23 ديسمبر، 2024 12:34 ص

حب ينهض في زمن الخوف – 8

حب ينهض في زمن الخوف – 8

في الطريق الترابي الطويل كان صالح لايتوقف عن الكلام وينظر إلى طارق بين الحين وألاخر ويضحك حينما يستذكر معه ألأيام البعيدة. كان كل واحد منهما يسأل ألاخر عن بعض ألأسماء من التلاميذ الذين كانوا معهما في ذلك الوقت. كانت ناهدة ترشد الشاب إلى الطريق الصحيح كأنها تعرفه عن ظهر قلب. كان المركز الصحي في الطرف البعيد من المنطقة الزراعية ألأخرى. ترجل الطبيب الشاب بعد أن أركن سيارته في الباحة ألأمامية للبناء المتواضع. وقف طارق خارج السيارة ينظر إلى الطرف البعيد من ألأرض الممتدة أمامة في حين دلفت ناهدة إلى داخل المركز لترى ماذا يجري هناك أو ربما لسببٍ آخر. كانت هناك عدة فتيات ونسوة فلاحات ينتظرن دورهن للعلاج أو لأستشارة الطبيب المتواجد في المركز. بعد قليل خرج الطبيب صالح ليخبر طارق من أن المدير يطلب منه البقاء لحين إنتهاء الدوام الرسمي لعدم وجود طبيب.قال له طارق ” سنبقى ننتظرك إلى نهاية الدوام ..سنعود معاً..ستغضب سعاد إذا لم تأتي معي هذا اليوم..هذه فرصة بالنسبةِ لي للتعرف على المنطقة فأنني لم أرها من قبل.”إبتسم صالح وهو يقول ” لن أنسى لكَ هذا الجميل أبداً”. كانت النسوة الفلاحات يتقاطرن على المركز الصحي بين الحين وألأخر. كانت بعض الفتيات الفلاحات ينظرن إلى ناهدة بتعجب لأنها كانت ترتدي بدلة عمل وهذا شيء غير مألوف بالنسبةِ لهن جميعاً. شاهد طارق شخصاً يرتدي صدرية بيضاء يقف إلى جانب سيارة ألأسعاف المركونة في الطرف ألآخر من الباحة وهو يحاول أن يفتح جزءأُ منها بتذمر. تقدم نحو الرجل وهو يقول ” هل أستطيع أن أقدم لك خدمة؟”. نظر إليه الرجل بسخرية قائلاً” ماذا تستطيع أن تقدم لهذه الخردة الملعونة..كل يوم تتوقف والمدير يطلب مني سحبها إلى المدينة لأصلاحها..كيف أسحبها ومن أين أجلب لها الميكانيكي المتخصص ..لقد سأمت العمل في هذه البقعة النائية البعيدة عن الحضارة..متى تنتهي مدتي وأعود إلى العاصمة؟”. دون تردد قال طارق” هل لديك عدد خاصة بالتصليح؟” نظر إليه الرجل وهو يقول” لدينا كل شيء ولكن لاأحد يعرف أن يفعل أي شيء”. ضحك طارق وهو يقول ” إذا أعدتها إلى العمل كم يدفع لي المدير؟” قال الرجل ” ساذهب لأخبارهِ بألأمر”. بعد قليل خرج المدير مع الموظف الصحي وحينما شاهد طارق يتفحص السيارة قال له” هل أنت ميكانيكي؟ كم تطلب لأصلاحها؟” حينما إتفقا على السعر قال المدير ” على بركة الله”. في اللحظةِ التي عاد فيها المدير إلى عمله صاح طارق بصوتٍ عالٍ ” ناهدة…ناهدة..” جاءت تركض وهي تقول ” ماذا جرى؟ لماذا تصرخ؟ لقد كنت أتحدث مع إحدى الفتيات” . ” لدينا عمل ..إستعدي ..سنصلح هذه الخردة” . كان الموظف الصحي قد أخرج لهما كافة العدد اليدوية ووقف ينظر إليهما وقد علت وجهه إبتسامة تهكم وسخرية. كانت ناهدة تتحرك بكل ثقة وتلبي كافة طلبات مديرها في العمل. كانت معركة حقاً لأن السيارة كانت مليئة بألأوساخ وألأتربة. بدأ طارق يفك كافة ألأجزاء التي كان يشك في أنها هي السبب..وظلت ناهدة تساعده في أشياء كثيرة يطلبها منها. حينما مرت ساعة كاملة تغيرت الصورة لدى الموظف الصحي وراح يقترب من طارق بعض الشيء كي يكتشف بعض ألأشياء التي قد تفيده في المستقبل. كان طارق يطلب منها أحياناً أن تستلقي تحت العجلة كي يختبر مدى صلاحيتها للعمل الرجولي..أراد أن يقسوا عليها كثيراً كي لاتخرج معه في المستقبل. كانت سعيدة جداً وهي تصرخ من تحت العجلة ” اسحبها إليك بقوة” . كان يضحك بسرور لعملها المتفاني. بعد ساعتين من العمل الحثيث صاح طارق” نجربها ألآن..تعالي معي “. ظل الموظف الصحي ينظر إليهما دون أن يقول أي شيء. حينما أدار طارق مفتاح التشغيل إستجابت له ” الخردة” بكل سرور. قال للموظف الصحي” إصعد ..سنذهب لتجربتها على الطريق السريع”. قفز الشاب بكل سرور لأن هذه المهمة ستكون نوعاً من الخلاص من عملهِ الروتيني الذي لاينتهي. إنطلق طارق باقصى سرعة كي يفحص قابليتها على إنقاذ المرضى في حالة الطوارئ. كانت تلتهم الطريق بشكل جنوني لدرجة أن الموظف الصحي راح يتوسل إليه أن يخفف السرعة. كانت ناهدة سعيدة جدا وكانت تصرخ بصوتٍ مرتفع ” أسرع..واو..رائع جداً..لقد حققنا إنتصارا رائعاً”. استدار طارق بسرعة وأطلق صفارة الإنذار بشكل مستمر وهو يتجه نحو المركز الصحي لدرجة أن المدير وبقية الموظفين خرجوا لمشاهدة ماذا يجري هناك. توقف طارق ملاصقاً للباب الرئيسي للمركز الصحي . قفز منها وهو يصرخ” لقد تم كل شيء بنجاح”. نظر إليه المدير وهو يقول ” جيد جدا..تعال معي لاستلام الأجور” . في الثالثة مساءا عادا مع الطبيب الشاب نحو البيت. في الطريق قال صالح” لقد مدحك المدير وأثنى على جهودك في إعادة العجلة إلى الحياة…ستكون مطلوباً من الجميع في المستقبل وستجني مالاً وفيراً”. صاحت ناهدة” وماذا عني ؟ لقد إستلقيتُ تحتها..وتلطخ وجهي بالزيت ألأسود..يبدو أنني سأكون بمثابة الجندي المجهول” . وراحت تضحك بعفوية.
