– في يومٍ ممطر قبل الغروب كان طارق وسعاد يجلسان مع صالح وناهدة في صالة ألأنتظار يتسامرون جميعاً عن أشياء مختلفة تتعلق بافكار متنوعة وكانت ناهدة تحاول إقناع طارق للبقاء لتناول العشاء معهما. في البداية إعتذر ولكن إصرار صالح جعله يقبل الدعوة. ذهبت سعاد لتساعد شقيقتها في إعداد الطعام في حين ظل الرجلان يناقشان مواضيع كثيرة. إشتد المطر وأبرقت السماء برقاً شديداً . كانت أصوات قطرات المطر تعزف ألحاناً مكتومة على النوافذ ذات الستائر الراقية. فجأةً دخلت عليهما ناهدة تلهث وهي تقول” صالح..شاهدت من نافذة المطبخ مصابيح سيارات كثيرة تتجه نحونا على الطريق الترابي” . قفز طارق وهو يقول” صالح إستعد للمواجهه ..قد تكون عصابة أو أي شيء آخر..إجلب بندقيتك وقف وراء النافذة وكن مستعداً لأطلاق الرصاص. إياك أن تخرج إلا إذا قلتُ لك أنا…سأكون في الخارج مع هذا المسدس..هل فهمت..إذا صرختُ بكلمة – إطلق الرصاص – إبدأ على الفور بتدمير كل شيء أمامي…إذا أصابني شيء لاتأتي لأنك ستموت..هل فهمت؟ إياك أن تلعب دور البطل….”. إندفع طارق نحو الفضاء الفسيح وزخات المطر تحجبُ عنه الرؤيا..من بعيد سمع صوت إطلاقات في الهواء قادمة من السيارات التي ظلت تتقدم بسرعة كبيرة نحو المكان الذي يقف فيه طارق. صرخت سعاد وهي تندفع نحو صالح” أين طارق؟” كانت تحمل بندقية. قال صالح بسرعة” إبقِ مكانك..لاتخرجي..أمرني طارق أن أستعد في هذا المكان…”. إستمرت الطلقات تنطلق من السيارات المتقدمة نحو البيت. دون تردد وقفت سعاد خلف نافذة المطبخ وراحت تطلق الرصاص في الهواء فوق السيارات . عاد طارق راكضاً في محاولة لمنعها من فعل أي شيء.صاحت بغضب ” ماذا ننتظر سيقتلوننا جميعاً” . حاول أن يمنعها ولكنها أصرت على إطلاق النار حتى النهاية. توقفت السيارات وتوقف إطلاق النار. إندفع رجلان نحو البيت وهما يصرخان” حالة طارئة..حالة طارئة..لدينا مصابين..لاتطلقوا النار..” . خرج طارق راكضاً نحو الرجلان وهو مستعد لأطلاق النار في حالة الظرورة. تقدمت السيارات ألأخرى ببطيء خلف الرجلان. عرف طارق أن هناك حالة خطرة. صرخ ” صالح تعال معي..” ركض صالح نحو طارق تلحق به ناهدة وسعاد. توقفت السيارات الخمسة قرب العيادة الريفية. صاح أحد الرجال ” وكيل وزير الزراعة في حالةٍ خطرة…عائلته معه..هل يمكن أن يقدم لنا أحد أي مساعدة ؟” صاح الطبيب ” إجلبو الجميع هنا..” . إكتظت صالة ألأنتظار بالرجال المدججين بالسلاح وإستلقى ثلاثة رجال على ألأرض ملطخين بالدماء وإمرأة تئن من ألألم وثلاثة فتيات جريحات وشاب ينزف من يديه وقدمه اليسرى. صاح الطبيب ” ناهدة ..خالدة ..إجلبي كل المعدات الموجودة على منضدتي..” كان منشغلاً لأيقاف النزيف من الرجل الممد على ألأرض. كان فاقداً لوعيهِ تماماً. أعطى صالح توجيهات لطارق وخالدة وسعاد وناهدة لعمل بعض ألأسعافات ألأولية. كانت إحدى الفتيات تصرخ ” بابا ..بابا..لا أريد أن أموت…ماما ..