23 ديسمبر، 2024 6:09 ص

” حبٌ ينهضُ فيْ زمنِ الخوفِ ” – 1

” حبٌ ينهضُ فيْ زمنِ الخوفِ ” – 1

” حبٌ ينهضُ فيْ زمنِ الخوفِ ” – 1 –
كان طارق ينطلق بسرعةٍ جنونية على دراجتهِ النارية فوق الطريق السريع وهو يحاول أن ينقذ حياتهِ من أولئك الأشرار الذين يحاولون اللحاق به بأي ثمن. بين فترة وأخرى يسترق النظر اليهم من خلال المرآة المثبتة أمامه. كان قلبه يدق بطريقةٍ مسموعة . كان الطريق السريع خالياً تماماً من أي عجلة . يجب أن يواصل الهرب بأقصى سرعة كي يتخلص منهم. لم يفكر بأي شيء في تلك اللحظة سوى إنقاذ حياته ولكن إلى أين يهرب ؟ الطريق أمامه طويل جدا وسرعة دراجته النارية محدودة . لم يفقد الأمل على الرغم من ضياع كل شيء بالنسبةِ له. هناك أولويات في الحياة تتقدم على باقِ الأشياء الأخرى الكثيرة التي يتوجب على الإنسان القيام بها. السلامة أولاً أو لنقل البقاء على قيد الحياة ومن ثَمَّ تأتِ ألأشياء ألاخرى حينما يكون ألأنسان في زمن يستطيع فيه التفكير لأتخاذ القرار المناسب فيما يتعلق ببقية ألأمور. في تلك اللحظة كان قد تخلى عن التفكير بالجريمة الكبرى التي حدثت لعائلته وبيتهِ الذي تربى فيه منذ أن جاء إلى هذه الحياة. قبل ساعات هجم على عائلته مجموعة من الأشرار المدججين بالسلاح فقتلوا كل أفراد عائلته وأحرقوا البيت لا لشيء إلا لأنهم ينتمون إلى طائفةٍ أخرى. لم يغادروا المنطقة التي كانوا يسكنون فيها حينما تلقوا تهديداً بمغادرتها في غضون أربعة وعشرون ساعة…إعتبروا ألأمر مجرد مزحه أو أنهم فضلوا البقاء مهما كانت ألأحوال. حاول أن ينقذ أفراد عائلته ولكن أنى له ذلك ؟ كانت الطلقات تنهال عليهم من كل الجهات. صرخت به أمه أن يهرب من الباب الخلفي حيث كانت دراجته النارية مخبأه في مكان بعيد عن الأنظار. حاول أن يعصي كلامها ولكنها أصرت على ذلك . كان والده قد لفظ أنفاسه أمامه وتمزقت أحشاء شقيقته في لمح البصر. دفعته والدته للهرب وهي تصرخ ” بقاؤك معناه موتك ..لقد ضاع كل شيء لماذا نموت جميعاً؟ أنت لاتزال يافعاً من يدري قد تنجو ..على الاقل حاول الخلاص..اتركنا.. موتنا لامحاله”. حينما إنطلق لم يرهُ أحد ولكن بعد قليل سمعهم يصرخون من أن أحد أفراد العائله يهرب. كان قد انطلق بين البيوت حيث الأزقة الضيقة ..لم تستطع السيارة التي إنطلقت خلفه أن تصل إليه بسهولة . حينما أصبح على الشارع السريع شاهدهم ينطلقون خلفه . كانت المسافة بينه وبينهم أكثر من كيلو مترين. هو يعرف أنهم سيلحقون به ولكنه ضاعف من سرعة دراجته النارية. قرر عدم الاستسلام مهما كانت الظروف. هو آلآن ينطلق نحو الجنوب حيث أقربائه في قريةٍ قرب ” شيشبار”.