نظر صالح إليها من خلال المرآة المثبتة أمامه وهو يقول” ومن قال لكِ أن الجندي المجهول ليس له قيمة في صراعات الحروب والأعمال الجبارة على طول التاريخ؟ الانتصارات الكبرى التي حدثت في أماكن مختلفة من العالم لم تتحقق إلا من خلال تضحيات الجنود المجهولين الذين بقيت أجسادهم ممزقة في الجبال والسهول والوديان..وبالتأكيد لم يتمكن طارق من إنجاز مهمتهِ إلا من خلال ألأعمال التعبوية والسوقية وألأمدادت التي كنتِ توفيرينها له خلال عمله الممتاز.أنتِ فتاة شجاعة جداً ونشطة وأنصح طارق أن لايستغني عنكِ وعن عملكِ معه لأنه سيحقق أرباح طائلة إذا تكاتفتما معاً.” شعرت بالزهو والكبرياء حينما كانت تستمع إلى كلامه..شعرت بنشوة عارمة تجتاح كيانها. لم تقل أي شيء سوى ” أنت تبالغ..أنا لاشيء أمام معلوماته الغزيرة في هذا الميدان”. بين فترة وأخرى كان ينظر إليها في ألمرآة ويوجه لها بعض الأسئلة ” كيف تعلمت هذه ألأشياء؟” كانت تجيبه بسرورٍ كبير.قال لها بصدق تام” شقيقتي الوحيدة لاتفكر إلا بالملابس ومشاهدة ألأفلام …تقضي ساعات طويلة أمام التلفاز ..أنهت المرحلة المتوسطة فقط..تكره المدرسة بشكل لايمكن تصوره حيث تقول أن الدراسة مضيعة للوقت..حاولنا أن نقنعها بالاستمرار ولكنها لم تهتم لنا.كانت تقول دائما – طالما أن الفتاة تتزوج في النهاية فلماذا تتعب نفسها في الدراسة زوجها يكون مسؤول عن معيشتها. لاأدري من أين جاءت بهذه ألأفكار المريضة” وراح يضحك بصوتٍ مسموع. حكى له طارق قصة تعلم ناهدة وشقيقاتها وتلهفهن للتعليم . صرخ صالح بأعلى صوته ” يا إلهي! لاأصدق ماأسمع! هل تريد أت تقول لي أن ناهدة تعلمت القراءة والكتابة دون أن تدخل المدرسة. حقاً انت بطل وناهدة وشقيقاتها بطلات من الدرجة ألأولى”. ضحكت ناهدة وهي تقول ” لقد وعدنا طارق أنه سيعلمنا دروس الهندسة التي كان قد درسها في الجامعة” . دون وعي قال صالح” سأعلمك دروس الطب التي درستها في الكلية إذا كانت لديكِ رغبة في ذلك”. قالت بمرح” يجب أن أتقن ألأنكليزية أولاً قبل الشروع في تعلم الطب…طارق يدرسنا الإنكليزية كل ليلة…” صاح بمرح” واو…يجب أن احضر بعض محاضراته معكنَّ يوماً ما…أنا في حاجةٍ إلى دروس كثيرة…” .ضحك طارق وهو يقول مجازاً – أي أنه يقصد شيئاً آخر – ” الدروس التي قابلتهن في الكلية تكفي..دروسنا بسيطات ولا تحتاج إلى رموز معينه…دروسنا صعبة جدا حينما يجد الجد”. ضحك صالح وهو يقول ” شكراً للنصيحة سأخذ هذا في عين الاعتبار” .قالت ناهدة ” ليست دروسنا صعبة في بعض الظروف. يتطلب الأمر دراسة وافية للموضوع الذي يبحث عنه الطالب”. ضحك صالح بمرح وهو يقول ” حقاً أنتِ فتاة ذكية…سنرى في المستقبل كيفية تقديم أوراقنا للدراسة في مدارسكم” . ضحك طارق وهو يعلق ” أنت خبيث حقاً…”. كانت سعاد تنتظر في باب الدار حينما وصلوا إلى البيت.