يدي تؤلمني..” . كانت ألأم تنظر إلى زوجها دون أن تتمكن من قول أي شيء. إستمرت عملية ألأنقاذ أكثر من ساعتين. كان صالح قد أمر كل الرجال المسلحين بألأنتظار خارج المكان الضيق نسبياً. توقفت الدماء . كانت ألأرض مغطاة بدماءٍ غزيرة. صرخ صالح” طارق خذ ناهدة وسعاد وخالدة إلى بيتك وإجلبوا كل ألأسّرة التي تستخدمونها للنوم هناك ..خذ معك كل الرجال المسلحين ليساعدونك في ألأمر..” إندفع طارق نحو الرجال صارخاً بأعلى صوتهِ ” إتركوأ أسلحتكم في السيارات وتعالوا معي لنجلب ألأسرّة من البيت ألآخر” . إمتثل الرجال لندائه وأنطلقوا جميعاً نحو البييت الذي يبعد عدة أمتار عن مكان العيادة الشعبية. صرخ طارق في البيت” أيتها الفتيات إخرجن جميعاً سنأخذ أسرتكن…”. تمت العملية بنجاح وتم وضع المصابين على ألأسرّة. صرخ الطبيب صالح” هذا الشاب يحتاج إلى دماء كثيرة …سيموت إن لم ننقل له الدم…من يتبرع له بثلاثة قناني من الدم؟” .نظر الرجال المسلحين إلى بعضهم البعض دون أن يتقدم أحد. كرر صالح النداء مرة أخرى دون فائدة . صرخت خالدة ” خذ من دمي…سيعيش هذا الشاب.. من دمي” . صرخ طارق ” أنتِ ضعيفة..ستموتين…سأعطيه أنا من دمي..لدي الكثير…”. صاحت خالدة” أنا أريد الموت..من أنا ..لافائدة من وجودي ..من يدري ..قد يعيش هذا المسكين…” دون تردد رفعت أكمام ذراعها ألأيمن ووقفت قرب الشاب الفاقد الوعي . صرخت ” صالح …ماذا تنتظر؟ خذ من دمي..لن يعطيه أحد دم ..أنا أعطيه..لايهم الموت ..سأنقذ إنسان قد يكون له دور مهم في الحياة..أنا لاشيء..”. بدأ صالح ينقل من دمها إلى دم الشاب. كان الجميع ينظر إلى وجهها الذي بدأ يتحول إلى اللون ألأصفر. عند الثانية عشرة كانت عملية ألأسعافات قد تمت على أفضل صورة. جلس صالح على ألأرض منهكاً ينظر إلى ألأجساد المستلقية على أرسرّة الفتيات . جلس طارق قربه وجلست سعاد مذهوله قرب زوجها . كانت ناهدة قد نقلت خالدة إلى غرفتها كي تعتني بها ..كانت ناهدة شبه فاقدة لوعيها ولكنها تتنفس بطريقةٍ منتظمة. كانت الدماء تغطي كل ملابس صالح وطارق. جلس الرجال المسلحين في سياراتهم ينتظرون لايعرفون ماذا يفعلون. خرج إليهم صالح وأخبر المسؤول عن الرجال قائلاً ” من ألأفضل أن تذهبوا ألآن وتحاولوا جلب سيارات إسعاف من المدينة لنقل المصابين إلى المستشفى…بقاؤهم هنا خطر لأننا لانملك ألأدوية الكافية والمكان غير مريح…يجب نقلهم في غضون ساعتين على ألأقل ” . لم يتكلم رئيس الحراس سوى أنه قال ” لك ماتريد”. أنطلقت السيارات بأقصى سرعة والمطر لازال يسقط بصورة متواصلة. عند الثالثة صباحاً كان المكان قد خلى تماماً من كل شيء عدا الدماء التي ظلت تغطي ألأرض. جلس طارق وصالح وناهدة وسعاد قرب سرير خالدة في غرفة صالح ينظرون إليها بصمت. قال طارق ساخراً ” لقد جنينا هذا اليوم مبلغاً كبيراً جداً…لدينا فتاة هنا على وشك الموت…باعت دمائها مجاناً..وفقدت الفتيات أسرّتهن هذه الليلة…وتلطخت الصالة بالدماء…ياله من مكسب؟؟” . صاحت سعاد ” المكسب الحقيقي هو أننا أنقذنا أرواح بريئة…هذا أعظم مكسب حققته العيادة…شكراً لله”. في الرابعة صباحاً قدّمت ناهده ” طعام العشاء” .الغريب أن صالح قال بمرح” هذا ألذ عشاء تناولته هنا منذ أن جئت ُ إلى هذا المكان”. قال طارق ” تقصد فطور صباحي..أليس كذلك؟” ضحكوا جميعاً .
