23 ديسمبر، 2024 5:57 ص

حب ينهض في زمن الخوف – 7 –

حب ينهض في زمن الخوف – 7 –

انتقلت سعاد للعيش مع طارق في غرفته بعد أن عقدا قرانهما. لم يقيما أي حفلة كما كان سائداً هناك في مناطقهم الريفية. الشيء الوحيد الذي فعله أمجد- بناءأً على طلب طارق- هو أنه ذهب مع زوجته إلى المدينة وجلبا طعاماً جاهزاً من أفخر فنادق الدرجةِ ألأولى كي يكون عشاءاً مميزاً في تلك الليلة.كان الجميع فرحاً بنوعية الطعام وجودته..كانت ليلة مميزة حقاً. لم يشتري طارق غرفة جديدة لأنه قرر أن يؤجل ذلك إلى مناسبة أخرى. لقد تبرع له الجميع ببطانيات ووسائد جيدة. أخبر سعاد قبل عقد القران – أنه لن يشتري غرفة حديثه إلا بعد أن يتأكد من مصير والدته- .إحترمت رأيه وهي تقول ” صدقني أنا أفضل النوم على الأرض “. كانت تلك الليلة خاصة لكل من سعاد وطارق. حينما كان مستلقياً على ظهرة وهي تضع رأسها على ذراعهِ الأيمن كانت تشعر أن الدنيا كلها أصبحت في قبضتها.همست قائلة” المعذرة لأنني كذبتُ عليك حينما قلتُ لك بأنني عاقر..الحقيقة هي أن زوجي السابق هو الذي كان عاقراً..انا خصبة مئة في المئة…” كان يداعب شعرها بهدوء وهو يقول” أردتُ أن تكوني لي في السراء والضراء…إكتشفت أنني متعلق بك جداً..قررت مع نفسي أن أغادر هذا المكان إذا رفضتِ…” راحت تقبل صدره ورقبته بشغف. في تلك اللحظة قال لها ” حسناً لننسى العالم ألآن ..لنغوص في بحر الحب الحقيقي..” راحا يمارسان العشق الكبير برغبة جامحة أفقدتهما صوابهما ونسيا آلام الناس في كل الأرض ……
في المقابل..وفي الغرفةِ الأخرى كانت هناك مخلوقة بشرية تئن وتبكي بلا توقف. كانت سميرة تنام لوحدها في غرفتها التي كانت مخصصة لها و شقيقتها سعاد. لأول مرة تنام لوحدها منذ اليوم الذي جاءت فيه للعيش في هذا البيت بعد إنفصالها عن زوجها.كانت النيران مستعرة في روحها. كانت قد عاشت حب صامته لوحدها ليالٍ طويلة تحلم به …تتمنى أن ترتبط به ولو أن هذا كان حلماً مستحيلاً يراودها كلما اختلت بنفسها. أرادت أن تحقد على شقيقتها المفضلة – التي كانت تعتبرها كأم وصديقة وكل شيء. ماذا تفعل ألان؟ كيف ستقضي هذه الليالي وحيدة في هذه الغرفة التي شهدت أحاديث طويلة بينها وبين سعاد. كانت تستشيرها في كل شيء.راحت تحدث نفسها بألم وحسرة وضياع تام ” لقد فقدتُ كل شيء..لمن أعيش بعد ألآن؟ ضاع زوجي وأطفالي…سأبقى هكذا أدور في حلقة مفرغة إلى آخر يوم في حياتي. اذهب إلى المزرعة..أحصد الزرع واعتني بالأبقار..وأنام وحيدة في الليل…كيف أستطيع التخلص من هذه الحياة الرتيبة؟ أطلقت حينما قال لها ” صديقينني ..لايهمني إذا كنت عاقر أم لا..المهم هو أنني أريد أن لدموعها العنان..أرادت أن تستنزف كل كآبتها وحزنها. فجأة خطرت على ذهنها فكرة عظيمة…جلست على فراشها منتبه لتلك الفكرة الجهنمية بالنسبة ِ لها….قالت تحدث ذاتها ” هل يمكن أن تتحقق هذه الفكرة وكيف؟ يجب أن أتفوق في التعليم..سأدرس هنا كل الليل والنهار..من يدري قد أستطيع الدراسة في المدارس الحكومية المسائية ولكن كيف أحقق هذا؟ سأطلب منه أن يساعدني لأنقاذ حياتي ..سأفعل أي شيء للوصول إلى هذا الهدف..ليس لدي شيء أفقده بعد ألآن. لقد فقدت كل شيء – والشاة المذبوحة لاتخشى السلخ -.لم تنم تلك الليلة . ظلت تفكر وتفكر حتى بزوغ الشمس.