قفزت ناهدة وهي تحكي لسعاد إنتصاراتهما هذا اليوم. كانت سعاد تضحك بصوتٍ مكتوم لأنفعالات شقيقتها وهي تقص لها كل الحكاية. كان الطعام الذي أعدته سعاد وساره فاخراً جداً لدرجة أن الطبيب الشاب أبدى أعجابه الشديد. عند الغروب تهيأ صالح للعودة إلى المركز الصحي. حاول طارق أن يدعوه للمبيت هذا اليوم ولكنه أكد له سيكون ذلك في يومٍ ما. أراد العودة كي يستقر في مكانه الجديد وترتيب حاجياته الشخصية في موقعه. ودعه الجميع بطريقةٍ رائعه. كانت ناهدة تحكي لساره مغامراتها هذا اليوم بطريقة إنفعالية وكأنها كانت قد عاشت في عالمٍ آخر هذا النهار. حينما إستلقت ناهدة على فراشها ظلت تفكر بهذا الشاب القادم من مكان لم تسمع به من قبل. ظلت كلماته ترن في أُذُنها حينما قال لها ” أنتِ فتاة شجاعة ونشطة جداً”. هل كان يريد ان يوصل لها كلمات إطراء معينه أم أنه كان يقصد ذلك حرفياً. إستهزأت من نفسها حينما سمحت لنفسها بالتفكير به. أين هي من هذا الطبيب الذي يحمل معلومات لاتحصى عن الجراحة ومعالجة الحالات المرضية الكثيرة؟ قالت تحدث نفسها” ألا يحق لنا نحن الفلاحين البسطاء أن نقترب من أصحاب الشهادات العلمية أم أن ذلك محرمٌ علينا؟ الأطباء لا يفكرون في الاقتراب من أشخاص مثلنا..هم يقترنون بطبيبات مثلهم دائماً…نحن بالنسبة لهم مخلوقات بشرية قادمة من كوكبٍ آخر ولا يحق لنا الاقتراب منهم..ولكننا في النهاية بشر مثلهم ونملك نفس المواصفات التي تمتلكها الطبيبات من الناحية الجسدية. ظلت تفكر وتسترجع ذكريات اليوم الذي مرت به إلى أن راحت في نومٍ عميق محملٌ بأحلام لاتعد ولاتحصى عن آمالٍ كبيرة بعيدة المنال. إستمر طارق في إنجاز أعماله بشكل متقن وأصبحت لديه أموال طائلة من تصليح السيارات ..طور عمله في النجارة وبدأ يصنع غرف نوم راقية جداً وكانت ناهدة لاتفارقة لحظة واحدة..كان يعطيها أجوراً جيدة عن كل عمل ينجزه. قالت له مرة” لم أعد أحب العمل في الزراعة بعد ألآن..أريد منك أن تعلمني كل أسرار النجارة ..سأشيد مصنعاً للنجارة يوماً ما وأجلب عاملات كثيرات..من يدري قد أصبح مليونيرة وأسافر إلى خارج العراق.”ضحك بهدوء وهو يقول ” لديك أحلام لاتنتهي…ولكن طالما أن هذه الأحلام مشروعة ولا تتعارض مع مبادئ الكرامة والأخلاق فأنها جيدة . الصبر والتحمل والجد في العمل قد يحقق كل شيء..سأكون إلى جانبك في أي شيء أستطيع القيام به.” بعد فترة من الزمن وعند صباح أحد ألأيام طلب طارق من سعاد أن تستعد هي وناهدة للذهاب إلى المدينة لشراء سيارة – بيك أب- لخدماتهم الشخصية ولأغراض العمل أيضاً. فرحت ناهدة جداً لأنها لم تشاهد المدينة كما أنها كانت تريد أن تشتري بعض الملابس الحديثة ..توسلت إلى سعاد أن تسمح لخالدة بمرافقتهم لأنها لاتستطيع أن تختار ماتريد أن تحصل عليه من المدينة. بعد مناقشات طويلة وافقت سعاد على الأمر. طلبت سعاد من أمجد أن يرافقهم لأن لديه خبرة في شؤون المدينة ومعارض السيارات. إنطلق الجميع بسيارة زينب. كان طارق يقودها وقد جلست سعاد إلى جانبه في حين جلس أمجد وشقيقاته – ناهدة وخالدة في المقعد الخلفي -. عند إقترابهم من الطريق السريع توقف طارق ملتفتاً إلى أمجد قائلاً” هل يمكن أن نذهب إلى صالح..ربما أقنعه بالذهاب معنا. لديه خبرة في التعامل مع تجار السيارات. وافق الجميع على الفكرة وخصوصاً ناهدة. في اللحظة التي توقف فيها طارق عند بوابة المستوصف ترجلت ناهدة ولحقت به حينما دخل بناية المركز الصحي. سألها عن سبب اللحاق به فأجابته بأنها تريد أن تساعده في حالة حدوث شيء معين. إبتسم لها دون أن ينبس ببنت شفة.