كانت والدته قد أمرته أن يحاول الوصول إليهم بأي ثمن. هناك سيجد الأمان في أحلك الظروف. الأرض الزراعية شاسعة وأماكن اختباء كثيرة. ولكن كيف سيصل إليهم في هذا الظرف العصيب؟ لم يكن أمامه أي طريق آخر سوى هذا الطريق السريع الذي كان يمتد أمامه على مدى البصر..طريق مخيف مزقته قنابل الحروب المتواترة على مر الزمن. بين فترة وأخرى ينظر في المرآة ويتضرع إلى الباري عز وجل أن ينقذه من هذه العصابة التي لاتعرف الرحمة وتوسلات ألامهات . لم يصدق ما كان يجري في مدينته. الكل خائف من شيء. انعدمت الرحمة في كل قلوب الجهات المتصارعة. لم يعد هناك شيء اسمه حب الأرض والوطن والدم المشترك. الكل يريد الانتقام من الكل. الجميع يتهم الجميع بالخيانة والانتماء إلى فئة لم تكن تستحق الحياة والجميع يدفع الثمن ويخسر كل شيء. راحت السيارة التي تطارده تتضح في المرآة المثبتة أمامه وتسارعت دقات قلبه بشكل جنوني. أحس برائحة الموت تقترب منه رويداً رويداً. هل يموت هنا هكذا بهذه الطريقة البشعة؟ لم يرتكب في حياتهِ جرماً يعاقب عليه القانون. لم يسرق شيئأً في حياته..لم يعتدِ على الجيران يوماً ما. قضى كل حياته يدرس ويدرس كي يحصل على وظيفة شريفة يساعد من خلالها عائلته التي تعيش في ضنكٍ دائم. إذاً, لماذا يريد هؤلاء ذبحه؟ لديه أصدقاء كثيرون من الطائفةِ الأخرى وكانوا يلعبون معه في الشارع الذي يخترق الحي منذ الطفولة . هو يؤمن بالموت ولكن ليس بهذه الطريقةِ البشعة. الجميع يموت حينما تأتي ساعة الرحيل ولكن الله جل وعلا هو الذي يأخذ الأرواح فلماذا يريد هؤلاء مصادرة حياتهِ هكذا؟
من بعيد سمع عدة طلقات تقترب منه . عرف أنهم بدأوا يطلقون النار عليه كي يردوه قتيلاً على الشارع السريع .إذن هو الموت. ” مع نفسه راح يردد الشهادة عدة مرات” . من بعيد شاهد طفولته وضحكاته مع أبناء الجيران وعبثية ألعابهم الطفولية في الحي. لم يكن يعرف لماذا جاءت كل صور الطفولةِ أمامه في تلك اللحظة. أصبح هدير السيارة الغاضبة يقترب منه شيئاً فشياً. بقي على الطريق الترابي الذي – يجب عليه الوصول إليه بأي ثمن- عدة كيلوا مترات. قال لنفسه ” لا توجد فائدة..سيلحقون بي..” فجأةً أحس بشيء يلسعة كنار حامية وألم يكاد يفقده صوابه. عرف أنهم أصابوه في كتفه الأيسر. لم يتوقف. ظل يزيد من سرعة دراجته كطير صغير يحاول الخلاص من صقر ضخم الجثة يكاد ينقض عليه في لمح البصر.
من بعيد ظهر طريق ترابي على الجهةِ اليمنى وقد علاه الغبار بشكل كثيف. قرر أن يتجه إليه لعله يستطيع الخلاص ..أو هذا ما تمناه بشدة. لم يسلكه من قبل ولا يعرف إلى أين سيقوده. دون تفكير سلكه بسرعة البرق. توقفت السيارة على الطريق السريع قليلاً ولكنها واصلت مطاردتها له. بعد فترة وجيزة شاهدها تعود أدراجها. كانت تبتعد في المرآة المثبتة أمامه. لم يقلل من سرعة دراجتهِ على الرغم من وعورة الطريق وشدة ذرات الغبار المتصاعدة. كان الألم في ذراعه الأيسر يزداد بشكل رهيب. شعر انه يفقد توازنه بعض الشيء لكنه قرر الاستمرار في الهرب . على الجهة الأخرى من الطريق شاهد ثلاتة نساء أو فتيات فلاحات ملتفات بالسواد يقفن ينظرن إليه يتساءلن عن سر هذا القادم من بعيد. لم يتوقف ولكنه خفف من سرعة دراجته وراح يشير إليهن بذراعهِ المخضبه بالدماء.
