وتيرة ثابتة
لأني اصبحتُ مشدودًا الى مواعيد ثابتة غيَّرَت اغلب الدروب التي اعتدت السير فيها، ولم يعد ممكنًا فك الارتباط بها إلاَّ اذا تخليتُ عن مسؤوليتي الاخلاقية، كان لزاما علي ان اتحلى بقدر كبير من التبصُّر، لكي اتمكن من البقاء واقفًا على قدميّ، حتى اتفادى السقوط في كنف السقم، فنحن في آخر المطاف لسنا الا كُرة تتدحرج كما تشتهتي لها الاقدار، مها كان لدينا من ارادة تدفعنا بغواياتها للهجرة عما نحن فيه من ازمنة نالت الكهولة من جمال تفاصيلها، فالوتيرة التي نسجتها مراحل العلاج في دورة الذهاب والاياب من وإلى المستشفى باتت قانونا روتينيًّا فرض وجوده على ايقاع حياتنا اليومية انا وهي، وأنتظمت بناء عليه، فمن ناحيتي اصبحتُ على موعد ثابت اسبوعيا عصر كل يوم خميس، لزيارة دكتور جمال في عيادته بمركز ميديا لسحب السائل اللمفاوي ، وكان يتعين علي ايضا ان اذهب معها كل عشرين يوما الى مستشفى نانا كلي حتى تتلقى الجرعة الكيمائية ، ونظرا لان وقتًا طويلا جدا كان ينبغي علي ان اقضيه في المستشفى وأنا جالس على عتبة الانتظار، يبدأ من الساعة الثامنة صباحا حتى الرابعة عصرا، لذا هيأت نفسي للتحايل على الزمن الضائع، واجتياز ما قد يصيبني من ملل وانا اتأرجح ما بين موعد تلقيها للجرعة وموعد انتهائها منها، فما كان مني إلاَّ أن اشتري كرسيا خفيفا من النوع الذي يستخدم في السفرات الترويحية بين احضان الطبيعة، حتى يمكنني طيّه وحمله بيدي، والجلوس عليه في اي مكان شئت إذا لم اجد مكانا شاغرا على المصاطب الخشبية الموزعة في عدة اماكن داخل المستشفى، وكثيرا ما لجأت اليه، لان اعداد المرضى والمراجعين كانوا في تزايد مستمر، كما اقتنيت شاحنة خارجية للهاتف الجوال حتى اشحن بطاريته ما أن تهبط درجة الشحن الى مستوى منخفض، لكثرة ما كنت استخدمه في عملية التصفح والقراءة، فمن غير الممكن بالنسبة لي ان اكتفي بالجلوس والتحديق في الفراغ ، او مراقبة حركة الداخلين والخارجين، كما كان يفعل اغلب الموجودين لتجاوز الاحساس بالوقت، فغالبا ما كان يطول بي المقام وانا انتظر الى اكثر من ثماني ساعات، بينما اكون فيها تائها في نفق طويل من الانتظار الى ان تنتهي من تلقي جرعتها، وكان ذلك الحال كافيا احيانا لان يطرد ماتبقى لدي من حكمة ويترك اعصابي وديعة في مرجل يغلي وتتصاعد منه ابخرة الجنون، وامام تلك اللحظات التي تشبه حالة الجلوس امام عمل فني صاخب يعج باصوات متنافرة، كانت الدقائق تمر بي ثقيلة مثل سحابة رمادية اللون ، لذا كنت اشتاق الى طيف اللحظات التي اكون فيها مختليا بنفسي مع طقوسي اليومية في البيت، وانا اسقي النباتات والزهور المزروعة في السنادين خارج نافذة غرفتي، او الى تلك الساعات التي كنت احيل فيها الصمت الى مدن وغابات وحكايات مع كل رواية كنت اقرأها وامضي خلف سطورها. فلقد حاولت ان احتوي ما كنت اشعر به من لامنطقية ما يحدث لي ، وما أ صرخ به في داخلي من احساس بالقهر،وكأنني كنت انفذ عقوبة على خطأ ما اقترفته ، وليس هنالك من مدة محددة لانتهائها، ولولا فاعلية البقع المضيئة التي ايقظت فيَّ الوعي بتأثير القراءة المستمرة لبقيت اسيراً خلف قضبان التشاؤم.
اعادة ضبط الوقت
حاولت ان اجنّبَ نفسي السقوط في دائرة ما كان ينتابني من شعور بالجزع ، وأن لااقع تحت تأثيره، فتوصلت الى ان الحل للخروج من ذلك الشعور الثقيل بالخواء يكمن في اعادة ضبط الوقت وفقا لما ارتأيه انا ،وكأنني على موعد مهم ويتوجب علي ان لا أتأخر عنه، بالشكل الذي يفرض علي ان اجعل من ايقاع الزمن في داخلي منفلتا عن ايقاعه البطي في الواقع، حتى ياخذ مسارا آخر يتوفر فيه مايشبه الاحساس بلحظات الاكتشاف التي قد يمر بها الانسان ، وكنت موقنا من ان ذلك لم يكن ممكنا الاَّ من خلال الدخول الى العوالم التي تأخذني اليها الكلمات والحروف في الكتب التي كنت احرص على قراءتها عن طريق الهاتف الجوال، ولذا اصبح طقسا ثابتا لدي الخروج الى حديقة المستشفى والجلوس على احدى المصاطب الخشبية تحت ظل شجرة وارفة، ومن ثم البدء في رحلة البحث عن كتاب اجد فيه متعة من ضمن عشرات الكتب التي كنت قد خزنتها في ذاكرته بصيغة ملف pdf ، واحيانا اقرأ ما كان يُنشر من تقارير سياسية في الصحف العربية، خاصة ما كان يتعلق بتحركات المجتمع الدولي واستعدادات العراق للمعركة القادمة التي ستدور رحاها على ارض الموصل ضد تنظيم الخلافة، فالاخبار بوتيرتها المتسارعة كانت تتناصف معنا لقمة العيش التي نأكلها والاحلام التي تراودنا والكوابيس التي تجثم على صدورنا ، أما في الجهة الاخرى البعيدة عنا فقد كان الزمن على الارض يجري ثقيلا على اهلنا في الموصل، واحال حركتهم في ازقتها وشوارعها اشبه بمسيرة عميان في ارض موحلة، بعد ان اصبحوا قابعين تحت سماء تمطرخوفا وهم ينتظرون ساعة الخلاص .
اولئك الاطفال
ازاء ارتفاع درجات الحرارة وما كان ينتج عنه من احساس ذاتي وكأنني عالق في اللاجدوى ، استحالت القراءة السبيل الوحيد للقضاء على ذاك الزمن المتكدس في الفراغ ، كما ان الالتحام بعوالم خيالية توفرها الكتب كان بالنسبة لي افضل وسيلة انتشلتني من تفاصيل ذلك المشهد الذي كان يطاردني اينما التفت، لان منظر الاطفال الصغار المصابين بالسرطان، بدا بالنسبة لي الاشد قسوة، حتى انني عجزت تماما عن التعايش معه، وكلما رايت واحدا منهم شعرت كما لو ان جميع الاشياء اصبح لونها اسودا قاتما، ودائما ما كنت اصرخ في داخلي وانا اتوجه بنظري نحو السماء :
مامعنى هذا الامتحان العسير لهذه الكائنات الجميلة ؟
بإي منطق يمكن تبرير الوحشية في ايذاء البراءة ؟
كيف للعالم ان يصبح مكانا آمنا اذا كان يتحمل وبكل برود هذه الخطايا ؟
لم يكن ممكنا للعقل ان يستريح ويركن الى ظلال باهتة من التفكير امام رؤية واحد من اولئك الاطفال، وبيني وبين نفسي كنت اردد ” ينبغي لادمغتنا ان تتحول الى حاويات للنفايات إذا كانت قدراتها قد اقتنعت بتلك النتيجة التي وصلت اليها انسانيتنا . . كل الاشياء التي نلهث وراءها مجرد ترهات . . لسنا سوى مخلوقات بشرية ذئبوية الدوافع” .
كانت اجسادهم الواهنة المستسلمة للوجع تشتت افكاري وتبعثرني الى اشلاء ،فالمشهد كان صادما بالنسبة لي، ولم استطع ان اعتاد عليه طيلة الاشهر التي كنت فيها احد شخوص ذلك المكان، وكثيرا ما لفت انتباهها هي ما كان يحصل من تغير في حالتي النفسية ما أن نصادف اي واحد منهم ، حيث الصمت يضربني بمعاوله ، حتى انها ما عادت تسالني عن السبب لانها ادركته بفطنتها ، ولكي اتفادى تبعات رؤيتهم كان علي ان ابذل المزيد من الجهد في تحفيز مخيلتي حتى تعمل بنشاط غير اعتيادي للخروج من حالة اليقظة التي كنت فيها والنأي بعيدا عنها. لكني لم استطع ان امحو من ذاكرتي صورهم واحدا واحدا ، ومازالت تقبع فيها مثل الوشوم ، فمن الصعب نسيانهم برؤوسهم الحليقة واجسامهم النحيلة التي تكاد تفلت منها عظامهم البارزة، ولون بشرتهم الاصفر الشاحب المائل الى السواد الذي احالهم الى كائنات ضعيفة بعد ان مسخ المرض طفولتهم ، ومن الممكن لحالتهم تلك ان تدفع اعتى المجرمين إذا ما شاهدوهم الى ان يشفقوا عليهم، فليس من المنطق ولامن الطبيعة الانسانية ان لايتدفق الدم ساخنا في القلوب المتحجرة حتى إذا ما اجبرت على ان تنظر اليهم . واستطيع ان اقول بأن رؤيتهم كانت تملأني كراهية على ساسة البلاد، ولولا انني كنت ادفن راسي بين حروف الكتب لما استطعت البقاء داخل مبنى المستشفى طيلة فترة الانتظار.
رحيل عكس الزمن
احيانا كان النعاس يغلبني فاضطجع على المصطبة لاخذ قسطا من النوم، فما كان يعنيني لحظتها هو ان اريح جسدي، ولا اعير اهمية لكل ما كان يدور من حولي، فأطفىء ضوء الشمس، واوعز للصمت ان يورق باغصانه، لارحل بعيدا في الزمن بعكس عقارب الساعة، الى حيث كانت تتوق اليه الروح في تلك اللحظات بالخلود في مكان قصي منفصل عن الارض لان ساعات الانتظار كانت تسبب لي ارهاقا نفسيا مع تيبس في مفاصلي، وبين فترة واخرى كنت اترك الحديقة خلفي واتجه الى داخل مبنى المستشفى لاتفقدها حيث كانت ترقد على السرير داخل الصالة، لأتأكَّد من انها في حالة جيدة، وإذا ما وجدتها مستلقية وهي تتجاذب اطراف الحديث مع المرأة التي ترقد على السرير المجاور لها، اعود ادراجي الى الحديقة. وقد اخطو الى خارج مبنى المستشفى احيانا تحت ضغط الشعور بما كان يصيب جسدي من تقاعس ، فاجتاز الشارع لاحتسي مشروبا غازيا او قدحا من الشاي من كشك صغير يقع عند الجهة المقابلة لمبنى المستشفى ، ثم اعود بعد نصف ساعة الى الحديقة لاعاود القراءة، وهكذا كنت اقضي بقية الوقت الى ان اجدها خارجة من المبنى وهي تؤشر لي او تنادي علي، وكثيرا ما كانت توقظني إذا ما وجدتني اغط في نوم عميق، لنعود الى البيت بعد ان تكون اشعة الشمس قد مالت الى المغيب .
بقينا على هذا المنوال مدة عام كامل، حتى ان حياتنا تبرمجت على هذا النظام الصارم، وما كان امامنا اي خيارات اخرى بديلة، وبدأنا نجمع شتات انفسنا التي تبعثرت خلال الاشهر الماضية ، وحاولنا قدر مانستطيع ان نصل الى ما يجعلنا في حالة توازن بين ماكنا وما اصبحنا عليه، لاننا في النهاية لابد ان نمسك بخيط الحياة على قدر ما نملك في داخلنا من امل ، خاصة من جانبها هي ، لانها رغم الاوجاع التي كان من الممكن ان تكسر ارادتها إلا انها بما كان لديها من رصيد ايماني كبير بمشيئة الله لم تفقد السيطرة على لجام ادارة شؤون حياتنا ، وكأن نهر الحياة لديها لم يغير مجراه.
حكايات واصوات
تشكلت لدينا معارف بالعديد من المرضى ومع من كان يرافقهم، من النساء والرجال والاطفال، وكثيرا ما كنّا نجلس معا نرمي حمولتنا على بعضنا البعض، عندما نلتقي بعد كل واحد وعشرين يوما لتلقي الجرعة الشهرية ، وكل واحد منَّا كان مطمئناً من انَّ ما يبوح به من اوجاع سيلقى اذانا صاغية، ربما لن يجد خارج ذلك المكان من يصغي اليها، فيكشف كل واحد عن تفاصيل مطمورة من حكايات مرت به، فيمضي الوقت بنا سريعا ويفيض عن حاجتنا اليه ، واغلب من تعرفنا عليهم كانوا عربا ومسيحيين نزحوا الى اقليم كوردستان هربا من العنف والارهاب الطائفي ، لذا كانت احاديثنا في اغلبها بمثابة مشاهد يجمعها سياق واحد في شريط سينمائي طويل تتحدث عن تغريبة النزوح العراقي ، وما رافق ذلك من خسارات عصفت بالمال والاولاد والممتلكات والاحلام ، فكنا نفتح خزائن الذاكرة لننفض الغبار عما تكتمه في صناديقها من قصص، وكأننا باستعادتها نريد ان نهرب منها وكلما اوغلنا بتفاصيلها اتسعت المسافة بيننا وبينها، ومازلت احتفظ بذاكرتي بالكثير مما سمعته من حكايات، بل حتى نبرة الأصوات، ولحظات الصمت، وملامح الاسى التي كانت تتارجح في الهواء وتفتح الجروح ثانية كلما استعاد اي واحد منهم مامر به من بلايا.
مسيحيّتان من الموصل
ما زلت اذكر تلك الجلسة التي جمعتنا على مصطبة واحدة في الفناء الخارجي للمستشفى مع سيدتين توأم من مسيحي من الموصل، كان عمرهما قد تجاوز الستين عاما، وتبدو عليهما الاناقة في المظهر وفي طريقة حديثهما، احداهما كانت مديرة مدرسة ابتدائية، والثانية موظفة في بنك الرافدين، وكلتاهما لم يحالفهما الحظ بالزواج ، فكانتا تعيشان لوحدهما في بيتهما الذي ورثتاه عن والديهما في منطقة “دَكَّة بَرَكَة”التي تعد من الاحياء القديمة في الجانب الايمن(الغربي)من الموصل، ومازلت اشعر بسخونة تلك الحسرات عندما كانت تسرد لنا مديرة المدرسة اللحظات الاخيرة وهي تتفقد كل ركن في بيتهما، قبل ان تغادر مع شقيقتها المدينة نهائيا بعد مرور شهرين على سيطرة تنظيم الخلافة عليها، ولمَّا عبّرتُ عن استغرابي من بقائهما طيلة تلك الفترة تحت سلطة التنظيم،كانت اجابتها بانهما لم يكن لديهما مثل الكثير من سكان المدينة اي فكرة واضحة عن الذين دخلوا بين ليلة وضحاها وسيطروا على المحافظة باسرها، لانهم كانوا غير معروفين كاشخاص،ولا الجهات التي ينتمون اليها، بل إن المعلومات عنهم والتي كان الناس يتداولنها في ما بينهم كانت متضاربة، منها ما تشير الى انهم بعثيون واخرى تؤكد على انهم ثوار من العشائر، وما أبعد عنّا شبح الخوف منهم في الاسابيع الاربعة الاولى وجعلنا نتراخى ولم نتحسس الخطر القادم، انهم كانوا بغاية الدهاء،إذ لم يكشفوا عن حقيقتهم عندما دخلوا، بل على العكس صدر عنهم تجاه الناس جميعا تعاطفٌ ورأفة واحترام، بما في ذلك نحن المسيحيين، فوجد الناس قدرا كبيرا من الحرية كانوا قد افتقدوها خلال السنين التي اعقبت العام 2003 بسبب الاساليب القهرية التي كانت قوات الجيش والشرطة تتبعها مع المواطنين سواء في المداهمات التي عادة ما كانت تتم في ساعات الفجر الاولى او في عشرات الحواجز ونقاط السيطرات والتفتيش التي اقيمت في الشوارع الرئيسة والفرعية وعند مفترق الطرق في منتصف الاحياء السكنية، فغاب عنّا جميعا الاحساس بالامن بدل ان يحل فينا،على سبيل المثال كنت في الاوقات الاعتيادية اصل الى مدرستي خلال خمس دقائق، لكني وجدت نفسي لا استطيع الوصول اليها إلاَّ بعد ساعة من الزمن، بسبب وجود اكثر من عشرة حواجز تابعة للجيش بين الشوارع والافرع المؤدية الى المدرسة، وكان الناس يقفون مجبرين تحت الشمس الحارقة واثناء البرد والمطرعلى شكل طوابير طويلة ليجيبوا على اسئلة لامعنى لها، الهدف منها فقط اذلالهم، واحيانا كانت اذناي تلتقط عبارات طائفية تصدر من بعض العناصر، وكان مشهدا مألوفا ان تجد شخصا يتعرض للضرب حتى لو كانت معه زوجته واطفاله إذا ما شعروا بانه ممتعض من تلك الاجراءات.