16 أبريل، 2024 12:20 ص
Search
Close this search box.

حاتم علي.. نجم لا ينطفىء

Facebook
Twitter
LinkedIn

نتذكر دائما ً الراحلين عنا بدمعةٍ أو بغصة تزداد كلما كان تأثير الغائبين عميقاً في وجداننا، وتختلف طرق الحزن من شخص ٍ لآخر بإختلاف شخصيته وطريقة تعامله مع هذا الحدث المؤثر، ويتخذ هذا الشعور بالطبع منحىً مغايراً عندما يكون الراحل شخصية ً عامة لها حضورها ووزنها، حفرت بصمةً لا تنسى وتركت أثراً دافئاً في قلوب محبيها، فيتناولها كلُ من زاويته بين من يجدها فرصةً للظهور وبين من يحزن عليها بشكل ٍ صادق، وبين من تربكه مجرد فكرة غياب شخص ٍ بعينه إلى الأبد متجنباً حتى استخدام كلمة (الموت)، وللأسف نفقد الكثير من الشخصيات الهامة على مختلف المستويات ولا نجد من يملأ الفراغ الذي تركته ومنها المخرج السوري الراحل حاتم علي والذي تحل ذكرى وفاته الأولى قريباً في ٢٩ كانون الثاني/ديسمبر المقبل..

وبالتأكيد سيتناول الكثيرون مسيرته الفنية وأعماله المختلفة على صعيد الإخراج والتمثيل والكتابة والإنتاج، والتي تنوعت بين التليفزيونية والسينمائية والكتابة للمسرح في سوريا مع أهم الأسماء وألمعها، فقدم مجموعة ً كبيرة ومتنوعة من الأعمال الدرامية والإجتماعية والتاريخية التي تميزت برؤيتها وأسلوبها الخاص فوصلت إلى كل العالم العربي وحظيت بشعبيةٍ واسعة وحققت نجاحاً منقطع النظير، مما جعله مطلوباً لتقديم تجارب هامة خارج سوريا فرسخت اسمه وضاعفت رصيده ومكانته، وكان دون أدنى شك من الأسماء التي قربت العمل السوري ولهجته وأسلوبه أكثر وأكثر لأغلب الدول العربية عبر أعماله الإجتماعية، وكانت أعماله التاريخية علامةً فارقة لا تتكرر بكل موضوعية وتجرد، فكان غزير الفكر، واسع الإطلاع، ناجحاً على أكثر من جبهة فنية، ولا يفوتنا الإشارة إلى تجربةٍ وحيدة له في الدبلجة في فيلم رسومٍ متحركة بعنوان (أميرة البجع) لعب فيه دور الراوي..

لكن فكرت في الحديث عن هذا الفنان الرائع بعيداً عن إرثه الغني من خلال سؤالٍ وحيد هو لماذا أحب الناس حاتم علي؟
في علم النفس يتفاعل الناس ويتأثرون بمن يعطيهم الإحساس بأنه قريبٌ منهم أو يفهمهم أو يشبههم أو يشبه شخصاً من عائلتهم، فيشعرون عند رؤيته بالإرتياح والإنتماء ولا أبالغ عندما أقول الإطمئنان، وهذه الصفات نشعر بها عندما نتأمل ملامح حاتم علي منذ ظهوره الأول، فهي قريبةٌ من القلب، رصينة، هادئة، وديعة، توحي بالثقة كما نشعر بأنه طبيعي فلا يبدو متكلفاً أو متصنعاً أو مستعرضاً لثقافته التي رأيناها بشكل ٍ عملي في أدق التفاصيل من خلال أعماله، والتي شعرنا بها أيضاً في أدائه كممثل والتي كان فيها جميعاً شخصاً لا نشعر بحاجزٍ نفسي معه، بل كنا نشاهد شاباً يذكرنا بأخ أو صديق أو قريب وهذا ما نفتقده حالياً بشدة حتى في الحياة الشخصية لأغلبنا، فالفنان يستمد فنه من الناس والحياة ولا يمكنه النجاح والإستمرار بإنفصاله عنها..

ولعل أحد أدواره التي قدمها في النصف الثاني من التسعينات وكرست صورته كشابٍ مكافح يشبه عامة الشعب كان دور (توفيق) في مسلسل (النصية) من تأليف فؤاد شربجي وإخراج غسان جبري، والذي كان يعمل فيه جاهداً ليعيش بإستقرار واكتفاء مع زوجته في أكثر من وظيفة، كما كان يرفض الزحف المشبوه والمتخفي خلف البريق للحداثة التي زحفت شيئاً فشيئاً لتغير هوية المجتمع والوطن ككل عبر وجوهٍ وأقنعةٍ ومسميات ٍ متعددة، خصوصاً من خلال رفضه لبيع منزل والده ليتحول إلى (مطعم سياحي)، والذي ترافق مع أحداثٍ كثيرة ومهمة بين سحر الماضي وغموضه وأشجانه ورسائله والحنين إليه، وبين الحيرة في مواجهة المتغيرات في القيم والثقافة التي طرأت على الحياة اليومية آنذاك والمترافقة مع الشعور بالغربة الإنسانية..