انعطف إلى اليسار حيث كان هناك طريق فرعي يتجه إلى مكانٍ لايعرفه . انقشع الغبار وظهر من بعيد بيت صغير بسيط في وسط الأرض الممتدة على مدى الرؤيا.
في اللحظة التي اقترب فيها من ذلك البيت شعر بدوار لا يمكن مقاومته . أوقف الدراجة وقبل أن يترجل منها سقط على الأرض وراح في غيبوبة لا يدري كم إستغرقت.
عند منتصف الليل سمع دمدمات غير مفهومة كأنها طبول مكتومة تصل من بعيد. فتح عينيه بتثاقل. لم تكن الرؤية واضحة بالنسبة له. أغلقهما مرة أخرى وهو يقول بصوتٍ واهن ” أين أنا؟ أين أنا؟”. لم يفهم الكلام الذي قيل له في تلك اللحظة. كان ضعيفاً لا يقوى على الحركة. فتح عيناه بعد فترة من الزمن ..أجال نظراته في أرجاء المكان المزدحم بعض الشيء. عاود السؤال مرة أخرى ” أين أنا؟” . حاولت الفتاة التي كانت تمسح جبينه بقطعة من القماش المبللة بالماء أن تمنعه من الكلام ..قالت بصوتٍ لطيف ” إسكت.. أنت مصاب بحمى شديدة..لقد نزفت ذراعك دماً غزيراً..حاول أن لا تتكلم كي لاتستنزف طاقتك” . لم ينتبه إلى عدد الأشخاص الجالسين في الغرفة وهم ينظرون إليه بقلق شديد. راحت إحدى الفتيات تسقيه قليلاً من الحساء بينما كانت الفتاة الأخرى ترفع رأسه من فوق الوسادة بهدوء تام. كان جسده يرتعش من البرد – مع العلم أن جو الغرفة كان دافئا – كان يفتح عينيهِ بين الحين والآخر دون أن يستطيع تمييز وجوه الأشخاص المحيطين به. ظلّ على تلك الحالة أكثر من ليلة كاملة. في اليوم التالي فتح عيناه ليجد عدة فتيات فلاحات يجلسن قربه وقد ظهر على وجوههن بعض الانشراح . راح يدير نظراته بتركيز في كافة أرجاء المكان وبالتالي تستقر نظراته على وجوههن الواحدة تلو ألأخرى. صاحت الفتاة الكبيرة ” حمداً لله على سلامتك…اعتقدنا أنك لن تعيش أبداً بعد أن شاهدناك مرمياً عند بوابة الدار”. استمر يتطلع في كافة الوجوه الغريبة عليه تماما. شعر بالحرج والحياء في نفس الوقت . لم يقل شيء سوى ” من أنتن؟” نظرت كل واحدة إلى الأخرى بصمتٍ وسكون..كل واحدة تطلب من الأخرى أن تبدأ الحديث. عندما طال الصمت نوعاً ما تنحنحت الأخت الكبيرة وهي تقول ” قبل كل شيء نشكر الله على سلامتك..حاول أن لاتنفعل لأن حالتك الصحية لازالت سيئة..يجب أن لاترهق نفسك بالكلام لحين زوال الخطر” . نظرت ” سعاد” – ألأخت الكبيرة – إلى شقيقاتها وكأنها تنشد شيئاً ما في قرارة نفسها.كانت جميع الفتيات يستمعن إليها بكل إنتباه ولسان حالهن يقول ” إستمري في الكلام” . أيقنت أنها يجب عليها أن تقول كل شيء كي تزيل الغموض الذي يسبح فيه الفتى الغريب. ” كنتُ مع سميرة وخالدة – شقيقاتي- في الحقل عند الطريق الترابي نجمع الأحراش والحشيش للأبقار حينما شاهدناك تقود دراجتك بسرعة كبيرة..شاهدنا سيارة تلحق بك ..لم نكن نعرف سبب ذلك…كنتَ أنت تشير إلينا بيدك ألأخرى..رجعت السيارة أقصد لم تعد تلحق بك.. حينما عدنا إلى البيت وجدناك فاقد الوعي . كان شقيقي أمجد وساره يحاولان إسعافك بطرق بسيطة أو لنقل يحاولان وقف النزيف.”