وقفا عند باب غرفة الطبيب ينتظران إنتهاء خروج بعض المرضى الذين كانوا يستمعون إلى إرشاداته الطبية. في اللحظة التي أصبح فيها الطبيب لوحده دخل طارق تلحق به ناهدة. وقف صالح على الفور وهو يقول ” واو..من أرى؟ أهلاً بكما..تفضلا بالجلوس هنا”. دون مقدمات أخبره طارق بالمهمة التي جاء من أجلها. قال الطبيب صالح” ولكن كيف سأقنع المدير بالخروج من الدائرة؟ لا يوجد طبيب غيري…” اندفعت ناهدة قائلة ” سأذهب لإقناعه حالاً”. وقبل أن يتمكن من إجابتها خرجت مسرعة بأتجاه غرفة المدير. في غضون دقائق قليلة جاء المدير إلى غرفة الطبيب صالح وهو يقول ” تقول الست ناهدة بأنها تحتاجك لمرافقتها إلى السوق لشراء سيارة ..هل هذا صحيح؟ إندفع طارق قائلاً” هذا صحيح ..نتمنى أن يأتي الطبيب معنا لأن لديه خبرة في التعامل مع أصحاب معارض السيارات..سنكون ممتنين إذا سمحت له بالذهاب معنا” .إبتسم المدير وهو يقول ” ولكن أريد أن يعود سالماً..لأنني في حاجةٍ شديدة إليه هذه ألأيام” . اندفعت ناهدة قائلة ” نعاهدك على نعيده لك سالماً….” حينما أصبحا خارج المبنى قال طارق” سنذهب أنا وسعاد معك في سيارتك ويذهب الباقون مع أمجد. ” في الطريق الطويل نحو المدينة كان طارق وصديقه القديم صالح يتبادلان ألأحاديث الطويلة الشيقة لدرجة أن سعاد تمتعت كثيرا بنوعية ألأحاديث التي كانت تدور بينهما. كانت ناهدة تشير إليهم بيدها كلما إقتربوا منها. كانت سعيدة لدرجة لا يمكن وصفها. عند وصولهم إلى معرض السيارات توزعوا يبحثون عن السيارة المناسبة. كانت ناهدة وخالدة منفعلتان كثيراً لأنهما لم يشاهدا شيئاً كهذا طيلة حياتهما. كانتا تتهامسان ويضحكان بفرحٍ طفولي. في النهاية أتفق طارق مع سعاد على شراء سيارة حديثة نالت إعجاب الجميع لدرجة أن الطبيب صالح صاح” واو..تستحقها أيها الصديق القديم..من يدري قد أشتري مثلها بعد مئة عام” وراح يضحك بصوتٍ مرتفع. بعد مفاوضات طويلة مع البائع تم شراء السيارة. قاد طارق السيارة من باحة المعرض وإلى جانبه سعاد وجلست ناهدة في المقعد الخلفي لاتصدق مايجري أمامها. قالت ” طارق لاتنسى أنني أريد ان اشتري ملابس حديثة ..لاتخف لديَّ نقود كثيرة” . ضحك وهو يقول ” لن أنسى..بعدها سنذهب إلى مطعم من الدرجة ألأولى كي نحتفل بهذه المناسبة الفريدة”. توقف الجميع أمام أسواق راقية جداً لبيع الملابس النسائية . قال صالح بمرح” لديّ خبرة في نوعية الملابس الخاصة بالشابات الجميلات” . إحمرت ناهدة خجلاً وهي تقول” من يدري قد أختار شيئا آخر…ولكن مع هذا سأستمع إلى اقتراحاتك”. انتشر الجميع في أرجاء السوق الكبير كل واحد ينظر في جهة معينة من المكان الكبير. أخبر طارق كل من ناهدة وخالدة أن يبحثا عن أي شيء ينال إعجابهما وهو سيدفع الثمن. إندفع صالح لمصاحبة الفتاتين في حين ذهبت سعاد مع زوجها للبحث عن أشياء في قسم الملابس الداخلية – حسب رغبة سعاد – . وقفت ناهدة أمام فستان طويل محافظ بتعجب ورغبة شديدة لأقتنائه مهما كان الثمن. كانت منفعلة جداً وهي تتفاوض مع البائعة. قبل أن تدفع الثمن قفز صالح وهو يقول ” هذه هديتي لك ..