23 ديسمبر، 2024 5:59 ص

حب ينهض في زمن الخوف – 11 – الحلقة الاخيرة

حب ينهض في زمن الخوف – 11 – الحلقة الاخيرة

…كانت تنظر اليك دون أن تراها أنت. كانت الدموع تسيل من عينيها ثم تمسحها على عجل كي لايراها أحد. مرة قالت لي- إذا تزوجتُ سأسمي ولدي صالح على إسمك لأنني أحب هذا ألأسم كثيرا.. ولكن من يتزوجني أنا؟ أنا لاأريد أن أبتعدعن هذا المكان حتى لو رغب بي رئيس إحدى الدول– كانت تعمل المستحيل كي تدخل الى غرفة الطبابة التي تعمل أنت بها وتحاول أن تجلب لك الشاي بنفسها كلما طلبت مني قدحاً من الشاي. كانت تتحجج بحججٍ واهيه كي تنظر اليك وأنا بعيده عنك. تأكدتُ من هذا الموضوع عن طريق الصدفه ولو أنني كنت أبحث عن دليل ملموس بشتى الطرق. كان لديها دفتر مذكرات منذ أن بدأت تعرف القراءة والكتابة تسطر فيه أشياء تافهه وكنا نضحك عليها حينما تقرأ بعضاً مما كتبت.في بداية ألأمر كانت تطلب منا أن نستمع اليها كي نقول رأينا لأنها كانت تكتب عن عملها في الحقل وصعوبات سقي المزروعات وأشياء مضحكة جدا. بعد زواجنا لم تعد تذكر مذكراتها أبدا وحينما كنا نسألها كانت تقول بأنها سأمت من هذه ألأشياء التافهه. لكنني كنت أشاهدها تجلس وحيده وتكتب. حاولت بشتى الطرق أن أطلع على المذكرات ولكن كانت تحمله معها أينما تذهب ولا تدع أي أحد يطلع عليه. بطريق الصدفه كانت تنام هنا في صالة ألأنتظار وقد غطت نفسها ببطانية وكانت في سباتٍ عميق من النوم. كان دفتر المذكرات قرب رأسها. سرقته بهدوء وركضتُ الى المطبخ ووجدتُ ماكنت أبحثُ عنه. ثلاث صفحات عنك أنت بالذات سأكتبها هنا حرفياً إسمع ماكتبت خالده ” صالح أيها العشق الممنوع..مالذي جاء بك الى هنا؟ هل هو قدري أم قدر شقيقتي التي أعشقها حتى الموت؟ منذ أن وطأت قدماك هذه ألأرض وأنا أتلوى من حنينٍ وأنين اليك. لماذا لاتتركنا نعيش هنا بسلام. لم أعد أقوى على التحمل..كل يوم يزداد عشقي اليك ولكن لايحق لي ألأقتراب منك..فجسدك محرمٌ علي وجسدي محرمٌ عليك ولكن هل أبقى أتعذب الى أن أموت؟ حينما أراك أشعر أنك تذوب في جسدي وروحي تذوب في روحك ولكن أنت كالنار الحارقة بالنسبةِ لي , في اللحظةِ التي ألمسُكَ بها تحترق أصابعي جميعها وحينما تذهب اليها- وهي كل شيء في حياتي- يحترق كل شيء في جسدي وأتحول الى قطعةٍ من الرماد. هل هناك حلٌ لهذا العذاب أم أن هذا قدري وينبغي تحمله. سأنهار في لحظةِ ضعفٍ وأسلمك كل شيء أملكه وعندها سيكون موتي وموت من أحب ألا وهي – شقيقتي -. لو لم تكن شقيقتي لكنت قد قتلتها كي أستحوذ عليك…ولكن كيف أقتلها ..لو قتلتها سأقتل نفسي في نفس اللحظة التي أقتلها لأنها روحي والهواء الذي أتنفسه فهل يمكن أن يتخلى ألأنسان عن الهواء الذي يتنفسه.؟ أعرف أنك لن تقرأ هذه الكلمات لأنني أكتبها لنفسي ومن يطلع عليها فسيموت لأنني سأقتله..هي معادلة صعبه ليس لها حل.” صالح هل فهمت ماكتبته خالده؟ أنا لستُ حاقده عليها أبداً فالحب لايمكن السيطره عليه حينما ينبثقُ الى الوجود. كنتُ أتعذب من أجلها وليس من الغيرةِ منها لأنني لايمكن أن أكرهها أبدا.”
وضع صالح الرسالة أمامه ثم وضع رأسه بين يديه لايعرف مايقول. كان يرتعش كطفلٍ صغير شاهد كابوساً في ليلةٍ مظلمة. هل يصرخ من الخوف أم يبكي بصمت؟ في اليوم التالي قال لطارق ” سأذهب الى بيت والدي وأعود بعد ثلاثة أيام أشعر بألأختناق هنا” . ودعه الجميع بحزنٍ شديد. لم يفهم أحد مضمون الرسالة .