كان صباح اليوم التالي جميلاً , لم يخرج أي شخص للعمل. كان الجميع يتصرف بطريقةٍ مرحه حينما جلسوا لتناول الفطور مع العريسين.كانت السعادة القصوى تظهر على وجه سعاد لدرجة أنها كانت تتمازح مع الجميع. أما طارق فقد كان شخصاً آخر. شعر أنه يعيش في حلمٍ وردي لايريد أن يستيقظ منه أبداً. بعد تناول الفطور عاد العروسان إلى غرفتهما ليغرفا حباً لا يمكن أن ينتهي طالما أن هناك حياة على هذا الكوكب. كانت سعاد تغدق عليه من خبرتها في الزواج شيئاً لم يكن يحلم به أبداً. أستمرت الحياة تسير على هذه الطريقة فترة من الزمن. عاد طارق لتدريس البنات بنفس الهمة والإخلاص. كان يشعر أن هناك تقدماً لدى الجميع ولكنه لاحظ شيئاً غريباً لدى سميرة ..كانت تجيب على كافة الأسئلة الدراسية التي يطرحها أثناء الدرس. طلبت من سارة أن تعيرها كافة الروايات التي تملكها. كانت تقرأ حتى الصباح كل ليلة لدرجة أن الإرهاق كان يظهر عليها بشكلٍ واضح. في يومٍ من ألأيام طلبت من طارق أن يكتب لها إسم أي رواية يعرفها أو كان قد سمع بها. بسعادة وسرور كتب لها إسم أكثر من ثلاثين رواية عربية أو مترجمة. لم يسألها عن السبب كان يعرف في قرارة ذاته أنها تريد أن تحقق شيء معين. في اليوم الذي تلاه أعطت أمجد كمية كبيرة من النقود وطلبت منه أن يجلب لها كل تلك الروايات. ظلت تقرأ طلية أسابيع طويلة..كانت قد غيرت طبيعة عملها في الأرض. قررت أن تعتني بالأبقار فقط كي يكون لديها متسع من الوقت للقراءة . كانت تأخذ الأبقار إلى أبعد مسافة يمكن أن تصل إليها كي تختلي بنفسها هناك لتقرأ المزيد. كان الأمر بالنسبةِ للآخرين شيء طبيعي لأنهم إعتادوا على مشاهدتها وهي تقرأ. يوماً ما قالت لأمجد ” أريد أن تكتب لي إسم أي كتاب يتعلق بالتاريخ” . و برحابة صدر كتب لها – أسماء الكتب التالية” الحرب العالمية الأولى والثانية وأشهر المعارك الحاسمة في الحرب العالمية الأولى والثانية و المارشال رومل ..وكتب أخرى تتعلق بالحروب الأهلية التي دارت بين شمال وجنوب أمريكا. وكما فعلت في المرة السابقة طلبت من أمجد أن يجلب لها تلك الكتب.قرأتها كلها.