كنت صبيا وذات يوم ذهبت إلى جدّتي مسرعا ومتعجبا وأنا أصيح ” جدة تعالي شوفي هذا الحارس كل يوم يأخذ حاجة من البيت الذي يحرسه”!!
ضحكت جدتي, وقالت: “يمه حاميها حراميها”!!
لم أفهم ما قالته , لكنها أضافت: ” هذا حرامي مو حارس ” , ” هاي إشلون دنيه”!!
وأنا أقرأ ما يردني من مقالات وأسمعه من خطابات وسرقات ونهبٍ لذيذ , تذكرت جدتي وحكاية الحارس الذي كنت أرقبه كل صباح بعد إنتهاء حراسته الليلية , وهو يتأبط شيئا ما من البيت الخالي من أهله الذين عهدوا إليه بحراسته.
في ذلك العمر لم أفهم بسهولة معنى ما قالته , لكني وبعد أن كبرت وتدحرجت مع الأيام , وجدتني أراها في كل مكان عمل , ففي فترة إقامتي في المستشفى , أصبحت رئيس أطباء مقيمين في مستشفى جراحي , وعلي أن أكون عضوا في لجنة الإعاشة , وقد حضرت أمامي تلك الحكاية ” حاميها حراميها ” فكان ما يُشترى على أنه طعام للمرضى غير صحيح وفيه الكثير من التزوير , وعندما أثرت الموضوع وغضبت لما أرى , وجدتني في موقف لا أحمَد عليه , وصرت وكأني عدوّ مدير المستشفى الذي هو رئيس لجنة الإعاشة , والأنكى من ذلك كان عمال المطبخ يمرون من أمام شباك غرفتي عند المساء , وهم يحملون الطعام إلى بيوتهم ويتحدونني إذا كنت أستطيع فعل شيئا , فأدركت أن ” حاميها حراميها ” , ومن حسن حظي غادرت المستشفى بعد بضعة أسابيع إلى مستشفى أخرى , وفي يقيني أن الجميع ” حاميها حراميها”!!
ولأكثر من عشرة سنوات عمل في بلدي , تبين لي هذا السلوك واضحا بل وأصبح مستشريا ومتناميا في جميع دوائر الدولة ومؤسساتها , وصار من المقبول أن يتحقق النهب والسرقة والقيام بدور الحرامي , لأنها شطارة و”سِباعية” وشجاعة , فالذي لا يسرق جبان ” مخنث” , ” مو رجال” , والذي لا يعرف كيف “يحوف” ليس من هاي الديرة , إنه غريب , والذي يشير إلى سوء السلوك ” بطران” , وينطبق عليه المثل القائل ” الماينوش العنب يكول حامص”.
هكذا هي الحالة التي نشأنا عليها وجرت متفاعلة مع الأجيال , حتى وجدتنا من أفسد مجتمعات الأرض ودولها , ومن أقبح أنظمتها السياسية وأنتنها , بما يفوح منها من عفونات سلوكية , وشراهات إنتهابية على جميع الأصعدة والمستويات.
فالجميع وبلا إستثناء يترجمون بصدق وإخلاص وتفاني معاني ” حاميها حراميها” , ولهذا فأن الوطن سيتآكل ويقفد أبسط مقومات القوة والإقتدار على الحياة العزيزة الكريمة , لأن الحرامي بحاجة لحماية , ولكي تسرق وطنا عليك أن تكون تابعا أو وكيلا لقوة خارجية , ذات أهداف ومصالح وغايات وأغراض في إفتراس الوطن , وما دام الحرامية هم أنيابها وأذنابها , فأن البلد سيؤكل حتى العظم.
والرحمة على ذلك الحارس البسيط الذي كان يسرق كرسيا أو قطعة أثاث كل يوم , وفي زمن يُسرق فيه الوطن , يبدو وكأنه أشرف وأنبل حرامي عرفته وشاهدته في حياتي!!
وعاشت نفوس الحرامية وتنامت شراهتها الإنتهابية , في وطن يرفع لافتات “حاميها حراميها” المكتوبة بحبر الدين , والمتوجة بفتاوى هذا رزق من رب العالمين!!
فهل “وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت”؟!!