19 ديسمبر، 2024 7:44 ص

حالة الفكر في حضارة إقرأ زمن العولمة

حالة الفكر في حضارة إقرأ زمن العولمة

“الحرية بدء مطلق بالنظر إلى سلسلة خاصة من الأحداث غير أنها ليست سوى بدء نسبي بالنظر إلى مسيرة العالم بأكملها[1]”1
قد تتضخم مقولة العولمة وتتحول إلى وحش مفترس يبتلع كل جهد بشري حول الحداثة والتنوير بعد ما أفلست إيديولوجيا ما بعد الحداثة في قيادة البشرية نحو مصيرها غير المعروف، وقد يتهاوى كل ما أنجزه العقل الإنساني من مقولات العقل واللاعقل وتتفكك الذات ويسلب الشخص من شخصيته وتفقد اللغة سحرها والكلمات توهجها ويتحول الكون إلى منطقة لا هي من جنس النظام ولا هي من جنس الفوضى، إنها وضعية ثالثة وضعية المجهول واللاتعين واللامكان. وقد ينبجس هذا الكتاب من المعاناة ومن الاكتواء بنار العولمة الملتهبة مستشرفا أفق الطريق الثالث وقد ترعرع بين أحضان زمانية فكر انفتح على الوعي بصدمته زمن العولمة ويقظة الفيلسوف الدائمة بمفارقتها ومخاطرها متنبها إلى استفحال ظاهرة الحرب وتهديدها بجر كل البناء الحضاري الإنساني إلى الهدم والهاوية.

غير أن مؤلف استراتجيات فلسفية2[2] يأتي كمتن فكري ليحاول المقاومة والتحرر من هلاك عولمة لا تبقي ولا تذر ويعمل على تأسيس فكر متمرد على ذاته محاكم لمسبقاته، وهذا الكتاب من المحاولات المجنونة والمغامرة للتحرر من ميتافيزيقا النهايات والحسم مع منظري القطيعة الكارثية وهو كذلك من المبادرات الفردية التي تلحفت الصمت واشتغلت في الهامش عبر اختراق المركز وتدمير الأسس،انه ينظر إلى أن هذه الميتافيزيقا لا تتهاوى إلا بممارسة لعبة الكتابة والقراءة والنقد والتفكيك والتأويل والفهم. بيد أن قواعد هذه اللعبة مختلفة عن بقية القواعد لأنها قاعدة التحرر من كل القيود والتأثيث في البياض و السواد من أجل الالتقاء بلغة منفلتة من قوالب التمجيد والتحميد والتحنيط، لغة لا تعترف بالوقوف على الأطلال ولا بقفا نبكي على الأمجاد، إنها لغة تطارد سوء النية والخصومات المذهبية الوهمية لتصوغ هرمينوطيقيتها الخاصة كفن يحولها من مجرد مسكن تتصارع فيه الهويات وتتناحر وتتشظى إلى مأوى للذاتية والغيرية تعانق فيها الخصوصية الكونية وتعطي نموذجا في حسن الضيافة اللغوية في إطار من العقلانية النقدية المعاصرة.
يلقى الهم الفكري ضيافته في استراتيجيات فلسفية لأن هذه الإستراتيجيات ماهي إلا إستراتيجية لغة الفكر والمعنى،هذه الأرضية هي إحدى أوديسات مقاومة العولمة ومسطح المحايثة التي اقتطعه ساردو حضارة اقرأ من السديم وأرسو عليه دعائم التمدن والتطور ،إنها خلق ونفي الخلق وتأرجح تراجيدي للفكر الكوني بين أن يكون أو لا يكون، بين حيرة السؤال والإشكال والمعضلة من جهة وموقف الحشد المنشد للحلول والأجوبة الجاهزة من جهة أخرى ولا مفر للفكر عندما يحاول الخروج من هذه الكماشة. البحث عن البداية هي مبادرة تحارب تهمة الحجة الكسولة وتعتبر معركة الكليات والكوجيتو منتهية وغير لازمة وتنخرط في تجربة بدائية أولية تؤكد أن الفاعل يملك سلط العمل وتحدث تغييرات في العالم على مستوى تفكري ونقدي و”المبادرة هي تدخل من قبل فاعل العمل في مسار العالم وهذا التدخل يتسبب بالفعل بتغيرات في العالم”3[3].