بعد ثلاثة أيام تحسنت صحة خالدة وعادت تزاول عملها في الحقل في الصباح وتساعد صالح في العيادة عند المساء. كانت تشعر بسعادة غامره . كانت حياتها قد تغيرت بعض الشيء نتيجةً للعمل مع صالح. بعد خمسة عشر يوماً على تلك الحادثة وعند الساعة الخامسة عصراً وبينما كان صالح جالساً في غرفة الطبيب وخالدة تقف في الباب الخارجي للعيادة شاهدت من بعيد ثلاث سيارات حديثة تتقدم نحو العيادة صاحت بأعلى صوتها ” لدينا ضيوف”. خرج الطبيب صالح من غرفته لينظر بنفسه ماذا يجري على الطريق الترابي المؤدي للعيادة. همس بصوتٍ واطيء” أعتقد لدينا عمل …إخبري ناهدة بألأمر وكوني مستعدة للأسعافات ألأولية ” . في اللحظةِ التي وقفت فيها السيارات قرب العيادة ترجل منها رجل يرتدي بدلة أنيقة جداً وقد أحاط به ثلاثة رجال يحملون غدارات حديثة. قال الرجل وهو يتقدم ” أنا الرجل المحظوظ الذي تم إنقاذ حياته على أيديكم…أنا وكيل وزارة الزراعة وجئت مع عائلتي لتقديم الشكر والتقدير لكل واحد في هذه العيادة الرائعة. أتمنى أن تسمحوا لنا بالدخول والجلوس معكم بعض الوقت.” في هذه اللحظة ترجلت سيدة أنيقة وشاب وفتاتين. صاحت خالدة” على الرحب والسعة” .ركضت ناهدة نحو السيدة وهي تصافحها وتقبلها في نفس الوقت. دخلوا جميعا إلى صالة ألأنتظار . ظل الرجال الحراس خارج العيادة بناءاً على ألأمر الذي تلقوه من الضيف الكبير. تحدثت السيدة ألأنيقة بصوت متواضع قائلة ” لقد شاهدنا الفلم الذي صورهُ الحراس أثناء إنشغالكم في إنقاذنا..ولدي عبد القادر جلب حاسبته معه كي يريكم عملكم البطولي.” بلا تردد بدأ عبد القادر يهيء – اللابتوب- ويضع مضخم الصوت . سكت الجميع . جلس الشاب على ألأرض كي يراقب الصوت والصوره. إنطلقت المعركة ألأنسانية من خلال الفلم. كانت مَشاهد بطولية حقاً – طارق يصرخ باعلى صوته- ساعدوني هنا ..الرجل ينزف…صالح ..ماذا أفعل؟ سيموت الرجل إن لم نفعل شيئاً – أما صالح فكان يصرخ كالمجنون – أريد دم لهذا الشاب..ينزف كثيراً..من أين أحصل على الدم..سيموت الشاب…وخالدة تصرخ – سيعيش بدمي..لايهمني الموت ..من يدري قد يكون له دور مهم في الحياة..صالح خذ دمي وأعطيه له…أنا لاشيء..حياتي ليس لها معنى…أعطوه دمي – من بعيد تصرخ ناهدة – سأمزق شراشف النوم لربط هذه السيدة…ذراعها تنزف – كانت الكامرة تلحق طارق وهو يركض نحو البيت ألآخر..كان يصرخ بأعلى صوته – أريد أسرّة النوم يافتيات سنجعل منها مستشفى للمصابين- . الدماء تغطي ألأرض . صور مرعبة حقاً. كان عبد القادر ينظر إلى خالدة والدموع في عينيهِ . كانت ألأم تبكي وهي تمسك يد خالدة وتقول” لولاك لما عاش ولدي..أنا مدينة لك بحياتي “. إنتهى العرض المؤلم. سكت الجميع لحظة واحدة . بدأ وكيل الزراعة حديثهُ بهدوء” كان الموقف مؤلم جداً…لقد أديتم جميعاً واجبكم ألأنساني..ألأعمار بيد الله ولكنكم قدمتم لنا كل شيء ينبغي على ألأنسان الشريف تقديمه في ظروفٍ كهذه. لولا تضحياتكم لما عاشت عائلتي وأنا كذلك..