أن المؤمن الحقيقي غير الأمي، والمتعلم الذي يقرأ ويفهم ويعرف أن في الدنيا شعوبا غير شعبه، وبلادا واسعة غير بلاده، وأديانا كثيرة غير دينه، وأن لكل أمة وملة أخرى حقوقا كحقوقه في الأمن والحرية والسلام، لابد أن تملأ روحه الرحمة وعقله الاعتدال، وأن يكون قد نزع من نفسه الحقد والضغينة والعنف وثقافة الانتقام. ولكنه ولكن أمثاله خارجون على المألوف، وملعونون إلى يوم الدين في مرجعية الطائفة ومشيخة الطريقة والقبيلة، وليس لهم بين (المجاهدين) مقام.
فهل سمعتم بأن مبدعا، أديبا أو مفكرا أو عالما أو مطربا أو نحاتا أو رساما أو لاعب كرة، أطال لحية، وقصر ثوبا، وقاد مليشيا أو عصابة، ولطم في حسينية، أو بكى و(تدروش) في مسجد أو زاوية؟
إن المشكلة ليست في هؤلاء، بل في 90 بالمئة من الذين يتوهمون أنهم متدينيون، وما هم بمتدينيين. يقتلون ويدمرون ويحرقون ويذبحون بالسكاكين دفاعا عن الله ونصرة لدين رسوله. أميون جهلة لا يقرأون. وإذا قرأوا لا يفهمون. صمٌ بكم عميٌ فهم لا يفقهون. لا يعرفون غير ما لقنهم به أميرهم ذو اللحية المدهونة بالحناء، صاحب العمامة السوداء أو البيضاء أو الخضراء التي ليس تحتها شيء.
لم يعرفوا من الدنيا سوى جدران المسجد أو الحسينية وأوامرها ونواهيها الخارجة من بطون الكتب الصُفر، وسوى فطور الصباح، وقهوة العصر، وعشاء الليل السمين، وأحلام الجنة وغلمانها وحورها العين. قساة حتى مع أبنائهم وآبائهم وأمهاتهم وأخوتهم والأقربين. لا يحترمون كبيرا ولا يرحمون صغيرا. يطربهم أنين الثكلى وبكاء اليتيم، ويملأ نفوسهم جنون القوة والسطوة والجبروت. غدارون، كذابون، منافقون، ومع ذلك فهم وحدهم المحترمون لدى الحكومة، وهم وحدهم المكرمون من المرجعية، وهم وحدهم الفائزون بجنة الفردوس.
لا تتوهموا أيها العراقيون بأن أحدا في القصر الجمهوري أو ديوان رئاسة الوزراء أو البرلمان له قيمة لدى هذه المخلوقات الغلط. فالممسكون الحقيقيون بعجلة القيادة في بلاد ما بين النهرين، في النوعين من الجهاد الإسلامي، السني والشيعي، هم حملة المفخخة والمدفع والساطور. فهم الأقوى والأكثر هيبة واحتراما من الدولة ودواوينها العامرة. أما ما عداهم من رؤساء جمهورية ووزارة، ومن وزراء وسفراء ومدراء، فمجرد موظفين مستأجرين لدى السادة، يدبجون الخطب التي تقلب غزواتهم جهادا، وخطاياهم فضائل، وضلالهم هداية. ثم تصبح، بعد ذلك، هي الدستور الدائم للدولة، وهي الوزارة، وهي دليل أمن الدولة والمدينة والحي.
وبعد كل ما جرى في عشر سنين من حكم الخنجر والساطور، وبعد كل ضراعات ملايين المظلومين والمخطوفين والمشوهين والمهجرين، وأحلامهم بالتغيير والتحرير وبرفع الأيدي الملتحية عن رقاب الفقراء والمساكين وأهل السبيل، حصل التغيير، واحتفل المرجع الأعلى وإمام الطريقة وشيخ القبيلة. ثم نكتشف، بعد انقشاع الأدخنة، أن كل شيء، في عراقنا الديمقراطي الجديد، عاد إلى أصله، وأن كل حصان رجع إلى زريبته معززا مكرما، أقوى، وأشد عزيمة، وآمنا ومطمئنا، ولا حسيب ولا رقيب.