كانت قارئة نهمة جداً. لم تعد تفكر بأي شيء سوى القراءة لدرجة أنها انعزلت عن باقي أفراد العائلة في أوقاتٍ كثيرة. كلما قرأت كتاباً كانت تريد أن تقرأ الكتاب الذي يليه. كانت تكتب المصادر التي اعتمد عليها الكاتب في إنجاز عمله…راحت تدون كل مصدر وتقرر أن تجده بأي ثمن. يوماً ما طلبت من زينب أن تأخذها إلى مكان لشراء الكتب في العاصمة – بالطبع مع أمجد – وتم الاتفاق على يومٍ محدد. كانت قد باعت جزء من مصوغاتها الذهبية قبل فترة كي تغطي نفقات شراء الكتب. أصبحت مدمنة لدرجة الهوس في حبها للقراءة. حينما كانت تسير إلى جانب زينب في الشارع المشهور ببيع الكتب كانت كالمسحورة..كانت ترتعش كلما شاهدت كتاب معين. راحت تجمع الكتب وتدفع الثمن دون أن تتفاوض على السعر لدرجة أن بعض الباعة كانوا لا يصدقون ما يجري أمامهم. استأجر أمجد عاملاً لنقل الكتب إلى السيارة. في طريق العودة قالت لها زينب ” هل من الممكن أن تقرئي كل هذه الكتب؟ لاأصدق ذلك؟”. أجابتها بحزنٍ ممزوج بحسرة دفينة ” من يدري ..ربما أستطيع ذلك وربما لا أستطيع , المهم أشعر أنني في عالم آخر غير هذا العالم الذي نعيش فيه….عالم مليء بالإنجازات والحركة وحوادث لاتنتهي. أصدقك القول حينما أنتهي من قراءة كتاب أشعر براحة وسعادة لم أجدها في كل هذه ألأرض..الأمر لايتعلق بالنقود أو شيء آخر..سعادة روحية لم أجد لها مثيلاً. لاأعرف هل سيأتي يوماً أحقق من هذه القراءة فائدة أم مجرد قتل الوقت والغوص في أعماق الخيال الذي لاينتهي. بدأت أشعر أو أميز بين الكاتب الجيد والكاتب المتوسط ..بدأت أفضل كُتب بعض الروائيين على البعض الآخر.ليس معنى هذا أنني أفضل منهم أو شيء من هذا القبيل ولكنني أصبحت كمن يجلس في مطعم معين ويفضل بعض الطعام على البعض الآخر.أحياناً أقول مع نفسي حينما أنهي كتاباً – لو أن الكاتب سلك الطريق الآخر من مسار الحكاية لكانت رائعة بالنسبة لي- أحياناً أخرى أقول مع نفسي” هذه مجرد تفاهات فالحكاية التي عالجها الكاتب مجرد تسطير كلمات زائدة عن الحاجة…في حين أن الكاتب ألاخر كان يستعرض – عضلاته- في إستخدام كلمات قوية من اللغة و القاريء البسيط مثلي يشعر بالقرف منها.ما هي العبرة من الكتابة؟ هل أن الكاتب ينطلق وراء العبارت المعقدة ليقول للقراء أنا أفضل منكم في اللغة ومعرفة كيفية التلاعب بالكلمات أم أنه يريد أن يوصل فكرة مفيدة للمجتمع؟ حينما أنهي هذه المجموعة سابدأ بقراءة الكتب الزراعية كي أرَ ماذا يقول العلماء عن الزراعة؟” . سكتت وراحت تنظر إلى الأفق البعيد الممتد على جانب الطريق السريع .