لذلك سأقدم لكم شيئاً بسيطاً وأتمنى أن أقدم لكم شيئاً كبيراً في المستقبل حينما أستطيع تقديمه وأنتم في حاجةٍ إليه. ” أخرج شيئاً من جيبه وهو يقول” هذه مئة ألف دولار توزع بينكم ..الطبيب هو الذي يحدد القيمة لكل شخص..أما بالنسبة لخالدة فأنني سأترك لها سيارتي الخاصة كدليل على إمتناني لتبرعها بدمها…” سكت قليلاً بعدها قال بحياء” أعرف أن الوقت غير مناسب ولكننا بعد أن شاهدنا الفلم عدة مرات في البيت…توصلنا إلى قرار بألأجماع وهو أن نطلب يد خالدة إلى ولدنا الوحيد عبد القادر – إذا توافق الست خالدة – أما إذا كان الجواب سلبياً فأننا سنتفهم الوضع وستكون بمثابة البنت لنا مادمنا على قيد الحياة…لانريد جواباً ألآن وسنترك رقم هاتف إمها معكم ويمكن أن تخبروها لاحقاً…سيكون لنا الشرف الكبير للأرتباط معكم لأنكم رائعين حقاً” . بعد فترة قليلة من الزمن غادروا العيادة وهم يتبادلون القبل وكلمات التوديع الودية.
كان المبلغ الذي قدمه وكيل الوزير مطروحاً على الطاولة الصغيرة في غرفة ألأنتظار والجميع ينظر إليه بعدم تصديق. دون تردد قال صالح ” خالدة …إذهبي فوراً وإدعي طارق وسعاد وكافة الفتيات لعقد إجتماع طاريء….” . في غضون فترة قليلة من الزمن كان أفراد العائلتين يجلسون مع بعض في إنتظار بدء الحوار عن أشياء مختلفة. تحدث صالح عن كل شيء …عن خطوبة خالدة والمبلغ وتقسيم المال . حينما إقترح حول كيفية تقسيم المبلغ وافقه الجميع بما في ذلك الفتيات اللواتي تنازلن عن أسرّتهن . تم تقسيم المبلغ وأستلم كل فرد حصته وقبل أن يتفرقوا قالت سارة” هل يمكن أن أقترح شيء معين؟” نظر الجميع اليها دون أن ينبس أحد ببنت شفة. بعدها قال صالح ” لكِ الحرية في قول أي شيء.” . إقترحتْ أن يتم بناء قاعة طويلة تُلحق بالعيادة وتُجهز بألأسرّة الحديثة وكافة متطلبات ألأمور الطبية لتكون جاهزة في حالة حدوث حالات طارئة كالتي حدثت في المره السابقة على أن يتم تمويل عملية البناء والتجهيز من حصة كل شخص . سكتت قليلاً بعدها إستطردت قائلة” ممكن أن يتنازل كل شخص عن نصف حصته للبناء والتجهيز أما أنا فأتنازل عن كل حصتي وهذه هي بلا تردد” . وضعت حصتها فوق المنضدة . على الفور قال طارق ” إقتراح رائع وهذه حصتي كلها ” . في اللحظةِ التي وضع فيها حصته على المنضدة إندفع الجميع ليضعوا حصصهم إلى جانب حصته وحصة سارة. إبتسم صالح وهو يقول ” مشروع كبير وممتاز ومفيد للجميع…” نظر إلى طارق قائلاً ” خذ كل المال وتكفل بالعمل لأنني لاأملك الوقت الكافي وليست لديّ خبرة في مجال البناء.” في غضون شهر ونصف تم بناء الردهة الملحقة بالعيادة وجُهِّزَتْ بأسرّة حديثة وكل ما يتطلبه المريض. كانت رائعة حقاً لدرجة أن طارق قال بسعادة ” لم أتصور أنها ستكون بهذه ِ الروعة…من يدري قد تكون ذات فائدة كبيرة لبعض الناس يوماً ما “. إستمرت ألأيام تسير على وتيرة واحدة , خالدة تواصل عملها في الحقل إلى جانب عملها المسائي في عيادة الطبيب صالح. على مدى خمسة عشر يوماً كانت خالدة تدرس العرض الذي اعلنهُ والد – عبد القادر- حول موافقتها أو رفضها للزواج . كانت شقيقاتها يحاولن إقناعها بقبول العرض الذهبي – بنظرهن – وألأسراع في إعلام والدة الشاب