23 ديسمبر، 2024 5:10 ص

حب ينهض في زمن الخوف – 9

حب ينهض في زمن الخوف – 9

نظر إلى أعماق عينيها وأطلق زفرة طويلة وضع فيها كل رغبته للزواج منها. ظل يحدق في عينيها دون أن ينبس ببنت شفة. أخيراً إندفع قائلاً ” إسمعي جيداً لما سأقوله…قد تكونين محقه في بعض النقاط التي ذكرتيها ..ولكن كل شخص يتصرف بالطريقة التي تتوافق مع حياته وشخصيته وأحلامه وأهدافه. أنا لايهمني مايقوله ألأخرين وكيف يفكرون. أعرف شخص تزوج أستاذته التي تكبره بخمسة عشر عاماً وحينما سألته عن السبب قال بأنه يريد أن يتخلص من حالة الفقر التي يعيش فيها إلى ألأبد. وأعرف أستاذ تزوج طالبة في الصف ألأول من الجامعة ..يكبرها بعشرين عاماً وحينما سألتها صديقتها عن السبب قالت “لأنه يشبه والدي المتوفي وكذلك لديه أموال طائلة”. إذن الدوافع متباينه. بالنسبةِ لحالتي لديَّ أسبابي الخاصة. أولها – وأنا صادق في كلامي – حينما رأيتكِ تتصارعين مع طارق لأصلاح العجلة ..شعرتُ أنك فتاة خاصة قل نظيرها في هذا الزمن. كنتِ طبيعية جداً حينما تكلمتِ مع المدير ..لم تكوني خائفة أو محرجة وكأنك تتفاوضين على شيء مهم بشجاعة نادرة. قال لي المدير ” لو أن شخص آخر طلب مني السماح لك بالخروج لما وافقت حتى لو كان وزير الصحة ولكن لاأدري لماذا سحرني كلام هذه الفتاة القروية..كان لديها من الثقة وقوة تنبع من القراءة المتواصلة ..وانت حققتِ أشياء رائعة..لقد أتقنت القراءة والكتابة وتعلمت تصليح السيارات والنجارة..فهل تستطيع فتاة الجامعة أن تعمل مثلكِ؟ هناك شيء آخر..أنني نشات في بيئة فلاحية كهذه البيئة التي تعيشين فيها. لدينا بستان كبير من الحمضيات ..والدي فلاح وأمي فلاحة. أراد أبي أن يزوجني من إحدى قريباته ولكنني لا أميل إلى أي واحدة. حاولت إحدى الزميلات في الكلية أن تتقرب إليَّ بقصد الزواج ولكنني أخبرتها منذ اليوم ألأول أننا مجرد زملاء ..تركتني بعد فترة من الزمن حينما عرفت أنني لن أتزوجها. أما بالنسبةِ لمرضك فهذا غير غريب بالنسبةِ لي لأن والدي مصاب بالربو وأحياناً يصل إلى درجة الموت حينما يكون الجو مترباً. سأبذل المستحيل لتوفير العلاج المناسب لك ..وقد نسافر مع بعض إلى الخارج للعلاج..ومع ذلك أقبلك كما أنتِ. حينما قلتِ لي بأنكِ – فتاة سبورت- تعلقتُ بكِ أكثر ..كنتِ في ذلك اليوم رائعة جداَ. لا أريد أن أقول لك بأنني أحبك ..ولكن أريد أن أقول لك بأنني معجب بك جداً وأجد نفسي أفكر بك كلما أخلدتُ إلى النوم..لقد أخبرتُ أمي أنني أريد الأرتباط بك وقالت بانها لاتمانع…حينما يتم ألأتفاق معك ..سأجلب عائلتي لطلب يدكِ بصورة رسمية..هذا كل ما لديَّ”. قالت ” حسناً أنا موافقة وسابذل قصارى جهودي لأسعادك” . حينما سمعت سعاد بموافقة الطرفين أطلقت زغرودة عالية تردد صداها في المزرعة الكبيرة.
