لطالما أوحت فكرة نشوء دول العالم الثالث الحديثة ، وما تمخض عنها من إشكاليات تتعلق ؛ بتداعيات نمذجة سلطاتها ، وتبعات تأطير صلاحياتها ، وملابسات إضفاء شرعيتها ، بارتباط هذه التكوينات المؤسسية بمصالح ومخططات القوى الكولنيالية ، التي هيضت ظاهرة الاستعمار الغربي لمجتمعات الشرق ، فضلا”عما ترشح عن هذه الواقعة اللاانسانية من افرازات ليس أقلها ؛ الارتهان السياسي والاستتباع الاقتصادي والاحتواء الإيديولوجي والانخلاع القيمي . وهو الأمر الذي اعتبر بمثابة (كعب أخيل) تلك الدول ونقطة الضعف في بنيتها المؤسسية ، التي سوف لن تلبث طويلا”حتى تتحول إلى أحد أبرز عوامل انخفاض شعبيتها وتردي سمعتها ، ومن ثم ، ترهلها الأمني وتوحشها البوليسي ، بحيث استدعت هذه الحالة إن تكون الدولة مستنفرة لحد الهوس ومستثارة لحد الهلع ، خشية التآكل في سلطتها والتصدع في كيانها . وعليه فقد لاحظ الباحث اللبناني (وضّاح شرارة) إن ظهور الدولة الحديثة ((لم يكن نتاجا”لتفاعل التناقضات الاجتماعية وتطورها في صور تجميعية جديدة ، بل كان ظهورا”مصطنعا”وهامشيا”، أي ولدت هذه الدولة ، بنمط سلطتها (الخارجية) وطاقمها وأجهزتها ومثقفيها ، هامشية بالمعنى الحرفي ، ولم تنجح في كسر هامشيتها حتى في أوج سلطتها ، عندما بدأ أنها أمسكت في قبضتها مقاليد الحكم والتنظيم السياسي ووسائل الإنتاج الرئيسية والإيديولوجية الرسمية)) . وإذا كانت الدولة العراقية المفككة لم تبرح حاضرة في معظم الدراسات الاستراتيجية ، ومطروحة ضمن أغلب التحليلات السوسيولوجية ، ومتداولة في جميع النقاشات الإعلامية ، فلأن الحصيلة الوافرة التي أفرزنها – ولا تزال – تجربتها الدراماتيكية ، تشكل النموذج الحيّ والمعيار المتجسّد لسائر أنماط المجتمعات ، التي خضعت لأنظمة سياسية طالما حكمت شعوبها بدافع الخوف منها لا بوازع الحرص عليها ، وتحكمت بمواطنيها سعيا”لاخصاء شخصيتهم وليس لإنماء وعيهم ، سواء أكان ذلك على صعيد العالم العربي وما يعانيه من تناقضات وصراعات ، أو على مستوى العالمثالثي وما يكتنفه من تمزقات وانشطارات . وخلافا”لاهتمامات دول العالم الغربي / المتقدم ، التي وضعت المسائل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على سلم أولوياتها السياسية ، بعد أن حسمت – منذ زمن بعيد – قضايا وحدتها الجغرافية ومركزيتها السيادية وهويتها الوطنية ورمزيتها التاريخية . فان انشغالات دول العالمثالث / المتخلف لم تبرح اشكاليات شغالة في ماهية ؛ شمولية الدولة ودكتاتورية النظام واستبدادية السلطة ، تحتل الصدارة في أجندة سياساتها وملف تصوراتها . ومن جملة المفارقات التي استوطنت حقل التجارب السياسية لبلدان هذا الشطر من العالم ، حصول توافق ضمني غير معلن أو غير مصرّح به ، بين مصالح الحكومات الاستعمارية السابقة من جهة ، وبين مآرب القوى السياسية المحلية (أحزاب وجماعات ضغط) اللاحقة من جهة أخرى . لاسيما حيال نمط الدولة الوطنية المزمع فرضها على ؛ أنقاض المجتمع وحطام الاقتصاد وخراب الثقافة وتمزّق الجغرافيا وتهتك التاريخ ودمار الشخصية وانحسار الهوية . بحيث أريد لها أن تبقى على صعيد النظرية فكرة هلامية – وان شأت زئبقية – بتعذر توطينها في وعي المواطن العادي من جهة ، وتستمر على مستوى التطبيق مؤسسة كسيحة وطنيا”– وان