ولكنها لازالت مترددة في قبول العرض أو رفضه. كانت تجلس ساعات طويلة في الحقل تفكر بكل شيء. لم تتدخل سعاد في الموضوع بصورة مؤثرة لأنها إعتبرت الموضوع متعلق بخالدة ولايحق لأي أحد التدخل . عند ظهيرة أحد ألأيام ظهرت سيارة من بعيد على الطريق الترابي . كانت خالدة قد عادت لتوها من الحقل. عند بوابة المركز الصحي ترجل شاب في مقتبل العمر يرتدي بدلة رمادية اللون أنيقة جداً. في اللحظةِ التي توجه فيها صوب الباب إندفع الطبيب صالح وهو يرحب بالضيف الشاب . دون مقدمات قال الشاب ” لقد جئتُ للحديث مع خالدة إذا كان لديها وقت. أرجو أن لاأكون قد جئتُ في وقت غير مناسب.” . صاح الطبيب صالح برحابة صدر ” على الرحب والسعه..تفضل بالدخول سأدعوها للحديث معك ” . بعد فترة من الزمن كانت خالدة والسيد عبد القادر يسيران صوب الحقل الممتد على طول البصر. كانت خجلة في بداية النزهه إلا أنها مالبثت أن إستعادت تصرفها الطبيعي والسيطرة على ألأمربكل ثقة وإطمئنان. كان “عبد القادر” مرتبكاً لحظة ألأنطلاق للخوض معها في حديث عن حياتهما المستقبلية. حينما طلبت منه الجلوس عند حافة الساقية التي تخترق ألأرض شعر ببعض الراحة النسبية. جلسا متباعدان عن بعضهما وكل واحد منهما يتمنى أن يبدأ ألآخر بالحديث. قال الشاب بهدوء” عفواً لقد طلبت مني والدتي أن أتحدث معك على إنفراد وبصورةٍ مباشرة كي نصل إلى إتفاق معين حول الموضوع الذي كان والدي قد طرحه قبل أيام.كانت والدتي تنتظر مكالمة من جانبكم بَيْدَ أن صمتكم حول القضية المطروحة دفعها لمعرفة الجواب بصورة مباشرة من جانبكِ.” قبل أن يستمر في حديثهِ قاطعته خالدة قائلة ” يجب أن نتحدث بصراحة حول الموضوع. من المهم توضيح بعض النقاط من جانبي ” . توقفت قليلاً قبل الشروع في الحديث عن كل شيء كان يدور في أعماق روحها. كانت مترددة . كان هناك صراعا قوياً يقذف بها في جهاتٍ متعددة. كان الشاب يُحدق في أعماق عينيها محاولاً دراسة كافة معاني الجمال والفتنة التي كانت تتمتع بها. أخذت قطعة صغيرة من أغصان إحدى النباتات وراحت تحركها بأنامل مرتعشه وهي تقول” الحقيقة أن طلب والدك أدهشني في البداية…شعرتُ أن ألأمر لايخلو من مزحه. هناك أشياء كثيرة أريد التحدث عنها ولكنني لاأعرف من أين أبدأ؟” قبل أن تستطرد في حديثها قاطعها ” لماذا هذا التردد في إعلان موافقتك؟ ألأمر في غاية البساطة . أنا أريد الزواج منك وتكوين أسرة …إذا كان هناك شخص في حياتك تستطيعين قول الحقيقة عندها سوف أقدر وضعك وأنسحب بهدوء.والدتي تقول أنكِ مناسبة لنا جميعاً . ليس معنى هذا أنني مسلوب ألأرادة ولايحق لي إختيار شريكة حياتي.حينما شاهدتك تصرخين في العيادة عن طريق الفلم التسجيلي شعرتُ أنكِ فتاة تختلف عن باقِ الفتيات اللواتي عرفتهن في حياتي. دمكِ يجري ألآن في عروقي – إذن انا وأنتِ نرتبط معاً في رابطة الدم والحياة – . عرفتُ كل شيء عن حياتك من خلال المكالمات الهاتفية المستمرة مع الطبيب صالح. لقد أخبرني عن مستواك التعليمي واشياء كثيرة. أشعر أنك مناسبة جداً لتكوين معك أسرة.