دال السارد و انقسام زمن الدلالة
ان القصيدة في تجربة ايقونية الشاعر حبيب السامر ، تبدو هي اللحظة التي تستمر عبر ماهية الاستفسار و التساؤل و البحث في اعماق الذات المتكلمة و امتحان لضمائرية الانا الواصفة في اكتشاف واقع نظرية الكلام و وصفية دلالة الآخر المتحاور في أفق تجلياتها الالتزامية في مديات الخطاب الشعري . و على هذا الاساس فأننا اليوم لنا قراءة تكوينية و تأويلية لقصيدة ( و لا على المرآة حرج ) . هذه القصيدة التي احتلت لذاتها ، حيزا مؤثرا في مسارية نفسانية المتلقي و القراءة ، حيث أنني كلما عاودت قراءتها في مرات عديدة ، أجد الشاعر السامر ، قد راح يحفظ من خلالها كل اختياراته الدلالية و المقصدية و العلاماتية ، و دون أدنى توقف منه ، أو كلل أو تأجيل :
غرفة
تحدها الشمس ذات اليمين
و القمر في ليال عسر
مرآة تتوسطها ،
على حائط املس
تفضح ، أو تكتم خيباتي .
من خلال هذه المدخلية النصية القارة في القصيدة ، نلاحظ بأن السامر يقودنا ، داخل روابط مكانية و وصفية ، تقترب من حدود نمطية المسرود القصصي ، فيما تتوجه فضائية الدوال على نحو صياغات افتراضية زمنية ، من قيمة المعنى المشهدي المطروح في الاداة المكانية في النص . فمثلا لعلنا سوف نتعامل مع فقرة هذه الجملة ( غرفة : / تحدها الشمس / ذات اليمين ) على اساس ابعاد هندسية معمارية ، و ليس شعرية موضوعية في حالة الموصوف ، لأن في الواقع ما قد جاء في ترسيمة هذه المقطعية ، ما يوعز إلى تكوينات دوال تتطلب من قارئها ، ثمة وعي رياضي في استخدامات مسافات الاشكال و البنيات المكانية : ( غرفة / تحدها / شمس / اليمين ) . ان ملفوظات هذه المساحة التكوينية من الحس التصوري بالأشياء ، راحت تتبع جملة تواصيف مشروع ظاهرة غرضية ما ، خصوصا في حال هكذا توصيف
( القمر في ليال عسر ) ان ملفوظية دال ( قمر : عسر ) تقودنا نحو فضاءات تجاورية القيمة و التنافر في الوقت نفسه، فمثلا ما شكل تحول ( ليلة قمرية ) إلى حلولية مزاولة صفة
( عسر ) و بطريقة يشوبها الاغتراب و المفاجئة : أهناك أمرا ما مخبوء من زمن الخطاب النصي ؟ أم ان طبيعة القمر هي من بات يعد كمرجع تحولي من قيمة ذلك المتغير العلائقي في الشكل الملفوظي ؟ . ( مرآة تتوسطها / على حائط أملس ) ان الحال على ما هو عليه لحد الان في فضاء المتشكل الكلامي و دون معرفة ثمة معطائية جديدة في جوهر القول ، بأستثناء احتمالية التطابق و عدم التطابق في دلالات هذا الربط الوصفي في المقطع الشعري : ( تفضح أو تكتم خيباتي ) . ان ما تفصحه هذه المقطعية الأخيرة , هو ما يشكل في الأن نفسه , نشاطا ضمائريا واضح , من جهة المعلوم المتكلم و الذي هو
بمثابة الاداة الراوية في النص ( تكتم خيباتي ) . و بهذا الحال صار معروفا صوت المتكلم في المقاطع , و إلى ماذا هو يشير اليه : ( لأنني عالق بها / تحدثني كل صباح / بايماءات مصقولة / تقول كل شيء / و أيضا تحتفظ بكل شيء) . ان هذه المرحلية من مقاطع القصيدة ، تحاول الافصاح عن أفق استحضاري ، من دليل اشتراطات العلامة التصورية من فضاء حوارية ( الأنا الشاعر ) مع عين كاميرا تلك المرآة ، و إلى حد وصول الأمر ، إلى مثل هذا القول
( لأنني عالق بها / تقول كل شيء / وتحتفظ بكل شيء ) . ان وصول العلاقة ما بين ( الأنا / المرأة ) إلى زمن متحرك من ذاكرة حلمية و وهمية ، ما جعل موقعية المشار اليه ، تتعزز بحدود انتماء متحاورية شفرة الآخر في ضمير تلك المرآة .