حينما عاد كان يشعر ببعض التحسن . عاد الى سابق عهدهِ يعمل في المركز الصحي في النهار ويواصل عمله في العيادة في المساء ولكنه لم يعد يخرج الى أي مكان خارج المنزل. إنكب على دراسة المواضيع الطبية تهيئاً لدراسة التخصص في الجراحةِ القلبية. ظلت خالدة تسانده وتعتني بطفلهِ كأنها أمه الحقيقية. بعد شهر آخر كان طارق يعمل مع زوجتهِ سعاد في ورشة النجارة القريبة من البيت فجأةً سقطت على ألأرض بلا حراك كأنها ماتت. ركض طارق نحوها بخوفٍ شديد صارخاً بأعلى صوتهِ ” سعاد….سعاد..ماذا بكِ؟” . كانت تتنفس بصعوبةٍ بالغة جداً. حملها بين ذراعيه راكضاً نحو العيادة التي لاتبعد الا أمتار قليلة. كان يصرخ بأعلى صوته يطلب المساعدة من ألأخرين. جاءت خالدة من العيادة تركض وهي تقول ” ماذا حدث؟” لم يجبها طارق وأستمر في تقدمه السريع نحو العيادة. كان صالح في غرفة المطالعة منكباً على دراسة المواضيع الطبية – كان اليوم جمعه – لم يذهب الى المركز الصحي. وضعها طارق على السرير الطبي في غرفة العمليات وصرخ بأعلى صوته ” صالح..صالح..أيها الحمار ..أين أنت؟” . خرج الطبيب من غرفة المطالعة بسرعة حينما سمع صوت طارق يستنجد به. كان طارق يمسك يد زوجته التي رقدت كجثه هامده. راح صالح يفحص قلبها بسماعته الطبية ويضرب بأصابعه أماكن مختلفه من جسدها. كانت جميع الفتيات قد تجمعن قربها يصرخن بهلع تام لدرجة أن صالح صرخ بغضب ” الكل يخرج عدا طارق”. كان طارق يتوسل بصديقه صالح ” صالح لاتدعها تموت..صالح سأقتلك إن ماتت…صالح بالله عليك إفعل أي شيء…” لم يقصر الطبيب في عمله زرقها إبره معينه. بعد قليل فتحت عينيها ولكن تنفسها لازال ضعيفاً. كان طارق يمسك يدها اليمنى بقوة وينظر في أعماق عينيها. أشارت اليه أن يقرب أذنهِ من شفتيها . راحت تهمس في أُذنه كلمات قليلة . شعر طارق أنها تلفظ أنفاسها ألأخيرة. صرخ ” صالح..صالح”. كان صالح منشغلاً في إنقاذها بكل خبره كان قد حصل عليها من خدمته الطبية ودراسته الطويلة. أغمضت عينيها وأرتخت يدها وراحت الى العالم الآخر بلا رجعه. صرخ طارق وهو يجلس على ألأرض متهالك القوى يبكي بحرقة كطفلٍ صغير فقد أمه أمام نظراته ” لماذا ..لماذأ لم تستطع إنقاذها ياصالح…آه..مات كل شيءٍ في حياتي..كيف أستطيع العيش بدونها…كيف..كيف؟” وراح يضرب على راسه بقوه. سحبته خالده الى خارج غرفة الطواريء وهي تبكي بصمت.
بعد شهر على رحيلها كان صالح وطارق يجلسان تحت الشجرة الكبيرة القريبة من البيت الكبير الذي نشأت فيه سعاد. كان إبن صالح يركض هنا وهناك وخالدة تحاول اللحاق به كي لايسقط في النهر الصغير الذي يغذي ألأرض الطيبه. لم يدخن طارق طيلة حياته ولكنه فجأةً تحول الى مدخن شره بعد وفاتها. فقد الرغبة بكل شيء ….لم يعد يصنع أي شيء سوى الجلوس في الشمس الدافئة يرسل نظراته نحو المجهول ويدخن سيكارته التي لاتترك أنامله أبداً. قال صالح بهدوء ” كان قلبها ضعيفاً جداً لاأدري كيف عاشت كل هذه السنين؟ لماذا لم تقل لي قبل هذا الوقت أن قلبها ضعيف هكذا؟ ” نظر طارق نحو الافق البعيد وهويقول بصوتٍ واهن ” وما أدراني أنا؟ لم تقل لي أي شيء. بين فترة وأخرى كانت تجلس على ألأرض وتقول أشعر بالتعب . حينما طلبتُ منها يوماً ما أن أعرضها عليك رفضت بشدة وأخبرتني أنها لازالت شابه ولاتعرف المرض .كنتُ أشعر أنها تخبيء شيئاً ما عني إلا أنني لم أتصور أن ألأمر بهذه الخطورة” . من بعيد جاء صوت سميرة ” تفضلا….الغداء جاهز” وعادت الى البيت. سحبت خالدة يد الطفل نحو البيت وهي تقول : ” صالح لاتتأخر …البنات في ألأنتظار” . نهض صالح وهو يقول ” فلنذهب…لاتقل أي شيء عن مرضها….” جلس الجميع حول مائدة الغداء يأكلون بصمت تام. كسرت سميرة الصمت وهي تقول ” إسمعوا جميعاً….