أنا سأدفع الثمن ولن أقبل أي رفض من أيةِ جهةٍ تحاول منعي من دفع الثمن” . قالت ناهدة” لن أمنعك لأنني فتاة سبورت وأتمنى أن يكون هذا ذكرى من شخص عزيز مثلك” . كانت جريئة جداً في قول أي شيء. حاولت أن توصل له ما كان يدور في ذهنها بأي ثمن. قال بسرعة وجرأة ” أنا أحب أي فتاة سبورت غير معقدة في حياتها…..” كانت خالدة تنظر إلى شقيقتها بدهشه كبيرة لهذه الجرأة التي لم تتوقعها منها أبدا. حينما ذهب صالح لدفع ثمن الفستان همست خالدة ” ألا تخجلي ؟ ماذا سيقول عنكِ؟ أجابتها ناهدة ” فليقل مايشاء..هو أراد أن يدفع السعر..لم أطلب منه ذلك” . اندفعت إلى الجهةِ الأخرى من السوق. كانت عطشى لكل شيء. أشترت أشياء كثيرة متنوعة . في الطريق إلى البيت كانت تبحث في كافة الأكياس غير مصدقة ماكانت قد حصلت عليه لدرجة أن سعاد وبختها بأدب وطلبت منها أن تكف عن العبث في الأكياس لحين وصولها إلى البيت. كانت كطفلة حصلت على ألعاب ثمينة جداً ولم تعد تستطيع الصبر لحين وصولها إلى غرفتها. حينما وصلوا إلى الاستدارة التي تؤدي إلى الطريق الترابي توقف صالح وتقدم نحو طارق قائلاً” حينما يكون لدي وقت فراغ سأزورك ولكن ألآن لدي عمل كثير ..سأترككم هنا للعودة إلى المركز الصحي”. قفزت ناهدة من السيارة وركضت نحوه قائلة” لماذا لاتأتي معنا…فقط لتناول أي شيء ومن ثمَ تستطيع العودة…سنكون حزينين إذا لم ترافقنا”. قال ضاحكاً” أنا شاب سبورت …ولدي أعمال كثيرة..من يدري قد أزوركم في وقتٍ آخر..وأتمنى أن يكون الفستان مناسب جداً لك..في المرة القادمة سأشتري لك هاتف نقال ونستطيع الحديث في أي وقت..مع السلامة”. على الطريق الترابي الطويل شعرت أنها حزينة..كانت تلتفت إلى الوراء تنظر إلى سيارته وهي تبتعد خلف الأفق البعيد.
توالت الأيام وتقدمت الأسابيع وكان كل شخص في العائلة منشغلاً بشيء معين وخصوصاً القراءة والكتابة. لم يؤثر التعليم على سير العمل في الحقل الزراعي الكبير…واستمر طارق في جولاته الميدانية لتصليح العجلات المعطلة وإزدات ثروته بشكل كبير ولم يترك أعمال النجارة في الأوقات المناسبة واستمرت ناهدة تعمل معه وازدادت خبرتها بشكلٍ لا يمكن تصديقه لدرجة أن طارق أخبرها يوماً بأنها أصبحت مؤهلة لقيادة مصنع كامل للنجارة. في صباح أحد أيام العطل الرسمية جاء الطبيب صالح لزيارة عائلة ناهدة وبلا مقدمات قال لطارق على إنفراد ” أريد أن أتزوج ناهدة..أطلب مساعدتك في هذا الموضوع” . سكت طارق بعض الوقت ثم إندفع قائلاً ” يجب أن تتحدث إليها أولاً وتفهم بعض الأشياء الخاصة عن حياتها…سأطلب من أمجد أن يسمح لك بألأنفراد بها..