بعد إسبوع جلب الطبيب صالح والدته في زيارة للتعارف مع عائلة ناهدة. كانت والدة صالح قد فرحت جداً بهذه الزيارة وأظهرت مدى سعادتها لأختيار ولدها هذه الفتاة الجميلة . تمت الخطوبة بصورةٍ رسمية …بدأ صالح يأتِ بين الحين وألآخر كي يجلس مع خطيبتهِ ساعاتٍ طويلة يتحدث معها عن مشاريعه المستقبلية. كانا يسيران بين المزروعات الممتدة على طول البصر..أنواع مختلفة من الخضراوات .كانت تمسك يده بقوة كأنها تخشى عليه من الضياع . كان يشعر بحرارة يدها كتيار كهربائي يسري في عروقة. في إحدى المرات قالت له بعفوية ” لاأدري لماذا لم تختار فتاة من الجامعة؟ لقد تحدثنا في هذا الموضوع سابقاً ولكنني لازلتُ أتسائل عن هذا الشيء في داخلي. لو كنت فتى لما تزوجتُ إلا زميله لي مهما كانت ألأسباب”. نظر إليها وهو يمسك يدها …دون وعي رفع يدها وراح يقبلها برقه وهو يقول” كل شخص لديه أسبابه الخاصة كما قلتُ لكِ سابقاً..قد تكونين محقه ولكن لايمكن تطبيق كل القوانين على كل الناس في قضية كهذه..هناك أشياء تجري في أروقة الجامعة قد تجعل الشخص يفكر في أشياء أخرى .” سكت قليلاً ثم عاد ليتحدث بهدوء” كان لي صديق تركماني وسيم جداً عشق طالبة في صفنا في الجامعة..كان يحبها بصمت لايستطيع أن يصارحها بحبه. قال لي مرة – أريد أن أتزوجها ولكنني لا أستطيع لأنها قصيرة – والتنور- الذي تخبز عليه أمي مرتفع ..كيف ستخبز عليه فتاتي إذا تزوجتها؟…ضحكتُ من كلامه حتى كدتُ أختنق من الضحك..حينما إستفسر عن سر ضحكي..أخبرته بأنه يستطيع أن يستغني عن التنور ويشتري الخبز من السوق أو يصنع لها تنور منخفض. لم يقتنع من كلامي ولم يتزوجها بسبب تنور والدته”. نظرت إليه ناهدة بتعجب وهي تقول” لايمكن أن يكون هذا…”. قال بهدوء وهو ينظر إلى المسافات الزراعية الواسعة ” لكي أكون صريحاً معك أكثر…بالنسبة لحالتي كشخص مختلف عن بقية ألآخرين…لي ظرف خاص لايمكن الهرب منه..سأحدثكِ عنه بصراحه..قد يكون له تأثير نفسي أو ربما شيء آخر ولكنني أشعر أن له دور كبير في إختياري ..أقصد إنجذابي لكِ” . تردد قليلاً في الحديث عن ماضيه ولكنها راحت تحثه على الكلام بطريقة عفوية وكأنها تريد الغور في أعماقه . تنهد صمت وهو يقول” حينما كنتُ في الدراسة المتوسطة ..كانت الفتيات الفلاحات في المنطقة التي أسكنها في التاجي يخرجن إلى الحقل وأنا أجلس عند الساقية أطالع دروسي..حينما يقتربن مني كنت أنظر إليهن بتعجب لجمالهن ونشاطهن وهنّ يتهامسن وأحياناً يطلقن ضحكات وأغانِ ريفية رائعة..كنتُ معجباً بأحداهن لدرجة الجنون ولكنها أكبر مني بعشر سنوات..كنت أتمنى الزواج منها حينما أتخرج ولكن هذا مستحيل . تزوجت بعد فترة ومن ثَم طلقها زوجها لأنها كانت لاتحبه إضافه إلى أنه كان متزوج…حينما أصبحتُ في الجامعة كانت قد تزوجت من رجل آخر في المدينة ولم أعد أراها أبداً..كانت صورتها لاتفارق ذهني أبداً.منذ تلك اللحظة لم أعد أنظر إلى أي فتاة من المدينة ..