توقفت عن الكلام حينما دخل شقيقها “أمجد” وهو يقول ” لقد جلبتُ كافة ألأدوية التي وصفها لك طبيب القرية.”راح “أمجد” يضع كافة ألأدوية قرب فراش الفتى المصاب دون أن ينظر إليه . كان يتصرف بطريقة طبيعية وكأنه يعرف الفتى منذ زمن طويل. جلس قرب رأسه على ألأرض وهو يقول ” ها…أيها البطل..لقد كنتُ قلقاً عليك جداً حينما شاهدتك تنزف بغزارة قرب باب الدار..الفضل في ذلك يعود لشقيقتي ” سارة” هي التي جاءت تصرخ وتدعونني لإنقاذك..كانت سارة تبكي عليك ساعات طويلة وكأنها كانت تريد إنقاذك بأي ثمن” . إلتفت الجميع صوب سارة . حاولت أن تداري إرتباكها حينما كان الجميع ينظرون إليها لذلك إندفعت قائلة ” هذا واجبنا جميعاً ..هو مصاب وغريب وكان مشرفاً على الموت”. نظر إليها ” طارق” – وهذا هو إسم الفتى- ظل يدقق النظر إليها فترة من الزمن. كانت عيناه مغرورقتان بالدموع. حاول أن يقول شيئاً ولكن فجأةً إندفع في بكاءٍ مرير. ظل يبكي وهو يقول ” لقد مزقوا عائلتي..قتلوا أبي وشقيقتي وتركتُ أمي وحيدة مع أولئك الذئاب ..بالتأكيد مزقوها حينما هربتُ..لن أغفر لنفسي أبداً جبني وهروبي..لقد أصرت على أن أهرب كي أنقذ روحي..لم يكن لدينا سلاح ندافع به عن أنفسنا..نحنُ مسالمين ..لكنهم لايعرفون الرحمة أبداً..لقد ضاع كل شيء..لم يعد لي مكاناً ألجأ إليه..إذا عدت إلى مدينتي سيقتلونني مهما طال الزمن..اللعنة على الصراعات الطائفية.. لقد مزقت البلد تماما..لا أدري من أين جاءت هذه الرياح الصفراء التي بدأت تحرق كل شيء”. كان الجميع ينظر إليه بهلع وشفقة. كانت ” ساره” تبكي معه وتمسح دموعها بطرف عبائتها السوداء.أشار ” أمجد” لشقيقاته بالخروج من الغرفة. خرجن بصمتٍ تام. كان ” طارق ” ممدداً في وسط الغرفة الدافئة على ألأرض. إقترب منه ” أمجد” وهو يمسح جبينه بقطعة من القماش..كان يتصببُ عرقاً بسبب الحمى. راح ” أمجد ” يخاطبه قائلاً ” لاتهتم..هذه هي الدنيا..مزيج من الأتراح والأفراح..المهم الآن أن تسترد عافيتك وبقية الأمور يتم إصلاحها تدريجياً..في الوقت الراهن هذا البيت هو بيتك وكلنا عائلتك شقيقاتي هن شقيقاتك وأنا شقيقك..لطالما تمنيتُ أن يكون لي شقيق ولكن هذه هي إرادة الله. مات والدي قبل سنتين وتركني أقوم بكل أعباء العائلة..لقد قاسيت الكثير وخصوصاً لدي سبع شقيقات إضافة إلى زوجتي وأمي.. في البداية كنت خائفاً جدا لأنني الرجل الوحيد في البيت ولكن بمرور الأيام تعودت على الوضع الجديد…من يدري قد يكون الله هو الذي أرسلك لي..لن أدعك تعود إلى مدينتك حتى لو اضطررت لاستخدام أي شيء. المعذرة لقول هذا ولكنني في حاجة إلى شقيق يساعدني في هذه الأرض الكبيرة..لا أستطيع الاعتماد على الفتيات فقط..قد يتزوجن في أي لحظة ويتركني وحيداً ..لاتهتم لأي شيء ولاتشعر بالحرج سيكون لك نصيب في الأرض ولكن يجب أن تعاهدني على عدم خيانتي أو تركي مهما كانت الظروف..” لم ينتظر أي كلام من الفتى وكأنه إتخذ قراراً بلا رجعة. نهض وهو يقول ” سأخبر العائلة أن يحضروا لك شيئاً تأكله لأنك لم تتناول أي شيء منذ زمن طويل.” خرج من الغرفة دون أن يلتفت إلى الفتى المصاب.