ولنرَ ماذا سيكون الموضوع”. قبل الغداء كان طارق قد تحدث إلى أمجد – الذي لم يصدق ما كان يسمع -. ” حسناً بعد الغداء ساسمح لها بالتنزه معه قريباً من البيت وليتحدث معها عن الموضوع ولكنني لن أجبرها إذا رفضت”. حينما جاء الوقت المناسب ذهبت ناهدة مع صالح وجلسا تحت شجرة توت قريبة من البيت. قالت بثقة مطلقة ” سمعتُ أنك تريد التحدث معي على إنفراد..أتمنى أن يكون الموضوع ذو أهميه “. نظر في عينيها مباشرة وقال بلا تردد” أنا رجل عملي ..وسأدخل في الموضوع مباشرة……لديّ رغبة كبيرة في الارتباط معك..أتمنى أن لايكون لديكِ مانع”. دون إرادتها شعرت بالارتباك مع العلم أنها كانت تعرف ما كان يريد أن يقول لها قبل أن تأتي وتجلس معه تحت الشجرة الوافرة الظلال.” كانت دقات قلبها تتسارع بشكل كبير لدرجة أنها شعرت بأن قلبها سيتوقف عن العمل. لا تعرف ماذا تقول . بعد تردد نسبي قالت وهي تحدق في عينيه” يُشرفني أن اكون شريكة حياتك في السراء والضراء ولكن لدي شيء مهم يجب أن اقوله مهما كانت النتيجة وأرجو أن تسمعني حتى النهاية” . سكتت بعض الوقت كي تستجمع شجاعتها في الحديث عن كل شيء يخطر في بالها..نظرت إليه مرة أخرى وهي تقول” قبل كل شيء أنا مريضة في الجهاز التنفسي وأشعر بالاختناق حينما يكون الجو مترباً…من يدري قد يؤثر هذا على حياة أبناؤك إن حدث الزواج. هناك شيء آخر. هل تعتقد أن هذا الزواج متكافيء؟ أقصد أنت طبيب وأنا لاشيء…مجرد فلاحة كانت لاتقرأ ولاتكتب ولكن وجود طارق هو الذي أنقذني من حالة الجهل التي كنتُ أعيش فيها. كنت أسمع أن ألأطباء لايتزوجون إلا طبيبات من مستواهم ألعلمي..طبعاً لهم الحق في هذا. .أو على ألأقل عاملات في الميدان الطبي كأن تكون الزوجة طبيبة أسنان أو صيدلانية. وجودي معك وأنا بهذا المستوى الثقافي المتدني قد يخلق لك معاناة نفسية في المستقبل. قد تندم في المستقبل وتتهم نفسك بالأحمق لأنك لم ترتبط بفتاة مثقفة أو لنقل متخرجة من جامعة معينه. من يدري قد تعيّرني في المستقبل وتقول لي بأنك صنعت معروفا كبيرا لأنك تزوجتني. إذا حدث شيء كهذا- إن تم الزواج – فأنني أقتلك وأقتل نفسي. أنا لاأريد من الزوج أن يعطف عليّ حينما يتزوجني ويقول بأنه …أنت تعرف ماأقصد. ليس معنى هذا أنني لاأريد الزواج منك ولكن أريد أن تفهم كل مايدور في ذهني. ثم هناك شيء آخر وهو أنني بدأتُ أقترب من السابعة عشر عاماً…فلماذا لاتتزوج خالدة؟ لقد إقتربت من العشرين. هذا كل مالديّ لإقناع ما يفتقد إليهِ الكثير من الناس” .. سكت بعض الوقت. كان قلبها يخفق بشدة لاتعرف هل هو يقول الحقيقة أم أنه يستعمل حيلهُ القديمة مع البنات أو هذا ما كانت تتخيله. زفر زفرة أخرى ليستأنف كلامه” أنا ابحث عن زوجة فقط ولن تكون هذه الزوجة موظفة أو طبيبة أو أي شيء آخر..أريد شريكة حياة تهتم بي و أطفالي فقط..حينما أعود من العمل أجدها تنتظرني في البيت…أما بالنسبة للثقافة..فيمكن القول – ليس كل من أنهى الجامعة هو بمثقف..الثقافة.”
يتبع ……