في يومٍ من ألأيام طلب طارق من طالباته أن يكتبن موضوعاً إنشائياً عن أي شيء كي يتحقق من مدى قابلياتهن في الكتابة. كتبت سعاد عن سعادتها في حياتها الجديدة وعن عودة الروح مرة أخرى بعد أن تزوجت من رجل لم تخطط للأرتباط به يوماً ما .. وكتبت خالدة عن أحلامها البعيدة ورغبتها لتحقيق أشياء كثيرة.. في حين كتبت ناهدة عن رغبتها في إكمال دراستها وكتبت وردة عن رغبتها في شراء سيارة يوماً ما. وكتبت سارة عن إبن عمها الذي كان يمثل كل شيء في حياتها, في حين كتبت ضحى عن حبها للأرض. أما سميرة فقد قالت في إنشائها ” كانت هناك وردتين زاهيتين عند بركةِ ماءٍ زلال.كانتا تضحكان حينما يتجمع عليهما ندى الصباح الباكر كل يوم.جاءت ريح عاصف يوماً ما ومزقت إحداهما وبقيت الأخرى تئن لوحدها تذرف دموعاً بلا توقف . تتعذب كل صباح حينما يسألها الندى عن سرِّ غياب الوردة ألأخرى. كانت دموعها الجواب الوحيد . غاب الندى يوماً ما فقد سأم الحديث إلى وردةٍ واحدة..حاولت أن تستجديهِ بدموعها أن لايغيب هو الأخر.ظلت تقاوم لوحدها كل عواصف الفصول وتعاقب الأيام..إشتد عودها من جديد وراحت ترسم لنفسها أحلاماً كبيرة وعاشت كل أيامها تنشد البهجةِ والنجاح في حلمٍ أكبر من هيكلها البض الطري.وجدت لها طريقاً آخر وحلم آخر لعله ينسيها ذكرياتها ولحظات سعادتها البعيدة الممزقة عند الساقية.” نظر إليها طارق وقد فهم كل كلمة من كلماتها. كان يشعر بسعادة غامرة لهذا التحول غير المتوقع في أسلوبها . دون وعي راح يقول بطريقةٍ إلقائية كأنه يحاور ممثلة من ممثلات الدرجة ألأولى في مسرحية إستمر عرضها عشرات السنين ” ستعود الوردة الوحيدة الحزينة تنسج آمالها وأحلامها الكبيرة حينما يعود الربيع وتسقط قطرات الندى من جديد..ستزهر الورود الصغيرة الأخرى القريبة من الساقية ويعود الحلم ليتحول إلى حقيقة ..سيتراجع الألم ويتحول الحزن إلى فرحٍ لاينتهي وعندها سيكون ذلك العرس الكبير.” صمت قليلاً ثم قال” رائع جداً ..لم أتصور أنكِ سكونين بهذه القدرة على التعبير. إذا إستمريتِ على هذه الطريقة ستكونين كاتبة من الدرجةِ ألأولى. أنا سعيد جداً لأنني أشعر أن محاصيلي الزراعية بدأت تثمر…بارك الله فيك يا سميرة.. وبارك الله في جميع الطالبات الباقيات.” في تلك الليلة كانت سميرة تتقلب على فراشها ..لم تستطع النوم. كانت كلمات طارق تقض مضجعها. شعرت أنها حققت بعض الشيء الذي يُثبت له من أنها كائن بشري آخر. إذن, هي ليست مجرد فلاحة ترعى البقر وتحصد المحاصيل الأخرى. قررت ان تواصل القراءة..كانت تريد ان تفعل شيئا يجعلها معروفة على مستوى العراق..تريد أن تترك بصمة كبيرة خلفها. قالت تحدث ذاتها بحياء” هل يمكن أن أكتب رواية على غرار رواية ذهب مع الريح؟ أو عشاق فينيسيا ؟ أو أي رواية اخرى؟ هل سيضحك النقاد حينما يطالعون روايتي وينعتونني بالمجنونة أم شيء آخر؟” راحت تتقلب على فراشها كأنها تتقلب على صفيحٍ ساخن في يومٍ شديد الحرارة. ضحكت على نفسها حينما راودتها هذه الفكرة.” من أنا كي أحاول الكتابة؟ ” راحت تكلم نفسها كمن أصابه مسٌ من الجنون. فجأة قالت لنفسها ” حسناً سأقرأ مئة رواية أخرى جديدة وبعدها أحاول الكتابة..من يدري قد اصل إلى شيء ما ..سأحفظ بعض العبارات عن ظهر قلب ..” قررت ان تبدأ هذا المشروع في اليوم التالي. في الصباح أعطت أمجد قائمة طويلة من الأسماء وقالت له” حينما تعودا من العمل إذهب أنت وزينب إلى أي مكتبة عملاقة في العاصمة وأجلبا لي أي رواية موجودة ما عدا هذه الأسماء…لأنني قرأتها كلها” . أعطته سوارها الذهبي الوحيد الذي كان في حوزتها ليبيعه ويشتري لها بثمنه كل ما تريد.نظر إليها وهو يقول ” إحتفظي به لدي نقود تكفي لشراء كل روايات العالم…حينما تصبحين كاتبة مشهورة..إكتبي إسمي مع الذين تهدين لهم كتابك”. كان يستهزأ بها.