لايهمني إن كنتِ متخرجة من كلية أو فتاة تعلمت القراءة بجهود شخصية. المهم أنكِ تستطيعين تحمل مسؤولية تربية ألأطفال وألأهتمام بي كزوج وشريك حياة. لم أتصور أنني سأجد فتاة مناسبة لي في ظرفٍ كالظرف الذي مررنا به.ساترككِ يومين للتفكير الجدي في قضية ألأرتباط بي …بعدها سيكون لك كل الحق في ألأختيار”. قاطعته بسرعة” هل تعتقد أن زواجنا سيكون ناجحاً؟ أنت من عائلة كبيرة – أقصد مستواكم راقٍ جداً – وأنا من عائلة فلاحية . هل ستشعر بالندم يوماً ما حينما تمضي ألأيام وتقول مع نفسك – لقد تسرعتُ في ألأرتباط بهذه الفتاة ؟” – كيف سأعيش في المدينة ؟ تعودتُ على الحياة في هذه ألأرض الممتدة إلى مسافاتٍ بعيدة. سأشعر بالأختناق حينما أعيش هناك في مسافة محددة من ألآرض حتى لو كان بيتكم قصراً. إعتدتُ على الخروج كل صباح إلى الحقل عند بزوغ الشمس. كل شيء هنا يرمز للحرية والتحرر من قيود المدينة المكتظة بالناس وألأنفجارات التي لاتتوقف . كل شيء هناك يرمز للموت والدمار . هنا أشعر أنني إنسانة بكل معنى الكلمة – وخصوصا حينما بدأتُ العمل مع الطبيب صالح – أشعر أنني عضو نافع في المجتمع أستطيع أن أقدم خدمة بسيطة وقد تكون مهمة حينما تأتي حالة طارئة. ماذا سأفعل هناك سوى طبخ الطعام أو غسل الملابس – إذا لم تكن لديك خادمة – خلاصة الموضوع أنني أشعر بأنني لن أحقق لك السعادة.أنا كسمكة تعيش في الماء حينما تخرج إلى الفضاء تلفظ أنفاسها. أشكرك على شعورك النبيل.” قبل أن تكمل حديثها نهض الشاب وهو يقول ” أنا معجب بك جداً وبصراحتك ولانعرف ماذا يخبيء لنا المستقبل. أقدر كل كلمة قلتيها وسأقبل أي شيء تقرريه وسأعود لأخبر والدتي بما جرى ….إلى اللقاء” .
مضى على زيارة – السيد عبد القادر – أكثر من أسبوع دون أن تسمع خالدة أي خبر منه. عادت إلى عملها الطبيعي في الحقل والعيادة عند المساء. تناست الموضوع ولم يعد أحد يكلمها عن موضوع الخطبة أي أحد. إستمرت خالدة في مواصلة عملها في المزرعة في الصباح ومساعدة الطبيب صالح في المساء. كانت تهتم بطفل شقيقتها لدرجة أنها كانت تعتني به أكثر من امه الحقيقية. بعد مضي سنه كاملة على ولادة طفل الطبيب صالح مرضت الأم فجأة وبذل زوجها المستحيل لأنقاذها بيْدّ أنها أسلمت روحها الى بارئها في ليلةٍ شتويةٍ باردة. ظل صالح يبكي عليها أسابيع طويلة ولم يعد يخرج من البيت وأغلق العيادة طيلة تلك ألأسابيع . حاول طارق أن ينصحه عدة مرات أن الموت حق ويجب على ألأنسان أن لايجزع من قضاء الله. كان صالح ينفجر في بكاءٍ لاينتهي كلما حدثه طارق عنها. حاولت سعاد وجميع الفتيات أن يفعلن شيء معين لأزالة حزنه الطويل ولكن دون جدوى. أصبحت الحياة في ذلك المكان رتيبه مملة. الجميع يلفه صمتٌ طويل . أعمال المزرعة توقفت فترة من الزمن إلا ألأشياء الضرورية. كانت خالدة تعتني بالطفل كأنها أمه الحقيقية…تأخذه الى غرفتها وينام معها بأطمئنان تام. إستمر الطبيب صالح يعمل في عيادته وينام أغلب ألأوقات بعيداً عن الغرفةِ التي كانت تسكنها زوجته. لم يستطع ألأقتراب من الغرفة زمناً طويلا. لم يعد يهتم حتى لوجود الطفل. كان طارق يجلس معه طويلا يتحدث معه عن