( الزمن الشعري في اتصالية الدال الحاضر)
لاشك ان قراءة قصيدة ( و لا على المرآة حرج ) تضعنا داخل شبكة زمنية مرتبطة بمسارات دوال حاضرة من فاعلية حرية اختيارات التنصيص المتخيل في الصورة الشعرية , و على هذا وجدنا من الضروري معاينة الزمن في القصيدة , بموجب اتصالية فضاء الدال المتصل و حدود الافتراضات الفضائية من بنية تحاور مقاطع النص :
تطيل المكوث أمامي
تتأمل جسدي ,
شكل شعري
لون عيني
و لا على المرآة حرج .
ثمة على القارىء في هذه المقاطع معرفة استدراك تحركات الزمن في مقاطع دوال و أفعال هذه المقطعية ، فعلى سبيل المثال ، نلاحظ هذا التشكل السكوني الذي في بداية مقاطع النص الأولى ( غرفة تحدها الشمس ) ثم كيفية تحول الأمر بعد ذلك في حدود هذه الجملة الجديدة ( تطيل المكوث أمامي) أمام هذا هل بوسع المتلقي معرفة ، مجريات زمنية المحكي ، و كيف هو الأن في منطقة المغايرة الملفوظية من مساحة هذا القول ( لون عيني / شكل شعري / تتأمل جسدي / ولا على المرآة حرج ) . ان اتصالية الدال المركزي المعنون بباقي فعاليات فضاء المقاطع الأخرى , راح يوظف الأشياء و الأوصاف ، بطريقة المروي الظرفي ، و على نحو بات تصعيدي , مزاوج لتمظهرات الحالات الضمائرية الاخرى ، من نسق التسمية الدالة في النص : ( تطيل المكوث / ولا على المرآة ) . ان هذه الافتراضية من الشاعر في هذا القول ، اخذت تدير شؤون اتصالية أفعال الدال المركزي ، على نحو يضمن لعلاقة السياق بالأشياء الواصفة ، سلامة مروية خاصة على شرعية المتخيل العام في النص , و ما يترتب على هذا الأمر ، من روابط بنائية حيوية الاتصال بهوية الأنا و الآخر . ان حبيب السامر من كل هذا , كان يحاول ربط علاقة الآخر بماهية الدال المركزي , الذي هو ( ولا على المرآة حرج ) حيث أضحت لنا الأشياء في القصيدة ، بمثابة المحاولة لأكساب النص محورية عامة من حضورية المعنى المتماسك ، وحساسية تناظر المتن و البنية الخطابية المتضافرة .
أنت ..
كاتمة سري ، حافظة عهدي
كم بكيت و أنت تلتقطين سخونة دمعي
و كم شكوت انكساراتي
يا أنت ..
بالأمس تركنا بقايانا
ضحكنا طويلا
على وقت مضى .
تظهر في هذه المقاطع بوضوح تام ، شكلية طبيعة اتصالية الزمن المتني بدال المركز العام في القصيدة ( المرآة ) لتتوضح من خلالها حقيقة ( المسكوت عنه ) فيها : ( أنت / سري / عهدي ) لكن من جهة ما تبدو علاقة الترابط في هذه المقاطع , قد حلت اتصاليا بزمن تصعيد الضمائر المخاطبة
( الأنا / الآخر / المرآة ) حيث تبدو أكثر ايغالا في رسومية السعي نحو السؤال في منطقة الآخر ، و منطقة حركية الحوار مع المرآة : ( كم بكيت / و أنت تلتقطين / سخونة دمعي ) من هنا تبدو هذه الاتصاليةالزمنية في دال هذه الجملة بمثابة الحصول الاستنطاقي لضمير النتيجة المقطعية المضمرة في القول الآخر ( و أنت تلتقطين ) لاسيما و ان الشاعر كان يحاول من خلالها الأفصاح عن هوية المتكلم ، و ذلك بموجب استنطاق خلفيات العلاقة مع تلك المرآة التي هي طويلا ما حملت ، صورته و هو يفرغ بما تحمل هواجسه الذائبة على سطح احتضاناتها المعكوسة في ذاتية المتكلم :
( بالأمس تركنا بقايانا / ضحكنا طويلا / على وقت مضى ) .
