وفي نهار يوم جمعة من عام 1997 ذهبت مع أبي نواس الى بيت الشاعر سعدي يوسف ، كان ابو حيدر في سوريا لمدة اسبوع وقد ترأس تحرير مجلة المدى الفصلية التي كانت تصدر في دمشق عن دار المدى التي اسسها فخري كريم ، طرقنا الباب وفتحه لنا سعدي يوسف ، قال : لقد جئتم في وقتكم ، كانت الساعة الواحدة ظهراً والطقس فيه خيط من البرودة الخريفية التي تطغي على اجواء عمّان . جلسنا في حديقة البيت التي يسميها سعدي بالجوراسية وثمة شرفة ارضية تطل من باب مطبخ شقته الارضية تحتوي على مائدة وكراسٍ انيقة ، جلسنا وبدأ سعدي يوسف يعّد لنا الكثير من المقبلات والطعام والشراب على الطريقة العراقية التي يحبها ثم دخل الى الشقة وجاء بنسخة من مجلة المدى وكتاب صغير هو عبارة عن آخر مجموعة شعرية كانت قد صدرت له في بيروت بعنوان ( حانة القرد المفكر ) قال لا امتلك غير نسختين واحدة لكم ، استلمها حسب الشيخ جعفر وتصفحها قليلا ومن ثم حولها ليّ ، قلبت صفحاتها على السرعة الممكنة ، وكان عليّ ان اجد معنى داخل المجموعة يرشدني على هذا العنوان الغريب الذي اختاره سعدي يوسف لمجموعته هذه . وما بين شرب الخمرة في الظهيرة العمّانية وما بين الاطعمة والمقبلات الكثيرة احتدم النقاش فيما بينهم ، كانوا يتحدثون عن الادب الروسي عن بوشكين وآنا اخماتوفا التي ترجم شعرها حسب الشيخ جعفر ثم انتقلوا الى المشهد الشعري العربي كنت انصت لهم جيداً وكأني تلميذاً في الصف الأول يحمل دفتره ويسجل في ذاكرته هذا المشهد الحواري الجميل ما بين قامتين شعرييتين لطالما قرأت لهما وتمنيت ان أراهما ، فكيف بيّ ان اكون ثالثهم ، كانت الجلسة رائعة واستمرت حتى المساء ثم غادرنا بيت الاخضر بن يوسف الى لقاء في الجمعة القادمة ، عدنا الى غرفتنا وبوجود الاصدقاء الكثيرين الامر الذي جعلنا نستمر في الشراب معهم حتى الصباح وذلك عادة ما تكون جلساتنا مع البياتي او سعدي يوسف محكومة بضوابط كثيرة ومقيدة بعض الشيء ، إلا ان جلسات غرفتنا تكون اكثر حرية وصاخبة في اغلب الاحيان خاصة فيما اذا جاء جان دمو بصحبة معراج فارس فسيكون ذلك اليوم ممتلىء بالضحك في محاولة للهرب من الحياة البائسة في العيش . وفي الجمعة الثانية ذهبنا ايضاً ابو نواس وأنا الى بيت سعدي يوسف وكالمعتاد رحب بنا وجلسنا داخل الحديقة تحت ظل شجرة عالية كانت تلك الشجرة تلقي بظلها على حديقة البيت لتجعل الافياء تنثال عليها بشكل جميل ، في بداية الجلسة سأل سعدي يوسف صديقه حسب الشيخ جعفر عن رأيه حول مجموعته الشعرية الجديدة حانة القرد المفكر ، فتحدث حسب عن المجموعة بصراحة تامة ، بأنها لا تمثل سعدي يوسف كما مثله الاخضر بن يوسف ومشاغله او في نهايات الشمال الافريقي او في مجاميع أخرى . وانا اصغي الى حديث حسب الشيخ الذي قام بتفكيك مجموعة سعدي بطريقة نقدية رائعة ، أتضح ليّ ان النقد العراقي خاصة والعربي عامة يعيش ازمة كبيرة وكبيرة جداً ، فحسب جعفر الذي قرأ المجموعة بعيون شاعر استطاع أن يتوصل الى اماكن الخلل واماكن القوة داخل نصوص المجموعة على العكس تماماً من النقاد الذين يجاملون هذا وذاك لاسباب نفعية او لاسباب أخرى . وما ان انتهى ابو نواس من كلامه حتى قال له سعدي يوسف ، يا حسب ان رأيك يهمني كثيراً ، ثم ألتفت أليّ سعدي ليسألني عن رأيي في المجموعة ، قلت له يا ابا حيدر من خلال قراءتي لها على الفور قد حفظت قصيدة منها وكأنها نبوءة ، القصيدة اسمها رؤيا فقرأت له رؤيته التي يقول في مطلعها :
سوف يذهب هذا العراق الى آخر المقبرة
سوف يدفن ابنائه جيلا فجيلا
ويمنح جلاده المغفرة !
لكني ما ان انتهيت من قراءة القصيدة حتى وجهت له سؤال حول اسم المجموعة الغريب ، فقال سعدي يوسف ، انه في واحدة من سفراته ما بين الشام واستنبول ، وفي منتصف الطريق توقفت السيارة للاستراحة من اجل الطعام والشراب وقضاء الحاجة ، حتى ذهب الجميع للمطاعم ففكرت ان اشرب في حانة ما ريثما يكمل الركاب حاجياتهم فشاهدت حانة جميلة ومن فوق بابها ثمة صورة كبيرة لقرد يضع سبابته على رأسه ومن تلك الصورة المعلقة فوق الحانة صورت عنوان المجموعة ، قلت له هذه فراسة ودقة وألتقاطة اكثر من رائعة ، فلا يمكن ان يكون عنواناً اجمل من حانة القرد المفكر !