ذكرياتٍ قديمة كي ينسيه مأساته الكبيرة. في أحد ألأيام وبينما كان صالح منكباً على دراسة بعض المواضيع الطبية وخالدة تلاعب الطفل الصغير في صالة ألأنتظار كعادتها كل يوم دخلت سعاد وهي تقول الى شقيقتها خالدة ” أين الطبيب ؟” نظرت اليها خالدة وقد ظهرت على شفتيها إبتسامة . لم تُجب في البداية لأنها إستغربت من طريقة كلام شقيقتها. صرخت بها شقيقتها الكيبرة مرة أخرى” أين الطبيب؟” . هذه أول مرة لاتقول ” أين صالح؟”. أشارت خالدة بيدها اليسرى صوب مكتبه دون أن تتفوه بكلمة. دخلت سعاد دون أن تطرق الباب. نظر اليها الطبيب بعدم إكتراث وكأن شيئاً لايعنيه. دون مقدمات إندفعت سعاد قائلة” هذه رسالة من المرحومة..إئتمنتني عليها قبل الولادة بيوم واحد…قالت لي بالحرف الواحد سلمي هذه الرسالة الى صالح إذا متُّ في الولادة ولاتعطيها له إلا في الوقت الذي تريه أنتِ مناسباً وإياك أن تطلعي عليها أبداً…إذا تزوج صالح مزيقيها دون أن تقرئي كلمة واحده منها…واذا لم يتزوج بعد وفاتي بفترة أنت تريها مناسبه سليميها له دون أن تطلعي عليها أي إنسان وجعلتني أقسم على ذلك. الآن مضىت فترة مناسبة وتوفر الظرف المناسب. حينما تمت الولادة بنجاح دون أن يحدث لها أي شيء أردتُ أن أعيد لها الرسالة ولكنها قالت إحتفظي بها فترة أخرى لانعرف ماذا سيحدث؟” . خذها كي أرتاح من هذا العبء الكبير الذي إسمه ألأمانه ” . وضعت الرسالة على المنضدة أمامه وخرجت دون أن تلتفت الى الوراء. نظر صالح الى الرسالة بخوفٍ شديد وقلق ملحوظ. ياترى ماذ كتبت زوجته عنه وعن أي شيء كتبت. أخذ الرسالة بيدٍ مرتعشه وفتحها وقلبه ينبض بشده ” صالح..حينما تقرأ هذه الرسالة يكون قد مضى على رحيلي عدة شهور..إقرأ كل كلمة بدقة وأرجو أن تنفذها حرفياً إن إستطعت. إذا وجدت صعوبها في تنفيذها فأنا لن أسخط عليك ..لأن لكل حادثٍ حديث. أرجو أن تصبر على قرائتها ولا تشعر بالملل منها ابدا. أعرف أن خطي غير جيد لأن يدي ترتعش وأنا أكتبها. حينما كنت طفله كنا أنا وخالدة نلعب معاً. كانت المفضلة لدي وكنا نحلم كثيرا. أنا أحبها بشكل لايصدق. قالت لي مره – أذا تزوجتي يوماً ستتركينني وحيده ولن أجد شقيقة مثلك..ولكن اذا متِ هل تقبلين أن أتزوج زوجك؟ وراحت تضحك بأعلى صوتها. كنا نقفز قرب الساقية. ..دون تفكير قلتُ لها واذا تزوجتي أنت ومتِ هل تقبلين أن أتزوج زوجك؟ قالت نعم وسأكون سعيدة لأنك ستربين أطفالي. كانت براءة طفولة. حينما تزوجتني كانت تنظر الي دائما وتقول أنتِ محظوظة أكثر مني لأنكِ تزوجتِ شخصاً لم يكن في الحسبان مع العلم أنكِ تشكين من مرض الربو المزمن. كانت تتنهد وتسرح في خيالٍ طويل. أعتقد …لا بل متأكده أنها تحبكَ بجنون وقد لاحظتُ هذا في مناسباتٍ كثيرة. كنتُ أراقبها حينما تدخل أنت أو تطلب منها شيئاُ ما. كانت يديها ترتجفان ويظهر بريق غير طبيعي في عينيها ويتحول وجهها الى اللون ألأحمر. أحياناً كنتُ أطلب منها أن تذهب للنوم لأن الوقت قد تأخر ولكنها تصرأنها لن تنام إلا أن تراك تذهب للنوم. في إحدى المرات شاهدتها دون أن تدرك أنني أنظر اليها من نافذه المطبخ.
يتبع ….