ليس معنى هذا أنهن غير جميلات ولكن العقل اللاواعي يرسم لي صورة فتاة من الريف على الدوام. حينما شاهدتكِ لأول مرة أحسستُ أن هناك ثمة شيء يشدني إليكِ ..شيء لاأستطيع مقاومته أبداً. قد تقولين أنني أُبالغ أو شيء آخر ولكن هذه هي الحقيقة التي لايمكن الهرب منها مطلقاً. الريف يمثل لي حبٌ بعيد المنال..نخيلٌ تعصف به الريح ..قطراتُ مطرٍ تنساب من بين سعفهِ المبلل بالماء..ساقية تجري بأنتظام وفلاحين ينتظرون الماء عند الليل ..ونباتاتٍ تنمو رغم برودة الطقس..وأبي يخوض في الماء في الطرف ألآخر من ألأرض..وفتياتٍ نشطات يحصدن القمح ومحاصيلٍ آخرى..وطيور برية تتقافز بنشاطٍ فوق المزروعات المنتشرة هنا وهناك. كل شيءٍ يجذبني نحو ألأرض والريف والفلاحات والمزروعات..أشعر بألأختناق حينما أصل المدينة ..أشعر أن الناس غرباء لايهتم بعضهم للبعض ألآخر..لايمكن أن أتزوج فتاة من المدينة حتى لو كانت تتبؤء أرقى المناصب العلمية أو ألأجتماعية. هناك شباب لايمكن أن يتزوجوا من الريف مهما كانت الظروف لأن توجهاتهم تختلف وأحلامهم تتباين ..لا بل لايمكن أن يعيشوا في الريف لأنهم لايحبون تلك ألأجواء. أعتقد أن هذا سبب كافٍ لأختياركِ” .
حينما انهى كلامه إلتفتت إليه كأنها مسحوره لاتقوى على الحركة..وقفت امامه ودون تردد طوقت عنقه وراحت تقبله بشغفٍ ليس له مثيل. في بداية ألأمر لم يُحرك ساكناً تركها تقبله كما تريد. حينما دبت حرارة قبلاتها المتواصلة في جسدهِ الذي راح ينتفض بشدة..شنَّ عليها هجوماً مضاداً..جذبها إلى صدرهِ بقوة وشرع يلثم شفتيها بقبلات نارية حارقة جعلها تتمايل ..شعرت بضعف جسدها البض الطري..لم تعد قدماها تقويان على حملها..أحست بأقتراب نهايتها كمخلوق ضعيف يلفظ أنفاسه ألأخيرة.. كانت تئن من الرغبة الشديدة لأمتلاكه تماماً. همست بصوتٍ ضعيف ” فلنجلس على ألأرض ..لم أعد قادرة على الحركة…” جلسا متلاصقين ..لم يقل أي شيء..ترك العنان لشفتيه لأستكشاف معالم ألأنوثةِ عند رقبتها وصدرها. بعدها إستلقى على ظهرهِ واضعاً يديهِ تحت رأسه وراح ينظر إلى السماء. إستلقت قريباً منه وفعلت نفس الشيء. قال ” أشعر أنني سعيد جداً..لاأدري هل ستدوم هذه السعادة أم أن شيئاً سيحدث قد يغير كل شيء؟”. وهي تحدق نحو السماء قالت” هل تعرف ؟” توقفت عن الكلام . همس قائلاً” أعرف ماذا؟”. أردفت قائلة ” دائماً كنتُ أحدث نفسي حينما أكون وحيدة وأقول …أنا لاشيء..أنا مجرد فتاة أميّة ليس لها وجود في هذا الكون…مجرد مخلوقة منسية على قارعة الطريق..لن أجد لي شريكاً يحترمني أو يفكر في ألأرتباط بي حتى لو إمتلكتُ كل كنوز ألأرض. من يفكر في ألأقتراب من فتاة فلاحة مصابة بضيق التنفس ..حينما سمح لي أمجد بألأنفراد بك للحديث حول شيء معين كنتُ أتصور أن ألأمر مجرد مزحة لا أكثر. كنتُ مستعدة جداً لتلك المزحة ..كنتُ أتصور أنك تريد العبث معي لفترة من الزمن ومن ثمَ تتخلص مني بطريقة دبلوماسية.قلتُ مع نفسي إذا فعل هذا الشيء فأنني سأنهي حياتهِ ..سأمزقه شر تمزيق وكنتُ جاده في هذا ألأمر”. دون أن ينظر إليها همس ” ليس في قاموسي العبث مع الفتيات ..