بين هذا وذاك تأتي استراتيجيات فلسفية بفراسة إنسان ما بعد البدايات والنهايات لتأسيس حقبة ما-فوق الفلسفة بماهي حقبة الحق العالمي في التفلسف. إن هذه الحقبة تبشر بولادة إنسان يحمل جينيا حب الحكمة ليتحول الفكر الفلسفي من مجرد ترف فكري يقتصر على الدهشة المتواصلة من ركامات العولمة وسؤال العود على بدء إلى حق طبيعي لكل إنسان تتحول فيه لغة الذات المتكلمة من ضاد للهوية إلى ضاد للفكر.
حالة الفكر في حضارة اقرأ زمن العولمة هو المشروع والمشكل والورطة التي وجدت فيها الذات نفسها حبيسة الواقع القاسي والعقل المستقيل، فغابت الصحوة لتحضر الصدمة وتبرز الحيرة المقضة والحديث عن حالة الفكر لا تعني تفقد بنية العقل العربي ولا الحفر في تاريخية الثقافة الإسلامية ولا نبش التراث الشرقي وخلخلة أنطلوجياه وتفكيك عقده الدفينة فحسب بل تعني الوصف الفنومينولوجي للوضعية القصوى التي يعيشها والانخراط في العصر الهرمينوطيقي للعقل والانعطاف نحو الفكر المختلف إذ ما عاد الحديث عن اللوغوس والراسيو والحكمة من الأمور التي تجدي نفعا بل لابد من الإنصات إلى حيث التواشج الأصلي بين الفكر والشعر والتوأمة الحقيقية بين الوجود والفكر. أما حضارة اقرأ فليس المقصود بها أمة القرآن ولا مجتمعات أهل الكتاب بل تلك الثقافات التي تكونت وانبثقت إلى العالم من خلال عملية سرد وقص وحكي لنص محوري شكل النواة الأولى لمختلف دوائر المعارف والعلوم التي تشكلت حوله ينهض بها الفاعلون الاجتماعيون والمشرعون الأوائل عبر استراتيجيات القراءة والكتابة والتأويل والتدبير والتفلسف.
إن زمن العولمة ليس مجرد مقولة اقتصادية فرضت نفسها على دنيا السياسة والثقافة بل هو المعنى الذي يمكن أن نمنحه لوجهة التاريخ الآن وهنا وهو العصر الذي نعيش فيه والذي هو بصدد التشكل والطلوع بعد تلاشي الزمن الامبريالي، وقد يحملنا هذا العصر إلى مصير مجهول لا ندري فيه ماذا نفعل وماذا نقول والى أين نتجه، لأنه عصر صنمية الصورة والفوضى الخلاقة وصعود الإمبراطورية ذات القطب الواحد التي تجعل من الحرب النمط الوحيد لاستعادة التوازن وبسط الأمن في المعمورة.
شذرات فلسفية هو عنوان السلسلة بدأت حلما مستيقظا أيام الشباب بين أسوار الجامعة مع رفاق من المؤلفة قلوبهم ورأت النور زمن الرشد بعد بروز النوابت من الجماعة المتفلسفة من أصدقاء المفهوم ومؤثري الحكمة وقد انتهى الأمر بإتباع أسلوب الشذرة رفضا للمنهج والمذهب وتفضيلا للنزعة والأسلوب من أجل تدشين لحظة المبادأة ومن أجل تفعيل لكل مبادرة فردية ترمي إلى اقتطاع مسطح من المحايثة من السديم قصد تأثيث مقام لإقامة الإنسي في العالم ودمجها في جملة المبادرات الفردية الأخرى عن طريق تصالب وتشابك جميع البؤر المقاومة والنقاط الممانعة.
الفصل الأول من الشذرات حمل توقيع اللزومية وقد رآها البعض لزوما فقط اقتداءا بالمعري في لزومه لما يلزم ونحن نراها لازمية لكونها تفيد العزو وتحمل المسؤولية والوجوبية وحتمية الفكر الوجودية في التوجه نحو البدء المختلف والاختلاف في البدء ومن المعلوم أن اللازمة هي الأمر المقضي والتلبية الفورية لنداء الأقاصي المنبعث من صوت الوجود الأخرس وبالتالي ليس هناك اختيار آخر لحضارة اقرأ سوى أن تبدأ من جديد وعلى نحو مغاير ومختلف قبلتها إبداع الكوني وأرضيتها الضاد والقرآن.