بلغت ذروة التوحش – وضعيفة دوليا”من جهة أخرى . ولعل حيثيات تشكيل الدولة العراقية إبان مراحلها الأولى ، وتداعيات تكوين مؤسساتها في المراحل التالية ، قمينة بتسليط الضوء على هذا النمط الشائه من الدول ، التي ليس فقط أبصرت النور من خارج بيئتها الاجتماعية فحسب ، بل وقبل استكمال عناصرها المادية ونضوج مكوناتها الرمزية أيضا”. ولهذا فكلما تعرض المجتمع الذي تقوده إلى أزمة سياسية أو محنة اجتماعية أو نكبة طبيعية ، كلما كانت تلك الدولة مدعوة لمواجهة الكثير من الأسئلة المحرجة ، التي تنطوي على تحديات مصيرية جمة تتعلق بالشرعية الوطنية والمشروعية الأخلاقية ، لا بل حتى بالجدوى السياسية والمؤسسية لها كذلك . واللافت إن هذه الحالة المأزقية تركت ، بالنسبة لكيان الدولة العراقية ، ندوب دائمة وعيوب مستعصية ، قلما استطاعت البراء منها أو التسامي عليها على الأقل ، خصوصا”لجهة الارتباك الكائن في صميم العلاقة الجدلية ؛ ما بين نمط السلطة التي تمارسها من جهة ، وفضاء السيادة الذي تستطيع فرضه من جهة أخرى . ولما كانت السلطة تتمظهر باستخدام القوة الشرعية والإكراه العرفي ، مثلما إن السيادة تتجسّد باستعراض الهيبة الاعتبارية والرمزية السيميائية ، فقد لبتث هذه الدولة تعاني الأمرين ، جراء فقدانها لمزّية الولاء الوطني الواجب ايلائها إياه من لدن مواطنيها ، بسبب تعاكس آليات اشتغال كل من عناصر السلطة ومقومات السيادة ، ومن ثم نفي كل منها لضرورة حضور الآخر في سيرورة عمل الدولة . باعتبار إن أية دولة لن تتمكن من البقاء – ناهيك عن التطور – دون أن ترتكز على معطيات تلك الوحدة الجيوبولوتيكية ، القائمة على ممارسة فعل السلطة في الواقع السوسيولوجي من جانب ، وفرض سلطان السيادة على الوازع السيكولوجي من جانب ثان . والا فأنها ستتحول من مؤسسة للجم التوترات السياسية ، وكبح النزعات الفوضوية ، ومنع التهتكات القيمية ، وردع التهديدات الأمنية ، إلى مصدر خطير يفضي إلى تعاظم الأزمات وتفاقم الصراعات واستفحال الانتهاكات . إن لم تكن هي أساسا”طرفا”فاعلا”في تأجيج الخلافات بكل أنواعها ، وتسويغ الاستقطابات بكل أشكالها ، وتبرير التناحرات بكل مستوياتها . بحيث لم تعد تستمد عناصر قوتها من فكرة (القدرة) الكامنة في صلبها ، بل باللجوء إلى قوة هذا الطرف أو ذاك . ولم يعد في مقدورها استحضار مقومات هيبتها من وحي (الطاعة) المتأصلة في ذاتها ، إنما بالاعتماد على سطوة هذه الفئة أو تلك . وحينذاك تغدو دولة نافلة ومؤسسة عاقرة وفكرة عقيمة ، بعد إن تنفرط جديلة عقدها الاجتماعي ، وتتحلل سبيكة سلطانها الشرعي . وإذا ما ناقشنا هذه المسألة من منظور المبادئ العامة للسياسة ، أو لامسناها من زاوية السياقات المعيارية للاجتماع ، فإننا نستطيع الجزم بان معظم هذه الملاحظات / المآخذ ، لن تؤشر فقط لحالة الدولة العراقية موضوع هذا المقال وحسب – التي تعد في العرف السياسي خارجة عن مألوف التجربة ، وبعيدة عن معروف الممارسة – إنما تسري وبالقدر ذاته على جميع تلك الدول ، التي كان للعامل الخارجي / الاستعماري دورا”في وجودها ، سواء أكان ذلك الدور مباشر أم غير مباشر ، كلي أو جزئي ، فعلي أو نظري ، عسكري أم دبلوماسي . إلاّ إن بيت القصيد هنا والآن ، هو إن بعضها استطاع – ولعوامل ذاتية