قال لي والدي يوماً ما – من طرق باب الناس طرقوا بابه- كان يحثني على عدم العبث مع أي فتاة لأنني حينما أفعل ذلك سيكون هناك من يعبث مع شقيقتي وكان هذا ألأمر يخيفني. كان هناك بعض الزملاء معي في الجامعة لايتوقفون عن العبث مع فتيات كثيرات وكانوا يعتبرون هذا – فتوحات ونشاطات ينبغي على كل الشباب القيام بها… كنتُ أتقزز منهم وهذا ما جعلني مكروها من بعضهم. لن اجعل فترة الخطوبة طويلة سأحاول في ألأشهر القليلة القادمة إتمام مراسيم الزواج كي أنصرف إلى أعمال أخرى مفيدة..أفكر في بناء بيت صغير هنا في أرضكم – إذا وافق أمجد – لقد أحببتُ هذه ألأرض ..أشعر أنني أنتمي إلى هذه البقعة النائية..أتمنى أن تقنعي سعاد وطارق بالسماح لي ببناء بيت هنا وسأدفع لكم ثمن ألأرض التي أشيد عليها البناء.” صاحت بفرح ” من يجرؤ على عدم السماح لك ببناء أي شيء وأنا زوجتك…سأكون أسعد إنسانة في التاريخ إن حدث هذا الشيء…سأجعلك أسعد مخلوق بشري على وجه ألأرض ..سأتنازل لك عن حصتي في ألأرض ..لكن أشعر أننا نحلم..من يدري قد يكون ذلك حقيقة يوماً ما.”
إستمرت سميرة في قرآتها التي لاتنتهي ..أصبح لديها مئات الكتب الروائية وكتب عن الحروب التي حدثت في أصقاع منتشرة من العالم وكتب عن الزراعة والجغرافية والسياسة, إضطرت أن تشتري نظارة طبية لأنها كانت تشعر بعدم ألأرتياح في أوقات مختلفة.بدأت تكتب في محاولة مستميتة للوصول إلى مصاف الكُتّاب العالميين أو هذا ماكانت تحلم به. لم تتوقف دروس طارق . كانت كل واحدة تجلس منتبه كأنها في اليوم ألأول من بدأ التعليم. إضطر طارق أن يشتري كتب قواعد اللغة العربية المتقدمة لمواجهة ألأسئلة الصعبة التي لاتتوقف من قِبَلْ الطالبات الذكيات. كان يقضي ساعات طويلة من الليل يدرس قواعد اللغة المتقدمة لدرجة أنه أصبح أمهر من بعض ألأساتذة الذين يعطون المحاضرات في الجامعات المتخصصة بتدريس اللغة العربية. كانت سعاد تستلقي على ظهرها في فراش الزوجية وتقرأ قسماً من الكتب التي يقرأها …كانت تلقي الكتاب أحياناً وتقول ضاحكة” أيُّ موضوعٍ هذا ؟ أنا لاأعرف عن أي شيء يتحدث؟ هل هذه هي اللغة العربية التي نتكلمها كل يوم؟” كان يضحك بصوتٍ مرتفع ويقول ” من طلب العلى سهر الليالي”. كانت تقول مازحة ” إذا بقيتُ اسهر معك هكذا مع هذه الكتب فأنني سأصاب بالجنون..” تنظر إليه بحنان وتقول ” لماذا لانسهر مع بعض ونمتع أنفسنا بدل هذه الكتب المرعبة؟ ” كان يترك الكتاب ويهجم عليها ينهل من بئر الحب مالذ وطاب. تهمس في أذنه وهي مغمضة العينان ” كم أن هذا النوع من السهر متقدم وذو فائدة لكل ألأطراف”. كانت عاطفته تتقد ويشعر أنه يمتلكها روحياً وجسدياً لدرجة أنها تكاد تفقد صوابها. تقدم طارق في دراسة اللغة العربية وتقدمت كافة الفتيات في دراستهن واستمرت سميرة في كتابة روايتها ليلاً ونهاراً. كانت تتوقف بين فترة وأخرى حينما تجد نفسها في زاوية لاتستطيع معالجة أبطال روايتها. كانت تذهب لوحدها إلى الحقل الزراعي بحجة رعي ألأبقار بَيْدَ انها تجلس وحيدة تفكر ساعاتٍ طويلة لأيجاد مخرج مناسب للحدث الذي كانت تريد معالجته بطريقةٍ منطقية. حينما تعود إلى غرفتها تغلق الباب وتبقى تكتب حتى ساعة متأخرة من الليل. كانت ألأفكار المنطقية تنصب على ذهنها كالمطر.