كما أن الانخراط في استراتيجية العود على بدء لا يعني العودة إلى الذات أو عودة الروح إلى الذات بل يعني العود الأبدي le retour éternel أو البدء العائد l’éternel retour بالوقوف عند العتبة والترفع عن واقعية انغماسنا بتفاهة الحياة اليومية وتغيير القبلة ثانية بعد أن انهارت جميع إيديولوجيات الجنات الموعودة وتفككت قلاع البدائل الشاملة وتلاشت كل الوعود الرنانة من أجل النقد الجذري والهدم الكامل لكل الأسوار المانعة للأنوار المرسلة من شمس المعارف الكبرى وإعادة البناء على أسس إجرائية جديدة واتخاذ تدابير وفق مواضعات عن طريق توافقات جماعية يمكن توسيعها أو تغييرها وفقا لتغير الأوقات وتبدل الظروف إذ يقول ريكور في هذا السياق:”إن هذا التمييز بين بداية العالم وبداية في العالم هو جوهري بالنسبة إلى مفهوم البداية العملية حين نأخذها من وجهة نظر وظيفتها التكاملية”.
الاستراتيجيات في الشذرة الأولى تراوحت بين القراءة والكتابة واللغة والترجمة والتأويل والفن والتفلسف والإبداع والمقاومة الثقافية وحسن الظن بالطبقة الصاعدة والعالمية البديلة أما في الشذرة الثانية فإنها ترتكز على مقولة السياسة الحيوية بماهي نظرية سياسية برزت بعد تأبين عصر الإيديولوجيات ودخول المعمورة عصر الذرائعية والإجرائية في مستوى تنظيم الحياة الإنسانية.
زد على ذلك تقوم بتوظيف مفهوم الهوية السردية من حيث هو ملتقى طرق بين الانية والغيرية وبين الفرد والحشود وبين التراث والحداثة وما بعد الحداثة يبشر بقدوم عصر التنوير الأصيل ويفكك آليات الإرهاب ويجعل من الشعري مقام للعرب للتواجد في العالم.
في حين أن مفهوم الإستراتيجية لا يعني فقط التفكير بعيد المدى أو التخطيط المستقبلي والتنظير لماهو آتي بالتوجه نحو صنع الغد الأفضل بل هو خطة مصيرية يتوقف عليها الوجود في العالم بالنسبة لحضارة اقرأ بأسرها وترتبط بالترفع عن التكتيكي وتلمس المقاصد الكبرى التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار في كل قول أو فكر أو فعل.
بقي أن نشير إلى حدود هذه العودة على بدء في كوكب ملتهب تصديقا لما قاله ريكور:”لما كانت بداية العمل لا تتطابق مع بداية العالم لذا تأخذ مكانها كوكبة من البدايات لكل منها مدى يجب علينا بالضبط تقديره بمقارنته مع غيره. لكل واحد من هذه البدايات من حقنا أن نتساءل حول ما يمكن تسميته الحدود القصوى لامتداد حكم البداية”4[4] ،فألست البداية الحقيقية هي تدشين بدايات أخرى وسط الأشياء؟ وهل تقدر الشذرات المتبقية على القيام بوظيفتها الاتمامية وتدشن فعل البدء الفلسفي الحضاري الحقيقي؟

الاحالات والهوامش:

[1]  بول ريكور، الذات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2005، ص.235.

[2]  زهير الخويلدي، شذرات فلسفية : العولمة وحالة الفكر في حضارة إقرأ، دار أكتب، 2010.

[3]  بول ريكور، الذات عينها كآخر، بول ريكور، الذات عينها كآخر، مرجع مذكور، ص.242.

[4]  بول ريكور، الذات عينها كآخر، مرجع مذكور، ص.237.

المصادر والمراجع:

بول ريكور، الذات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2004،

زهير الخويلدي، شذرات فلسفية : العولمة وحالة الفكر في حضارة إقرأ، دار أكتب، 2010.

 

كاتب فلسفي

[1]  بول ريكور، الذات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2005، ص.235.

[2]  زهير الخويلدي، شذرات فلسفية : العولمة وحالة الفكر في حضارة إقرأ، دار أكتب، 2010.

[3]  بول ريكور، الذات عينها كآخر، بول ريكور، الذات عينها كآخر، مرجع مذكور، ص.242.

[4]  بول ريكور، الذات عينها كآخر، مرجع مذكور، ص.237.

أحدث المقالات

أحدث المقالات