عن أيام الشام وبعض من صفحاتها التي لم يُكتبُ عنها كثيرا، نقول: ماسنأتي عليه قد يكون محض خيال، أو ربما كان له بعض نصيب من الواقع، أو هو من الإثنين معا وقد تداخلا وتضافرا حتى خرجا بما هو أحلى، وراحا يشكلان لوحة ثالثة، أظنها ستكون أكثر دلالة وتعبيرا، ولأجد نفسي منحازا لها وبما لا يدع مجالا للشك. ووفق هذه المؤالفة، وتحت ظلالها وتأثيرها، سأشرع في الكتابة. وما دام الحال كذلك فلا مناص من الإصغاء الى ما يعينني على ذلك، فألفتني حازما أمري، مقلبا أوراقي، شاحذا معهما ذاكرتي، عائدا ببها الى هناك، فزائري اﻵن يحمل معه بشائر سعد، قد نحياها من جديد ويا ليتها تكون كذلك.
وإنسجاما مع ما دار بخلدي، فقد بات لزاما عليَّ، أناصاحب المقال، العودة بالزمان بضعة عقود، لنقوم بجولات أو لنقل بزيارات خاطفة على أهم معالم دمشق القديمة. فها هو وبكل شموخه مقام شيخ المتصوفة اﻷكبر، محي الدين ابن عربي، الزاهد بمرقده كزهد حياته. ومن بعده سنقطع بضعة شوارع، وصولا الى ما نبتغيه، إنه الجامع اﻷموي، الواقع بالطرف اﻵخر من المدينة، زاه بمآذنه وضياءه، جليل ببناءه وهندسته وعبق تأريخه. أما عن أماكن إستراحتي وسلواي بعد الظهيرة، فلا أظن هناك أجمل من درابين وأزقة حارة الورد وباب الجابية، وسوق ساروجة وضوعة طيبوها في دمشق العريقة ومذاق نبيذها المعتق في أقدم خاناتها وسراديبها، دون أن نغفل المرور على واحدة من أقدم مقاهيها، حيث مأوى الغرباء وأحاديث السياسة، يوم كنّا ننتظر جني الثمار، غير انَّ العمر مضى وغادر اﻷحبة تباعا ولم نجنِ حتى حبة تمرٍ واحدة.
وما دمنا نتحدث عن ذلك السفر المجيد، فجمال الكلام لا يكتمل إن لم نلج منطقة الصالحية ونسعد في الحديث عن محلاتها وعن نساءها الفارهات الطول، المغنجات بقدودهن، وعن حانة الخمر القريبة ووجهتنا حين تحلٌ المساءات. كذلك لا مناص من أن ننعطف نحو شارع العابد حيث يقع هناك مقهى الروضة، لندخله آمنين، راكعين على عتبته التي أوتنا سنينا، مستذكرين بعض فصوله. وإذا كان لنا من قول عن الصورة النمطية لذلك المقهى وكيف كانت عليه يومذاك، فلا بأس من التذكير بها.
فما بين هذا الجالس في أحد اﻷركان القصية من المقهى ومَنْ كان برفقته، وبين آخر قد جاء تواً من سَفَرٍ بعيد ومضيفه، كانت تدور رحى نقاشات عالية السخونة، أمّا عن حماس لغتها، فقد بات من البداهة أن تبلغ أشدها وصولا الى أعلى مناسيبها، وسيتبعها الخلاف والفرقة. كل ذاك كان يدور وسط دهشة رواد المقهى، غير ان ما كان يشفع لصراخ أهلي وأبناء جلدتي: أنَّ هناك مَنْ فتح لهم باب القلب قبل باب البيت، ورأوا في ضيافة الغرباء فرض عين لا مناص منه ولا فكاك.
وعلى ما رآه أهل الدار، فالمتحاورون وبعد أن طال بهم المقام في أرض ليست كأرضهم رغم المشتركات والتشابه الكبير بينهما، باتوا اﻵن في إضطراب وعلى عجالة من أمرهم. منتظرين بفارغ الصبر بيانا هاماً ومطمئنا من هذا الحزب المعارض وتوضيحا من ذاك، فاﻷحداث تُنذرُ بوقوع تطورات دراماتيكية، قد تُحدث تغييرا ما في بنية النظام الحاكم في بلادهم، على ما قيل لهم وما وصلتهم من أخبار، الاّ انَّ واقع الحال كان غير ذلك، فبعد أن أخذ منهم اليأس مأخذا، وخرجوا بخفي حنين وقبضة ريح، ما كان عليهم الاّ أنْ يختطوا طرقا ومسالك أخرى، باحثين عن بدائل وملاذات أكثر أمنا، ليضعوا حدا لحيرتهم، فتشتت القوم وعلى غير هدى. أمّا أنا المتحدث عن تلك الحقبة، فقد كنت أحد هؤلاء الهائمين، حاملا أمتعتي حيث يذهبون.