عند الفجر تنام كأنها طفلة صغيرة حصلت على هديتها العزيزة من أبٍ حنون. لم تعد تفكر بأي شيء سوى إنهاء كتابها .كانت كأمرأة تعانِ مخاضاً عسيراً. في أحد ألأيام جاء صالح لزيارة خطيبتهِ ناهدة . أثناء تناول طعام الغداء أخبر سميرة أن هناك مسابقة تقيمها دائرة الشؤون الثقافية في وزارة ألأعلام تتعلق بكتابة القصة القصيرة والرواية…والكتاب الفائز سيحصل صاحبه على جائزة نقدية كبيرة وسيتم تصويره على هيئة فلم سينمائي وكذلك ستكون هناك لقاءات تلفزيونية مع كاتب الرواية. تحفزت سميرة لهذا الخبر وتمنت أن تشترك بهذه المسابقة. طلبت من الطبيب صالح أن يصطحبها لتسليم الكتاب الذي كانت قد أنهت كتابته قبل يومين. رحب بالفكرة على أن تذهب معهما خطيبته ناهدة. في اليوم التالي كان الثلاثة يتجهون نحو الوزارة لتسليم النسخة ألأصلية إلى اللجنة المكلفة بتدقيق المشاركات. أخبرتهم اللجنة أن ألأمر سيستغرق بعض الوقت وسيتم ألأتصال بصاحب الكتاب الفائز. في الطريق نحو البيت كانت سميرة ترسل نظراتها نحو ألأفق البعيد تحلم بشيء مستحيل بالنسبةِ لها. كانت تحدث ذاتها وتقول” أنا فائزة حتى لو رفضت اللجنة كتابي…لاأحد يعرف ظروفي وكيف تعلمتُ القراءة..في اللحظةِ التي أتقنتُ فيها القراءة والكتابة أصبحتُ فائزة من الدرجة ألأولى” .
في أحد ألأيام جاء الطبيب صالح ليتحدث مع أمجد وطارق في موضوع يتعلق بالعمل. كانت القضية تتعلق برغبة صالح لبناء مركز صحي على هيئة عيادة صغيرة في منطقتهم الزراعية يمارس فيها عملهِ بشكل شخصي بعد الدوام الرسمي… وغرفة نوم يتخذ منها مكاناً حينما يتم زواجه من ناهده لحين بناء بيت مناسب عندما يتمكن من توفير المال اللازم للبناء. فرح الجميع للفكرة وأبدوا رغبة كبيرة لمساعدته مادياً ومعنوياً. إعترض البعض لكون المنطقة بعيدة عن الشارع السريع وأن البيوت تنتشر على مسافة بعيدة من بيتهم. لم يفكر صالح في موضوع البعد والقرب لأنه كان ينظر للقضية من منظار آخر . في غضون عدة أيام جاء العمال لبناء المركز الصحي ..باعت بعض الفتيات قسماً من مصوغاتهن الذهبية لمساعدة خطيب ناهدة لأنجاز العمل بأسرع وقت على الرغم من معارضة صالح لهذا ألأمر ولكن قول خالدة” لاتخف ستعيد لنا المال حينما تصبح غنياً..