ظل ” طارق ” صامتاً وهو مستلقياً على ظهرهِ ينظر إلى سقف الغرفة بشرود ذهني تام. بعد أقل من نصف ساعة دخلت ” سعاد” أكبر شقيقة في العائلة تحمل قطعة كبيرة من ” النايلون” أو مانُطلق عليها ” السُفرة” راحت تفرشها قرب فراش الفتى المصاب وهي تقول ” لم يتناول أي فرد من أفراد العائلة أي شيء لحد الآن على الرغم من إقتراب منتصف الليل لذلك قررنا أن نتعشى جميعنا معك – إذا لم يكن لديك أي مانع –” وراحت تبتسم له بحنان تام. لم ينبس ” طارق” ببنت شفه . كان يشير لها بيدهِ اليمنى وهو يضعها فوق رأسه علامة الاحترام الكبير. في تلك اللحظة كانت ” سميرة” و” خالدة” و” سارة” و” ناهدة” و” وردة” و” ضحى” يدخلن الواحدة تلو ألأخرى وهن يحملن أوانٍ متعددة من الطعام وبعدها دخل ” أمجد” وزوجته . حينما تم رصف كافة الأواني بطريقة منتظمة وقف ” أمجد ” وهو يقول ” تفضلوا جميعا ..” طارق” هو من أفراد العائلة منذ هذه اللحظة وإعتبروه أخاً لكنَّ جميعاً …على بركة الله تفضلوا”. جلس ” أمجد ” قريباً من الفتى في حين جلست زوجته قرب سعاد وكذلك فعلن بقيت الفتيات. كانوا يأكلون بصمت . لم يتناول ” طارق” سوى قطعة صغيرة من اللحم ثم مسح يده وهو يقول ” الحمد لله ” . نظروا اليه جميعاً بصمت..إلا أن سعاد إندفعت قائلة ” ماهذا..يجب أن تأكل كي تسترد كمية الدماء التي فقدتها…خذ هذه قطعة اللحم ” . حاول أن يعتذر ولكنها قالت بجدية ” إن لم تأكل هذه سأزعل..لا بل سأفتح فمك بقوه..” صرخت ” ضحى” ” صدقني ستفعل ذلك..هي لا تمزح في هذه الأمور..” . اندفعت ” وردة” قائلة ” إذا لم تأكل سنمسك يديك أنا وناهدة ونجعل ” سارة” تفتح فمك وعندها ستضع سعاد قطعة اللحم في فمك”. قالت سميرة ” وفر عليك هذا الأمر ..صدقني سيفعلن هذا ..شقيقاتي …شرسات لايعرفن الرحمة..” وراحت تضحك بصوت مرتفع. نظر ” طارق” إلى ” أمجد” وهو يقول ” ألا تستطيع إنقاذي من هذا الموقف العصيب..ألم تقل بأنني شقيقك..ها أنا أطلب منك النجدة…”. نظر إليه ” أمجد” وهو يهز كتفيه قائلاً” المعذرة ” سعاد هي شقيقتي الكبيرة ولاأستطيع أن أقف في وجهها ..ستضربني..حاول أن تتصرف بعقلانية وتأكل..المعذرة لاأستطيع أن أساعدك في هذه القضية” . إستمر ” أمجد ” في تناول اللحم الشهي وكأن الأمر لايعنيه أبداً. قالت سعاد ” ماذا تقول ألآن ؟ تتناول القطعة بيدك أم نتخذ إجراء آخر؟”.