في اليوم التالي كانت لديها جميع الكتب التي حلمت بها. انكبت على قرائتها بشغفٍ تام لدرجة أنها لم تعد تجلس مع بقية أفراد العائلة أثناء تناول الغداء أو العشاء. كانت سارة تجلب لها طعامها إلى غرفتها بين الحين والآخر. شعرت أنها بدأت تنسلخ عن الواقع الذي يعيشه بقية أفراد العائلة. بين فترة وأخرى كانت تدوّن عبارة أدبية جميلة أو حكمة ذات معنى رائع تجدها مناسبة قد تضعها في مكانٍ ما حينما تكتب روايتها. إستمرت على هذه الحال لدرجة أن أمجد بدأ يقلق عليها كثيراً. واستمر طارق في تقديم معلوماته أثناء الدروس الليلية لطالباته النشطات. لم يتصور أنهن مندفعات إلى هذه الدرجة . بعد ستة شهور من الدراسة المكثفة شعر أن كل واحدة منهن تستطيع قراءة أي كتاب عربي. في نفس الوقت توالت الطلبات عليه لتصليح بعض العجلات في المناطق الزراعية القريبة وأصبحت سمعته منتشرة بشكلٍ كبير. كانت سعاد تذهب معه في كل جولاته الميدانية. أحياناً تاتي إليه العجلات ليتم إصلاحها قرب البيت. شيَّد ورشة تصليح راقية قرب البيت بمساعدة سعاد وأمجد. كانت سعاد تعطيه كل النقود . لم تعد سعاد تساعده في ورشة التصليح لأنها أصبحت حامل ولذلك قرر الجميع أن يقوموا بكل شيء مكانها. حاولت أن تقنعه بأنها قوية وتستطيع أن تعمل إلى آخر يوم من فترة الحمل. رفض طارق ذلك بشدة وطلب منها أن لاتفعل أي شيء إلا الأشياء البسيطة خوفاً عليها . أراد أن يستبدلها بسميرة لتحل محلها في مهمات التصليح خارج المنطقة حينما تكون هناك طلبات من قبل بعض الأشخاص. رفضت سميرة أن تعمل معه لأنها في حاجة ماسة جداً للوقت لإتمام الكتب التي في حوزتها.أخيراً تم الاتفاق على ترشيح ” ناهدة” لتكون مساعدة له في الورشة- طبعاً مقابل أجور – . في قرارة نفسه لم يكن راضيا عن هذا الترشيح لأنها كانت تشكو من مرض في صدرها وتشعر بضيق التنفس عند حدوث العواصف الترابية بَبْدَ انه قَبِلَها كي لا يؤثر ذلك على حالتها النفسية. عند الساعة الثامنة من صباح اليوم الذي تم فيه تحديد البدء في عملها معهُ ارتدت بدلة عمل زرقاء اللون وحذاء خاص بالعمل ولفّتْ شعرها بقطعة قماش جميلة . وقفت أمامه في ورشة العمل بثقة مطلقة وهي تقول ” أنا مستعدة لأي عمل” . نظر إليها مذهولاً ثم أطلق صافرة من فمهِ قائلاً” واو..ماهذا؟ من أين حصلتِ على هذه البدلة؟ تبدين وكأنك مهندسة حقيقية…كم أنتِ جميلة بهذا الزي! “. قالت ضاحكة” توقفْ عن الإطراء ..إذا سمعتك سعاد تطردني من الورشة حالاً” وأطلقت ضحكة صاخبة. قدم لها خطة العمل لذلك اليوم وطلب منها أن لاترهق نفسها كثيراً لأن أمامها ساعات طويلة .