الصورة لم تكتمل بعد ولم تُقتصر على ما فات ذكره، فبجانبها كانت هناك فسحة ضوء وقلة قليلة من رواد المقهى، مَنْ كان بموضع الغبطة والحسد. إذ لم يكن الشأن السياسي شاغلهم اﻷوحد، على الرغم من أهميته، بل كانوا أكثر عقلانية في قراءة اﻷحداث، وأكثر إنفتاحا على العوالم اﻷخرى، باحثين عن أسباب الجمال أينما يكون، ففيه راحة للروح وكثير سلوى!. وبين حين وحين كنّا نحن أصحاب الفضول، حيث لا همَّ لنا سوى أحاديث السياسة المرهقة وأباطيلها، نقترب بحذر شديد وتردد من هذه الفئة، لنشم منها عطر ما يقرأون، أو تجدنا وقد غفونا على حلو كلامها. وتحت تأثيرها ولعديد اﻷسباب، وبعد أن نفضنا أيادينا من الولاءات والإنتماءات العفوية والعاطفية وقرارات الصبينة، التي ظلَّت تلازمنا حينا من الدهر حتى أقضت مضاجعنا وراح الشيب يزحف رويدا رويدا، قررنا أن نخطوا ونحذوا حذو مَنْ سبقنا من الحالمين، مستشعرين آثارهم وكيف يكتبون ويفكرون وما يقرأون، وبما يتناغم ونشوة الخمر، فألفتنا مهووسين في البحث عن عوالم أكثر سموا وألقا، ولا ندري إن فاتنا اﻷوان أم لا زلنا على مقدرة من اللحاق بهم.
وللدخول في بعض الوقائع فلا بأس من التوقف عند واحدة من أهم صفحاتها. و لابد أيضا من التذكير مرة أخرى، من أنَّ مدونتي هذه تأتي بعد مرور ما يزيد على الثلاثين عاما، فما أكتبه ربما كان حلما قد طاف بي، أو هو هاجسا عابرا، ما زال يداعب ذاكرتي ويحثني على إستحضار وتوثيق ما مرَّ بي، وما مررت به. أمّا دليلي اليها فكانت ليالي الشام المقمرات وطريق حريرها، ودافعاي الشوق والحنين التى تلك اﻷيام رغم قساوة بعض صفحاتها.
وخير الكلام ما سيكون مداره مقهى الروضة، ببهاء حضوره ومكانته وهيبته، فبه نبتدأ واليه نعود. فلم يكن مرتعا أو وجهةً لمثقفي المنافي أو ملاذا لهم فحسب، بل كان مأوى وقبلة أهل الدار ومَحَجَّهم. وهم ربابنته وموقدي شموعه، سادته وسدنته. فمن قبل أن يصله الغرباء كان جُلَّ جلاّسه ومَنْ تربَّع على عرشه صفوة من كبار القوم، فمن بينهم من كان قصاصا أو صحفيا أو رساماأو حكيم زمانه أو أو أو ….. وكل مَن هو على شاكلتهم من بناة الروح اﻷمارة بالحب وجمالياته.
ومن محاسن الصدف الجديرة بالتوقف عندها لبعض من الوقت وبضعة من السطور، أن كان من بين روادها (المقهى) أحد أشهر عازفي آلة البزق، إنه الفنان الكبير الراحل، والذي لُقِّبَ بأمير البزق، محمد عبدالكريم، الحمصي الولادة، الشامي النشأة والهوية والولاء والروح. الشديد اﻷناقة، ببدلته البيضاء وربطة العنق التي تطابق لون منديله المثلث اﻷبعاد، والذي عادة ما يضعه في جيب جاكيته اﻷعلى من جهة اليسار، عدا عن تلك القبعة التي تغطي فروة رأسه، فهي تنتمي وبألوانها الزاهيات الى جيل أكثر حداثة وأصغر عمرا من صاحبها، انه الغنج وروح الفنان بعد رحيل العمر، وحسناً كان يفعل.
هذا العازف وحين دخوله المقهى كان مثار دهشة وإعجاب روادها، كذلك موضع تساؤلاتهم، وبشكل خاص من قبلنا نحن الغرباء والمنفيين عن بلادنا، فمن أين يأتي هذا الكهل المتصابي بكل هذه القدرات على العزف، لا سيما وقد بلغ من العمر وإعتلال الصحة ما يُفترَضُ أن يقفان عائقا. المهم وإختصارا للقول فقد كان الرجل مهذبا، قليل الكلام ولكنه إن نَطَقَ فسيكون ممتعا وخير أنيس في أحاديثه، سخيا وكريما بلا حدود. أحيانا ومن خلال بعض الإشارات والإيحاءات التي تصدر منه واﻷسئلة التي يثيرها وإن إنطوت على بعض حياء وتردد، يُشعرك بحجم التعاطف معك.