نظر ” طارق ” نحو ” سارة” وكأنه يطلب منها مساعدة أخيرة ..هزت كتفيها وهي تقول ” تناول القطعة كي لا تكون في موقف صعب”. مدَّ يده بحياء وهو يقول ” أمرنا إلى الله ..حكم القوي على الضعيف”. الغريب أنه راح يأكل بنهم وكأنه لم يرَ طعاماً في حياته.كنَّ ينظرن إلى بعضهن ويتهامسن ضاحكات. قال ” أمجد ” ” يبدو أنك جائع حقاً ؟” وراح يضحك بصوت مرتفع . نظر إليه الفتى وهو يمضغ لقمته بعدها أردف قائلاً ” صدقني ..لم أكن جائعاً قبل قليل ولكن كلام سعاد أعاد لي شيئاً مفقوداً ..ألأطمئنان..كنتُ خائفاً من كل شيء..من كل شيء..حتى منك ..بيد أن كلامها جعلني أتذكر كلمات أمي حينما كنت صغيرا .. كانت تقول لي يجب أن تأكل كي تصبح قوي وتعرف كيف تدافع عن نفسك حينما يهاجمك الأطفال في المدرسة.. كنت أرتعب من كلامها وأبدأ بتناول كل الطعام الذي تضعه أمامي كي أستطيع منازلة ” علي” الشرس. ..ولكن أصبح علي من أعز الأصدقاء حينما دخلنا الجامعة ..ذبحوه هو الآخر حينما كان يتوقف على الطريق السريع بسيارة الحمل..كانت جثته ملقاة على الطريق السريع..لم يستطع أحد أن يحمله وركضت إليه ودفنته وأنا أبكي…” مسح دموعه وهو يقول ” هو ألأن في جنات الخلد لأنه مات مظلوماً كما مات أبي وشقيقتي…كلنا سندفع الثمن ..جميع الأطراف ستذوق الويلات…” .
توقف الجميع عن تناول الطعام. راحوا ينظرون إليه بحزن لايوصف. كانت ” سارة” تبكي بصمت تمسح دموعها بطرف يدها اليسرى. كانت عاطفية إلى أبعد الحدود. إنتهت وجبة تناول العشاء. تسابقت الفتيات لحمل الأطباق الخاوية. بعد قليل جاءت ناهدة تحمل أواني الشاي. جلسوا جميعاً على ألارض قرب فراش الفتى المصاب. في البداية كانوا صامتين جميعاً لااحد يريد أن يتفوه بشيء ..أو لايعرفون عن أي شيء يتحدثون. بدأت السماء تمطر ..كانت أصوات قطرات المطر على النافذة ترسل صوتاً رتيباً. نظر ” طارق” إلى ” سعاد” وهو يقول ” هل يمكن أن تعرفينني بشقيقاتي؟ أنا لا أعرف أي واحدة منهن ..كلهن متشابهات وقريبات في العمر..طالما أن ” أمجد” عرض علي أن أكون شقيقه ..إذن..ينبغي أن نتعارف ..ماذا تقولين؟”. نظرت ” سعاد” إلى ” أمجد” وكأنها كانت تريد الأذن منه. حينما أشار إليها بالحديث نظرت إلى كافة الفتيات الجالسات قريباً منها وراحت تتحدث بهدوء ” أنا سعاد ..أرملة..مات زوجي بمرض عضال قبل عدة سنوات..عمري 30 سنة.. الأخت الكبيرة. بعد وفاة زوجي عدتُ للعيش مع شقيقاتي . هذه سميرة مطلقة عمرها 25 سنة.. كان زوجها سكيراً ويصاحب الأشرار..تعذبت معه كثيراً لذلك تركته وجاءت للعيش في بيت والدي. وهذه خالدة عمرها 19 سنه وهذه ساره 18 سنه وهذه ناهده عمرها 16 سنة وهذه وردة عمرها 14 سنه وهذه ضحى البنت الصغيرة المدللة عمرها 12 سنة.. وهذا أمجد عمره 24 سنه تخرج من المعهد الطبي الفني وهو يعمل في قسم الأشعة في مستشفى المدينة القريبة….أما هذه فزوجة أمجد .. هي الأخرى متخرجة من معهد الطب الفني كانت تربطها بشقيقي قصة حب كبيرة..تركت المدينة وجاءت للعيش معنا..ساره هي الوحيدة التي تعرف القراءة والكتابة لأنها أنهت الثالث متوسط..كانت تعيش في بيت عمي لذلك توفرت لها فرصة التعليم البسيط . كانت تكره العمل في الزراعة ولهذا السبب ذهبت للعيش في بيت عمي. باقي الفتيات عاملات مجاهدات في هذه ألأرض …كان والدي قد أخبرهن بأن أي شيء يبعنه من المحصول يكون ثمنه لهن لذلك كن يتسابقن للعمل ليلا ونهارا للفوز بكمية جيدة من النقود…” ساره” أفقر واحدة بيننا لأنها لاتعمل في الحقل أبدأً ..هي تعمل في البيت ..التنظيف وعمل الطعام ..أحياناً نتصدق عليها حينما نبيع المحصول ونعطيها قليلاً من النقود…” راحت تضحك وهي تنظر إليها.