طلب منها أن تعيد ترتيب كافة الأدوات المبعثرة في أماكن مختلفة وبعدها تنظيف أحد محركات العجلات الموجود في زاوية الورشة. دون كلل أو ملل راحت تقوم بعملها على أكمل صورة. كان يراقبها بجدية ويسجل ملاحضاته في ذاكرته كي يتأكد فيما إذا كانت مفيدة له في المستقبل أم أن مرضها قد يسبب لها بعض الإرهاق. عند الساعة العاشرة صباحاً جاءت سعاد تحمل بعضاً من الطعام لهما. قالت وهي تضع الفطور الصباحي على ألأرض” هل هي مفيدة…..أم لا؟” . إبتسم لها وهو يُقَبِّلْ خدها بسرعة ” لم أقرر بعد…من يدري ربما أقدم لكِ الجواب بعد يومين”. في اللحظةِ التي أنهيا فيها طعامهما شاهدا من بعيد سيارة صغيرة تتجه صوب الورشة القريبة من البيت . صاح بفرح ” عمل خارجي أنشاء الله” . ترجل من السيارة شاب أنيق جدا. تقدم إليه طارق قائلاً بأدب ” هل نستطيع تقديم أي خدمة لك أيها ألأستاذ؟” بعد أن تصافحا قال” الحقيقة أنا غريب عن هذه المنطقة..أنا الطبيب الجديد المنقول إلى المركز الصحي في ” شيشبار” . قال لي شخص ما أن المركز الصحي قريب من الطريق السريع..لا أعرف أين أذهب . لقد سلكت هذا الطريق لعلي أجد من يرشدني على المكان.” سكت قليلاً ثم أردف قائلاً” أنا أسكن في منطقة التاجي..أنا في مرحلة التدرج الطبي..سأبقى هنا سنة أو أكثر بعدها لاأعرف أين سيكون مكان عملي …” فجاةً صاح طارق” صالح عبد الخالق أحمد” . ذعر الشاب وهو ينظر إلى طارق بتعجب.” هل تعرفني” قال بتلعثم.” دون سابق إنذار صاح الشاب” طارق مصطفى حميد” . هجم على طارق وهو يقبلهُ بشغف شديد.أخذ طارق يشده بقوة وجذبه نحو الأرض وراحا يتدحرجان كطفلان يلعبان في حارةٍ منسية وهما يضحكان بسعادةٍ لاتوصف. كانت سعاد تنظر إليهما بتعجب وذهول في حين راحت ناهدة تضحك كطفلة بريئة. نهضا وهما ينظران إلى سعاد. قال طارق بطريقةٍ مهتاجة” صديقي في الثالث الإبتدائي..كان من أفضل الأصدقاء..عرفته من النظرةِ ألأولى..كم كان يساعدني في درس الرياضيات..كنا نلعب سوية طيلة تواجدنا في المدرسة …افترقنا بعد الأبتدائية…لم أره منذ ذلك اليوم…واو..كم أنا سعيد” . راح الشاب ينظف بدلتهِ من التراب وهو ينظر إلى ناهدة ويقول ” المعذرة لهذا التصرف الصبياني كان طارق دائماً يطرحني على لأنه أقوى مني..من يدري ربما أستطيع أن أطرحه أرضاً يوماً ما وأنتصر عليه..كنا نتصارع كل يوم وكان يقول لي بأنه يريد أن يصبح بطل العراق في المصارعة” . بعد أن عرّفه طارق بزوجته وبناهدة قال ” سعاد أين المركز الصحي؟” قالت ” هل يريد أن نذهب معه لنريه الطريق أم ماذا؟” صاح الشاب ” لا أعرف أي طريق أتمنى أن يأتي معي شخص كي لا أتيه بين الحقول المترامية” . نظرت ناهدة نحو سعاد قائلة” أنا أعرف الطريق لأنني زبونة دائمة للمستشفيات”. دون تردد قالت سعاد” طارق تستطيع أن تذهب معه وتأخذ ناهدة بعدها تعالوا جميعاً لأنني أدعو الطبيب الجديد إلى الغداء معنا هذا اليوم “. كطفل بريء صاح طارق” حسناً سنذهب معك أنا وناهدة ..حاول أن تسجل حضور وتعود معنا ..سيكون هذا اليوم يوماً رائعاً لي”.
يتبع ………………….