وحتى ما حدث من حرائق وزلازل ودواعش لم يجعل رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء رئيسا، ولا الوزير وزيرا ولا المدير مديرا. فما زالت كلمة الذين لا يعقلون هي العليا، وكلمة العقلاء والفقهاء والخبراء والشعراء والأدباء والنحاتين والرسامين هي السفلى. وما زالت الحكومة تنحني وتقبل الأرض بين يدي صاحب اللحية الملونة بالحناء، وما زالت تتبارك بعباءات المجاهدين، وتستزيد من بركاتها وفتاواها وأوامرها الزاجرة.
أما رأيتم كيف؟ لم تستطع أمريكا والاتحاد الأوربي والنظام العربي وتركيا وقطر والنصرة والقاعدة وداعش و(علي خاتم سليمان) و(شركة الأخوين نجيفي) و(وكالة أياد علاوي) و(بيش مركة) كاكا مسعود وكاكا معصوم أن تمنع واحدا يقود مليشيا ويشرف على جهاد (مجاهدين) يسمى (هادي العامري) من ركوب وزارة الأمن والشرطة والمخابرات، ومن وضع ملفاتها وأسرارها وقواتها تحت إمرة قائده الأعلى قاسم سليماني.
ثم عرفنا متأخرا أن وزير الداخلية الجديد الذي حاز على مباركة نواب الشعب العراقي هو بواب مكتب هادي العامري، ما غيره.
ليس هذا وحسب. بل فرض العامري هذا (أخاه في الجهاد) محمد البياتي وزيرا لحقوق الإنسان. فمن أي نوع، ومن أي لون، ودين، وطائفة، وقبيلة، ومدينة، وقرية في العراق، ذلك الإنسان الذي سيحمي حقوقه وزير مسلح بالغازات السامة والقنبلة والسكين؟. ألم نقل لكم، أيها العراقيون، إن (العراق في انتقال)، ومن حال إلى حال، ولكن مناصفة بين سرايا (بدر) وربايا (داعش)؟ فتهانينا.
طبعا لم يتوهم أحد منا بأن حيدر العبادي طرزان يملك زمام نفسه، ويستطيع أن يتمرد ويكسر جدار البيضة التي حبس نفسه فيها منذ أن أقسم يمين الانتماء لحزب الدعوة، والاحتماء بظل المرجعية، والانتماء لسلطة ولاية الفقيه.
يحار كثيرون، ويعجزون عن الجزم، وهم يسمعون وعوده الوطنية المتفائلة التي تبدو براقة وزاهية وتبعث على الأمل. ويتساءلون، هل هو جاد، وهل هو شجاع إلى هذه الدرجة، سوبر مان، ليكون عند وعده بثبات؟
ويسألون أيضا، هل زيارته الأولى، منذ توزيره، لطهران رحلة انتزاع السيادة الوطنية العراقية من أيدي غاصبيها، أم ترسيخ لمهانتها واحتقارها؟ هل هي لمنع التدخل الأجنبي في أخص خصوصيات الوطن العراقي المقدسة، أم لمباركة انتهاكها واحتقارها من قبل المجاهدين المؤمنين، وتحريم مساسها على الغزاة الكفرة الشياطين؟ الله أعلم وصالح المطلق والنجيفي وسليم ومشعان الجبوري.
ومن هذا المنطق، ورغم أن أخانا حيدر العبادي متعلم ومتفتح ويفهم في الأصول وفي الألكترون والكهرباء، فليس في قدرته، حتى لو أراد، أن يُخلص لوطنه وحده، وأن يصبح رئيسا لجميع العراقيين وأن يمنع كل وصاية من أي وصي، مهما كان، ومن أية بلاد جاء.
فاعذروه يا عراقيون. فالأمر ليس بيده. عبد مأمور. لا يملك سوى وعوده العابرة بالأمن والعدالة وسلطة القانون، وتحرير المدن التي اجتاحها الداعشيون، أما السلطة الحقيقية في العراق، كما قلنا، فهي لهادي العامري وقاسم سليماني والمرجع والإمام وجيوش (المجاهدين)، وليس فيها موقع قدم واحد لعالم وطني عراقي كفوء ونزيه وشجاع وصاحب ضمير.
ألم تسمعوا ما قال الولي الفقيه لرئيس وزرائنا البطل حيدر العبادي؟. سر كما سار (سلفك)، ولا تغصبني وتغضب الله ورسوله وأهل بيته الميامين. (اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا، وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ، فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ).