18 ديسمبر، 2024 6:19 م

حالات خاصة جداً

حالات خاصة جداً

لا شك أن مظاهر العنف والجرائم التي تحدث في مجتمعاتنا ونراها أو نسمع عنها في مختلف وسائل الإعلام على تنوع طرقها وضحاياها ومسبباتها هي مؤشر على الحالة التي نعيشها، ومستوى الوعي الذي نتحلى به، واختبار حقيقي لأخلاقياتنا وقيمنا ومعتقداتنا أياً كان مصدرها فلكلٍ معتقداته وفلسفته الخاصة وطريقته في التفكير، كما أن قياس آراء الناس واستطلاعها (بشكل حقيقي غير مزيف) ومعرفة ردود فعلهم تجاهها وموقفهم منها إن حدثت لهم أو لأحد أفراد عائلتهم أو الدائرة المقربة منهم يكمل الصورة التي لا تكتمل بدونها فكرتنا عن أي حدث..

وبالطبع فإننا بشكلٍ أو بآخر نملك فكرةً وإن كانت بسيطة عن المجتمع الذي نعيش فيه، والذي تختلف تفاصيله من منطقة ٍ لأخرى كما تختلف بين فئة أو ثقافة ومن شعب لآخر على امتداد بلادنا، لكن الفوضى في هذا الفضاء الإلكتروني وعبر مواقع التواصل الإجتماعي أصبحت تقود المشهد وتقود حتى وسائل الإعلام التقليدية وتقدم لها مادةً دسمة تملأ فراغ برامجهم، فأصبح كل شخص أياً كانت صفته متحدثاً مفوهاً في كل شيء سواءاً كان أهلاً لذلك أم لا تحت مسمى حرية التعبير والرأي (والتي لا نصادرها)، لكننا نعيش كارثةً كبرى بسبب حالة الإستباحة لكل ما نراه من حولنا، والتي لا تعرف حدوداً أو تفرق بين القضايا العامة أو الخاصة، ولا تعرف المدى الذي يتحرك فيه مصطلح (الحرية الشخصية) وقد لا يشمله، أو حتى المسائل التي تنطبق عليه ولا يحق لأحد انتقاد شخص آخر بسببها..

فمع الإحترام الكامل لآراء الجميع وقناعاتهم وبعيداً عن أي موجة أو حدث بعينه، يظل هناك بعض المسائل والموضوعات التي لا ينبغي أن تكون محل (تشخيص) أو (تقييم) من عامة الناس بل تكون الآراء محصورة فيها لدى أصحاب التخصص، فلم يطلب أي منا إقرار أي ظاهرة سلبية أو سلوك ينتهك حرمة الغير ولا يقره القانون أو يبيح أي جريمة أو يساهم في تدمير الأخلاق، لكن هناك نوع من (استسهال) الحديث الذي قد يتخلله سب وقذف وإهانة وأحياناً يحمل شكلاً من أشكال التحريض المباشر أو غير المباشر على بعض الحالات الإجتماعية، أو الفئات التي تتضمن قضاياها صلة بالجنس بكافة صوره أو قد يفسرها البعض من منظورهم على أنها متصلة بشق ديني، وبالنسبة للشق المتعلق بالجنس فمن باب العلم يوجد قائمة غير بسيطة من الإضطرابات السلوكية والنفسية والعقلية أحياناً تندرج تحت هذه الخانة، وتختلف بدرجاتها وشدتها وحدتها من حالة لأخرى بحيث تتباين فيها الآراء ووجهات النظر العلمية بشكل عنيف بين العديد من المدارس، والتي تكون أيضاً صعبة التشخيص فبعضها مرتبط بمشكلة صحية وجسدية وبعضها الآخر نفسي وفي بعض الحالات يجتمع كلاهما معاً، كما أن العقد النفسية ذات المنشأ الجنسي تعد من الأصعب في حلها لشدة حساسيتها عدا عن أنها معرضةٌ للإنتكاس، وقد تستغرق سنواتٍ من العلاج والذي قد يبوء بالفشل أحياناً بعد كل هذا..

كما أن الشق الديني مع أهميته إلا أن البعض ينسى أو يتناسى أن هناك فئات لا تحتكم إلى الدين في حياتها، حتى وإن كانت تتبع للإسلام أو المسيحية ولا يمكن إجبارها على ذلك فهذا خيارها وحدها، وبعض الحالات والإضطرابات التي يتبرع الكثيرون للإدلاء بدلوه فيها يطلب الدين نفسه فيها وجهة نظر العلم للوصول إلى رأي حولها ليستطيع البت فيها إذا اقتضى الأمر ذلك، وسواءاً كان هناك من يحتكم في شؤون حياته للعلم أو الدين أو كليهما فعليه أن يعرف أن هناك الكثير من الحالات ذات خصوصية، فيتعامل الأطباء ورجال الدين وحتى أهل القانون مع كل حالة بشكلٍ منفرد، كون كل حالة تختلف عن الأخرى ولا يمكن تعميم مفهوم معين عليها جميعاً وهو الحل السليم، بحيث نستوعب أن التفاصيل بالغة الأهمية وهي ما يجعل كل حالة متفردة ولا حكم مطلق عليها، كما أنه ليس من حق أحد أن يتحدث سوى المختصون الذين يناقشونها بشكلٍ سري وعلى نطاقٍ ضيق ومحدود للتشاور وإيجاد الحلول بعيداً عن (التريند)..

وكوننا مجتمعات انفعالية تحكم بالظاهر حتى بين الكثير من المتعلمين والمثقفين فإن الكثير من الآراء التي يطلقها الناس هي بمثابة جريمة أو تحريض على الإيذاء أو القتل، والتي قد تلقى صدىً لدى بعض الفئات ويجب عليها أن تتوقف، وعلى الناس ألا تتحدث فيما لا تفهمه وتترك الحديث في القضايا الحساسة والشائكة لأصحاب التخصص الذين يلمون بتفاصيل الحالات ويسهل عليهم مناقشتها، فقد وصلت مجتمعاتنا إلى حالة لا تحتمل من إطلاق الأحكام ونسب سوء فهمها وتناقضها وعقدها إلى الدين، عدا عن تهميش صوت العقل والعلم مع تمسكنا بالقشور، إلى جانب الإستهزاء بالكثير من الحالات التي يكون أصحابها فيها بحاجة إلى مساعدة حقيقية وإلى التفهم ومد يد العون كونهم لا يفهمون ما يمرون به ولا يجدون الدعم ممن حولهم، وقد عرفت الكثير منها في حياتي الشخصية وضمن نطاق عملي كممرض واستجاب الكثير منها للعلاج..

واليوم عندما نسمع عن حالات قتل وعنف للنساء والأطفال وغيرها من الجرائم علينا أن لا نفصلها عن طريقة تعاطي المجتمع معها، وأفكاره التي يعتنقها، والفئات التي يقتدي بها، وسلوكياته المختلفة لربطها ببعضها البعض والوصول إلى رؤية كاملة تجسد المشكلة، والتي تأتي كنتيجة للمناخ التحريضي والمشحون في أغلب الأوقات، والذي لا يستطيع أن يعرف حدوده، وأن يكف عن التحدث فيما لا يخصه ويفهمه، وأن يستوعب طبيعة الإختلاف بين الناس، ذلك الإختلاف الذي يجعل من بعض الحالات حالة خاصة جداً..