستخدمون الصحافة بطريقة سيئة، و لا يدركون أهمية الحيادية في نقل الاخبار و خطورة تضليل الرأي العام. بل على العكس يستخدمون التضليل و التسقيط بطريقة ممنهجة تجاوزت كل الخطوط الحمراء.
سألت صديقي الروائي و الصحفي نوزت شمدين قبل عدة ايام في حوار معه في ندوة عامة، و هو رجل ذو خبرة طويلة في الصحافة و عمل في عدة صحف و قنوات فضائية عراقية و لسنوات طويلة.
_ هل هناك سلطة رابعة في العراق، صحافة حرة تماما و من هي إن وجدت؟
_ نعم موجودة، إنها موقع باشطابيا الذي اديره بنفسي هنا في النرويج و انا رئيس جمهوريته.
_ ألا تعلم بوجود غيره؟
_ لا يوجد.
رغم خطورة عدم حيادية السلطة الرابعة إلا أنها لا تصل الى مستوى خيانة المترجم لضميره و لاخلاقيات مهنته.
نشهد في هذه الايام حرب كلامية و ازمة سياسية بين الحكومة المركزية و حكومة اقليم كردستان.
الشعب العراقي كله برمته كان ينتظر كلمة الرئيس مسعود برزاني و لقائه و ينتظر كل كلمة يتلفظ بها لأن كلامه يعني الكثير لمستقبل المنطقة و ستكون كلماته توقعا لتداعيات المرحلة المقبلة، بغض النظر إن كانت مطمئنة أم مقلقة.
من حق العراقيين الناطقين بالعربية أن يفهموا جوهر الصراعات السياسية. ومن حق الشعب الكردي كذلك أن يفهم كلمة الرئيس حيدر العبادي. خطابات نارية و تصعيد و تهديدات على الهواء، و شعب مترقب لما ستحمله الايام المقبلة، و مترجم ينقل الكلام وفق ادراكه و رغباته كما يشاء دون رقيب أو حسيب.
غير دارك أنه ليس من واجبنا كمترجمين أن نقدم السيد الجعفري كـ ديكارت عصره سهل أو جعل خطاب الخزاعي حمامة سلام لأننا نحب السلام.
من حق الشعب العراقي و بكل أطيافه أن يفهم السجالات السياسية و حتى المهاترات بطريقة صحيحة تتسم بالحيادية و عدم انحياز، و الأهم أن لا يظهر رأي المترجم في الحديث و لا حتى من خلال نبرة صوته.
الذي حدث خلال الايام الماضية كان فضيحة مدوية في مجال الترجمة. لم يمسك المترجم بالمعنى الحقيقي لكلمات الرئيس مسعود. في علم الترجمة نتحدث عن تأثير الكلمة، بمعنى لو كان التعبير فيه شئ من الفكاهة باللغة الكردية فيجب أن يكون مضحكا كذلك باللغة العربية، كثير من المترجمين كانوا بعيدين تماما عن شروط الاحتراف في هذه المهنة.
الذي حدث في القنوات الممولة من الجهات المعارضة لسياسة الاقليم، هو أن المترجمين فيها قاموا إما متعمدين أو عن جهالة بتحويل كلمة الرئيس مسعود البرزاني الى كلمة ركيكة غير متماسكة من جهة و من جهة أخرى أخفقوا تماما في نقل المعنى الصحيح.
تنقلت بين القنوات التي قامت بنقل اللقاء التلفزيوني و مع الاسف كنت انتقل بين مترجمين سيئين، فكان الخيار أن استمع الى افضل السيئين.
ولم أستمع الى كلمة العبادي باللغة الكردية لكي أحكم على التنرجمة.
قال المترجم الشهير في قناة الجزيرة موفق الخالدي في حوار صحفي معه عن قدرات المترجم:
” من اخلاقيات المهنة ان لايقبل المترجم ان يترجم لمؤتمر اقتصادي مثلا اذا لم يكن لديه المام بالموضوع فقط للتظاهر بانه يستطيع الترجمة او مقابل منفعة مادية او تحقيق شهرة فيجب ان يعتذر عن العمل اذا شعر بانه غير قادر او غير ملم بالموضوع ”
في ظل الازمات و في أجواء الحرب يصبح الفرق بين كلمة ” يجب ” و كلمة ” علينا ” شاسعا. و احيانا يتحول المعنى من مناشدة للسلام الى تهديد مبطن بالحرب.
من حق الحكومة المركزية و الشعب العراقي أن يدرك و يفهم تماما ما قاله الرئيس مسعود البرزاني كما جاء في نص خطابه و في أي سياق جاءت الكلمات.
أما أصحاب القنوات الفضائية فلو أثبت أنهم قد تعمدوا أو أهملوا في التحقق من قدرات المترجم فيجب أن يقدموا الى المحاكم.
أما بالنسبة لأداء المترجمين، إذا كانت الترجمة عن جهل باللغة فهذه مصيبة و ان كان متعمدا فالمصيبة أعظم.
هذه خيانة ليس لفئة معينة من فئات الشعب العراقي بل هي خيانة وطن و أمة بالكامل.