بالدرجة الأساس – التخلص من تبعات ذلك الإرث المزري ، وتخطي ترسبات تلك المرحلة المخجلة . ليس بالرهان على زيادة مقدار التبعية والاستتباع ، لمن أسهم في تكوينها واشترك في تشكيلها ، إنما بالاعتماد على تقوية ركائزها الاستقلالية ، وتمتين أواصرها الاجتماعية ، وتوحيد عناصرها السلطوية ، وتوطين رموزها الوطنية ، وترسيخ قواعدها الشرعية . للحدّ الذي أصبحت معه ندا”لا يستهان بمكانته في محيط الأسرة الدولية ، كما أضحت شريكا”لا يمكن الاستغناء عن دوره في مجال الشؤون الإنسانية . هذا في حين استمر بعضها الآخر – والدولة العراقية من هذا البعض بالطبع – يتخبط في تناقضاته ويتمرغ في مفارقاته ، دون أن تهتدي إلى آفاق خلاصها وتخوم نجاتها من دائها العضال ، الذي لم ينفك ينخر بكيانها ويفتك بشعوبها . ولكي لا نطنب بالعموميات ونسهب بالخصوصيات نختصر القول بالآتي : انه لكي تستعيد الدولة العراقية وحدتها الجيوبولتيكية المنتهكة على صعيد مجالها الداخلي / الوطني ، وتسترجع سلطانها الجيواستراتيجي المغيب على مستوى فضائها الخارجي / الدولي ، وبالتالي تحافظ على مكانتها وتمارس دورها وتفرض حضورها ، لا يكفيها مجرد استعراض قوتها المادية / القسرية ضمن نطاق المجتمع الذي تحكمه ، بحجة ضبط صراعاته وتصريف أزماته وتقنين خلافاته . مثلما لا يجديها نفعا”المراهنة على قدرتها المعنوية / الناعمة لاحتواء وعي أفراده وجماعاته ، بزعم استخلاص الطاعة وانتزاع الامتثال واستدرار الشرعية . فليس مثل الدول التوتاليتارية من برع في توظيف تلك المعطيات ، بأمل الحصول على الرضى الكلي ونيل الموافقة الشاملة ، إلاّ أنها لم تحصد ، في المحصلة النهائية ، سوى الفشل في الحالة الأولى والخسارة في الحالة الثانية . بحيث لم تلبث الجغرافيا التي تتغنى بقدمها أن تشظّت إلى أقاليم متنازعة ، والتاريخ الذي تدعي استلهام ميراثه أن تصدع إلى أساطير مجيشة ، والاجتماع الذي تتبجح بوحدته أن تمزق إلى أقوام متصارعة ، والثقافة التي تزعم استيحاء قيمها أن تذررت إلى هويات متعصبة ، والحضارة التي تتباهى بعراقتها أن تفككت إلى أثريات متنابذة . وإذا ما وضعنا تاريخ الدولة العراقية بالاعتبار ، من خلال تقييم تجاربها المتنوعة مع أنظمة الحكم الملكية والجمهورية ، التي تعاقبت على إدارة دفتها وقيادة سلطتها وبسط سيادتها ، فأنها ستكون أمام خيارين لا ثالث بينهما ؛ إما أن تكون بؤرة التقاء عناصر السلطة الشرعية ومقومات السيادة الوطنية ، وتحقق بالتالي وحدتها الجيوبولتيكية على صعيد الاجتماع السياسي ، وإما أن تتحول إلى مؤسسة بروتوكولية لا حول لها ولا قوة ، تستجدي حقها المستباح في السلطة وهيبتها المهدورة في السيادة ، لتنقلب بالتالي إلى مصدر سخي لإشاعة العنف السياسي وتعميم الفوضى الاجتماعية . ولقد سبق للمفكر السوري (برهان غليون) أن أشار إلى هذه الحقيقة بالقول (( لا تنجح الدولة في الاستقرار والاكتمال إلاّ بقدر ما تنجح ممارستها في تحقيق مفهومها أو برامجها والقيم التي ألهمتها ، سواء أكانت وطنية أو دينية . ففي هذه الحالة يتحول خضوع الأفراد بالقوة للجهاز إلى ولاء للدولة كسلطة شرعية ومقبولة . ومصدر هذا الولاء هو حصول الانتماء إلى الدولة كمصدر لقيم اجتماعية ، أي كمركز لمشروع جماعي ممكن ومقبول )) .
[email protected]