حينما توقفت ” سعاد” عن الكلام …عمَّ المكان صمتٌ كبير. نظر ” طارق” إلى ” ساره” وهو يقول ” ولكن لماذا لم تعلمي شقيقاتك القراءة والكتابة؟ من لا يقرأ ويكتب هو بمثابة الأعمى حتى لو كان يملك نقود كثيرة….أنتِ مقصرة في هذا الجانب.” صاحت ” ناهدة” :” هي أنانية ..كم مرة طلبتُ منها أن تعلمني ولكنها تتحجج بحجج كثيرة..هي تملك كتب كثيرة ..دائماً تشتري قصص وعندما تقرأ أي قصة تحكيها لنا..” اندفعت ناهدة قائلة ” أنا مستعدة أن أعطي كل نقودي لها على أن تعلمني…” هنا إندفعت ” ساره” تدافع عن نفسها قائلة ” هذا ظلم …لقد حاولت أن أعلمهن ولكن كلما بدأنا بالدرس يكون هناك عمل في الحقل وهذا معناه نقود ولذلك لم يكنَّ طالبات مجتهدات” . أصبح هناك هرج ومرج كل واحده تحاول الدفاع عن نفسها وتضع اللوم على الأخرى. حينما اشتد الصراع طلب أمجد منهن عدم المضي في نزاعهن. هنا تنحنح ” طارق” وهو يقول ” حسناً لدي إقتراح” . نظر اليه الجميع بجدية . قال ” أستطيع أن أفتح لَكُنَّ هنا مدرسه ..ولكن مقابل ثمن…أنا لا أستطيع العمل في الحقل على الأقل في الوقت الراهن.. ولكن أستطيع أن أبيع المعلومات التي أملكها..قالت ناهدة بأنها مستعدة أن تعطي كل نقودها مقابل التعليم.. أنا لا أريد كل النقود ولكن مقابل طعامي ومنامي..أعرف أن أمجد سيوفر لي الطعام والمنام لأنه طلب مني أن أكون شقيقه ومن واجب الشقيق أن يوفر الطعام والمنام لشقيقه حتى لو كان معوقاً…أريد أن أقدم خدمة لأي واحدة مقابل الطعام والشراب والمنام.. من يوافق يرفع يده .. كي نبدأ المشروع غداً”. دون تردد صاحت ” ضحى ” أنا موافقه ومع الطعام والشراب والمنام أعطيك ربع نقودي حينما أبيع المحصول ” . أما ” وردة” فصاحت هي الأخرى ” أنا موافقه وٍاعطيك نفس الشيء الذي تعطيك إياه ضحى”. وافق الجميع ما عدا ” ساره وزوجة أمجد لأنهما تعرفان القراءة والكتابة. حينما تم عقد الصفقة بين الجميع كانت الساعة قد اقتربت من الثانية بعد منتصف الليل. ذهبوا جميعاً للنوم..حاول ” طارق” أن ينام ولكن دون جدوى. كانت صورة عائلته تقض مضجعه وكانت الدموع لاتتوقف عن الجريان أبداً.
يتبع……