من عجائب الانسان حبه للمال عندما يكبر و يقترب عمره من الانتهاء و هو موقن ان لامال يؤخذ الى القبر و لابنين يُنجون من الموت !
في امر حب البنين نظر ، فحبهم فطري وحيث لاعوض عنهم و لم يُذَم ذلك في العرف و لا في الدين ، فهنا يفترق الامران الكبيران اللذان يحبهما الرجل (المال و البنون) و لاغرو فهما زينة الحياة الدنيا . و انتبه كثيرا الى هذه العبارة (زينة الحياة الدنيا) وليس غير ، و كما تعلم فانه “فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا” “وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ” “وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ”.
و يجتمع (المال و البنون) في امر طيب لايعدم ابن آدم نفعه (والكلام دائما عن الدوام و مابعد الموت و الحياة الاخرى) حيث تيقن الناس جميعا مؤمنهم و منكرهم ان لا خلود في هذه الحياة ولايمكن ان يكون ، و هذا الامر النافع هو (صدقة جارية –من المال) (و ولد صالح يدعو له- من البنين) هذا مايتبقى من هاتين الفتنتين الدنيويتين بعد موتك ، و الا فان المال ستجمعه لمن خلفك و سيتلفونه كيفما يشتهون و قد ينالك منه اذى الافساد ان شذ منهم احد عن الصواب ، وسينقلب عليك الحرص و بالا بعد موتك “وَلَا يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ هُوَ خَيْرًا لَّهُم ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” فالذي يجمع ماله لن يكون له خير ابدا “كلَّا ۖ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ”
و اما البنون فانه “يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ” و “يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم” إذن لا طائل يرجى من جمع المال و البخل به ،
و لكن مرة اخرى نحن امام امر غريب يقترفه ابن ادم بحق نفسه ، فحيث نعذر الشاب المقبل على عمره عند حرصه على المال ابتغاءً لتزويج نفسه و اعالة زوجه و ذريته او ابويه الكبيرين و فاءً ، او تامين اسباب الحياة الكريمة ، و هذا من المستحبات و لم يذمه العقل و لا الشرع ، فما بال الرجل الذي جاوز عمر الشباب و امّن حياته و حياة عياله و صار جدا سواء هرم عمره ام لازال في اول الطريق الى النهاية ، فليس بعد الاربعين تصابي و ليس بعد الخمسين طمع و ليس بعد الستين طموح وليس بعد السبعين امل ولا في سنة واحدة من سني الدنيا المسرعة هذه ! وقد “أعذر الله إلى امرئ أخّر أجله حتى بلغه ستين سنة” او كما قال عليه الصلاة و السلام .
الرجل الذي بلغ تلك الاعمار و سيبلغ سريعا مابعدها او ربما لن يبلغ ذلك حتى ، ماذا يامل من جمع المال و الحرص عليه ، امر مذهل ينبئك عن دليل عظيم من دلائل النبوة “يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان حب المال، وحب الحياة ” حديث شريف في لفظ ، و قد نفهم –عقلا- حب الحياة و ان الانسان يطمع في يوم جديد يرى فيه الشمس و الناس و ماجمع و ماصنع ، و لكن كيف لنا ان نفهم –منطقا- حب المال و التشبث به و جمعه قناطير مقنطرة ! ماذا يامل ، ف(هل ينتفع بالمال اهل القبور)؟!
و لو قبلنا من المتوسط الحال هذا الحرص و قلنا انه يخشى الفقر و انتهاك كرامته في الدنيا و سوغنا له ذلك ، فكيف سنسوغ للغني الذي لايخشى الفقر –الا بامر الله- و هو يجمع و يكنز و كلما ازداد عمره ازداد حرصه بل و فسد طبعه و غل يده عن مساعدة الناس ،
و من ينفق الايام في جمع ماله ،،،،مخافة فقر فالذي فعل الفقر
نعم فالفقر ان تعيش عبدا لمالك و لاتنفع به غيرك أو تحصد به غفران الله و محبة الناس .
و من غرائب هذا الامر الثابت و الذي غرسه الله في الناس فتنة لهم و ليمتحن المؤمن الصادق من الضعيف المتردد ان الانسان قد يكون اكثر كرما و اطلق يدا في شبابه من كهولته و شيخوخته ، وهذا لمسناه بايدينا نحن الفقراء و لمسه من حولنا . لمسناه في اصحابنا الذين من الله عليهم ، و لا ندري لو كنا اغنياء هل كنا سنفعل مثلهم حرصا و بخلا ام لا ؟ اعاذنا الله .
فلي صديق طيب الحسب و قد اغناه الله في شبابه بكده وعمله ثم بتوفيق ربه ، و قد راى الناس منه احسانا كثيرا من مساندة الصاحب الى البر بالقربى الى اغاثة المحتاج و هذا ماشهد به له الكثيرون ، فما ان جاوز الخمسين من عمره و اصبح جدا و لديه احفاد و كان قد تاهل صغيرا حتى انقلب انقلابة صادمة ، صار يلاحق الصديق على دريهمات فيطالبه و يثقل عليه في السداد ، و ينكر فضل من كان له يد عليه في شبابه او سهم في غناه بعد الله , و يمتنع عن العون لمن يطلبه و يشك فيمن لم يعهد عليه المطل في السداد فيقصر عن مداينته او تسهيل امره . و قد دخل على نفسه الشيطان باعذار كثيرة ، فلما تساله مستغربا من افعاله ، خصوصا و قد تضاعفت امواله بما لايحصى ، يقول لك : و لكن فلانا قد انكرني بمال يوما ، او ان علانا لايثمر فيه المعروف ، او انه كفى بي ان اكون مطمعا للناس (يضحكون علي) و ينتفعون باموالي في دين او غيره ! و هو رجل يحج كل عام و يخرج زكاته .
و نسي ان رجلا دخل الجنة بسبب مداينته للناس كما في الحديث العظيم قال عليه الصلاة و السلام “كان فيمن قبلكم رجل يداين الناس و كان يقول لفتاه اذا رايت معسرا تجاوز عنه ، فلما لقي الله تجاوز عنه” او كما في لفظه .
و بعد فاني اجد من الصعب على الانسان التخلص من هذه الخصلة مهما بلغ من الصلاح ، الا بايمان عميق يجعله يراجع نفسه كل ليلة بل كل لحظة و ينظر الى اولاده و احفاده فيوقن انه مفارقهم و الى امواله فيتاكد انه تاركها كثرت او قلت ، ثم يجاهد نفسه كثيرا كثيرا على الانفاق و الصدقة و مساعدة الناس من اعزّ امواله اليه ” لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ” و ليس من الزيادة و المتروك من الاموال ، و يوطن نفسه يقينا انه (لاينتفع بالمال اهل القبور)
قدم رجل من الصحابة على رسول الله و قد تقدم به العمر فقال : يا رسول الله اشكو اليك حبي للحياة و خوفي من الموت ، قال عليه الصلاة والسلام : الديك مال ؟ قال نعم : قال قدمه فانك لا تخشى ان تذهب وراءه” او كما قال عليه الصلاة و السلام .