تتحرك مبادرة الاعتراف و الافصاح هنا ، من جهة الراوي و على نحو يوفر لمتاهة المتكلم ، ثمة زمانية و حياتية ، محملة
بدموع و أوصاف الشاعر , حيث نجدها مؤسطرة بصورة انكساراته الذاتية و العاطفية ، لتكون النتيجة القصوى بعد ذلك ، مجرد الاستذكار و الاستحضار من ملامح فضاء صوت
( الأنا ) و هي تستسلم لراحة الصورة الحلمية في المرآة ، و المتصلة بزمن اختزالات القول الآخر من الصورة الشعرية :
( أتذكر أني تركت وشما / على جبهتك / و أنت تلمحين تساقط الرذاذ على سريري ) . الراوي في هذه المقاطع من القصيدة , يحاول توسيع القراءة النواتية ، بفعل صلة المشار اليه ، ولا حد ان القارىء ، يتوهم أحيانا بأن المتكلم هنا ، هو صوت المرآة الآخر ، و ليس ضمير الشاعر المباشر في صورة المرآة :
كم أخاف عليك من أبخرة تتطاير في فضاء الغرفة
سأمكث معك
في غرفتي
تحدها الشمس الهابطة من عرشها
و في الليل يرافقك القمر في رحلة اللذة
أتقمص عاطفتي
أخلع معطفي
و أنت تنظرين الي .
ان حبيب السامر في متابعة و بناء أجواء هذه المزاوجات الصوتية و الدلالية المشتركة في قصيدته ، قد خلق لنا ثمة انطلاقية ابتداعية و ابداعية ، غير ملحوظة هذه الايام في القصيدة لدى الشعراء أو أشباه الشعراء . ان نموذجية قصيدة المبدع حبيب السامر ، لربما هي بمثابة لحظة الانفلات عن تقليدية وصايا قوالب الموضوعة و الشكل المتني و البناء
المضموني بصفة عامة . بل و الأكثر من هذا ، ان هذه القصيدة للشاعر ، قد جاءت خطابا تداوليا واضحا و صريحا ، في طرح انطباعات و تصورات الشاعر ، و بمفهوم راح يسوغ لذاته كافة مسببات وجوده الجوهرية و الحسية و الخطابية ، و بصياغة تستدعي الايقاع القرائي المتواصل و الموثق من حياة القصيدة الجادة و الجديدة ، في تقديم توالداتها الشارحة و الواصفة لمقومات ، خصوبة الافكار و النموذج النصي .
( ما لم تستطع ان تقوله القصيدة )
إلى جانب انطباعات كلام مقالنا هذا عن قصيدة الشاعر ، أود ان أشير إلى ثمة وجهة نظر شخصية خاصة برؤية كاتب هذا المقال ، في الحقيقة كانت قد لازمتني طويلا و أنا أدون و اسجل وقائع قراءتي عن فضاء قصيدة الشاعر : كم كان جميلا لو ان الشاعر بات يخصص مجالا ما أو مرحلة ما في مسافة النص ، تكون بدورها مقتصرة على ما تقوله المرآة بدورها للشاعر ، طالما ان صوت الأنا في القصيدة ، قد أخذ لذاته نصيبا كبيرا من القول عن صورته و حياته فوق تلك المرآة : فإذن لماذا لم يتيح الشاعر لمرآته ، الحق في البوح عن صورتها المعكوسة و المرسومة في ذائقة الشاعر و أشياءه . أليس لصوت المرآة ذلك ثمة دور في تجسيد تصورات و هواجس الشاعر فيها . فإذن لماذا لم يجعل الشاعر لصوت المرآة ذلك الحضور التمسرحي و الخطابي في دلالة الافصاح عن خلجات الشاعر في صورتها الباطنية في ذاتها . على أية حال يبقى الشاعر حبيب السامر ، مع أجواء شعريته بشكل عام ، يشكل ظاهرة شعرية ملفتة و هامة
، حيث ان شعريته لاتميل إلى الزوائد و الثرثرة و كثرة الكلام ، فيما انها تنشغل بالكيف لا بالكم ، و تنقل اشتغالها من المستوى الكمي إلى المستوى النوعي ، موظفة مقصدية الايجاز و التكثيف ، مركزة اشتغالها على الدال المركزي ، إلى حد يجعلها تبدو أشبه بالضربة الشعرية المفاجئة و المؤثرة على فواصل انتهاك الحدود ما بين لغة الواقع و لغة المتخيل ، و استنطاق الغريب و المهجور و اللامتوقع من فضاء مسارية محورية الآخر في النص الشعري .