وللتذكير فإن عازف البزق الذي هو موضع حديثنا، كان يتخذ مكانا، يمكن أن نسميه (حكراً) عليه أو مملكته الخاصة والتي لا ينازعه عليها أحد. فالكل بات على علمٍ بأن الطاولة الفلانية هي من نصيبه فقط ولا خلاف أو إجتهاد في ذلك، بصرف النظر عن عدد الرواد وحجم الزحام الذي يبلغ أشده مع مقدم ساعات الضحى. وما يُلفت النظر فإن عمال المقهى قد اعتادوا على إتباع طقسا يوميا، لم أرَ له مثيلا وفي كل المقاهي التي تسنى لي دخولها وتسكعي فيها. ولم أجد له أيضاً وحتى اللحظة وصفا دقيقا وبما يتسق وشدة جماله وإنبهاري به. إنهم يعدونه (أي ذلك الطقس) بمثابة المسك واللمسة اﻷخيرة التي يستكمل من خلالها أناقته. فقبيل جلوس العازف وبلحظات، كانت إحدى باقات الورد، قد وضعت في مزهرية زجاجية، مناسبة في حجمها ولا تقل جمالا عن باقة الورد، بل ستزيدها بهجة وبهاءا، لتستبقه وتتوسط طاولته.
في إحدى المرات صادف أن شَغلنا، بضعة أصدقاء وأنا من بينهم طاولة ذلك العازف اﻷنيق، ولم نك نعرف ما ينبغي القيام به من تصرف، حتى جائتنا الإشارة خطفا من أحد جلاّسها المدمنين، فما كان علينا الاّ أن نفرغها ونفسح له في المجال إحتراما وتقديرا، غير أن الرجل أبى ذلك وفضَّل أن يجالسنا. عموما ومع مرور الوقت واﻷيام والسنوات التي قاربت العشرة، بات يألف وجوهنا وأحاديثنا ولهجتنا التي لم تَعُد عصية عليه كما كانت عليه في بادئ اﻷمر، بل حتى راح يعيد على مسامعنا بعض اﻷغاني المحببة اليه، للمطرب الكبير، الراحل ناظم الغزالي، وفي مقدمتها أغنية فوگ النخل.
ومن محاسن جلسات عازف البزق، أن كان الرجل يمدنا بين فترة وأخرى وفي ما بعد تحول كرمه هذا الى طقس ثابت، بأعداد من الصحف اليومية السورية، والتي عادة ما كان يشتريها من ذلك البائع المسمى أبو عادل على ما أتذكر، والذي يتخذ من أحد اﻷكشاك القريبة من المقهى متجرا له. وما دمنا قد جئنا على ذكر بائع الصحف هذا، ففي إحدى المرات وبينما كانت المنطقة إياها في أوجٌ حركتها لا سيما وأنها تطل على سوق الصالحية الذي يُعد من أكبر أسواق العاصمة وأكثرها إزدحاماً، خرج الرجل عن (طوره) على حدِّ وصف البعض،صارخاً: مَنْ هو اﻷسد؟ إنه حيوان أليف. فما كان من رجال اﻷمن الاّ أن تنادوا ليطوقوه وبلمح البصر. وبعد مناوشات ومشاورات بين الطرفين لم تدم طويلا، تمَّ إطلاق سراحه وبسرعة أيضاً، بعد أن وجدوه مخمورا، أو ربما رأوا في ذلك عذرا ومخرجا لهم. كذلك بسبب تدخل بعض المارة. هذا ما جاء في الرواية التي جرى تناقلها في ما بعد، والعهدة على ناقلها.
وفي صفحة أخرى من صفحات ذلك السِفْر الذي نتحدث عنه، ولعلها اﻷهم في هذا المقام لما فيها من طرافة وحنكة صحفية، أن قام أحد أبرز المهتمين بالشأن الثقافي على الساحة السورية، بنشر نصا نثرياً مثيرا للجدل، وعلى واحدة من أهم الصحف الدمشقية والتي تُعَدٌ كذلك أكثرها إنتشارا وشيوعا، وعلى ملحقها الثقافي تحديدا، والذي عادة ما يصدر اسبوعيا. داعيا القراء ومن قبلهم أصحاب الشأن من النقاد الى التفاعل مع النص وإبداء الرأي بحرية وصراحة، واعدا إياهم بنشر ما يكتبون بأمانة تامة وعلى ذات الصفحة.