وتلت هذا العمل سلسلة طويلة من الأعمال الفنية الهامة على مختلف الأصعدة والتي وصلت إلى كل الدول العربية، وكان ملامستها لتفاصيل الإنسان ومعالجتها بذكاء وعمق ورقي هي سر نجاحها بعيداً عن الشعارات والمباشرة وطريقة الوعظ، فكان يحرص على تقديم الفكرة من مختلف الزوايا مع طرفي النقيض في كثير ٍ من الأحيان ليحاول تقديم الصورة بأقرب شكل للواقعية، تاركاً الحكم للمشاهد وكلٌ بحسب فكره وتوجهاته، عدا عن جرعةٍ من الثقافة الحقيقية وغير المصطنعة والمزيفة كما بتنا نرى من كثر أياً كانت مسمياتهم..

فالخلفية الإنسانية المتشبعة بروح بيئته التي جاء منها كنازحٍ من الجولان قضى طفولته وشبابه في مخيم اليرموك، كانت بمثابة الأساس الذي بنى عليه فنه فأعمال مثل (الفصول الأربعة، أحلام كبيرة، صلاح الدين الأيوبي، الزير سالم، ربيع قرطبة، صقر قريش، ملوك الطوائف، الملك فاروق، مسلسل العراب بجزئيه، عصي الدمع، مرايا ٩٨ و ٩٩ ) وغيرها الكثير كمخرج وممثل ومنتج لم تكن لتظهر بهذه المسحة المعجونة بالأحاسيس لولا وجودها في قلبه قبل أن تظهر على الشاشة، ومعظم الأعمال المذكورة تحولت إلى كلاسيكيات وأيقونات في ذاكرة الأشخاص العاديين الذين رأوا أنفسهم وأحبتهم وعائلاتهم وحياتهم فيها بين شخصيات أعماله..

أما بالنسبة لعمل مثل (التغريبة الفلسطينية) فنستطيع القول بأنه عمل أيقوني وملحمي كان محل إجماع خصوصاً في فلسطين لأسباب جوهرية هي..

١- أن جميع الأعمال الفنية التي تناولت القضية الفلسطينية من قبل كانت أعمال نمطية ترى فلسطين ببعد واحد وهذا ما غيره المسلسل..

٢- المسلسل تناول الفلسطينيين كأشخاص عاديين مثل أي شعب آخر لهم أفراحهم وأتراحهم وحياتهم الإجتماعية وهذا مالم نره قبل هذا المسلسل..

٣- فلسطين كأي بلد آخر لها لهجاتها وثقافاتها وتنوعها واختلافاتها استناداً إلى تاريخها العريق وامتزاج الحضارات على أرضها، فسمعنا للمرة الأولى بشكل ٍ متقن اللهجة الفلسطينية (الحقيقية) بإتقان (حسب كل منطقة)، بعيداً عن العبث الذي طاولها وشوهها في أعمال عربية كثيرة، وهذا يحسب للفن السوري لأنه في غياب أعمال فلسطينية تصل للعالم العربي لم يستطع أحد أن يتقن اللهجة الفلسطينية بتفاصيلها سوى الفنانون السوريون بمنتهى الحرفية، والذين فتحوا الطريق للكثير من الفنانين الفلسطينيين للظهور بلهجتهم في الدول العربية، عدا عن تقديم الشخصية الفلسطينية بشكل ٍ مستمر ضمن الأعمال الفنية السورية الإجتماعية بشكل طبيعي سلس ودون أي تكلف أو مبالغة أو مجاملة..

٤- أظهر المسلسل فلسطين بتاريخها وحقيقتها كمجتمع متحضر يقدر قيمة الثقافة والإبداع والفن والعلم وهذا ما كان غير موجود سابقاً، كما قدم الشخصيات السلبية دون محاباة أو مواربة..

٥- سمح هذا العمل لبقية الدول العربية برؤية الشخصية الفلسطينية بتجرد، ووضعها على الخريطة الفنية العربية بشكلها الصحيح، فكسر الحاجز الذي بنته السياسة على مدار سنوات وأخرج الفلسطينيين من عزلتهم في الأعمال الفنية العربية بمساهمة الفنانين السوريين الذين يجسدون الشخصيات الفلسطينية حالياً في عدة بلدان عربية..

فدخل هذا العمل تاريخ الفن وتاريخ فلسطين من أوسع أبوابه، ولم يكن غريباً أن يتصل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش ليشكر حاتم علي على هذا العمل الذي لا يمكن نسيانه، ويشعر الفلسطينيون أنه ملكهم وبمثابة وثيقة فنية تدعم قضيتهم، فكان خبر وفاته محزناً جداً ًفي فلسطين بشكل ٍ خاص إلى جانب سوريا وطنه الأم طبعاً وهما بطبيعة الحال وطن واحد مع كافة بلادنا، والذي دفع الفلسطينيين إلى إطلاق اسمه على أحد شوارع مدينة طولكرم الفلسطينية ونقش صورته على لوحة من الرخام وضعت على واجهة إحدى المباني الملاصقة للشارع..

لأنه يشبهنا بسمرته، بإنسانيته، بوداعة ملامحه، لأنا شعرنا أنه منا أحببناه جميعاً، وحزنا عليه وافتقدناه حتى وإن لم نلتقه، فالروح تألف من يشبهها وليس من يجاورها، وذكرى من نحبهم لا ترتبط بتاريخ وفاتهم كل عام بل ترتبط بالدفىء الذي صنعوه لنا وأخذوه معهم برحيلهم..
تحية محبة ودعوات بالرحمة لروحك الطاهرة في ذكراك..نحبك يا حاتم علي..

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب