23 ديسمبر، 2024 4:40 ص

حادث إعتقالي من قبل جهاز الأمن ببغداد

حادث إعتقالي من قبل جهاز الأمن ببغداد

ليس عندي نضالات ولا بطولات ، ولاحقا أصبح تعريفي للنضال السياسي في العراق هو ( عبارة عن عبث وهدر للعمر ) ، كنت أعيش في حالة خوف دائم من الأجهزة الأمنية ، وان الخوف أنقذني من التورط في عدة قضايا ربما كانت تشكل خطرا عليّ ، طبعا في الثقافة العربية من السهل إطلاق الكلام العشوائي بخصوص الشجاعة والخوف ، والحديث عن إسطورة الإرادة القوية دون الإلتفات للفروق الفردية بين البشر فيما يخص طاقة تحمل الجهاز الصبي ، وعموم الصحة النفسية ، وأولويات الفرد في الحياة ، وماهو الفرق بين الشجاعة والتهور والسلوك العدواني ، والفرق بين الحكمة والتخاذل وغيرها من المفاهيم التي يتعامل معها العربي – حتى المثقف – بعشوائية دون وجود مرجعية علمية ومنطقية لأحكامه بخصوصها !

قبل إلتحاقي بالجيش في الخدمة الإجبارية عام 1980 .. تعرضت الى هزات عنيفة من قبل أٌقربائي البعثيين حينما عرفوا عن طريق أحد الأشخاص اني كنت أحمل كتاب (( فلسفتنا )) لمحمد باقر الصدر ، جاءني الى البيت أحد أقربائي وهددني بأنه سيبلغ عني الأمن ، أمي أصابها الهلع وأقدمت على إحراق مكتبتي البسيطة ومن ضمنها مسودات لقصص قصيرة وملخصات لبعض الأفكار ، أرعبتني تلك الأجواء جدا وإخترقتني طاقتها السلبية ، وعلى أثرها أصابتني حالة تعرف بالطب النفسي (( الشعور بالإضطهاد القهري )) كنت أتوقع في أية لحظة ألتعرض للإعتقال ، وأينما أمشي أتخيل وجود عناصر الأمن يراقبونني حتى لو لم أكن مذنبا ً… لقد إنهار توازني وتحطمت دفاعاتي .

في أحد الأيام كنت ملتحقا بوحدتي في الجيش ببغداد ، ركبت من كربلاء وعند الوصول الى كراج علاوي الحلة صادفت أحد أصدقاء الطفولة ، صعدنا أنا وإياه الى باص نقل الركاب الحكومي في الطابق الأعلى متوجهين الى باب المعظم ، وفجأة ساد الباص الهرج والحركة ، وإتجه بنا الباص الى مركز شرطة باب المعظم ، وسرعان ماصعد رجال الأمن الى الطابق الأعلى وأخذوا يفتشون تحت الكراسي ، وطلبوا منا النزول ، وإعتقلونا في دائرة الأمن التي كانت ضمن بناية مركز الشرطة ، وبدأ التحقيق معنا حول وجود منشورات معادية تم رميها في الباص من قبل شخص ما ، وهي عادة سخيفة من عادات تنظيمات المعارضة إذ يقومون بأفعال تافهة جدا كأن يكتبون على جدران المراحيض العامة أو البيوت كلمات مثل : (( يسقط البعث أو يسقط صدام )) أو يتم رمي منشورات في مكان ما ، وتكون النتيجة إعتقال عشرات الأبرياء وتعذيبهم بسبب تلك الأفعال الصبيانية التي ليس من ورائها أية فائدة سياسية للشعب !

أطلقوا سراحنا بعد حوالي ساعة ، صديقي كان ثوريا وفرح بحادث رمي المنشورات في الباص ، بينما أنا زاد خوفي من إحتمالات الإعتقال رغم وجود العديد من أقربائي في صفوف حزب البعث ودائرة الأمن .. لكن الأستراتيجية التي تكلم عنها صدام حسين علنا بأن يجعل الخوف الجماعي والذعر حالة دائمة ومنتشرة بين أبناء الشعب ، وإن حاول تجميلها بأن خصصها لأعداء الحزب والثورة ، لقد نجحت تلك الإستراتيجية وأصبح معظم أبناء الشعب يشعرون (( بالإضطهاد القهري )) ، علما تم إستيراد تلك الأساليب الترهيبية من النظم الشيوعية التي تدرب فيها عناصر الأمن والمخابرات العراقية ، و كان عندي أحد أقربائي عمل ضابطا في الأمن سافر الى شيكوسلوفاكيا ، الشيوعية للتدريب لديها، وفيما بعد أقربائي ذاك زرته في بيته عند رجوعي الى العراق وكنت بحاجة الى إكتشاف الناس الذين كانوا جزءا من حياتي وتكوين فكرة أكثر وعيا عنهم ، ذهبت اليه قبل أن يتوفى ويرحل عن الحياة عاتبني على قرار إلحادي وتحدث طويلا عن معجزات القرآن فقد أصبح متدنيا بعد خروجه من جهاز الأمن، سبحانه مغير الأحوال ( المجاهدون الإسلاميون ) أصبحوا سفلة لصوص وعملاء ، وعناصر البعث والأمن تحولوا الى الدين والإيمان ، فيما بعد شخصيا صرت أعتبر عمل أجهزة المخابرات والأمن والإستخبارات ضد نشاطات التنظيمات التخريبية الشيوعية والإسلامية والكوردية المعادية للدولة العراقية وليس نظام صدام حسين .. عملا وطنيا شجاعا من قبل تلك الأجهزة الأمنية من أجل الأمن والإستقرار في العراق كي لايسقط بيد إيران.

صديق طفولتي الثوري ارتبط بعلاقة مع شخص شيوعي كان يتردد مابين كردستان وبغداد والقيّ القبض عليه وإعترف بعلاقته مع صديق طفولتي ذاك وتم إعتقاله هو الآخر وحكم على الشيوعي بالإعدام ، وصديق طفولتي بالحبس عدة أعوام ، وربما ضارة نافعة فقد أنقذته سنوات السجن من الإلتحاق بالجيش أثناء الحرب مع إيران ، وحصل على عدة فرض جيدة بعد تغيير نظام صدام بوصفه سجينا سياسيا .

اما الشيوعي الذي حُكم عليه بالإعدام فقد تحول في السجن قبل تنفيذ الحكم به الى شخص متدين وكان يؤدي الصلاة ، مؤسف هذا الهدر للعمر بعد ان دفع حياته ثمنا لإنتمائه الشيوعي ثم تخلى عن قناعاته في السجن وأصبح في لحظة ضعف مؤمنا بخرافات الدين تحت وطأة الخوف من عذاب مابعد الموت في نار جهنم ، بعد خروجه من السجن أخبرني صديق طفولتي : ان بعض السجناء كانوا يتفاخرون فيما بينهم في حال حصولهم على أكبر عدد من ( جلدات السجان ) والتعرض للضرب ، وهذه واحدة من تخلف العقل السياسي العراقي والعربي والشرقي عموما .. بحيث الرومانسية الثورية تصور له ان عملية الإعتقال والتعذيب والإعدام هي نضالا بطوليا ، بينما في حقيقة هي فشل شخصي وحزبي في التمكن من الإفلات من قبضة السلطة ، وفي نفس الوقت إنتصار للسلطة على خصومها ، فأين البطولة في هذه الهزيمة حيث المعتقل مصادرة حريته وحياته رهينة بيد السجان؟!

الشخص الشيوعي الذي أعدم كان صديقي أيضا ، لكن الخوف أنقذني ودفعني الى قطع علاقتي به ، ويتكرر الأمر معي مرة أخرى وينقذني الخوف أثناء الإنتفاضة عام 1991 حينما قررت المشاركة فيها بعد ان قضيت يوما كاملا من التردد وفي الآخر قررت المشاركة ( والإستشهاد ) وغادرت البيت متوجها الى مركز المدينة بحثا عن الأصدقاء وفي أثناء الطريق كنا نتفرج على جثث القتلى من البعثيين التقيت أحد الأصدقاء قلت له (( مبروك إنتصار الثورة الإسلامية )) كنا نعيش حالة عمى فكري مطلق بسبب خرافات الدين والشحن الطائفي كانت أحلامنا (( تريد حاكم جعفري))) ، واصلت السير بإتجاه مركز المدينة وصادفتني جنازة أحد المنتفضين وسرت معهم ، وفي أثناء التشيع سمعت حوارا بين إثنين أحدهما يقول لصاحبه (( نحن لانعرف إستعمال السلاح .. لماذا نعطي حياتنا مجانا )) لمس روحي وفكري كلامهما ، فأنا الآخر لا أعرف إستخدام السلاح وكنت في الجيش جنديا غير مسلح ، وفي هذه الأثناء تعرضت الجنازة الى رشقة رصاص من أحد أسطح البيوت ، تفرقنا وهربت راجعا مرعوبا من تلك الأجواء وإختفت في داخلي حماسة الحصول على ( الشهادة ) فيما بعد غضب قسم الأصدقاء من عدم مشاركتي في الإنتفاضة وكانت لحظة حظ سعيد بالنسبة لي غضبهم .. فقد إجتمعوا بعد عدة أيام وهربوا الى معسكر رفحاء في السعودية دون علمي وتخلصت من جحيم الذهاب الى الصحراء ، وسافرت بعدهم الى الأردن ثم لبنان ثم سوريا وكانت من أهم وأغنى فترات العمر من حيث التجارب والخبرات والتردد على المكتبة العامة للقراءة ، والبدء في كتابة المقالة السياسية في صحف المعارضة .

أشعر بالحزن على إعدام صديقي الشيوعي .. كان ضحية أفكاره المغلوطة وخياراته المتهورة ، أتذكر يوم أخبرته ان علاقتي به قد تجلب لي المتاعب .. رد عليّ بأن (( الخطر يحيط بك في كل لحظة ، وانه ليس عنده أي نشاط سري )) ، لكن إغراء الرومانسيات الثورية في البلدان الشرقية لايقاوم أحيانا ويدفع بإسم المباديء الى التهلكة ، مسكين حتى أثناء تنقله السري بين كردستان وبغداد أثار شكوك بعض رفاقه الشيوعيين إذ أخبرني صديق شيوعي التقيت في سوريا كان متواجدا في كردستان انهم لم يكونوا يثقون به كثيرا ، وقد عرفت أنه كان منخرطا في تنظيم يساري مستقل عن الحزب الشيوعي الأم ولهذا شملته الشكوك والتسقيط السياسي، بل ان الحزب الشيوعي كان لديه سجون في كردستان يمارس فيها التعذيب والإعدامات للشيوعيين الذين يختلفون معه بالرأي إذ يتم لصق بهم تهمة التجسس على الحزب لصالح نظام صدام !

المشكلة لا أحد يريد الإعتراف ان كافة التجارب الحزبية في العراق والوطن العربي قد فشلت تماما، ولاتزال أوهام البطولة والنضال يعتاش عليها المفلسون الباحثون عن معنى زائف لحياتهم وأمجاد من رمال خاوية !