هذا المال قرضه وليس هبه” . كلامها جعله يبتسم ويقول ” حسناً سوف أعوض الجميع ” . في غضون شهر كان كل شيء قد أُنجز حسب الخطة التي رسمها صالح. كانت هناك غرفة جيدة للطبيب وصالة لأنتظار المرضى ومطبخ وغرفة نوم واسعة. تم تأثيث كافة المكان بالمستلزمات الطبية وألأشياء ألآخرى المتعلقة بالمكان. وضع صالح علامة كبيرة بالقرب من الطريق السريع بجانب علامة ” ورشة سعاد لتصليح الماكنات والسيارات ” أطلق عليها إسم ” العيادة الريفية لمعالجة ألأصابات السريعة وفحص الحوامل وألأطفال ومعالجة الجروح والعمليات الصغرى”. كان صالح يجلس في عيادته كل مساء بعد عودته من الدوام الرسمي في المركز الصحي الحكومي . لم يعد يذهب إلى بيت والده إلا مره واحدة في الشهر. لم يأتِ إلى العيادة أي شخص في الشهر ألأول لدرجة أن أن أليأس أخذ منه مأخذاً كبيراً وأراد غلقها ولكن إصرار ناهدة على ألأستمرار أعطاه حافزاً للبقاء. تزوج ناهدة في الشهر الثاني على تواجده في العيادة كي تكون مساعدة له في كافة ألأمور. طلب من ناهدة أن تقنع إحدى الفتيات للعمل في العيادة كممرضه أو تكون حاضرة لأستقبال النساء مقابل راتب معين يتم ألأتفاق عليه عند البدء في إستقبال الزبائن – حسب قوله الساخر-. وافقت خالدة للقيام بالمهمة ليس من أجل الراتب – على حد قولها- ولكنها أرادت أن ترى عالماً آخر يختلف عن جني المحاصيل ورعي ألأبقار – . كانت العيادة تبعد عن البيت عدة أمتار. كان دوام العيادة يبدأ من الساعة الرابعة والنصف عصراً حتى ساعة متأخرة من الليل. أحياناً تذهب العائلة جميعاً للجلوس مع صالح وناهدة لتبادل أطراف الحديث عن أي شيء. كانت مكاناً جميلاً لتجمع العائلة وكانت ناهدة تقوم بواجب الضيافة على أكمل وجه. كانوا سعداء بهذا الحدث الذي يمكن القول عنه بأنه غير حياتهم الرتيبة بعض الشيء. يوماً ما إقترح طارق على صالح أن يجلب جهاز سونار وجهاز مفراس كي يكون في خدمة الناس. ضحك صالح لأقتراح طارق وأخبره من أن هذه ألأجهزة تُكلف الملايين وأن كثير من المستشفيات الحكومية لاتتوفر فيها مثل هذه ألأجهزة على الرغم من حاجة الناس الملحة لهذه ألأجهزة. قال طارق” حسناً سأشتري لك هذه الأجهزة وسيكون الربح كله لي مقابل أجرة نتفق عليها تكون من نصيبك لأنك ستقوم بأستخدامها حسب خبرتك الطبية” . نظر صالح إليه بتعجب وهو يقول ” هل تجازف بكل هذه ألأموال في هذه ألأرض المنعزلة؟ هل تعي ماتقول؟” . قال طارق بهدوء ” هي مغامرة..ومقامرة..ولكن من يدري قد نجني شيئاً ما..ستكون بيننا إتفاقية خطية لحفظ حقوق الطرفين…إن لم نحصل على شيء في غضون سنة ..عندها قد أبيع ألأجهزة إلى شخصٍ ما ..أو ربما ….” قاطعته سعاد قائلة ” طارق , هل أن هذه ألأجهزة مفيدة جداً ؟ ما سعرها؟” . إندفع صالح يقدم لها السعر التقريبي . صاحت ” واو…” . فكرت قليلاً ثم قالت” حسناً سنجمع كل النقود والمصوغات الذهبية المتوفرة لدى الفتيات ونبيع قسماً من ألأبقار و……” . صاح طارق ” نبيع كل شيء عدا ألأبقار…” بعد شهر تم جمع المبلغ . إشترى الطبيب صالح ألأجهزة الباهضة الثمن ..كان فرحاً لدرجة الجنون . لم يتصور أن عيادتهِ البسيطة تحتوي على هذه الكنوز الطبية . أخبر مديره بالوضع الجديد وطلب منه أن يساعده في تحويل بعض المرضى إليه إذا كانوا في حاجة إلى هذه ألأجهزة. إتصل المدير بالمستشفيات التابعة للمحافظة وأخبرهم عن وجود ألأجهزة الراقية في المنطقة الريفية.
يتبع …….