فانتهى الحال الى ان البعض بات يتمنى ان يحكمه الشيطان للخلاص مما كان عليه، لكن الذي حصل ان عناصر تنظيم الخلافة، فجأة ودون مقدمات، كشفوا عن وجههم البشع الذي نجحوا في اخفائه خلال الشهر الاول من سيطرتهم على المدينة، وانقلبت الامور رأسا على عقب، وبدأت جدران الكذب والتضليل الذي مارسوه في الايام الاولى تنهار تباعا في ممارساتهم اليومية التي بدأوا فيها في تدمير كل مظاهر الحياة المدنية، وبدأنا نستشعر الخطر يتقدم نحونا نحن المسيحيين ،عندما بدأوا يسحقون المسلمين قبل غيرهم من ابناء الطوائف الاخرى، أما جرس الانذار بالنسبة لنا فقد جاء في منتصف شهر تموز عندما استفقنا على صوت انفجار هائل ارتجت بسببه جدران بيتنا العتيق،وشعرنا ساعتها اننا سنقضي نحبنا تحت انقاضه من بعد ان ينهار علينا، فخرجت الى الزقاق وسمعت من الناس ما كانوا يتداولونه همسا في ما بينهم، وعرفت منهم ان مسلحي داعش قد فجروا جامع النبي يونس . .صدِّقني لااستطيع ان اصف لك ماذا حصل لنا ما أن سمعنا الخبر، وكأننا تلقينا صفعة قوية ايقظتنا من غفوتنا ، وبدأنا نرتعش من شدة الخوف ، احسسنا بحقيقة الخطر الذي اصبح على بعد خطوة منا، فدخلنا الى البيت وكنا في حالة ذعر لاتوصف ، واغلقنا الباب خلفنا وبقينا نحدق ببعضنا والهلع يسكننا ولانعرف ماذا نقول وكيف نتصرف، لاننا لم نكن نستوعب ما اقدم عليه هؤلاء، لان ما اقترفوه كان يعني بالنسبة لنا نحن المسيحيين قبل المسلمين حدثا كارثيا، بل استطيع ان اقول عنه بأنه اكبر فاجعة تلقتها المدينة منذ عشرات السنين، لان جامع النبي يونس كان جزءا من تاريخ كل واحد من الاجيال التي عاشت في الموصل، فالمكان له علاقة بكل الموصليين وليس المسلمين وحدهم، ولهذا جاء تفجيره نقطة تحول في تفكيرنا، بعد ان وجدنا انفسنا وكأن غشاوة سميكة قد نزعت عن اعيننا، فأبصرنا الحقيقة واضحة دون رتوش، وادركنا ان بقاءنا يعني اننا ننتظر الساعة التي سيذبحوننا فيها، خاصة واننا كنا لوحدنا وما من رجل في البيت قد يحمينا، اضافة الى اننا مسيحيون، فقررنا الخروج بنفس اليوم دون تأخير،عندها طلبت من اختي ان تنادي على أم ادريس جيراننا، ولما جاءت، اخبرتها بما كنّا قد عزمنا عليه، وسلمتها مفاتيح الدار، وطلبت منها ان تكلف ابنها ادريس بان ينقلنا بسيارته الى ناحية كرمليس، واتذكر انني قبل الانفجار بنصف ساعة كنت قد تسوّقت، حيث ملأت الثلاجة بالفواكه والخضراوت اضافة الى انني اشتريت كيلوغرام واحد من اللحم، وبينما كنا في وسط فناء الدار نودع أم ادريس اخبرتها بان كل ما موجود من حبوب وبقوليات وسكر وشاي في السرداب وكذلك ما موجود في الثلاثجة والمجمدة من مواد غذائية حلال عليها وعلى اولادها، وقبل ان اخرج استدرت ناحيتها وحمّلتها امانة بان تحافظ على البيت وان تحرص على ان تسقي النباتات والزهور، ثم غادرنا الموصل ونحن نحبس دموعنا ولم نأخذ معنا سوى ملابسنا فقط، وتركنا خلفنا كل شيء.
لم استوعب الى هذه اللحظة كيف يتم سحق الانسان بطرق مختلفة تتوغل بأدق تفاصيل حياته، وكأن كل واحد منّا ليس إلاّ مجرد فأر صغير في حقل تجارب ، تبدأ من الشارع والمدرسة ولتنتهي بكافة مفاصل الحياة ، مازلت لا أفهم لماذا الاصرار على ذلك، ولم تقنعني كل التحليلات التي قرأتها حول اسباب هذا القتل الممنهج .
يتبع