ومن بين ما وصل الجريدة من آراء وإستجابة لتلك الدعوى، ما يلفت الإنتباه حقاً ويستحق التذكير به والعودة اليه. فأحدهم على سبيل المثال أرجع النص الذي كان قد نشره ذلك الصحفي ولنسميه بالمحترف، تحت عنوان نص نثري، أرجعه الى مدرسة الشكلانيون الروس، وراح مستكملا ملكاته النقدية بإستعراض بعض اﻷسماء التي كان لها الدور البارز والرئيسي في ولادة هذه المدرسة النقدية، ومن بينهم على سبيل الذكر: رومان ياكبسون وميخائيل باختين، بإعتبارهما أبرز منظري وحملة رايتها. ومن غير المستبعد أن يكون الشخص المشارك في هذا التعليق، أراد وبحسن نية ومن خلال مساهمته هذه، إستثمار وتوظيف مناسبة كهذه، من أجل إستعراض ملكاته اﻷدبية وإيصال صوته لمَنْ يهمه اﻷمر ولغايات في نفسه.
وقسم آخر من القراء وربما من بينهم مَنْ كان شاغله النقد اﻷدبي، راح بعيدا في وصفه للنص المنثور، حيث وجد فيه ما يدفعه الى التوقف عند أهم وأبرز المدارس النقدية في اﻷدب، إبتداءاً بالرومانسية حتى بلوغه البنيوية وما بعدها مرورا بالواقعية، ففي النص المنشور وعلى ما رآه، يُمثل خلاصة التيارات النقدية وصدى لها. بل ذهب في تعليقه الى أبعد من ذلك، إذ راح مدافعا عن سيرة الناشر اﻷدبية بل وحتى الشخصية، ليزيل عنه كل الإنتقادات واﻵراء التي كانت تطاله.
ولكي لا نطيل ونغرق في التفاصيل أكثر.، فبعد أن هدأ الحال وإستقرت الردود والمشاركات على ما هي عليه، وتم غلق الملف، أقدم صاحب النص اﻷصلي على كشف ما كان خافيا. فما نشره لم يك الاّ مجموعة نصوص أو لنقل فقرات، كان قد استقاها وإنتقاها وجمعها بدراية ودربة شديدين، تعود أساسا الى مجموعة من الكتاب، متباعدين في أساليبهم وفي صياغاتهم وأفكارهم. كان الناشر قد أجاد الربط وآلف في ما بينها، مستغلا قدراته اللغوية وخبرته في النشر، حتى أظهر للقراء وأوهمهم بأنهم أمام نص متفرد، لم يسبقه اليه أحد.
أمّا لو تحدثنا عن الهدف اﻷبعد والذي أراد صاحب النص اﻷصلي إيصاله وعلى ما أرجّح، وبعيدا عن درجة الإتفاق والإختلاف مع طريقته هذه ولجوءه الى هكذا لعبة، وبعيدا أيضا عن كشف سرّهم ووضع في موقع الحرج كل مَنْ تفاعل معه واستجاب لدعوته وبحسن نية، فكان يهدف وعلى ما يبدو وإذا ما جاز لنا تفسير الحالة، هو أن يقف القارئ في نهاية المطاف أمام مسؤولياته، متمنيا عليه أن يكون في منزلة لا تقل شأنا عن منزلة الكاتب إن لم تزده قليلا. ولعل هدفا كهذا لعلى درجة كبيرة من اﻷهمية. فالمعني ومن يهمه اﻷمر، سيجد صعوبة شديدة إن لم تكن مستحيلة، في إحداث فصلٍ أو شرخٍ، ما بين عمليتي القراءة والكتابة، فهما يكملان بعضهما بعضا، وإذا ما ضعف أو إختل ميزان إحداها، فسينسحب اﻷمر بالتأكيد على اﻷخرى. هنا وبمناسبة كهذه تذكرت إحدى العبارات التي قالها الشاعر الكبير الراحل، سعدي يوسف وربما قالها كثيرون غيره وبما معناه: عليك أن تكون قارئا جيدا قبل أن تكون كاتبا.
أخيرا، لنعود الى السؤال اﻷساسي الذي أثرناه في بداية المقال: هل ما كتبناه كان حلما أم حقيقة؟. سأترك لك الجواب عزيزي القارئ، دون أن أنسى التذكير من جديد بأني أحب الشام أرضا وشعبا، وإذا ما كانت قد استكانت قليلا ولبعض الوقت، فلكل حصان كبوة وستنهض من جديد.