ما حدث هو مكتوب من قبل الخالق العظيم ولن تتوقف الحياة بموت حبيب أو صديق…الحياة مستمره وينبغي علينا مواجهة الواقع مهما كان مأساوياً. البكاء والعويل والحزن الطويل لن يعيد الذي مضى …يجب أن ننتبه الى حياتنا ونمارس نشاطاتنا كما كنا . لقد تركنا ألأرض منذ زمن ولم نعد نعمل أي شيء سوى البكاء وأسترجاع الذكريات المريرة. بأعتباري المرأة الكبيرة بعد سعاد سأكون أنا المسؤولة عن كل شيء يتعلق بالأرض والفتيات….فيما يتعلق بطارق وصالح هما جزء من العائلة لا بل العائلة كلها. لاأريد أن يعيش طارق بهذه الطريقة المرعبة التي وصل اليها. نحن نستمد القوه منه ..حينما ينهار سننهار جميعاً وينتهي كل شيء. أمجد وزوجته لن يعودا الى ألأرض أبداً فقد أقسم أمجد أنه لايستطيع العيش هنا بعد وفاة سعاد سيصاب بالجنون إذا بقي هنا. سيعيش في بيته في الكرادة وسيأتي لزيارتنا كل شهر أو حينما نطلب منه ذلك لحدوث شيء معين. في البداية لم أوافق أنا أبداً ولكنه راح يبكي ويقبل يدي ويطلب مني أن أسمح له بالرحيل….وافقتُ على مضض.” سكتت قليلاً كي تستعيد أنفاسها. كان الجميع ينظرون إليها بتركيز تام. عادت للحديث مره أخرى. ” إسمع ياطارق نحن جميعا نعرف أن سعاد كانت مريضه بالقلب وقد تموت في أي لحظة وهي طلبت منا أن نكتم الخبر عنك كي لاتنزعج وتعيش في قلق دائم…أرادت أن تموت دون أن تعرف أنت سبب موتها. أرادت تعيش أنت بسعادة الى آخر يوم في حياتها. امرتنا جميعا أن نتنازل عن حصتنا في ألأرض لك وحدك عدا العيادة تكون لصالح. كتبنا تعهدات لها بالموافقه. أنت حر أن تبيع ألأرض أو تبقَ بها ..حر أن تسمح لنا بالبقاء معك أم غير ذلك. نستطيع الذهاب والعيش مع شقيقنا أمجد إن بعت ألأرض. هذه سندات ألأرض والتنازلات لك……وهذه رساله من سعاد كتبتها لك قبل موتها بأسبوعين وأوصتني أن أسلمها لك بعد الوفاة إن ماتت فجأة….خذ”. تفحص طارق السندات الرسمية . قال ” أريد قلم” . نهضت ضحى وجلبت قلم وقدمته لطارق . راح طارق يكتب بصوت مرتفع كي يسمعه الجميع” أنا طارق زوج المرحومة سعاد..أتنازل عن كل حصة لي الى البنات وسأذهب للبحث عن أمي إذا وجدتها سأعود معها وإذا لم أجدها فلن تطأ قدمي هذه ألأرض مرة أخرى.أما بالنسبه لصالح فهو حر في البقاء أو الرحيل” . كان جدياً في كل كلمة دونها ثم أعاد السندات والورقة الى سميرة. لم يعترض أحد لأنهم كانوا يعرفون مدى جديته. بعد الغداء طلب من صالح أن يوصله الى الطريق السريع كي يذهب لوحده نحو المجهول. على الطريق السريع توسل اليه صالح أن يوصله الى أي مكان ولكن صوت طارق الغاضب وهو يقول” إرجع وإلا قتلتك هنا” جعل صالح يتوقف عن الكلام. راح طارق يسير على الشارع السريع لوحده كمشرد تائه في الصحاري والقفار.
التفت الى الوراء ليلقي نظرته الاخيرة نحو صديقه الذي لم يستطع إنقاذ زوجته وهو يمسح دموعه بيدهِ اليسرى. ظل طارق يسير على الشارع الطويل دون أن يلتفت مره أخرى. من بعيد شاهد سيارة كبيرة لنقل الركاب قادمة من جهة ألأرض التي تركها. رفع يده ملوحاً لسائقها لعله يقف ويقله صوب العاصمة. في اللحظةِ التي توقفت قريباً قفز الى داخلها وأستقر في المقعد ألأخير. كانت السيارة تحمل مسافرين لايتجاوز عددهم أصابع اليد يتمركزون في المقاعد ألأمامية. حاول أن يسترخي ويغمض عيناه بيد أن طيف سعاد أرعبه حيث شاهدها تلوح له عبر الحقول الخضراء على الجانب ألأيسر من الطريق. فتح عيناه مره وتحسس موضع الرسالة التي سلمتها له سميرة قبل ساعة أو أكثر.